هدوءٌ خيّم على الغرفة الكبيرة ذات الأثاث التقليدي الفاخر ، كانت مليئة بأرفف احتلّتها دمى مختلفة ، كما لو أنها بيتٌ للدمى
رغم أنّ لا حيّ في الغرفة ... بدا وكأن همسات وضحكات تتعالى في أرجائها ! كان الشارع الخالي ظاهرا من الشرفة وقطرات المطر الرتيبة تصطدم ببابها الزجاجي .
بدت الغرفة اكثر اشراقا وجمالا من العالم الخارجي ، و يخيّل للداخل أنه في عالم مختلف تماما عن العالم الرمادي في الخارج .
ارتفعت ستارة اندس خلفها باب زجاجي هو الآخر وخرجت منه فتاة بشعر كستنائي ،
وضعت صينية الشاي التي كانت تحملها على الطاولة الصغيرة قرب المدفأة وأخذت لها كرسيا قربها .
هي لم تنبس ببنت شفة ، لكن الهمسات والضحكات تعالى ضجيجها في الغرفة الواسعة !
ارتشفت من كوب الشاي ثم ألقت بنظرها على الكرسي مقابلها ... فوقه كانت دمية بملابس أنيقة لكنها لم تمتلك شعرا أو عينين بعد ،
همست الفتاة بكلمات قليلة بصوتها الناعم : أي لون أعطيه لشعرها .. ماذا ترين ؟
لم يكن في الغرفة سواها ولكنها تحدثتْ كما لو أنّها تُحدّثُ شخصًا بحدّ ذاته ،
مال رأس أحدى الدمى لليمين وتحركت يدها اليسرى للخلف واهتز رأسها فجأة على نحو غريب ،
وبين ضجيج الهمسات اتضح صوت لطيف : أزرق ، نادرا تجدين شخصا بشعر كهذا ، ستبدو مميزة .
التفتت الفتاة برأسها نحو أرفف الدمى وعلا وجهها تعبير أشبه بالشرود قبل أن ترسم ابتسامة صغيرة على شفتيها الورديتين .
- أنتِ محقة ، أرى أنّه سيناسبُها .
ومرة أخرى ، لم يكن في الغرفة حي سواها ، لكنها تتحدث وكأن شخصا يحادثها ويستمع لها .
أنهت كوب الشاي وتأملت الشرفة البعيدة ، قطرات المطر الرتيبة وصوت ضرباتها على الباب الزجاجي ، السماء الرمادية في الاعلى والشارع الاسود الخالي .
وضعت كوب الشاي واسبلت جفنيها مفكرة و خرجت الحروف متتابعة من شفتيها : المرء يكذب ، فيشك ، ثم يتخيل فيحلم وحينها سيصدق الأكذوبة .
و من يصدق الاكذوبة ، لن يعيش في الواقع .
{~·..
وقفت أمام الباب الخشبي مرتبكة و مترددة ، رفعت بصرها للمرة الثانية متأملة اللوحة المعلقة على الباب الخشبي الأنيق . تراجعت خطوة للوراء بتردد ثم وبإصرار أكبر قررت العودة ،
تمتمت بعفوية منزعجة : ياللسخافة .
توقفت ، وألقت نظرة ثالثة على اللوحة ، إنها سخافة ، ولكنها سئمت من ترددها ، إنه السخافة بعينها .
برقت عيناها السماويتين ببريق الذكرى :
الافطار جاهز ، الصحيفة على الطاولة ، وذلك الاعلان الغريب :
كان ذلك كله سخيفا جدا ، ولكنها ما لبثت أن وجدت نفسها أمام ذلك المتجر الصغير ."ألا تحلم ؟ هل ترغب برؤية الاحلام مجددا ؟
متجر سول للدمى . شارع مورغان*"
لقد تأثرت كثيرا ، رغم ذلك فقد كانت تعود أدراجها كل مرة .. كل مرة .
أما الآن ، تحركت حدقتاها نحو نافذة العرض لتتأملها في شرود ، كانت ثلاث أرفف خشبية تطل من نافذة العرض ،
وفوق كل منها اتخذت دمى جميلة الشكل مكانا لها على الأرفف ، دمى جميلة جدا ، الملابس أنيقة وتسريحات الشعر جميلة، أجل... كانت معجبة بتلك الدمى كثيرا .
- حلم ..؟ ترغبين بأحلام جميلة ولطيفة أليس كذلك ؟
- جئت من أجل الأحلام ، أليس كذلك ؟
- حقا ؟ حقا ؟ أي نوع من الأحلام ؟
سرت رعشة في جسدها ، حركت بصرها بين دمية و أخرى ، هل كانت تتخيل ؟ لابد من أنها تخيلت ذلك .
مشت بخطوات سريعة نحو الباب الخشبي ، صدر صوت منخفض قصير لجرس معلنا وصول زبون ،
فرفعت فتاة بشعر أسود رأسها متأملة الزبونة التي اتجهت بخطوات سريعة نحو المكتب ، وقفت مرتبكة أمامه ، ما هو التالي..؟ إنها لم تعرف...
سألتها الفتاة وهي تضع الكتاب الذي كانت تقرؤه جانبا :هل من شيء أقدمه يا آنسة ؟
- آه.. إنني... إنني أريد حلما .
- تفضلي من هنا .
وقفت وقادتها إلى غرفة مجاورة بهدوء ، كانت غرفة تشبه سابقتها كثيرا عدا أنها بدت كغرفة استقبال ،
فقد وضعت أريكتين متقابلتين تفصل بينهما طاولة قرب المدفأة ، وكان هناك ايضا طاولة صغيرة و كرسيان قرب النافذة الكبيرة جلست على أحدهما فتاة بشعر بني .
كانت تتحدث بالهاتف ، ألقت نظرة عليهما -الفتاتين- ثم حركت يدها مشيرة لصديقتها التي قدمت للزبونة كرسيا ثم خرجت.
وضعت السماعة ثم التفتت لزبونتها الجديدة ، كانت تفرك يديها في عصبية ، لا بد أنها متوترة ، قدمت لنفسها ولضيفتها كوبا دافئا من الشاي ،
ثم سألت بلطف : أي نوع من الأحلام تغضلين ؟
حركت رأسها متأملة - كما ظنت - مجموعة من الدمى ، أجابتها بارتباك : لا يهم أي نوع .
قدمت لها دمية جميلة ، لها شعر أشقر قصير وعينان زرقاوان ، وملابس أنيقة.
حسنا ... لا بأس بأخذها، ولكن ... أيمكنها حقا إعادة الأحلام..؟
تأملت الدمية مجددا ، العينان ، الفم ، أجل إنها تبتسم بشكل جميل ... جميل ؟
"تريدين حلما ؟ أي نوع من الأحلام ؟ "
بدا وكأنها تبتسم بسخرية الآن ، وتلك العينان ... لم تعد جميلة بل مرعبة ، ألقت نظرة على الغرفة ، لم تجد أي ساعة، ولم تعرف لأي سبب اهتمت فجأة بالساعة.
التفتت إلى مضيفتها ، كانت تبتسم - كما رأت - بسخرية ، لم تعد تلك الفتاة اللطيفة ، بدا وكأنها في عالم آخر ، لا اهتمام للوقت ... بل لا وقت فيه! كل شيء بطيء جدا.
وقفت بسرعة فألقت لها مضيفتها نظرة حيرة وسألت بلطف شديد : أمن مشكلة ؟
وبتردد وفزع تمتمت : لا أريد دمية...ولا أحتاج حلما ...
ثم مشت بسرعة مغادرة المكان ، اتكأت على الباب الخشبي وهي تتنهد ،
لا حاجة للأحلام بعد الآن، الأفضل أن ترى شاشة سوداء عوضا عن أحلام - أكانت - لطيفة أو مرعبة.
كل هذا لم يعد مهما لقد عادت الآن إلى عالم حي ، وليس عالما تحكمه دمى ، مشت بثقة وإصرار مبتعدة عن المتجر الصغير ، و لم تعد بعدها !
{~•..
بغض النظر عن صوت ارتطام رذاذ المطر بزجاج النافذة وطقطقة الاواني فقد كانت الصالة الصغيرة ساكنة ،
قاطع ذلك السكون اللطيف صوت صبياني واضح اللهجة: إنها تبدو لطيفة حقا . ظننت انك اهديتها لكاي ؟
كان ذاك الصوت يعود لصبي بدا وانه قد تجاوز السنة ال15 من عمره ، كان يحدق بدمية انيقة وضعت على اريكة في ركن الصالة .
اما هو نفسه فقد جلس على كرسي يتناول -كما يبدو- افطاره ، وردا على كلماته جاء صوت انثوي من خلف بابٍ - ربما - يؤدي للمطبخ
فطقطقة الأواني كانت تصدر منه من حين لآخر : ألم اخبرك انني اخذت اثنتين ؟ اهديت واحدة لكاي وفضلت ان ابقي الاخرى لنفسي ، أوليست لطيفة ؟
فأجابها بشرود : ربما ...
قالها وهو يحدق بإعلان في الجريدة أمامه بشرود غريب ، وقد كان اعلانا غريبا جدا :
سأل الصبي بنفس شروده : أكان اسم المتجر سول ؟"ألا تحلم ؟ هل ترغب برؤية الاحلام مجددا ؟
متجر سول للدمى . شارع مورغان*"
خرجت اخته من المطبخ وهي تمسح يديها وأجابته : نعم ، أتعرفه ؟ فيه الكثير من الدمى الجميلة .
لم يجبها شقيقها بل نقل بصره من الجريدة للدمية ، وفجأة مال رأس الدمية بشده وانتابه إحساس أن ابتسامتها قد اتسعت .
وقف الصبي مشدوها وقال بتردد : سأتأخر ... اراك لاحقا .
واثناء ارتدائه لحذائه تمتم : اخشى انّ عليك ان تعيديها لاصحابها يا أختي العزيزة .
خرج بعد كلماته التي رسمت تعبير دهشة على وجه اخته الكبرى .
وجهت بصرها نحو الدمية ، لكنها -الدمية- لم تكن هناك ، ثم ادركت ان النافذة قد فتحت فجأة .
تم بحمدِ الله ~
المفضلات