جريان مياه ذاك النّهر العريض وسط سكون الليل وخفوت الأضواء في الجوار بدا كـ أمواج هادئة تتضارب
وتدفع كل واحدة شقيقتها للأمام حتّى تصل إلى نهاية المطاف حيث بحيرة او بحر او نهر آخر بشلالٍ تنتظر استقبالهما،
تداعب الرّياح أوراق الأشجار التي تصدر حفيفاً مريباً تخلط صوتها بهدير الماء الناعم متناغمتين
لتصنعا لحن الطّبيعة!
لم يكن ذلك هو الملفت بالنّسبة إليه رغم كونه كان يحدّق بالمنظر قبل لحظات، فقد كان ما يفكّر به هو ما يلفت كلّ حواسّه
أشاح بوجهه إلى منزلٍ لمحه في الأعلى على جرف،
لم يكن ذلك المكان يبعد عنه كثيراً فكلُّ ما عليه فعله هو الصّعود أعلى التلة عن طريق درجات سلّمٍ كُوّنت من تراب الأرض نفسها،
بدا أنه تم الحفر لصنع تلك الدّرجات على ارتفاع التلّة حتّى يهمد طريق الصعود بسهولة،
لم يطل التّحديق أكثر وتحرّك من مكانه ذاهباً نحو الدّرجات ليصعدها وهو مندهش من دقّة صنيع صانعها!
كان على مقربة من المنزل الذّي بدا له أكبر عن الأسفل، منزل غريب ذو طابقين بسقف خشبي، وقف يفكّر بالخطوة الأولى،
كلّ ما عليه فعله الآن هو أن يدخل ويبحث عن اوزوتا لينقذه، لذا لم ينتظر وعلى الفور اتّجه لإحدى النّوافذ
لينظر من خلالها إلى الدّاخل مستكشفاً المكان، كانت هناك ظلمة فقط، ما إن كاد يذهب إلى نافذة أخرى حتّى انتبه
لشكل نافذة صغيرة مستوية بالأرض بقضبان حديدية، تساءل في داخله: "هناك سراديب أيضاً؟"
ثمّ حدّق قليلاً بالأسفل حيث رأى شعاع نور منبعث، لابد وأن هنالك شخصاً في الدّاخل،
لكن هذا الأمر لا يهمه الآن فعليه ان يلقي نظرة في الطّابق العلوي لربما يجد منفذاً إلى الدّاخل،
ما إن كاد يتحرّك قليلاً حتّى رأى ظلّ شخص يقترب منه وصوت وقع أقدامه يقوى في أذنيه كلما تقدر واقترب،
وقف ساكناً في مكانه وقد أيقظ كلّ حواسّه حذراً مترقباً من أي هجوم مباغت،
قطّب حاجبيه وهو ينظر إلى الشّخص القادم من بحر عتمة تُغرق ملامحه.. وشيئاً فشيئاً بدأ يظهر له حتّى بانت ملامحه..
ـ ا..أنت؟!
نطقها هيرو متفاجئاً من رؤية ذاك الشّخص الذّي يبدو وكأنما يعرفه حين أصدر ردّة فعل مشابهة و تفاجأ من رؤية هيرو،
كان ذو شعر أسود وعينان رماديتان مائل للبنفسج، ملامح هادئة كما مظهره ينمّ عن شخصيته الرزينة،
ويبدو أكبر من سنّه بسبب دماثته، ظلّ كلاهما يحدّقان ببعض مستغربين من وجود الآخر هنا حتّى قال ذاك الشّخص: هيرو؟
قالها وكأنما يسأله ليتأكد من هويته رغم انه متأكد لكن ليجعل هذا تمهيداً لحديث طويل،
فأجاب الأخير بهدوء قارب هدوء الشخص الغريب هذا: أجل.. وأنت؟
ـ ريناريو.. زميلك في الصّف إن كنت تذكر
ـ أذكرك
كلاهما هادئين بشكل غريب وكأن هذه نقطة الشّبه بينهما، انتظر كلّ منهما مغادرة الآخر لكن أحداً منهما لم يتحرّك،
حتّى اضطر الشّخص المدعو بـ ريناريو لقول: ماذا تفعل هنا ؟
ـ إنّه سؤالي
التفت إليه لتلتقي عيناه بعينيه الزرقاوين ليقول: لأنقذ شخص ما في الدّاخل
ـ اوزوتا ؟
استغرب حين أدرك من نطقه لاسم اوزوتا انه يعرف بأمر اختطافه ووجوده هنا، فسأله مستفسراً: أوَ جئت لنفس السّبب؟
ـ تستطيع قول ذلك..
شعر ريناريو بأنّه وجد رفيقاً ليشاركه في هذه المهمّة الصّعبة قليلاً والتّي أتى من أجلها،
كان عليه أن يقول ذلك بصراحة كي يساعده لذا دخل في الموضوع مباشرة دون مقدّمات وهو يتراجع قليلاً عن المنزل
ينظر إلى الطابق العلوي: ربّما علينا إلقاء نظرة هناك
فهم هيرو مقصده من دخوله المباشر إلى صلب الموضوع لذا اقترب منه لينظر للمكان ذاته: أظن ذلك
ثمّ قفز من أمامه على غصن شجرة قريبة ونظر من النّافذة التّي كانت أمامه إلى الدّاخل..
ارتعب قليلاً حين شعر وكأنّه ينظر إلى إنسان رغم كون الغرفة معتمة لا توجد سوى شمعة تشع وتكاد تنطفơ
لكنّه يشعر بأنه ينظر إلى إنسان فعلاً..
فجأة شعر بالغصن يهتزّ إثر ثقل وقع عليه فنظر إلى جانبه ليرى ريناريو قد قفز من الأرض إلى الغصن العالي نفسه،
استغرب قليلاً منه.. لا يبدو شخصاً عادياً، لابدّ أنّه مثله متمرّس على الوثب العالي، ابتسم قليلاً حين فكّر بذلك وهو يحدّق به
والأخير ينظر من خلال النافذة قائلاً: يبدو أن هناك شخصٌ ما
ـ هذا ما فكرت به.. لنبحث عن مدخل
قالها ثمّ وثب على الأرض نازلاً ليقوم رينارو بالحركة ذاتها ويلحق به، أخذ يحوم حول المنزل ينظر إلى النوافذ العلوية
لعله يجد إحداها مفتوحة بعد ان كانت كلها مقفلة في الأسفل،
وكأن الحظ ابتسم له حين وجد نافذة ذات جاج محطّم، أشار إلى ريناريو بأن ينتظره في الأسفل حتّى يقوم بفتح النّافذة،
فقفز على غصنٍ لشجرة قريبة ومنها اتّجه للنافذة ليستقر بصعوبة على المسافة الصغيرة أمامها،
أدخل يده من خلال الفتحة إلى الداخل ثمّ فتح القفل ببساطة ليفتح النافذة ويدخل..
وثب مستقراً على الأرض وجال ببصره قليلاً بحذر مستكشفاً المكان،
وقف معتدلاً وعاد إلى النّافذة ليشير إلى ريناريو بالمجيء والذّي لم يتردد قبل أن يقفز إلى النّافذة ويدخل منها على مرآى من هيرو
الذّي شعر بفضول نحوه ولو لم يعلم ان مرافقه فضولي نحوه أيضاً،
اتّجه ناحية باب الغرفة ليخرج منها قاصداً تلك الغرفة التّي شعر بأنه رأى شخصاً فيها ليلحقه مرافقه..
* * * * *
ـ أمستعد؟
قالها وهو يلتفت لرفيقه واقفاً عند الباب منتظراً مجيئه ليجيبه الآخر وهو يتقدّم معدلاً سترته التّي يرتديها: أجل
خرجا من المنزل ثمّ عبرا الحديقة ليصلا إلى الشّارع الرئيسي فاستوقفا سيارة أجرة لتوصلهم إلى المستشفى بسرعة.
وهناك ذهبا إلى موظّفة الاستقبال التّي عرفتهما فوراً ورحبت بهما ثمّ قالت: غرفة تلك السّيدة في الطّابق الثاني رقم 27
شكرا الموظّفة ثمّ مضيا نحو المصعد ليوصلهما بشكلٍ أسرع إلى مقصدهما، وقفا أمام الغرفة المقصودة بشيء من التّوتر،
كيف سيقابلان شخصاً لا يعرفانه ليسألاه عن هيرو فقط؟ هذا مضحك حقاً..
كلّ هذا بحثاً عن هيرو الذّي لم يعد إلى المنزل حتّى الآن، بعد تدافع بينهما لـ من يدخل أولاً استسلم ايراكو ليكون الأول،
وقف ليأخذ نفساً عميقاً ثمّ طرق الباب ثلاث طرقات متتالية وانتظر متوتراً..
ـ ادخل
جاءهما الإذن من الدّاخل ففتح ايراكو الباب ثمّ دخل وتبعه شيزون بطريقة يبدو لك كأنما يختبأ خلفه!
لم يعرف ماذا يقول وبِمَ يبدأ وخاصة مع نظرة السّيدة التّي تدل على أنها مستغربة من هؤلاء الأشخاص،
لكنّه قدّم لها باقة الورد التّي أحضره كتقليد معتاد عليه عند زيارة أحد في المشفى،
قال بعدها مبتدأً الحديث مباشرة بالموضوع: فتىً في السّادسة عشرة يدعى هيرويوكا أوصلك إلى هنا.. هل تعرفينه يا سيدتي؟
صمتت قليلاً وهي تنظر إليهما ثمّ أجابت: تقصد هيرو.. لم أكن أعرفه لكنني تعرفت عليه اليوم،
لِمَ تسأل؟ ومن تكونان؟
بادرت بسؤاليها الأخيرين كي تطمئن قليلاً فقد شعرت بشيء من الخوف من سؤاله عن هيرو، فلربما يكونان من أتباع الخاطفين،
لكن ايراكو طمئنها قائلاً: أنا صديقه ايراكو وهو شيزون..
ابتسمت قليلاً: تشرفت بكما
ـ أما عن سبب السّؤال..
صمت ايراكو قليلاً محدّقاً بالأرض قبل أن يجيب: كما علمنا هيرو لم يعد للمنزل حتى الآن بعد إيصالك،
ظننت أنكِ لربما تعرفين مكانه..
ـ ماذا تقصد بأنّه لم يعد؟ اختفى؟
انفعلت قليلاً لتثير دهشة ايراكو اهتمامها به فقال مهدئاً إياها: تستطيعين قول ذلك، هناك من ينتظر عودته في المنزل بفارغ الصّبر
لكن هيرو اختفى..
خفق قلبها بشدّة فجأة فوضعت يدها على صدرها وهي تحدّق بالفراغ بقلق واضح يلمح بين عينيها، هل ورّط نفسه معهم؟
أذَهب لإنقاذه؟
شعر كلاهما بقلقها مما أقلقهما أيضاً ورسم في خيالهما أسبابا جنونية لاختفائه، اقترب شيزون سائلاً إياها: أتعرفين أين ذهب؟
الجميع قلق عليه.. أخبرينا
أطرقت برأسها نحو الأسفل وقد بدأت الدموع تتجمّع في مقلتيها وهي تقول بهمس: لقد.. أخبرته
كلامها كان غامضاً فلم يكن أحدهما ليفهما ما تقصده لكنّها أكملت موضّحة: لقد أخبرته عن ابني الذّي اختُطف البارحة..
وأخبرته أن الخاطفين يريدونني مقابل حياة ابني
اتّسعت أعينهما وكأنهما بدأ يفهمان ما يمهّد له هذا الكلام، رغم كونه جلياً تمنّيا ألا يسمعاه لكن الرّياح تجري بما لا تشتهبي السّفن،
قالتها بحسرة والعبرات تكاد تخنقها: لابد أنّه ذهب بدلاً منّي لإنقاذه
مستحيل..
ذاك الـ هيرو لماذا يحب توريط نفسه فيما لا يعنيه؟ كان بإمكانه إخبار رجال الشرطة وإنهاء الأمر ببساطة،
لمَ يحبّ أن يتورّط ذاك اللئيم؟
هذا ما كان يفكّران به وقتها، لانت ملامحهما قليلاً وهما ينتظران أن تتوقّف السّيدة عن بكائها
ليتسنى لهما الوقت الاستفسار أكثر عما حدث.
المفضلات