الصفحة رقم 41 من 43 البدايةالبداية ... 313940414243 الأخيرةالأخيرة
مشاهدة النتائج 801 الى 820 من 853
  1. #801
    attachment


    الجزء التاسع و الثلاثون والأخير (39)
    •*´¨`*•.¸¸.•*´¨`*•.¸¸.•*´¨`*•.¸¸.•*


    متى تُمنَحُ البشريةُ دروعاً ضدّ صدمات الحياة ؟
    متى نستطيع التحكّم بقوّة هذه الصدمات قبلَ الارتطام؟
    ماذا لو نجحنا بوضعها في قوارير زجاجيّة .. كي نعتادَ على رؤيتها من خلفِ الزجاج ..
    قبل أن تسقطَ هذه القارورةُ وتنكسر .. وتتناثر الأشلاء من حولنا .. تمزّقنا بحوافّها الحادّة؟
    أتُرى لو كنّا قادرين على أن نقسّطها قبل أن تحتكَّ بنا ثمّ تنفجر.. أكُنّا سنخسرُ شيئاً ؟
    كيفَ السبيلُ إلى طريق الثبات وسطَ ضوضاءهِا ؟ والضّحكِ أمامَ إشتباكِها ؟
    أمِن أرضٍ نحفرُها .. نرمي بها نوازلنا .. ندفنُها عبر رحلة ذهاب بلا إياب مدى الحياة!

    [ في مديـنة المــلاهـــي ]

    عمّ الصمتُ في البقعة الصغيرة، حيث كان الأصدقاء مجتمعون، وحينَ أدلى كلّ من رائد ومها بدلوهِ
    في بحرِ سامر الهائج بالأصل .. الذي لا يحتاج أن يكونَ هناك ما يُهيّجه .. لم يعرف أحد ماذا يقول،
    فسامر صاحب المسألة ، الغائص وسْطَ المعمعة التزمَ الصّمت حرفيًّا..
    واكتفى الآخرون بالنّظر .. وبالشعور بعميق الحزن وبالغِ الأسى .. إن كانَ الأمرُ حقيقيًّا .. !
    لم يعيشوا ضعفَ سامر وهو يرى شبيه جهاد بل ويحسبه أحدُ أشباههِ الأربعين!
    لم يعيشوا ضعفَ سامر بينما يقلّب الحقائق المزَيّفة بعقله دون كلل .. ويحاربُ قلبَهُ دون ملل!
    لم يعيشوا ضعفَ سامر والبصيص الصغيرِ من الأملِ .. الذي يتسلّل إلى فراشِهِ كلّ ليلة .. ليحجُبَ عنه النّوم..
    لقد عاشَ ضعفُ سامر أكثرَ من سامر نفسُهُ ..
    ليخوضَ اختبار الأخوّة ثمّ يفشل عند السؤال الأوّل ..
    هل كان الأستاذ فريد .. ذلكَ القريبُ البعيدُ منه .. شقيقهُ بعدَ كلّ شيء ؟
    شقيقه في نهاية المطاف .. !!
    هكذا!!
    يتساءل في عقله عن خيارات الجواب لهذا السؤال ..
    هل كانَ وجه فريد هو العقبة فقط ..؟
    أو أقوالُ هذا الفريد وتصريحاتُه فقط..؟
    أم إبعاده عنه كلّما وصَلَه فقط؟
    أم جميعُ ما سبق .. !
    أي جوابٍ هو الصحيح .. ؟
    يخوضُ الآنَ معركة مع نفسهِ، لم يعلم أحدُ من الأصدقاء من هو المنتصر ؟ كلّ سامر أم بعضه ؟
    مدّ عمر يدهُ بتردّد كبير نحوَ كتِفِ سامر، قال بقلق يهزّهُ: سامر!
    رفَعَ سامر رأسه بسرعة كالملدوغ والتفتَ نحوَ عمر وهو يحاول أن يستوعب أنّه لا يعيشُ في الواقع بل في حُلُم..
    لا يدري هل بالإمكان إطلاق كابوس عليه بعدُ؟ أيّ نوعٍ من الأحلامِ هذا ؟ ما تصنيفُهُ ؟
    رفَعَ ذراعهُ المرتجفة أمامه ..
    قرّب كفَهُ لفمه بهدوء..
    والجميع يتأمّلُ حركاتِهِ..
    لا يتوقّعون شيئاً..

    أطبقَ بأسنانِهِ عليها بقوّة .. غرسَ أنيابهِ يعضّ نفسه..
    وبؤبؤيهِ يرتجفان في محجرهما ..
    فلو كانَ حلماً لن يشعر بالألمِ أبدًا .. بالتأكيد هذا حلم..
    سيعضّ نفسه لأنّ القرصة لا شيء تُذكر..
    يبدو أنّه لشدّة ما أرادَ أن يكونَ فريد هو شقيقه جهاد..
    باتَ يحلمُ بالأمرِ الآن ... نعم .. كلّ ما عاشه حُلُم ..

    اندفعَ رائد يحاولُ سحبَ ذراع سامر الذي لم يزل يغرسُ أنيابَهُ بقوّة في يدهِ .. وكذا فعلَ عمر..
    شهقت مها بخوف وغطّت فمها بيدها، لم تقصد أن تخبرهُ بهذه الطريقة، لا تعرفُ كيف ستخبره،
    ولم تجد فرصة أفضل من هذه .. ! ومن هي حتى تعرف اقتناص الفرص .. ؟
    لقد نسيت ما قدّمت له من قبل ..
    ما قدّمت سوى الألم ..

    كلّ ما في الأمر أنّ رسالة والدها الخائف والمبطّنة بنوع من الوعيد أرعبتها..
    وزيارة ذلك الأستاذ فريد البارحة لمنزلها أشغلتها ..
    بل الغموض الذي يحيط أمجد والألغاز المتبادلة بينه وبين والدها أقلقتها ..
    خافت كثيرًا من ردّة فعل سامر، هل جُنّ ؟
    قالت بخوف: سامر .. أنا .. لم أقصـد..
    قاطعها رائد بصوته المرتفع وهو يهزّ ذراع سامر بقوّة: هييييه سامر .. أيّها الأحمق .. عمر ماذا تفعل عندك؟
    قال عمر بقلّة حيلة وهو يمسك ذراع سامر الأخرى: إنّه ... لا يتركها يا رائد ..
    خاف عمر وتساءل: هل فقد عقله ؟!
    ثمّ زمجر: دع يدكَ أيّها الأحمق !

    بعدَ صراع دامَ دقيقتين بينَ رائد وذراع سامر التي تركها مرغمًا بعدَ أن طَبعت أنيابُه ختمًا للذكرى عليها،
    وتلوّنت بدمٍ خفيف ..
    ابتسم سامر ابتسامة باهتة وسط دهشة الجميع، قال بخفوت: لم أشعر بالألم ..حمدًا لله.. أنا أحلُم..
    حرّك عمر رأسه نفيًا، لا يمكن .. لقد فقد عقله ..
    تنفّسَ الصعداء، شدّ قبضة يده بقوّة ثمّ سدّدَ لكمةً قويّة على خدّ سامر أسقطته أرضًا وهو يصرخ باستنكار:
    أنتَ لا تحلم أيها الأخرق.. أنت فقدت الإحساس فقط !
    رفعه من ياقته مجددًا وسدّد لكمة أخرى لخده.. بيدَ أنّ يد جواد امتدّت توقفه بهلع: اهدأ أنتَ الآخر ..
    انتفخت أوداج عمر من الخوف على ابن عمّه، ليس غاضبًا منه ، بل غاضبًا عليهِ .. نعم .. يخافُ عليهِ كثيرًا..
    ويا لحظِّ سامر السيّء.. من أن تكون طريقة خوف عمر عليهِ هكذا .. !
    ارتفعَ صدرُ عمر مرارًا وهبط .. قال بنبرة تهديد: هل آلمتكَ لكمتي؟ هل تشعرُ بالألم الآن..هل عاد إحساسك ؟

    أسندَ حسام سامر إليه ليقف، قال بجديّة: لستُ أفهم شيئًا .. لقد شعرتُ أنّ هنالك شيئ متشابه بينكما،
    لكن لم يخطُر ببالي أبدًا .. أنّكما إخوة.. ولا أدري هل أنا ببرنامج الكاميرا الخفيّة وأنتم تتعاونون ضدّي الآن؟
    نظر حسام للجميع بشك .. وكادَ رائد يقتلعُ عينيه .
    سأل جواد: لنقل أنّه شقيقه، لماذا لم يعرفه سامر ... ؟ أم هل هو أخوكَ غيرُ الشقيق وقد اكتشفتَ ذلك توًّا..
    ثمّ أردف بحيره: أعني ما بالُ ردّة فعلك هكذا .. لا أرى داعيًا لكل هذه الدراما !
    حكَّ رائد رأسه وبقليل من التردّد: بالأمسِ .. " التفتَ الجميعُ له " فتوتّر: لا تنظروا إليّ جميعًا سأخاف!
    سحق جواد قدمه فصاح: أيها المزعج قدمي .. بالكاد شُفيت ..
    تنهّدت مها وزفَرَ عمر: هيّا يا رائد ماذا حدث بالأمس ؟
    ابتلعَ رائد ريقه: بالأمسِ أخبرني أبي أنّ وجه الأستاذ فريد احترق، واضطَرّ أن يجري جراحة تجميليّة لوجهه ..

    أغمَضَ سامر عينيه بألم .. صدقًا .. هذا ما كان يحتاجُه ..
    جرعة العلاج الأخيرة التي كانت تنقصه في مسيرة الشفاء.. مسيرةُ شفاءِ عقلهِ .. فقط وجه فريد كان أعظم رادعٍ له ..
    غطّى وجهه بكفّه ثمّ مسحَ بها شعره، ظنّ لبرهة أن ضغطَ دمه سينخفض بسبب الخبر السّاقط عاموديًّا على رأسِهِ..
    مرتبك وقلق ومتوتر .. بل هو ضالّ الطريق .. ماذا سيفعل .. لاشيء .. فالعصابة هنا .. وفريد الذي هو جهاد هنا ..
    وهو هنا .. والجميع هنا أيضاً .. ماذا تغيّر ؟

    قال بداخله بعدَ أن استوعب قليلاً الوضع الحاليّ:
    " لقد خرج الأستاذ فريد من هذا العالم ودخل إحدى البوّابات ولا أدري أيّة واحدة؟"
    لم تبتعد عينا عمر عنه، قال بجديّة: سامر ..
    بينما سامر لم يعره انتباهه لأنه يحاول جمعَ تركيزه المتشتت وشعور التيهِ الذي في داخله،
    فقد تأكّد أن الواقع لم يكن حلمًا، لذا عليه أن يتدبّره..
    متّكىءٌ على حسام الذي لازالَ يُسنِدُه، ويراقبُ المكان من حوله، أينَ كان قبلَ قليل ؟
    " آه .. أجل .. كنتُ أبتاعُ العصير .. "
    أدار وجهه إلى حيث كان يجلس الرجلين ثمّ نظَرَ إلى الطريقين الذين ذهبا إليهما ..
    قطّب حاجبيه بانتباه وهو يحدّث نفسَه: " في النهاية .. كان أخوكَ يا سامر .. تبًّا لكَ .. لم تشعر به .. ! "

    ابتلعَ ريقه بحسرة: "لماذا لم يخبرني ..؟ ما المانع ؟
    كنت قربه طوال الوقت، ألم تكن هنالك لحظة مناسبة للإفصاح؟"
    فكّر سامر عن سبب امتناع شقيقه بالإفصاح عن هويّته ، حتى مع التصاقه به ،
    والاستمرار بسؤاله ، وسؤال النّاسِ عنه .. لقد سبقَ القلبُ العقلَ هذه المرّة! سبقَ قلبي عقلي يا فريد !!
    ليته ما تَعِبَ بالتفكير .. الأمرُ في النهاية كان بسيطًا .. أجرى جراحة .. وتغيّر ..
    لكن كيفَ صار أستاذًا وهو لم ينهِ الجامعةَ حتى .. ؟
    نظَرَ لوجه عمر ثم قال ببطء: عمر ..
    أجابه عمر: ماذا ؟
    تردّد سامر ثمّ قال بخفوت: هل صحيحٌ أنّ الأستاذ فريد أخرجكَ من المدرسة بعد أن أخبرهم أنّكَ ابنُ عمّه ؟

    لازال غير مصدق تقريبًا، يودّ التأكّد أكثر .. فالأمر عظيم ..

    حكّ عمر شعره وبعثره بضجر: تبًّا .. لم ننتبه كثيرًا البارحة .. ظننته زوّرَ شيئًا أو هدّد الموظّف ..
    صمتَ برهة ثمّ أجاب: نعم، صحيح .. لقد أخرجَ بطاقته أيضًا ..

    ضحكَ سامر ضحكة قصيرة باستخفاف: هه! وهو الذي أخبرني ألّا أصدّق كلّ ما يقال !!
    لمعت عيناهُ بحزن وقال بصوت منخفض: ليتني لم أصدقك يا جهاد ! أيها المخادع ..
    ابتسم بألم وراحت الذاكرة به إلى يوم الحريق.
    .
    .
    .

    [ فـــي مـــنــــزل الرّقـــيـــب جـــاســـر ]

    الوقتُ من ذهب !
    لأوّل مرّة يقدّر خالد الوقت هكذا، خاصّة وأنّ هنالك فوهة مسدس تحفرُ رقبتَه،
    يراجع شريط حياته المليء بالتقاعس والعجز والكسل.. الخالي من الإنجازات تقريبًا ..
    ابتلعَ ريقه وهو يقول بجدية: أبي لماذا لا ترد على الهاتف؟
    ردّ عليه الرجل الذي بدا زعيمهم بينما ينهض من كرسيّه: لو سمحت، هل طلبتَ إذني؟
    ابتسم خالد بارتباك: يا إلهي! أعذرني لم أقابل لصًّا يطلب مني السماح من قبل ..
    صرخَ بوجهه: إخرس!!
    التفتَ لأتباعه وهو يحرّك مسدّسه بعشوائيّة بالهواء وفاتن تتابع فوهة المسدّس إلى أينَ تُصَوَّبُ ..
    قال بنبرة خبيثة: أيها القوم ! ضحيّتنا تعتقد أننا لصوص .. هل تصدّقون ؟
    ضحكوا معاً باستخفاف، فقال زعيمهم: آسف لتخييبِ ظنّك، نحنُ محترفون أكثر من كوننا لصوصًا !
    ردّ عليه خالد بلا مبالاة: هه وكأنّ تغيّر الأسماء يغيّر من حقيقة أنّكم لصوص وقد اقتحمتم منــ..
    قاطعته رصاصة مرّت بمحاذاته، لو تحرّك قليلاً لانتهى!
    خفقَ قلبُ خالد بشدّة، حتى لو حاول إخفاء خوفه، أو التغلّب عليه سيبقى هذا المسدّس عائقًا..
    ابتسم الزعيم: كلمة أخرى منك وسأفرغ الرصاصات المتبقية برأسكَ الفارغ..
    أشار بسلاحه وحرّكه عشوائيًّا: أنا لا أخطِىء الهدف ..
    ارتجفت فاتن وأصيبت بنوبة من الذعر، صرخت بوجه خالد: إخرس يا خالد .. " غطّت وجهها بكفّيها "
    واهتزّ كتفيها بشدّة من أثرِ البكاء المستمر ، شهقت بقوّة وهي تمسح دموعها التي لم تتوقّف: إخرس أرجوك..
    حرّكت رأسها نفيًا: لا أريدُكَ أن تموت .. أرجوك ..
    ابتسم الرّقيب جاسر بصعوبة، الغضبُ قد سيطرَ عليه، لكن ما عساهُ يفعل وهو محبوسٌ هنا،
    وليته كانَ وحده لكان الأمرُ أسهلَ بالنسبةِ إليهِ حتى لو اضطرَّ أن يضحّيَ بحياتهِ،
    لكنّ المشكلة الأعظم هنا هو أبناؤه الذين بإمكاننا إطلاق
    كلمة " رهائن " عليهم.. ولا ذنبَ لهم ليتورّطوا، حاولَ كبح جماحِ غضبِه فهو يريدُ الرّدَّ على الهاتف،
    ولعلّه أحد أفراد الشرطة، ربّما يستطيع أن يلمّحَ لهم بطريقة ما..
    قال بصوته الجهوري الواثق: إذًا ألا يمكنني الرّدُّ على الهاتف؟
    رفعَ زعيمهم مسدّسه باتجاه الرّقيب: أخبرني من المتّصل أوّلاً؟
    -إنه ابني أمجد ..
    -إذًا لا تنسى وضعَ السمّاعة على المكبّر، والأهم تصرّف بشكل طبيعي ..
    زجرّه بقوله : أسرع بالرّد دون إثارة شكوك..
    حرّكَ رأسَهُ لأتباعه ففهموا الوضع، واقتربوا من الرّقيب، صوّبوا مسدّساتهم عليه دفعةً واحدة..
    لم تستطع فاتن إلّا البكاء على الوضع المأساوي، فقال خالد بهمس:
    يكفي يا فتاة، لقد استنزفتِ دموعكِ قبل موتي، أبقي لموتي دموعًا..
    صرخت بوجهه: للمرّة الثالثة إخرس يا خالد.. هل هذا وقت كلامك التافه؟
    ابتسم خالد بارتباك واضح وهمس لها: أنظري لعنق التافه جيّدًا فثمّة مسدّس مغروس فيه ولازالتُ أتأمّلُ أن ننجو.
    عضّت فاتن شفتها السفلى بحسرة وتقول في نفسها: " لماذا يجب أن يحدث هذا لنǿ ما علاقتنǿ"
    زمّ الرّقيب شفتيه ورفعَ الهاتف، وضعه على المكبّر ثم أجاب بــ"نعم" ليفاجَأ بصوتِ أمجد الذي يصرخ بقلق: أبي!
    لقد تأخّرت في الإجابة علي كثيرًا، أقسم أنني قلقت، خفتُ أنّكَ في خطر ..

    اقتربَ الزعيم وهو يشير بيديه على الصامت أنّه " ما باليد حيلة " فكلام أمجد صحيح ..
    أخفضَ جسده ليجلسَ أمام فاتن المرعوبة والتي أدارت وجهها بسرعة بمجرّد ما لمحته يقترب،
    همسَ لها: فقط لأذكّركِ بأن لا تزعجينا بصراخك.. لو انكشفنا بالمكالمة..
    "أشار بيده بشكل أفقي أمام رقبته" ستموتون جميعًا ..

    ثمّ أردف بابتسامة خبيثة: أشكريني فأنا قد أتفاوض معكم وأبقيكم أحياء ..
    غمزَ بعينه وقال: قلتُ .. قد !
    ثمّ رفعَ رأسه للرّقيب يحثّه على الكلام والمتابعة..

    يريد السيّد جاسر إيصال رسالة ما مع أمجد،
    لا يدري هل سيفهمه أمجد بسرعة أم سيستغرق وقتاً سيدفعُ ثمنه أبناؤه.
    قطعَ الصمت صوت أمجد مجددًا: أبي؟ أينَ أنتَ الآن ؟
    ردّ عليه والده مازحًا: تحت الأرضِ يا بُنيّ.
    -كفّ عن المزاح، أنا متوتر، نحنُ في وضعٍ حرج يا أبي.
    ضحكَ الرّقيب: أعرف يا بني، ولذلك أمزح.
    -حسنًا، أين أنتَ؟
    أجابه باستهزاء مصطنع: باللهِ عليكَ أينَ سأكونُ .. عند رأس جسر أو في جيب مثلاً.. أو ربما نقلتُ إلى الجبهة..
    إنني في المنزل بالطبع..
    ردّ عليه أمجد بانزعاج: قل هكذا من البداية..
    -بالمناسبة أمجد كنتَ تريدُ أن تسألني عن حبر كلوريك كوبلت المائي في تجربتك..
    -أي كلو..
    قاطعه والده: تعرفُ أنّ بخار اليود سيكون نافعًا تمامًا له، وبالطبع الجميع في السابق يستخدمه..
    -لحظة لحظة أي بخار...
    ابتلعَ الرّقيب جاسر ريقه: بُخار تجربتكَ في الجامعة يا فالح..
    راح أمجد يتذكّر، هل لديه تجربة حقًا ؟

    أمّا الرقيب فإذا أطال المكالمة وكان هو المتحدّث فقط سيجعله شُبهةً لهم، عليه إيجاد حلّ ما بسرعة،
    خطرت بباله فكرة، سيقتل أمجد بنفسه لو لم يفهم هذه المرّة..

    سأله والده وتظاهر بعدم تمتمات أمجد مع نفسِه: عزيزي أتقولُ بطاقة؟
    -بطاقة ماذا ...
    ضحكَ بصوت مرتفع باصطناع ليغطي على صوت أمجد المستنكر: فهمت فهمت.
    ثمّ أردف:ركّز معي يا أمجد، هل تعرف الرقم السرّي لبطاقتي البنكية؟ لا أريدُكَ أن تقفلها بسبب ذاكرتك،
    أموالي فيها لا تضيّعها.

    لم يفهم أمجد شيئًا، فوالده لم يقل شيئًا واضحًا طوال المكالمة،
    يجدُ كلامَ والده غريبًا اليوم، هل والده متوتر مثله؟

    ردّ أمجد بجديّة: أجل إنه 4820
    ابتسمَ والده: لا بل 0284
    -لا يا أبي إنه ليس رقمك أنا متأكّد مما قلت !
    -وهل تشكّ بذاكرتي؟
    -لا ولكن أخبرك أنه ليس رقمك.
    -حالة الرقم الآن هي 0284
    قال بهمس: حــ..ــالــة الــ..ــرقــ..ــم.. ؟
    قلق أمجد، فهم الآن أنّ والده يخفي شيئًا ما، هل هو في خطر ؟ عليه أن يراجع المكالمة مجددًا..
    قاطعه والده بضحكة، وكذا فعلَ أمجد، إلّا أنّ ضحكة أمجد كانت مرتبكة قليلاً..
    فاتن لم تفهم شيئًا.. لكن على العكس ربما خالد فهمَ شيئًا ..
    في المقابل .. الزعيمُ شكّ قليلاً-لقلّة خبرته في الميدان الذي تحدّث عنه الرّقيب-لكن ضحكة أمجد ردّت شكوكه ..

    ابتسم الرّقيب: إنني بخير يا عزيزي شكراً لسؤالك.
    -أبي أنت لست على ما يرام ، أليس كذلك؟
    -بلى يا عزيزي، أتعبتني يا بني، في النهاية سلّم لي على مؤيّد و فراس و عامر.
    أشارَ الزعيم على هاتف الرّقيب واختطفه،
    أغلقه بسرعة ثمّ رماه على الحائط ليتحطّمَ وهو يصوّبُ السلاح بشكل سريع على جبين السيّد جاسر،
    قال بنبرة حادّة: من هؤلاء ؟
    نطقَ خالد بسرعة متداركًا: إنهم أخوالي..
    رفع الرقيب حاجبيه بصدمة والتفتَ على خالد الذي ارتبكَ ثمّ قال سريعًا: كما قلتُ لك..
    هزّ الرّقيب جاسر رأسه إيجابًا وقال بجديّة مصطنعة: إخوة زوجتي .. "نظر لخالد" بالفعل.. هم كذلك..
    حدَّقَ به الزعيم مطوّلاً ثمّ قال: لو اكتشفتُ أنّكَ كذبتَ يا رقيب .. سأمزّقك ..
    حدّ عينيه وقال: مع الأسف غفلنا أن نبحث عن عائلة زوجتك !

    ابتسم الرقيب ثمّ هزّ كتفيه قائلاً بثقة مصطنعة: وما مصلحتنا من الكذب، تعرف أنّ الوضع ليس لصالحنا أبدًا..
    حدّ حاجبيه وبنبرة حازمة: فنحنُ محاطون بالموتِ من كلّ جانب !
    نهضَ الزعيم وابتسامة فخورة تعلو شفتيه يتّصل على أحد ما من هاتفه: هل عثرتم على التافه فريد؟
    زمجر بحدّة: أغبياء، كان عليّ إبقاء آخرينَ معكما! لقد خدعكما ..
    تفاءل السيّد جاسر، فيبدو من الحوار أنّهم لم يعثروا على فريد حتى الآن، لكنه لازالَ قلقًا على الأطفال،
    فهم بنفس مكان الحدث.. سيدعو الله ألّا ينخرطوا بشكل من الأشكال داخل القضيّة..
    .
    .
    .

    اخر تعديل كان بواسطة » *طيار الكاندام* في يوم » 18-09-2017 عند الساعة » 14:24


  2. ...

  3. #802

    [ بمقهىً قريبٍ من مدينة المــلاهــي ]

    اتّخذَ أمجد مقعدًا أمام إحدى الطاولات وأخرجَ هاتفه، لديه أرقام زملاء والدهِ، وبما أنّهم يراقبون شبكة الاتّصالات،
    عليه أن يتأكّد هل سمعوا المكالمة الأخيرة بينه وبين والده، يجب أن يعرف إلى ماذا يرمي والده،
    لقد فهم من المحادثة شيئًا أو اثنين ..
    همسَ أمجد: لو لم يقل حالة بطاقتي لما فهمت، يا إلهي، أرجو أنّ يكون بخير حقًا.
    ضغطَ زرّ الاتّصال وما أسرعَ إجابة الملازم مؤيّد..
    -مرحبًا أنا أمجد ابنُ الرقيب جاسر ، أتحدّث معك ..
    -أهلاُ يا بني، هل أنتَ بخير؟ أ استطعت إتمام مهمتك؟
    -إنني بخير لكنني لم أستطع فعل شيء حتى الآن، أريد أن أتأكّد أن والدي بخير، فهو يتصرّف بغرابة قليلاً.
    -وكيف ذلك؟
    -هل تستطيع أن تسمعَ مكالمتهُ الأخيرة معي أيّها الملازم؟
    -بالتأكيد، سأتّصل بفريق الشبكة حالاً، لم أدقق كثيرًا على هاتف والدك اليوم، وضعنا طاقتنا على الأستاذ فريد..
    -أرجوك، لقد قال أبي في الختام سلّم لي على مؤيّد وفراس وعامر، لا أعرفُ سواك.
    -هو قال هكذا ؟
    -أجل، استمع للمحادثة فضلاً وأعد الاتصال بي.
    -لن أتأخّر.
    أنهى أمجد المكالمة واضعًا هاتفه على المنضدة أمامه، ليأتيه النادل بقائمة المقهى ويطلب القهوة.
    .
    .

    [ مركز الشرطة ]

    أغلق الملازم مؤيّد الخطّ واتّصل بفريق الشبكة مباشرة، أعطى تعليماته حولَ مكالمة الرقيب وأمجد،
    وإمكانية توفير تسجيل لها بأسرع وقت، ثمّ استدعى فراس وعامر لمكتبه.
    دخلَ كلّ من فراس وعامر مباشرةً بعدَ الاستدعاء، وأدّيا التحيّة العسكرية فردّ عليها الملازم مؤيّد بالمثل..
    -أيّها الملازم، أمرك.
    حكَّ الملازم مؤيّد ذقنه وهو يقول: أنا أنتظرُ تسجيلاً قادمًا الآن، ابنُ الرقيب جاسر يقول أنّ هنالك شيئًا غريبًا
    بالمكالمة الأخيرة التي جرت بينه وبين والده.
    هتفَ عامر: هل تخشى تهديدًا حضرة الملازم؟
    ردّ عليه الملازم مؤيّد: لا أستطيع الجزم دون سماع التسجيل ..كما أنّه لا يجيب على هاتفه.. ربّما أغلقه..
    أو حدث شيء لم يكن بالحسبان ..

    وما إن أنهى جملته حتى يُطرَقَ الباب ويدخلَ مساعده حاملاً جهازًا يحوي تسجيلاً صوتيًّا للمكالمة الأخيرة،
    وضعَ الجهاز الصغيرَ ثمّ أدى التحيّة العسكرية وخرج..
    جلَسَ كلّ من الثلاثة حولَ طاولة في المكتب لسماع التسجيل، ضغط الملازم مؤيّد زرّ البدء ليسمعوا..

    .
    .
    .


    [ في أوروربـا – باتجاه زياد ]

    لم يستطع زياد العثور على الطبيب الذي عالجَ المدعوّ بسام من المرّة الأولى كونه قد أخذَ إجازةً،
    لذلك استمرّ بالقدوم لمنزله في أوقات مختلفة بنفس اليوم بعدَ سؤال الجيران عنه،
    وأكّدوا له أنّه لم يسافر بل خارجٌ في نُزهة..
    ركَلَ زيادة حجرًا أمامه وهو يمشي على رصيفٍ ما قريبٍ من منزل الطبيب،
    متوتّر كثيرًا، يتمنى ألّا يكون ما توصّل له
    مجرّد خيال وسراب..
    أمسكَ هاتفه ليفتح رسائل سامح التي تسأله " ما الجـديــد ؟ "
    تأفّف زيادة: أوووه أي جديد يا سامح.. صديقنا في إجازةٍ .. يا للحظ!
    نظَر زياد لمنزل الجيران وقال بتعجّب: كلّ الجيران هنا يعرفون أخبار جيرانهم جيّدًا.. نفتعمونا أعزّائي.. أنا شاكرٌ..
    جلَسَ أمام باب المنزل الخارجي متربِّعًا، ثمّ أخرجَ أوراقه من الملفّ قربه، أخذَ قارورة الماء البارد يشربُ كيْ ينتعش..
    قال بانزعاج: فقدتُ السوائل بسبب هذا البسّام .. تبًّا لك..
    نظَرَ للورقة الأولى، قال بجديّة: المعجزات تحدث في كلّ مكان، ربّما هو حيّ..
    هزّ رأسه نفيًا: أي جزءٍ فيه احترق ، كلّ جسده أم أغلبَ أعضاءهِ أم عضو وحيدُ ..؟
    قال بعد برهة من الزمن: يبدو أنّ وضعه كانَ حرجًا فعلاً .. من المستحيل أن يضطرّ بسّام لتدوين اسمه
    بدل جهاد لو كانت إصابته بسيطة ..
    تأمّل عقارب ساعة اليد في معصمه الأيسر: لقد مللتُ حقًّا .. أيعقل أنّه لم يسافربـ..
    بتَرَ جملته بعدَ رؤيتِهِ للظلّ الطويل يقترب أمامه، وسماعهِ للصوت الغليظ يقول له: عفوًا..
    نهضَ زياد من مكانه بسرعة ليقف على قدميه ويصافحَ الرّجل بلهفة: مرحبًا بك دكتور توماس،
    أنا أبحث عنك منذ البارحة..
    وضعَ كفّه على صدره يعرّف عن نفسِه: اسمي زياد وأنا متدرّب في أحد المستشفيات هنا..
    تحرّكت يده بسرعة لتختطف البطاقة من جيبه الأيمن، مدّها للرجل: هذه بطاقتي..
    ابتلعَ ريقه وهو يحدّق بالرجل، ماذا سيقول أيضًا ؟ لقد عرّف عن نفسِه.. وأعطاه بطاقته ..
    ابتسمَ توم له قائلًا: على مهلِكَ.. أعرف يا زياد، اتّصل بي الجيران يخبروني عنك وعن وضعك الطارئ..
    التفتَ زياد بشكر لمنزل الجيران، يا لهم من جيران .. !
    مدّ توم ذراعه باتجاه المنزل: تفضَل بالدخول، لنرحّب بكَ في الدّاخل..
    أومأ له زياد: حسنًا..
    دخلَ زياد حديقة الدكتور توم ووجدها بسيطة جدًا، لا زهور ولا أشجار ..
    مجرّد أعشاب طويلة لَمْ تٌقَص تحتل المساحة ويخترقها طريق حجري بالمنتصف ..
    لاحظَ توم فقال متداركًا: أنا لا أبقى طويلاً في المنزل، عملي لا يسمح لي أن أطيلَ المكث فيه،
    تعرف حالات طارئة كثيرة تمرّ عليك، وتستدعى حتى عندما تأخذ إجازة ..
    أومأ زياد متفَهّمًا، فاستدرك توم: كما أنني وحيدٌ هنا، لو كنتُ متزوّجًا لربّما اعتنت زوجتي بالحديقة..
    وانفجرَ ضاحكًا..
    أدخلَ المفتاح بالباب ودفعه بقدمه بقوّة وهو يقول: هذا الباب عنيدٌ جدًا..
    دخلا لغرفة قريبة من المدخلِ وكانت تعجُّ بالفوضى، كتب ومذكّرات وأوراق مبعثرة في كلّ مكان،
    ملابس مرميّة وملقاة على إحدى الأرائك .. أوانٍ وأطباق موزّعة بشكل عشوائي.. ومرميّة بإهمال..
    أبعدَ زياد بعض الأوراق عن الأريكة ليضعها على الطاولة، فجاء توم مسرعًا ليأخذها باعتذار:
    أعذرني، لولا هذه الفوضى لضعت، عندما أنظّم المنزل وأرتّبه أضيع ولا أعرف أماكن الأشياء كما أراها بوضوح الآن.
    تفهّم زياد، فقال الآخر: دعني أحضّر قهوة لنا.
    نهضَ زياد بهلع: لا أرجوك .
    ارتبك توم: وما المانع؟
    -أنا مستعجلٌ جدًا، لا أقصد ردّ ضيافتك، لكن لن أستطيع شرب القهوة مع فضولي وفضول الشخص الآخر
    الذي يتّصل بي الآن ..
    ابتسمَ توم وأجاب زياد على الهاتف بامتعاض: اهدأ سيّد سامح، أنا في بيت الطبيب الآن.. حسـ.. حسنًا فهمت..
    سأتركُ الهاتف في وضعيّة مكبّر الصوت .. استمع بنفسك ..
    استأذن زياد: صديقي يريدُ سماع حديثنا هل هذا ممكن؟
    أومأ له: بالطبع ممكن.
    جلسَ الطبيب توم متسائلاً: ما الأمرُ الذي أردتَ السؤال عنه بالتحديد ؟
    -إنّها قصّة طويلة، موضوعنا متعلّق بابن أخ الرجل الفضولي الذي يستمع لنا الآن..
    قال سامح: زياد ليس وقت المقدمات..
    حكّ زياد رأسه وقال بجديّة: أضفِ إلى ذلك أنّه عجول وقد أزعجني برسائله منذ الأمس..
    هزّ الطبيب رأسه: إذًا مابه ابن الأخِ هذا ؟
    -لقد جاء قبل عدّة شهور شخصٌ يدعى بسّام يحملُ معه شابًّا اسمه جهاد للمشفى..
    راقبَ زياد عيني الطبيب بحرص وتابع: لقد كان جهاد خارجًا من منزلٍ محترقٍ، جاءا بالإسعاف،
    وأنتَ تولّيت مهمّة علاجه، لذلك .. أريدُ أن أعرف عن حالته ..
    شكّ الطبيب قليلاً: ولمَ لمْ تسأل الشخص الذي يدعى بسّام ؟
    ابتسم زياد بحسرة: لو كنت أعرف أينَ بسّام أو جهاد لما جئتكَ..
    أبدى الطبيب مخاوفه: إنني خائف لو أعطيكَ معلومة ما.. ربّما لا تستحقّها .. ما عنيته هو أنّكَ قد تكون..
    قاطعه زياد: شخصًا خطيرًا ، صح ؟
    أومأ الطبيب: أجل، ما الذي يضمنني أنني لن أعطيكَ معلومة ظننتها إنقاذًا لمريض وفي الحقيقة هي العكس؟
    -أرسلُ لكَ معلومات سامح .. عمّ جهاد .. لتتأكّد منه .. وسنتّصل به عبر مكالمة "فيديو" كي تراه..
    أعني حتى لو حقّقنا لكَ كلّ شيء لنجعلكَ تصدّق أننا أخيار أو أننا أهله .. ليس هنالك ما يضمنُ لكَ أننا لا نخدعك..
    ففي النهاية أنتَ لا تعرفنا ..
    ابتسمَ الطبيب ابتسامة باهتة وقال بعد تفكير: ربّما أنتَ محقّ وربما لا..
    ضربَ زياد صدره: أنا مُحق..
    ثمّ أردف: جهاد مفقود منذ الحادثة، فقد توفّي جميع أهله عدا شقيقه الأصغر الذي لم يصدّق أنّ أخاه قد فارق الحياة،
    على عكسنا نحن الذي صدّقنا أنّه ميّت.. أريدُ أن أتأكّد هل جهاد حيّ يرزق أم لا ؟
    -هل لكَ أن تصفَ لي شكله؟ عمره .. طوله ؟ أي شيء ..
    -يبدو أنّكَ لا تثق بي .. "ابتسم زياد" إنّه بطولي تقريبًا .. في أوّل العشرين الآن ..
    ثمّ أردف: لكن جهاد دخل ببطاقة بسّام فقد لا تكون المعلومات ..
    قاطعه الطبيب: صحيحة..
    لم يفهم زياد: ماذǿ
    -ما قلته صحيح.. أنا أذكر الشّاب .. لقد جاءنا محترقًا من الأعلى ..
    حرّكَ الطبيب كفّه أمام وجههِ وأنزلها ببط بشكل عامودي على صدره ثمّ قال: من أعلى وجههِ حتى منتصف صدره..
    أشارَ على ذراعيه: ذراعاهُ أيضًا محترقة ..
    قال زياد بحرص وتركيز: حروقه كانت كبيرة وعميقة، من الدرجة الثانية ربّما .. ؟
    أومأ الطبيب: أجل.
    قال زياد باستغراب: كيفَ سمحتم لمريض بحالته أن يخرجَ دون إقامة في المشفى ؟
    ارتبكَ الطّبيب: في الحقيقة .. لقد خرجَ على مسؤوليّته رغمًا عنّا ..
    سأل زياد: تعني جهاد؟
    أومأ نفيًا: لا بل الشخص الذي أحضره .. بسّام ..
    ثمّ سأل الطبيب بإعجاب: كيفَ عرفتَ كلّ هذه المعلومات يا زياد ؟
    ابتسم زياد وهو يمسح على شعره: من تلميح عجوز..
    -وكيفَ عرفتَ أنّه لم يمكث في المشفى .. لا أظنُّ العجوز أخبرتك؟
    -من ورقة صرفِ الدّواء.. لا نصرفُ الدواءَ في نفسِ اليومِ لشخصٍ سيبقى مدّة طويلة في المشفى حضرةَ الطبيب.

    أضاف زياد بجديّة: ومصاب بحروق كبيرة..دفعتك لإعطائهِ دهانًا قويًّا ومسكّنات قويّة كذلك ..
    فهمتُ أنّ هنالك شيئًا ما .. ربّما خطرًا محدقًا بهما ..
    إنني حتى الآن لا أعرف ما نوع الأسباب التي جعلتهما يغادران بهذه السرعة !

    تنهّد الطبيب بقوّة وسرحَ في الفراغ أمامه ثمّ قال: لن أنسى وقتها ما حدث ..
    قال زياد بهدوء: أتمنى أن أعرفَ كل ما تعرف.. "نظرَ لوجه الطبيب برجاء" فضلاً.
    تدخّل سامح قائلاً: أرجوك، أخبرنا .. سيفيدنا أي شيء..
    أرخى الطبيب جسَدَه وأغمضَ عينيه يبدأ بتذكّر أحداث ذلك اليوم ..
    .
    .
    .

    [ أمام منــزل الأستاذ بــسّـــام ]
    تجاهل صوت زوجته التي تناديه من الخلفِ وأسرعَ يرتدي حذاءه الرياضي،
    ويغلق أزار قميصه بسرعة..
    أغلقَ باب المنزل وهو يصرخ: أنا مشغول يا ليلى .. آسف..
    رجتهُ قائلةً: أنتَ غاضبٌ على رائد أليسَ كذلك؟ أرجوكَ هدِّىء من روعك ..
    توقّف والتفتَ لها ثمّ قال بنفاد صبر: لم يبقَ روعٌ مع هذا الولد.. كم مرّة حذّرته ألّا يغلق هاتفه..
    -ربّما نفدت مدّخرته..
    صرخ بوجهها بغضب: وما ذنبي أن تنفدَ وأنا أكرّر عليه أن يشحنها دومًا..
    زمّت شفتيها بقلق، فتنهّد زوجها وقال معتذرًا: آسف لم أقصد الصراخ عليكِ.. كل ما في الأمر أنّ هنالكَ شيئًا
    يثقل كاهلي منذ مدّة .. لم أعرف أنّ الحلّ كان قربَي ..
    أومأت له نفيًا ، فلم تفهم إلامَ يرمي بسّام: ماذا تقصد؟ أي حلّ ؟
    تسلّلت دمعة من عينيه فأسرعَ يضغط بالسبّابة والإبهام عليهما يغطّيهما خيفةَ أن تدركَ زوجته ذلك،
    ليسَ مستعدًّا الآن، لقد داهمه رائد .. و فـريـد .. هل علمَ بعدد الحقائق التي أخفيتها عنه؟
    بالكذبات التي كذبتها على الرقيب جاسر في تحقيقه معنǿ
    هل عرفَ أنّني السبب ولم أجد فرصةً مناسبة لإخبارهِ بالحقيقة ؟
    قال بصوتٍ خافت: الأستاذ فريد .. الشاب الذي أرعاه .. قد يكرهني للأبد الآن ..عليّ أن أسرع ..
    ضغطت معصمها الأيسر بيدها اليمنى تحاول إخفاء قلقها، قالت بصوت هادئ نسبيًّا: كن حذرًا.. لا تسرع ..
    أشار لها بإيماءة واتّجه نحوَ سيّارته يركبها، أغلقَ الباب بقوّة وأدار المفتاح ليرخي جسده على الكرسي
    ريثما تكسب السيّارة بعضَ الحرارة..
    نظرَ لعينيه في المرآة الأماميّة، حدَّ بصَرَه يحدق فيها، ويتذكّر ما حدث قبلَ عدّة شهور..
    .
    .
    .


  4. #803

    [ في أوروبــا –قبل عدّة شهور- منزل بدر ]

    رمى ذلك الجالس في الشُّرفةِ الصحيفةَ من يديه بانزعاج وقال بملل: ياااه ، رئيسُ الصحيفة سيقتلني قريباً بنوبة ..
    جاءه صوت أنثوي ناعم من الدّاخل يقول: عزيزي بدر .. الإفطارُ جاهز .. هيّا الأولاد بانتظارك ..
    نهضَ بدر من مكانه ليغلق الشرفة من خلفهِ وهو يغمزُ: ما هذا يا أمّ فرح .. ما هذه الإعدادات هنا ..
    حرّك حاجبيه للأعلى: هل تريدين أن تحتفلي بي ؟
    ابتسمت وهي تضعُ الأطباق على المائدة في الصّالة المفتوحة على الشّرفة: أوّلاً لا تقل أم فرح، فرح آخر أولادك..
    لذلك أنا أمّ جهاد، ثانيًا ما المانع في حفلة إفطار .. فكرة لا بأس بها ..
    أغمضت عينيها بامتعاض وهي تراه يأكل وحده بعدَ أن سحبَ كرسيّه من الطاولة دون أن يعير لكلامها أدنى اهتمام..
    رفعَ رأسه لها: أين الخبز ؟
    صرخت بوجهه ثائرةً ودون شعور باللغة الإنجليزية: اغسل يديك بعدَ إمساكِ الصّحيفة يا بدر ..
    ضحكَ بقوّة: يا إلهي، منذ زواجي بك وأنتِ تقولين لي هذا .. تصوّري أنني لازلتُ أنسى ..
    نهضَ من مكانه ليغسلَ يديه، واتّجهت زوجته للباب الخارجيّ تنادي الأولاد..
    ابتسمت وهي ترفعُ ذراعها لهم بينما يلعبون البيسبول في الحديقة، قالت بصوت مرتفع: جهاد .. سامر ..
    الفطور جاهز ..
    ردّا عليها بصوت واحد: قادمان.
    عادت للداخل لتقفَ تحتَ السلالم تنادي ابنتها الصغيرة ذات الأربعة أعوام: فـرح عزيزتي أينَ أنتِ لقد تأخّرتِ..؟
    ليأتيها صوتُ فرح وهي تضحك: أنا ألعبُ مع كاثرين وكايل يا أمي..
    هزّت والدتها رأسها: حسنًا إلعبي لا أمنعكِ من اللعب، لكن الوقت وقت الفطور وعلى الجميع التواجد بدون استثناء.
    نزلت فرح السلالم ببطء لتخفضَ والدتها جسدها وتحتضنها بقوّة وهي تقول: لا أظنّ أنّ كاث وكايل سيمانعان.
    أومأت فرح نفيًا: لا .. لن يمانعان ..
    ثمّ ركضت باتجاه والدها تغوص بين أحضانه، فابتسمَ حتى بانت أسنانه، ثمّ قال بحماس:
    ما هذا ؟ فرح تركت كاثرين وكايل من أجلنا! يا للعجب.. !
    ابتسمت فرح وقالت: قالا لا بأس سننتظرك ..
    أجلسَها بحضنه وهو يقول: ستأكل فرح عند والدها اليوم ..
    خافت فرح ونظرت لوجه والدتها -التي ثبّتت نظّاراتها الطبيّة جيّدًا- قائلة: لا أريد.
    كشّر السيّد بدر: حسنًا أمّكِ كابتن المنزل غير موافقة، إنها لا تريدُ منّا الركوب على متن الرحلة نفسها..
    اتّجهت فرح لكرسيّها المعتاد، وكذلك فعلت أمّها ..
    سمعوا صوتَ كسر ما فاحمرّ وجهُ السيّدة لتنهض مجددًا وهي تتمتم بكلمات إنجليزية غير مسموعة متّجهة نحوَ الحديقة..
    بينما في الحديقة اختفى كلّ من جهاد وسامر خلفَ شجرة من الأشجار، كانَ جهاد مسندًّا ظهرهُ على الشجرة،
    وسامر يجلسُ قربه..
    قال وهو يراقب المكان بحذر: أقسم يا سامر أنها سمعت، أنا أعرفها ..
    لقد بدأت تتحدّث بالإنجليزية بسرعة، وهذه عادتها عند الغضب..

    مسحَ سامر عرقَ جبينه بقميصه وهو يقول بتعب: تبًّا لكَ يا جهاد،
    لماذا جعلتني أختبىء معك، ألستَ أنتَ من كسرَ النافذة.. ؟ ما ذنبي؟

    التفتَ له جهاد بتأنيب: ويحك، تتركني وتذهب.
    همسَ سامر ببرود: هذه المرّة الرابعة على التوالي في هذا الشهر تقومُ بكسر النافذة..
    ابتسمَ جهاد وحرّك ذراعيه بعشوائية وحماس، قال بسعادة: أنظر للجانب الإيجابيّ يا سامر،
    دائمًا ما أكسِرُ نفسَ النافذة..

    لم يفهم سامر شيئًا بل مطّ شفتيه واكتفى بذلك، فتابعَ جهاد: هذا يعني أنني محترف،
    فأنا أرمي بنفس الزاوية في كل مرة..

    مسحَ سامر وجهه وهو يقول بجديّة: بل يعني أنّكَ ستدفعُ من مصروفكَ ثمن زجاج نافذتي يا عزيزي.
    -لقد أقرضتُ من مالي بعض الأصدقاء.
    -متأكّد أنّكَ لم تشترِ عُدّة بيسبول جديدة ؟ المضارب تزداد في غرفتك .
    -أنا لا أكذب، صديقُ ما اقترضَ مبلغًا منّي فقط.
    كشّر سامر: حسناً أصدّقك، لكن أنا جائع سأذهب.
    خرجَ سامر من مخبئِهِ وهو يرى والدته تمشي باتجاه الشجرة، لم يكن محتاجًا لأن يخبرَ والدته من كسرَ النافذة،
    فهي معتادة على هذا السيناريو، كما أنها تعرف حبّ ابنها لاستخدام المضرب وإجبار سامر على الرّمي له.
    صاحت بوجه جهاد بحزم بينما يقفُ جهاد أمامها بتوتر: هل تريدني أن أضعَ حمايةً لنافذة سامر أيضًا ؟
    قال جهاد بجديّة: أمّي ألا يجبُ أن تدعمي موهبةَ ابنكِ؟ ها ؟
    جاءهم صوتُ بدر المرتفع: بني أترك النافذة تعال وتناول فطورك لدينا رحلة اليوم.
    رفعَ جهاد يديه باستسلام وقال بتكشيرة: سمعتِ يا أمّي ؟ أبي ينادينا .. لا تتأخري..
    تركوها في الحديقة وهرولوا للمنزل..
    قالت بصرامة: اغسلا يديكما أوّلاً..
    ابتسمَ جهاد وهو يتّجه نحو المغسلة الخارجيّة قربَ دورة المياه: أنسى اسمي لكن لا أنسى هذا.
    وكزه سامر وقال بحذر هامسًا: جهاد .. لدي ما أخبركَ به .. "نظر من حوله قبل مجيء والدته" .. صديقي لديهِ درّاجة
    ناريّة .. يريدُ إصلاحها .. طرازها قديمٌ نوعًا ما .. وتعرفُ أنّهم طلبوا مبلغًا كبيرًا لإصلاحها.. لذلك ..
    قاطعه جهاد بجديّة وقد لمعت عيناهُ: لذلك تريدُ منّي إصلاحها ..
    جاءَ صوت والدتهم: إصلاحُ ماذا أيضًا ... ؟
    طأطأ سامر رأسه بقلّة حيلة، فقال جهاد مستنكرًا: بالله عليك لن تضعها على رأسي هذه المرّة.
    التفتَ لوجه والدته قائلاً بدفاع: أقسم أنني لم أفعل شيئًا.. هذه خطّة سامر ..
    حدّت والدتهما عينيها وهي تقول بخوف: خطّة .. ! خطّة ماذǿ
    قاطعهم صوتُ والدهم بدر وهو يقول بانزعاج طفيف: عزيزتي دعي الأولاد يتنفّسون،
    لا تبحثي عن النظام حتى في منزلك، اتركيهم ، هذا زمانهم.. إن لم يستمتعوا الآن فمتى ؟
    عادت لتجلس بكرسيّها وهي تقول: فلسفتُكَ في الحياة غريبة يا بدر، هيّا لنأكل.
    أرسلَ سامر قبلة بأصابعه بالهواء لوالده وكذلك فعلَ جهاد، غيرَ أنّ قبلةَ جهاد بدت مفترسة قليلاً،
    فكشّر والدهم وهو يردّها عليهم..
    جلَسَ جهاد وسامر على المائدة قبالَ والديهما، وقربَ فرح..
    لم يخلوا الجوّ من المداعبات من بدر وأبنائه وقلّة حيلة والدتهم أمامهم،
    فهم لا يستمعون لها دائمًا بسبب تدخّل والدهم..ودفاعه عنهم باستمرار..
    ابتسمَ سامر وهو يربّت على شعرِ فرح: ما رأيك لو نبتاعُ اليومَ صديقًا جديدًا لكاث وكايل ؟
    تهلّلت أساريرُ فرح: حقًا.. أنا أريد .. لأنّ كاث وكايل يريدان صديقًا هما أخبراني ..
    نظرت والدتهم لهم وقالت بابتسامة:لا يجبأن نبتاع في كلّ مرّة دمية ودون مناسبة يا سامر..هذا إسراف..
    زمّت فرح شفتيها بحزن وكادت تبكي، فبدّلت أمّها قولها بسرعة:
    لكن فرح استطاعت ترتيب غرفتها لوحدها هذا الأسبوع فتستحق مكافأة ..
    قال جهاد بجديّة لسامر: ما رأيكَ أن نذهب اليومَ للشاطىء ؟
    ضربَ السيّد بدر الطاولة بكفّه وهو يقول بحسرة: أووه لقد كشفا النزهة ..
    تأفّفت والدتهم: ليسَ الشاطئ يا بدر.. أخبرتُكَ أنّ هناكَ مكتبة جديدة افتُتِحت قربنا وكم أودّ زيارتها..
    هنالك قواميس ستنفعني في الرسالة التي أكتبها الآن..
    أشار على سامر بالشوكة التي يحملها: سامر خيرُ دليلٍ لكِ، اذهبي معه الآن، وخذي كتبكِ وسنكون بالانتظار..
    أومأ سامر: لا مانع، أريدُ أن أبتاع دمية جديدة لتكون صديقة كاث وكايل .. " التفت لشقيقته" أليسَ كذلك؟
    هزّت رأسها بفرح: بلى .
    تناول جهاد الطعام أمامه ثمّ قال: سأذهب لوحدي بالدّراجة، لن أنتظرَ أكثر من ذلك.
    قالت أمه: جهاد عزيزي ، دعنا نخرج غدًا جميعًا، إنه شاطئ .. بحر .. أي ماء .. ليس مخدّرات كي لا تستطيع التحمّل هكذا ..
    ابتسم سامر قائلاً: أمّي أصبتِ عينَ الحقيقة، فجهاد مدمن من هذا النوع..
    حرّكَ جهاد يديهِ أمامَ وجهه وقال بشاعرية مصطنعة: ليسَ الشاطئ وحسب، بل منظرُه وقتَ الغروب، الهدوء
    والسّكينة والسلام الذي يعكسه لك ... " هزّ يديه بقوّة " لا أستطيع الوصف ..
    قهقهَ والده بدر بقوّة: يا ربّاه.. لماذا لا تشارك بفقرة الشعر في صحيفتنا..فالإحساس عندك عالٍ..
    -أمّي تعلمين أنني قطعت شوطًا كبيرًا خلال ثلاثة أيام لم أذهب فيها للشاطىء..
    هزّت رأسها: أعلم، إنجاز عظيم، لكن تريّث حتى نذهب معًا..
    شربَ كأسَ الماءِ أمامه ثمّ قال: حاضر، لأجلكِ فقط، لكن ستسامحيني على كسري للنافذة..
    -هل تضعُ شروطًا وتحدّيات بوجه والدتك؟
    ضحكَ جهاد ضحكته التي تجعل من حولهم ينتبهون لها: أنتِ تحبّين إرغامنا دومًا، دعيني اجرّب حظّي.
    ابتسمت والدته بعدَ ضحكه: لكَ ذلك، سامحتك.. لكن أصلحها بنفسك..
    حرّكَ حاجبيه وهو يقول بثقة: سأذهب للقبو الآن وأجهّزَ العدّة والعتاد..
    ضحكَ والده: يا إلهي أهيَ حرب ؟ نافذة والسلام..
    رمقته زوجته بنظرة ساخطة: تقول نافذة .. لو علموا أنّكَ لا تعرفُ إصلاحَ النوافذ الثلاث قبل هذه لما سمحوا لكَ
    بأخذِ نافذَةٍ من الصحيفة التي تكتب فيها..
    رفعَ صدره بثقة قائلاً: تعرفين أنّ ما يهم هو القلم والعقل والمنطق والصدق في الصحف والأخبار،
    كلّ العظماء في التاريخ ستجدين نقطة ضعفٍ لهم، فهم بشر في النهاية.
    كشّر جهاد: وتسمّي إصلاح النافذة نقطة ضعف يا أبي.
    بينما اكتفى سامر بالضحك..
    تلعثم والده قليلاً ثمّ قال: ربما يا بني.. لعلّك ورثتَ موهبة الإصلاح هذه منّي، فأنا عبقريّ كما تعلم.
    ابتسمت زوجته وهي تقول: عزيزي، ثلاثة أرباع الذكاء يُكتَسَبُ من الأمّ.
    غمزت له ونهضت من المائدة تحمل بعضَ الأطباقِ للمطبخ
    رنّ هاتفُ المنزل فقال السيّد بدر بحزم مصطنع: أنا سأجيب..
    يعرفُ السيّد بدر من هو المتّصل، وكذلك أبناؤه بل حتى زوجهُ وفرح الصّغيرة،
    لأنّه لا يتّصل أحد في مثل هذا الصباح الباكر غير رئيس الصحيفة التي يعمل فيها بدر،
    اعتاد بدر أن يتجادل كثيرًا مع هذا الرئيس في الأخبار التي يكتبها،
    لأنّها غالبًا ما تلعبُ على وترِ الحقيقة، وتفضحُ وتكشف الأسرار..
    يرفضُ الرئيسُ ذكر الأسماء ويعدّل على أخبار بدر بشكل مستمر ليخفف من وطئتها على الناس،
    في المقابل يكره بدر فعل ذلك لأنّه يرى أنّ هذا تزويير..
    نهضَ ورفعَ سمّاعة الهاتف وأبعدها عن أذنه لأنّه يعرف خطورة ذلك،
    قال المتّصل بصوتٍ كاد يفجّر أذن السيّد بدر: أحمــــــــــــــق !
    حكّ السيّد بدر رأسه على مرأى أبنائِه فقال جهاد بملل: يبدو أنه سيناريو الصحيفة والعمل.
    أومأ سامر قائلاً بجديّة: والدي يتعبُ كثيرًا على هذه الأخبار ويأتي رئيسه بكل هدوء ويغيّرها..
    قال جهاد بقلّة حيلة: يا لصبره، ما كنت سأحتمل مثل هذا الرئيس.
    -ماذا لو ترأّسَكَ رئيسٌ مثله؟
    -هذا لن يحدث يا سامر.
    -أقول ماذا لو؟
    -سأدعُ الجواب حتى يأتي الوقت ذاك.

    ردّ السيّد بدر على المتّصل بانزعاج طفيف بالإنجليزية: حضرة الرئيس جيمس، كيفَ لي أن أصفَ شعوري لكَ
    حينما أصحو صباحًا كي أرى الخبرَ الذي كتبتهُ في الأمس مقلوبًا رأسًا على عقب، بدّلتَ الحقائق، وزوّرتَ الأسماء
    وزيّفتها، كيفَ أصفُ شعوري هذا لك .. ؟ أخبرني ..
    -و لماذا تعتقد أنني أفعل هذا ؟ إنني خائفٌ عليكَ يا بدر ..
    -أعرف أنّكَ تخاف علي وأنا شاكرٌ لكَ هذا، كما أنّكَ تحميني ولم أنسى هذا أيضًا.. لكن ما ذنب الناس؟
    -ذنبهم أنّكَ تكتب لهم مثل هذه الأخبار!
    صاحَ بدر باستنكار وهو يهزّ الهاتف بيده ويضغطُ بقوّة على السمّاعة قربَ أذنه بينما يمشي في الصالة دون توقّف:
    أنا صحفي تخصصي في أخبار الشرطة والجرائم ، هل تريدُ منّي الكتابة عن الفن والرّقص أو الرياضة؟
    أخبرني هل هذا يعقل؟ زاويتي تُقرأ في كل مكان !
    وأنتَ .. "مسحَ جبينه وأرجعَ شعره للخلف" وأنتَ تأتيني بكل برود..
    قاطعه الرئيس: أيّ برود! أقول لكَ ليسَ كلّ الناس الذين تكتب لهم يحبّونك ، صحيحٌ أنّ أسلوبك متحفّظ،
    لكنّه متحفّظ بشكل جريء ولا تسألني كيف هذا فأنا لا أعلم، وكل ما أعلمه أنّ هناك من لا يُحبّكَ يا بدر..
    أنتَ والد لأبناء..
    إن لم تخف على نفسِكَ .. ماذا عن أبنائك؟ ماذا لو امتدت يد نحوهم بضرر ما ؟ لا تقل لي أنّكَ لم تفكّر..
    أعرف أنّ مثل هذه الأشياء لا تفوتك .. لكن .. لعلّك نسيتها .. وإنّي مذكّرك!
    -ذاك التهديد كان قديمًا.. ولم يعاود أحد الاتّصال، وهذا طبيعي ..
    فالصحف ودور النشر تأتيها مثل هذه التهديدات على الدوام ..
    -إخرس حالاً يا بدر، سأقابلك غدًا صباحًا في مكتبي،أعرف أنّكَ لن تأتيني اليوم حتى لو ناديت!
    -وداعًا.
    وأغلقَ بدر الهاتف بقوّة ، فكّ أزارير ياقته وخرجَ للحديقة ينفِّسُ عن غضبه، فصرخ ينادي زوجته:
    لنخرج في نزهة رغمًا عن أنفي، هيّا.
    عادت زوجته للصالة لتجد الوضع كما اعتادت عليه منذ زمن، فخرجت وهي تقول لفرح:
    فرح عزيزتي، هيّا سنذهب في نزهة مع والدكِ..
    سأل جهاد متفاجِئًا: ألن تذهبي مع سامر؟
    ابتسمت وهي تنحني قليلاً: تعرفُ لقد سيطرَ الغضب على والدك، نحتاج أن نهدّئه بنزهة قبل أن يصاب بعلّة ما.
    ابتسمَ جهاد في وجهها وقال: هل من الصعب عليكِ قول أنّكِ خائفة عليه؟
    ضحكت ضحكة قصيرة وتمالكت نفسها لتقول بحزم مصطنع بعد أن كشفها جهاد: شديد الملاحظة كالعادة.
    ردّ عليها وهو يحمل بعضًا من الأطباق: ورثتها منكِ.
    خرجت وهي تجرّ يد ابنتها فرح التي تحمل دميتها كاثرين وكايل بيدها..

    أمّا سامر فبعدَ أن حملَ الأطباق المتبقيّة إلى المطبخ وجدَ قائمة بالأغراض التي يحتاجها المنزل مكتوبة
    بورقة ومثبّته بمغناطيس صغير على الثلاجة،
    لذا أخذها قائلاً بصوت مرتفع: جهاد أظنني سأذهب للتسوّق، أمّي تركت قائمة هنا..

    أدار وجهه ليقول بسعادة: كما أنني سأبتاع دمية فرح في طريقي.
    رد عليه جهاد بعد َأن زفَر: فهمت.
    و تمتم بخفوت: كلّ هذه الأعطال كي لا يذهب جهاد للشاطىء..
    ثمّ أردف سائلاً: سامر أينَ صديقكَ هذا صاحب الدّراجة.
    أجابه سامر: هل تريدني أن أخبره كي يحضر الدرّاجة؟
    خرجَ جهاد من المطبخ و هو يرفع ذراعه قائلاً: أجل.
    أبعدَ سامر المغناطيس الصغير عن الورقة وأخذها قائلاً بصوت مرتفع بينما يخرج من المنزل: أنا ذاهب.
    عبَرَ الحديقة ووجدَ درّاجته الهوائية، تردّد هل يأخذها أم لǿ تراجع عن أخذها وتابعَ طريقه للخارج،
    فمركز المدينة للتسوّق أو المتجر ليسَا ببعيدين عن المنزل، يستغرق الوصول إليهما 15 دقيقة على الأقدام،
    لتكن نوعًا من الرياضة له..

    في الجانب الآخر ، قرّر جهاد أن يدخلَ للقبو ليُخرِجَ " العدّة والعتاد " كما ادّعى ..
    وهوَ قبوٌ بابه خارجَ المنزل من جهته الخلفيّة، فتحَ الباب ونزلَ السلالم، حتى وصلَ في قاعه ..
    أشعلَ الأضواء وهو يصفّر بعدما وقعت عينهُ على مكانه المفضل في المنزل،
    منظّم لأبعد درجة ممكنة، كلّ أداة ومثيلتها في ركن خصّصه جهاد لها..
    خلعَ قميصه ووضعه على كرسيٍّ قريب من السلالم، قال بهدوء: حتى لا تغضب أمّي وتقول "وسّخته كالعادة".
    نظرَ لمجموعته والسعادة تغمره وهو يشيرُ بيديه عليها: ماذا أبقيتَ للناس يا جهاد؟
    بَدَأ يجمع الأدوات والمعدّات الأساسية في التصليح على منضدة عريضة، ويجهّز المكان لوصول الدراجة،
    الأمر الذي جعله يأخذ أكثر من نصف ساعة تقريبًا..
    تأمّل الساعة في معصمه: لدينا وقتُ طويل، لأذهب وأرى السيّد جون بائع الخردة قبل مجيء صديق سامر،
    لنرى ما الجديد عنده؟


  5. #804

    تركَ جهاد الأَضواء مفتوحة واكتفى بإغلاق باب القبو، أخذَ درّاجته الناريّة التي عملَ على صيانتها بنفسه،
    بمساعدة السيّد جون الذي يذهب إليه من وقتٍ لآخر وانطلَقَ إليه.. غيرَ أنّ شيئًا ما لفتَ انتباهه في المرآب حيث يقف..
    نظَرَ لمكان سيّارة والده التي غادرت، فإذا هنالكَ بقعة كبيرة جدًا من سائل ما،
    تركَ الدّراجة وأخفض جسده ليمرّر إصبعه السبّابة عليه وقرّبه من أنفِهِ.. لا يمكن أن يخطىء أحدٌ هذه الرائحة.
    توسّعت عيناه وهو يقول بخوف: وقود!
    نظرَ أمامه لبقعة الوقود التي تحرّكت عبر خطّ منقّط متقطّع حتى غادرت المنزل ..
    نهَضَ بخوف عليهِ أن يخبر والده حالاً، يتمنى أنّه لا يبالغ بردّة فعله،
    لكن ما يخشاه أن يكونَ مخزن الوقود في السيّارة مثقوبًا..
    أي ثمّة تسرّب ما .. والجوّ ليسَ باردًا، ليسوا في فصل الشتاء وهذه مصيبة، قد تساعد الحرارة على ..
    " ابتلعَ ريقه" فلا يريدُ أن يتشاءم ..
    ركَضَ داخلَ المنزل نحو الهاتف، أخذ يضغطُ رقمَ والده الذي يحفظه كإسمه، انتظرَ حتى سمعَ صوت الرّنين قربه،
    أبعدَ السّماعة عن أذنه ببطء وهو يلتفت إلى حيث الصوت، فإذا بهِ هاتف والده!
    الهاتف المحمول في المنزل.. أمّه لم تأخذ هاتفها أيضًا..

    تركَ السّماعةَ مرميّة أرضًا وركضَ نحو الخارج، سيركض إلى تلك المكتبة الجديدة ، ربّما سيكونونَ قربها،
    بدأ يزيد من سرعته بالركض على رصيف الشارع القريب من المنازل، يسأل عن مكان المكتبة الجديدة التي افتُتِحت هنا،
    ويشيرُ النّاسُ إليه أنّه قريبُ، وليسَ عليهِ إلّا الركضُ .. للأمام أكثر .. لليمين أكثر .. للأمامِ أكثر وأكثر ..
    حتى وقفَ حائرًا .. هل يبالغ ؟ ربّما ليسوا قربَ المكتبة .. لم يمضِ على مغادرتهم وقتٌ طويل ،
    المشكلة التي تدور في عقله أنّ كميّة الوقود التي في المرآب كبيرة جدًا، يتساءل ماذا بقي في السيّارة؟
    يدعو في سرّه أن يكون قد ذهبَ بخياله بعيدًا..
    ولم ينهِ دعواتهِ حتى سمعَ صوت دويٍّ قويّ جدًا ..تتلوهُ أصوات صرخات وصيحات وضوضاء ..
    انقبَضَ قلبهُ بشدّة .. ارتعشَ في مكانه وارتعَد .. ضاقت أنفاسُه .. ابتسم نصفَ ابتسامة ثمّ ضحكة قصيرة خائفة..
    قال بهدوء: لابُدّ أنّ خيالي خصب، صرت أسمع صوت دوي ..
    شاهدَ أمامه بعض النّاس يُشيرون للسماء .. ويحذّرون الآخرين من الذهاب بذلك الاتجاه ...
    أخذَ نفسًا عميقًا .. ومشى ببطء.. ليسَ لأنه لا يريد .. بل لأنه لا يستطيع الإسراع أكثر ..
    جسده يصعّب الأمر عليه كثيرًا، لا يساعده ولا يعينه ..
    هزّ رأسه نفيًا .. لا يمكن أن يحدث هذا لهم .. مستحيل .. عقله يأبى الرضوخ والتصديق ..
    لابدّ أنها أعمال صيانة في ذلك المكان .. بلى .. أليست المكتبة جديدة؟ ربّما هنالك قسم لم ينتهوا منه بعد ..
    هي أعمال صيانة وهدم وبناء !
    ليهدم ألف بيت .. لتهدم مبانٍ كثيرة .. ليهدم كلّ شيء .. مهما قالوا عنه أنانيًّا .. إلّا أسرته .. كونوا بخير ..
    اقتربَ أكثر من المكان ولم يستطع تجاهل ذلك الدّخان المنبعث من الانفجار ..
    الدخان كثيف .. الشرار يتطاير .. والرّائحة قويّة .. ودقّاتُ قلبه يسمعها البعيدُ قبل القريب ..
    اقترب أكثر بعد .. يجرُّ قدميه بصعوبة .. ويقف بصدمة أمام السيّارة المشتعلة ..
    ابتلعَ ريقه وهو يحدّ بصره بسبب عدم اتّضاح الرؤية أمامه .. وشدّة الحرارة ..
    السيارة تذوب .. لم تكن معالمها واضحة .. لكنّها سيّارة .. !
    اكتفى جهاد بضحكة قصيرة جدًا قائلاً: لا يمكن أن يكونوا أسرتي ..

    " لا يمكن "
    ما أكثر ما نرددها حينَ الوقوع بمشكلة أو مصيبة ما،
    نحسَبُ أنّ بعضَ المواقف الشديدة ستمرُّ على الناس كلهم عدانا نحن!
    ستمرّ على الجميع .. لكن لن تصيبنا أبدًا وكأننا محاطون بحماية خارقة وسلاسل منيعة تمنع الشدائدَ عنّا ،
    فنسينا أنّ لن يصيبَنا إلّا ما كُتِبَ لنا!

    مسحَ وجهه محاولًا الثبات، بينما يد امتدّت لتسحبه بعيدًا محذّرّة بلغة إنجليزية: انتبه أيها الشاب.
    انصاعَ لتلكَ اليد وانسحبَ .. تعثّر بحجرٍ ما .. انتشلَ قدمه بصعوبة كي يبتعد عن هذا الحجر ..
    طأطأ رأسه .. لتسريَ كهرباءُ لاسعة في أطرافهِ كلّها .. اختلج .. إضطرَب .. وتزلزل ..
    أخذ شهيقًا قويًّا وأردفه بزفرة أقوى .. صدره يعلو ويهبط .. يدهُ ترتجف لتلقطَ ذلك الشيء الذي ظنّه حجرًا..
    والذي لم يكن حجرًا.. بل دُميَةً لفتاة .. تُسمّيها أختُه " كاثرين " !
    الرؤية باتت ضبابيّة، ليست دوخة .. بل دموع غطّت عينهُ تمامًا وما انفكّت تهبطُ كالشلّالات ..
    عضَ شفته العليا بقوّة وكأنّهُ يتشبّثُ بها مخافةَ أن يسقُطَ من على جُرفٍ هار ٍ ..
    التقطَ الدميّة الملطّخة بالغبار الأسود .. وبدت له أصعب مهمّة في حياتهِ .. منذ متى كانَ التقاط الأشياء معقّدًا ؟
    هل كانَ الإمساكُ بها صعبًا ؟
    رفعها من الأرضِ ليضغطَ عليها ويركضَ داخل الحريق بجنون .. ليصلَ قربَ النّيرانِ يحاول أن يدخلَ في السيّارة..
    أو في ما تبقّى ممّا يُسمّى سيّارة .. احترقَ جزءٌ من بنطالِهِ ولم يشعر ..
    كانَ المنظرُ أكبرُ من الأدرينالين في جسدهِ..
    أكبرُ من أن يسعَ قلبَه، وأكبرُ من أن يحتملهُ وهو الضعيفُ المسكينُ دون حيلةٍ أو قوّة..
    أيدي النّاس قربه امتدّت إليه ثانيةً .. منعته مجددًا .. وأمسكته .. وأسقطته في شراكها ..
    لا يبالون بالجلبة التي أحدثها ..
    لا يُبالون بصياحه ولا عويلِهِ، يحسبُه الرّائي مجنونًا أو مخبولاً ..
    بينما ظنّ الذين يُمسكونه أن ستقطعُ حباله الصوتية بعد كل هذا الصراخ والنّحيب ..
    كان يقفز بشراسة وهو بينَ أيديهم .. صاخبٌ حضورهُ .. يريدُ الهربَ منهم .. إلى النيران ..
    عيناهُ تكادان تخرجان من محجرهما ترتميان في أحضان اللهب ..
    السيّارة ليست وحدها من كانَ يشتعل .. بل حتى روحه ..
    كأنّ أحدًا ينحرها بشكل متواصل دون توقّف إلى ما لا نهاية .. على نفس المكان..
    لم تتوقّف دموعه مثلما لم يتوقّف نبضُ قلبه، فمادامَ حيًّا سيبكي ..
    وسيبكي ما دامَ حيًّا ..
    لم يكن هناك من يفهمه إذ نادى أخته فرحًا ..
    ولا أحدَ يعلمُ من كانت فرح بالنسبة إليه ..
    وأيّ نهاية أشدّ حزنًا من نهايتِكِ يا فرح ؟ ما الفرحُ الذي اختزلتهِ من اسمكِ؟
    من سيكون هنا .. يقفُ معي .. و قد غادرنيَ الفرحُ بأحزن صورة..
    وقتلني بأبشع وداع..
    صرخ جهاد بأقوى ما لديه: اتركوني ....أبي .. أبــــــي في الداخل .. إنه .."أخذ شهيقًا" أمي في الداخل ... وفرح!
    خارت قواهُ بعد أن استسلمَ للواقع وكفَّ عن مقاومةِ من كان يمسكه والدموع تحفرُ طريقًا وعرًا على خدّه،
    أومأ نافيًا وهو يهمس من بين شهقاته: لا ترحلوا .. لا .. "تأوّه وهو يغطي وجهه بيده اليمنى" .. ترحلوا..
    "ما أقسى وداعكم لي .. وما أصعبهُ عليّ"
    انهار ليرتطم رأسه بالأرض ويجتمع عليه النّاس يبعدونه عن النيران،
    ويحاولون إيقاظه بينما يمسك بالدمية بقوّة وكأنّها مفتاحُ عودتهم!

    في الجهة المقابلة للتجمهر حولَ السيّارة ..وبعد ربع ساعة تقريبًا.. كان سامر عائدًا من المتجر حاملاً الأكياس،
    أنهى اتّصاله مع زميله كي يخبره أن يحضرَ الدرّاجة لمنزله فيصلحها جهاد.
    واستغرب هذا الدّخان، نظر حوله ففهم أنّ هنالك سيّارة قد اشتعلت، اقترب للموقع ثمّ سأل:
    كم مضى على اشتعال السيّارة ؟ ألم تتّصلوا على الإطفاء أو الإسعاف ؟
    أجابه أحدهم: أي إسعاف يا ولد؟ لابدّ أنّهم صاروا فحمًا الآن..
    اقشعرّ بدن سامر، فأخذ هاتفه واتّصل بسرعة على الإسعاف يعطيهم الإحداثيّات، ثمّ على رقم الإطفاء.
    استنكرَ سامر فقال بانزعاج: ألم يفكّر أحد أن يساعد بإحضار الماء؟
    تجاهله بعضهم وردّ عليه آخرون: لقد انفجرت السيّارة، حتى لو أحضرنا ماءً ما كان نفع.
    كان اللهب لايزال يشتعل والدخان يتصاعد، وينعكس في عيني سامر الذي لا يدري لماذا لم يستطع إبعاد النظر عنها..
    أخرج بعض قوارير الماء التي ابتاعها من المتجر، فتح غطاء إحداها ليفاجَأ بحوار اثنين قربه، إذا قال الأوّل:
    يا إلهي من كان يصدّق أّنهما خرجوا أمامي من المكتبةِ الآن ؟
    هذه أوّل مرّة أشهدُ موتَ أشخاص قد التقيتهم قبل قليل.
    سأله الآخر: هل تعرفهم؟
    فردّ الأوّل عليه: لا، لكن طلبوا مساعدتي في البحث عن أحد القواميس النادرة، يظهر لي أنّ تلك المرأة تكتب
    رسالة الدكتوراه، يا للخسارة.
    ارتجفَ سامر ثمّ التفت للرّجلين، اقتربَ من الأوّل وأمسك كتفه بيده اليمنى بينما اليد اليسرى يحمل فيها القارورة،
    قال للرجل دون شعور: هل .. "لم يستطع المتابعة" ..
    نظر الرّجل لسامر ثمّ قال: هل هناك أي مشكلة؟
    كان سامر خائفًا من الجواب، خائفُ أن يسأل السؤال ليأتيه الجواب الصحيح..
    لأوّل مرة في حياته يتمنى الجواب الخطأ.
    هزّ رأسه نفيًا ثمّ سأله بتردد: هل المرأة ترتدي نظّارة طبيّة؟
    أومأ الرجل بسرعة: أجل.
    وضعَ يده اليمنى على فمه بعد شهقة اخترقت رئته، لم يكن ليصدق أبدًا، رفعَ رأسه للرجل وسأله مجددًا بخوف:
    هل كان معها طفل ؟
    يريد مباغتة الحقيقة، لقد تعمّد قول " طفل " لا " طفلة" ..
    يتمنى أن يقول له الرجل، أجل صبي صغير ، صبي!
    ردّ عليه الرجل بقوله: أجل إنها فتاة صغيرة.
    وهنا حيثُ كانت القشّة التي قصمت ظهر البعير..
    رسالة دكتوراه،ونظارة ...ثمّ طفلة ! كلّ الطرق تؤدّي إلى أهله..
    كلّ الطرق تنتهي إلى الجواب الذي هربَ سامر منه ليعودَ إليهِ..
    شحبَ جلده، وبدأ يتعرّق، خفَّ نبضُه، والتفتَ بصعوبة، سقطت القارورةَ من يده، لتنكسر..
    سحقَ على الزجاج وتابعَ المشيَ .. نحوَ الأكياس .. ببطء..
    أخذَ قارورةَ ماء أخرى .. واتّجه نحوَ الحريق .. في عقله الباطن صوت يناديه ويسأله: " أيّها المغفّل.. ماذا تفعل؟ "
    أمسكت ذراعَه يدُ رجل ينهاه عن التقدّم فصرخَ سامر بوجهه بغضب وزجره: اترك يدي.
    تقدّم وهو يفتحُ القارورة .. ماذا يحدث ؟
    لقد فتحَ الغطاء لنفس القارورة قبل ثانية ، لماذا لا يستطيعُ فتحَ هذه الآن ؟
    تساءل ..
    حاولَ مرّة أخرى.. لكنّه لم يفلح .. جسده يرتجف بأكمله .. رعَفَ أنفهُ فجأة .. وسال الدمُ منه..
    استنشقَ مرّة واثنتين .. لا يشعرُ بالهواء يدخلُ رئتيه ..
    لا يشعرُ بشيء ..
    يريدُ أن ينقذَ أهله .. بقارورة ماء ..
    لماذا لا يفهمه أولئك الناس الذين ينظرون إليه بتلك الطريقة الساخرة؟
    إنّه ينقذهم ..
    لم يتعرّف على سيّارة والده التي ركبها معه كثيرًا، فقد ذابت!
    لقد ذاب الحديدُ يا سامر.. عن أيّ إنقاذ تتحدّث؟
    اهتزّت شفتيه بقوّة، وبدأت معزوفة النّحيب التي قدّمها جهاد قبل دقائق للجمهور مرّة ثانية،
    معَ اختلافِ العازف ..
    يجرُّ اللّحن الحزينَ ذاته بقوّة أداءِ جهاد ..
    قد حظى مسرحُ الحياةِ اليومَ في هذه البقعة على عرضٍ حزينٍ لمرّتين متتاليتن بالمجّان!
    في نظَرِ سامر .. أنّ ملذّات الحياة قد انتهت الآن..
    فقدُ سُرِقَ فرحهُ وماتَ بدرُ ليلهِ و رحلت أمّه.

    لم يستطع مغادرة المكان مثلما فعل النّاس...
    وبالتدريج خفّ الحشد..
    اكتفى جالسًا القرفصاء أمام السيّارة التي يدفعُ رجالُ الإطفاءَ الماءَ بقوّة عليها من الخرطوم،
    السيّارة التي انتمت له يومًا.. وقد شحبَ وجهه تمامًا..

    كانت السيارة تركنُ في مرآبهم .. يختبىء فيها أحيانًا عن فرح حينَ يلعبان الغميّضة ..
    ويضربُ والدهُ سطحها كلّما غضب مفرغًا غضبه..
    السيّارة التي اجتمعوا فيها كلّهم .. ذهبت هي ومن فيها.
    اقتربَ رجال الإسعاف من سامر يهزّونه ويتحدّثون معه بالإنجليزية: هل تشكو من شيء؟ هل أنتَ مصاب؟
    أومأ له إيجابًا بهدوء وهو سارحٌ بالسيّارة أمامه
    سألوه مستفهمين: أين؟
    شدّ قبضتهُ بقوّة وضربَ بها صدره ناحية قلبه، بكى بصوت مرتفع وقال والكلامُ قد خرجَ متقطِّعًا: هُـ...ــنــ...ــا.
    استدعى رجل الإسعاف أحد الممرّضين يشير على سامر: يبدو أنّ صدره متعب.
    اقتربَ الممرّض وأمسكَ معصم سامر وضعَ إصبعه على مكانِ النبض ونظرَ لساعته المزوّدة بعقارب الثواني،
    كي يقيس النبض ثمّ قال: إنّه أقل من عدد النبضات الطبيعية.
    سأله وهو يتفحّصه: هل تشعرُ بالدّوّار؟
    أخبرَ الممرّض رجال الإسعاف أن يحملوا سامر غيرَ أنّ الأخيرَ رفضَ المغادرة، ليسَ قبل أن يرى أسرته.
    فأخذ الممرّض إبرةً مسكّنة وحقنَ بها ذراعَ سامر، لاحظَ الرّعاف الذي لم يتوقّف وأمسكَ أنفَه وضغطَ عليهِ
    لـ7 دقائق تقريبًا وهوَ يحرّكُ رأسه ويميله للأمام خيفةَ أن يصابَ بالغثيان أو ما شابهه.
    انتظرَ دقائق معدودات ثمّ نهضَ بشكل غير متوازن، وهو يرى النيران قد أُخمِدَت،
    اقتربَ بخوف من السيّارة، ماذا سيشاهد؟
    جثّث أهله، كيفَ سينسى صورتهم لو شاهدهم هكذا ؟ ومعَ هذا لا يستطيع تركهم..
    اقترب أكثر والرّعب يعتلي وجهه .. والرجفة ما برحت تهزّه بعنف،
    ودّ لو كانَ هذا غير حقيقيّ، مقطعاً من فيلم مصوّر قدّامه، أو قصّة قرأها وهو يتخيّلُ أحداثها أمامه..
    لكن الألم ما فتىء يذكّره بقوّة بالواقعِ وأحزانِه..
    لحظات وسيطَرَ الظلامُ على عينيهِ ليدخُلَ في سُباتٍ عميق جاءَ من غيرِ موعدٍ وقد عرَفَ عنوانه!
    .
    .
    .

    [ في مـشفى قريب ]

    استيقظَ جهاد بعدَ ساعات وقد تمّ تضميدُ رأسِهِ بضمادة بيضاء، ومعالجة الحرق بساقه،
    لم يستوعب أنّه على سرير الملاحظة بقسم الطوارىء في المشفى: أينَ أنǿ
    اكتسحت رائحة المطهّرات والمعقّمات أنفه، واحتاج دقائق حتى يتذكّر ما حَصَل ..
    تركَ السرير وركضَ نحو المخرج، عليه البحثُ عن سامر.. فشقيقه لا يعلم .. سينهار لو علم ذلك!

    بينما شقيقه كانَ يسير ببطء باتّجاه المنزل بعدَ أن نامَ لثلاث ساعات في عيادة قريبة بسبب المهدّىء،
    عاد لمكان السيّارة في البداية ولم يجدها، لذلك لا يدري كيفَ سيسأل عن والديه وشقيقته،
    سينتظر أن يأتوا هم ليسألوا عنه..
    رنّ هاتفه في جيبِهِ فأخرجه وضغط زرّ الإجابة بهدوء: نعم.
    ليأتيه صوت زميله صاحب الدرّاجة وهو يصرخ: أين أنتَ يا سامر ؟ المنزل يحترق.
    توسّعت عينا سامر الذي قال: جهاد في القبو.
    حتى لو أسرَعَ لن يستطيع الوصول فجسده لا يحتمل شيئًا، لذا ما كان منه إلا أن يهوي أرضًا،
    لم يتحرّك البتّة وهو يركع واضعًا يديه على الرّصيف، تتهاوى دموعه أمامه تطبعُ دوائر فوقَ بعضها بعضًا،
    لقد أثقله الهمّ فأضحى لا شيء بين ساعة وأخرى.
    ما برح يردد " مستحيل "
    من المستحيل توقّع مجرى الأحداث، ومستقبل الناس، والغيب!
    اقتربت امرأة منه بخوف وهي تساعده على النهوض: هل أنتَ على ما يرام يا بني ؟
    عيناهُ المتورّمتان من البكاء، والخطّان الجاريان على خدّه كانا إجابة كافية لهـا
    ابتسمت وهي تشدّه وتخبره بأن يتماسك، فهو رجل ..
    نعم حتى الرّجال يبكون ويتباكون ، فمصابه ليس هيّنًا، لمْ يستطع المحافظة على رباطة جأشه، هيهات أن يفعل.
    أجلسته على كرسيّ بالرّصيف وهي تشدّ قبضتها أمامه تشجّعه، لكن هذا ليسَ نوع التشجيع الذي أراد..!

    غادرته المرأة على مهل، واكتفى بالنظر للأمامِ وهو يضغطٌ على نفسه كي يقف على قدميه مجددًا..
    أوقفَ سيّارة أجرة وهو يحرّك يده بصعوبة ملوِّحًا،
    ركبَ في الأمام وهو يأخذ نفسًا بتعب، ونطق أخيرًا: اتّجه لهذا العنوان.
    انطلقت سيّارة الأجرة نحو عنوان منزل سامر، ولم يحتج الأخير لأن يتأكّد هل المنزل يحترق أم لا، فسيّارة الإطفاء
    مباشرةً أمامه.
    نزلَ بهلع..هل عليه أن يفقدَ كلّ شيء في يومٍ واحد؟
    أمه ، أبوه ، فرح وجهاد..
    هل عليهِ أن يدخلَ المنزلَ-الذي كانوا قبل ساعات فيه يضحكون-وحيدًǿ
    بعدَ أن كانوا خمسةً، يستقبله الأربعة بالضحكات وأعذب الكلمات والمشاجرات والمناوشات..
    سيدخله دونَ سماعِ أيّ شيء منهم ..
    لا قصص فرح عن دماها، ولا قوانين أمه، لا ضحك والده ولا لعبَ جهاد!
    لقد كانوا على المائدة سويّة قبل ساعات فقط ..
    كاد يصرخ.. لماذا لا يصدّقه أحد ؟ لماذǿ
    " لقد كنّا معًا "

    جثى على ركبتيه أمام الباب والإطفائيّون يتحرّكون أمامه بسرعة،
    نظَرَ للشجرة التي اختبئا خلفها في الصباح،
    هل هي ما بقي فقط ؟
    سمعَ صوتَ أحد الرّجال يقول: الحريقُ اندلعَ من المرآب.
    ضغطَ على رأسهِ بكفّيه، صداع قويّ، لا يستطيع تحمّله، كيفَ حدث هذǿ
    كيف يحترق المنزل والسيّارة في نفس اليوم؟ أهو كابوس؟

    راح يضربُ قبضته بالأرض وهو ينفي ما حدث: لا .. مستحيل " صرخ بقوّة " جهاد في الداخل.
    نهضَ ودخلَ المنزل قاصدًا الجهة الخلفيّة ، عليه أن يتأكّد من أمرٍ جهاد..
    اقتربَ من باب القبو الذي كان يشتعل وتتصاعد الأدخنة منه، غطّى وجهه بظهرِ ذراعه وهو يرى أمامه النيران..
    تنعكسُ في عينيه مرّة أخرى في نفس اليوم، تُعيدُ الرّقصَةَ الجريئةَ ذاتها.
    أخرجه رجال الإطفاء حتى بلغوا الرصيف المقابل للشارع الذي هم فيه، أخبروه أن ينتظر..
    صحيح.. عليه أن ينتظر.. حتى المساء .. سيأتي والده حاملاً كتابًا جديدًا له..
    وكرة بيسبول لجهاد .. لأنّه رمى الكرة على حديقة جارهم ورفضوا إرجاعها له ..
    ستأتي أمّه تشكره على الدمية التي أسعدت فرح ..
    وعلى علبة الأقلام الجديدة التي أهداها لها ..
    سينتظر حتى تستقبله فرح بحماس كي ترى ماذا يخفي خلفه ؟
    وحتى يسمع صوت جهاد يدعوه للعب باستمرار ..
    سينتظر كل هذه اللحظات للأبد..
    هذا .. لو كانوا من العائدين ..

    لو كان هنالك فرصة ضئيلة بقدر حجم الذرّة بالنسبة للكون .. فرصة أمل يتيمة بأنهم سيعودون ..
    سينتظرهم .. حتى الممات .. سينتظر ما دامَ أيّ شيء أمامه يُتوَّج بكلم " فــرصــة "..
    اتّكَىء على السّور خلفه وانهار جالسًا يراقبُ البيت الذي عاش فيه أكثر من 10 سنين ..
    يودّعه ، ويودّع الـ10 سنين الجميلة معها ..
    ربّت زميله على كتفهِ ورصَّ بقوة عليه يحاولُ تصبيره، وما عسى هذه التصبيرةُ أن تفعل؟
    هو قنوع في كلّ شيء، إلا في التعويض عن أهله، ليس هناكَ من سيأخذ مكانهم.
    ساعده.. أسنده عليه.. أخبره أن يذهبا ليستريحا قليلاً في مكانٍ قريب حتى ينتهي الإطفائيّون من عملهم..
    وما كان بيد سامر حيلة، فروحه روح مُسنٍّ على الفراش يحتضر ..!
    ولا جناحَ على عينه ولا سمعه، الجُناحُ يومئذٍ على قلبه الذي استسلمَ بسهولة.
    .
    .
    .

  6. #805
    .
    .
    .
    [ في المـطـار ]

    في الصيدليّة الصغيرة داخل المطار، دخلَ رجلٌ يرتدي كنزة صوفيّة ثقيلة وقبّعة .. يعطسُ باستمرار،
    يحاول أن يتحدّث مع الصيدلاني لكن عطاسه المستمر لا يعينه..
    أشار على أنفه: من فضلك أريدُ حلّاً .. هــا..آآآآتشووو
    وضعَ كفّه على جبينه يتحسسه ثمّ قال بصوت ثقيل: تبًا .. هذا الزكام جاء في الوقتِ المناسب.
    وضعَ الصيدلانيّ الدواء والبخّاخَ على المنضدة ونظر للرجل أمامه ينتظرُ المال منه.

    بينما قال الرجل وهو ينتبه لمن حوله: آه .. عليهم أن يعلموا أنني مريض وقد أصرّت زوجتي ليلى
    على ارتداء هذه الكنزة الصوفيّة، كي أتذكّرها دومًا، كما إنها تعرف أنني لا احتمل نسمة الهواء إذا أصبت بالزكام ..

    ثمّ أردف وهو يضع المال الذي أخرجه من جيبه على المنضدة:
    أعلم أنّكم في الصيف أعزائي لكن كونوا لطيفين مع السيّاح أمثالي ..
    ربّما جئتُ من مكان بارد .. هــ....ــا ... هاآآآآتشوووو ..
    أشار للصيدلاني: قناع طبّي من فضلك.

    خرجَ من الصيدليّة بعد أن ارتدى القناع على وجهه وأخذَ يسحب حقيبته الصغيرة معه،
    لم يكن البحث عن سيّارة أجرة صعبًا، فالمطار يعجّ بالشركات.
    ركبَ سيّارة الأجرة بعدَ أن أعطى السائق العنوان، ثمّ تمتم قائلًا: بدر المخادع، أخبرني أنه سيستقبلني ولكن
    هيهات .. سأريــ هااااتشووووو...
    ابتسم لسائق الأجرة الذي أنزلَ النوافذ كي يتغيّر الجو ..
    فقال الرّجل يقلّد بدر: تعال يا بسّام يا عزيزي سأكون على أول خطوط المستقبلين..
    ثمّ أردف: قال تعال قال ..
    اتّصلَ على هاتفه ثمّ أغلقه بانزعاج: هه! خذ الآن .. إنه لا يجيب.
    .
    .
    .

    غادرَ رجالُ الإطفاء بعدَ أن أتمّوا مهمّتهم بسلام، ولم يعثروا على جثّة أو ما شابهها، أي ليسَ هنالكَ
    ضحايا بشريّة، لأنّ الضحايا الذين كانوا من المفترض أن يموتوا هنا.. قد ماتوا مسبقًا بمكانٍ مختلفٍ.
    عاد سامر وزميله ليقفا أمامَ المنزل غير مصدّقين أنّه كانَ يضجُّ بالحياة والفرحة قبل ساعات.
    لقدّ حلّ وقتُ العصرِ تقريبًا، والمكانُ هادئ جدًا إلا من صوت بعض أطفال الحيّ تسمعهم من بعيد..
    دخلَ سامر للمنزل، دفعَ الباب ذو الصرير المزعج ببطء،يريدُ استكشاف منزله بعدَ الأثاث الجديد، كيف سيبدو؟
    نظَرَ لصالة المعيشة والمائدة، ثمّ للشرفة التي يتّخذها والده مكانًا لقراءة الصحف يوميًّا .. لمكانه المفضل.. المكتبة ..

    تجوّل في أنحاء البيت، يحفرُ الذكريات الأخيرة بعقله، يودّعه،
    فهو يظنُّ أنّه سيرحلُ قريبًا كما رحلَ أهله من شدّة ما هو باخعٌ نفسه عليهم حزنًا، عليه أن يشكرَها أكثر،
    فلم يتوقّع أنّه سيستطيع الصمود هنا، وصمد إلّا قليلاً..
    رائحة الحريق لازالت لها السيادة حتى الآن، لن يستطيع المبيت في منزله اليوم،
    سيذهب مع زميله الذي احترم خصوصيّته والذي يقفُ خارجًا في اللحظة هذه..
    خرجَ .. بعد أن ألقى نظرة أخيرة على المنزل من الحديقة، حاملًا همًّا كالجبال.

    في الوقتِ نفسِه، وبُعيدَ خروجِ سامر ومغادرتِه بقليل ،
    دخَلَ مجموعة من ثلاثة أشخاص ملثّمين من الباب الخلفيّ للمنزل، يبحثون عن هدفٍ ما،
    صعدَ اثنان للغرف العلوية بعدَ أن تركا جالونًا من البنزين على الأرض،
    ليقفَ الثالث حارسًا يقلّب بصره في أرجاء المكان وبلهجة ساخرة قال:
    " زعيمنا الغبيّ سهيل! هذا ما يستحقّه أبناؤكَ لمجرّدِ أنّكَ أبوهم.."
    تجوّل باهتمام يفتح الأدراج المهترئة، والخزانات التي يقع بصره عليها قائلاً:
    يحسبُ بخداعهِ لنا..أنّهُ سيصعبُ علينا الانتقام .. " ابتسم بلؤم" نحنُ لها يا سهيل..
    ركَلَ كرسيًّا بقدمه ليسقط وهو يقول: نحنُ لها.
    في اللحظةِ هذه كان جهاد يقفُ مصدومًا وهو يرى الرجلَ يخرّب المكانَ فوقَ خرابِهِ،
    لقد دخَلَ لهدفٍ وصُدِمَ بآثارِ الأقدامِ من حولهِ، طُبِعت على الغبار..
    هزّ رأسه نافيًّا ليقول بصوت منزعج: ماذا تفعل؟
    التفت الرّجل بقلق طفيف، ثمّ أجابَ بعدَ أن عرفَ الشّخص أمامه:
    أوه أنتَ الابن الأكبر لقمامةِ الأخبار السيّد بدر..
    اشتعلَ جهاد بعدَ أن استفزّته الكلمات، فروح والده قد غادرته للتوّ، كيفَ يتجرأ أحدهم بشتمه أمامه،
    وفي وضعٍ حرجٍ كهذǿ
    انطلَقَ كالمسعور على الرّجل المثلّم يريدُ ضربه، إلّا أن الرجلَ كانَ أقوى منه، استطاعَ ليّ ذراعه بسهولة،
    خاصّة وأنّ جسد جهاد متعب بعدَ المهدّئات، فليسَ في قوّتِه الكاملة.
    ضرَبَ الرّجُلُ بركبتهِ بطنَ جهاد والابتسامة في عينيه: أنتَ ضعيف يا جهاد.
    استغربَ جهاد: كيفَ تعرفُ عنّي؟
    -أعرفُ عن أسرتِكَ كلّها.. على الرغمِ من أننا لم نبحث جيّدًا بشأن أعمامكَ أو أخوالِكَ
    فيبدو أنّهم لا علمَ لهم بأعمال سهيل.

    لكمَ الرّجلُ الملثّم جهادَ مرّة أخرى على وجهه ثمّ قال: لو لم يستفزّنا والدكَ.. ما كان ليُقتَل..
    توسّعت عينا جهاد بصدمة: قتل.

    -لم يكن شيئًا صعبًا ثقبُ خزّانِ الوقود، أغلب الحوادث في السيّارات بسبب التسرّب.

    ارتجفَ جسدُ جهاد وهو يسترجع ما رأه في المرآب، لكن متى دخلوا ؟ لماذا لم نشعر ؟
    غضب بشدّة وجحظت عيناه بينما ينهضُ بسرعة لينهال باللكمات على الرّجل: والدي لم يكن سيّئًا أبدًا.
    ارتفعَ صوتُ الرجل الذي ردّ كلّ لكمة بضعفيها لجهاد: هوَ من أعلنَ الحربَ علينا!
    " فتحَ ذراعيه باستفزاز " ... هوَ من أخبرَ العالم عنّا .. لقد سلّطت الشرطة الأضواءَ علينا، وبحثت في ملفّات قضايانا
    منذ أكثر من عشر سنين وقد كانَ أوانُ أن تنتهي وتغيبَ في طيّ النسيان أوالتناسي .. لكنّه .. نبشَ مجددًا ..
    وحفرَ حفرةً .. هوَ من سقطَ فيها في النهاية ..

    صرخَ جهاد وهو يحاول دفعَ هذا الرّجل الجاثم على صدره عنه: أنتم من حفرَ الحفرة .. وأنتم من أوقعهُ فيها ..!
    صرخَ بقوّة أكثر: لا تبرّروا أنّ أفعالكم كانت خيّرة أو طيّبة! لقد أزهقتم روحَ طفلة معهم .. ما ذنبها ..
    بصقَ الرّجل على جهاد المتمدّد أرضًا لا يستطيعُ النهوض، سحقَ صدرهُ بقدمه بقوّة وهوَ يقول: ذنبها أنها ابنته.
    أجهَشَ جهاد بالبكاء: سحقًا لكم .. سحقًا لــكم أيّها الأوغاد ..
    ضحكَ الرّجل بقوّة: لا تبكي يا صغيري .. ستلحقها قريبًا ..
    جاءهما صوتٌ من خلفهما، التفتَ الرّجل لمساعديه: هل أنهيتم البحث؟
    -أجل لم نعثر على شيء.
    -محوتم جميع الأدلّة؟
    -لقد عرفوا أنّ سبب الحريق قادمٌ من المرآب.
    -جيّد، أخبر السائق أن يستعد، سنضطرّ لأخذ جهاد معنا، لن نقتله في المنزل.
    رفع الاثنان جهاد من الأرض، ونهضَ مستسلِمًا، ربّما لو يموت أفضل له من البقاء حيًّا دون أحد.. لكن سامر ..
    تذكّر سامر !
    صحيح لقد جئتُ هنا من أجله، أيعقل أنّه لم يرجع للمنزل؟ هل هو بخير ؟
    أعرف سامر... لن يتحمّل ما حدث..
    تحرّك الأربعة نحو الباب الخلفيّ والاثنان في الخلف يدفعان جهاد بقسوة: تحرّك ولا تأخّرنا..

    " غـــيـــــرُ مـــعـــقـــول "
    نظَرَ الأربعة لصاحب الجملة الذي دخل عليهم من الباب الخلفي فإذا بهِ بسّام يضعُ يديهِ على رأسهِ،
    غير أنّهم لا يعرفونه فهوَ فوق غربتِه يرتدي قناعًا بسبب الزكام،
    سقطت حقيبةُ بسّام من يدهِ وهو يستنكر ما حدث: متى حصل هذا ؟
    نظرَ للأربعة وتأمّل وجه جهاد ليقول بصدمة: جهاد!
    ابتلعَ جهاد ريقه ليقول بخفوت بعدَ أن نزعَ بسّام قناعه: أستاذ بسّام.
    كانَ المنظرُ واضحًا جدًّا، فثلاثة ملثّمين يلتفّون حولَ جهاد في منزل محترق.. لا تحتاج لذكاء.
    أشارَ الرّجل على أتباعه أن انقضّوا عليه، فهَجمَ الاثنان في وقتٍ واحدٍ على بسّام الذي انحنى بسرعة،
    وثبّتَ يدَهُ اليمنى على الأرضِ واثبًا عليها وبحركة خاطفة حرّك ساقيِهِ أفقيًّا باتّجاههما ليعثرا،فأسقطهما أرضًا.
    ولم يدع مجالًا لهما كي ينهضا ضدّه مجددًا،
    قفزَ بينهما وأمسكَ بذراعيهما بقسوة يلويهما حتى سمعوا صوتَ كسرِ ما.
    أنهى بسّام الرجلين ثمّ عطسَ بقوّة قائلاً: هاااتشووو ... تبًّا، لستُ بكامل قواي الجسديّة كي أطيح بكم جميعًا.
    علت الدّهشة وجه جهاد، منذ متى كان الأستاذ بسّام قويًّا هكذا.. ؟
    بل منذ متى أعرفه، كل ما أعرفه هو مكالمات الفيديو التي تجري بينه وبين أبي، ومداخلاتي أحيانًا له،ما أذكره عنه
    في الطفولة مشوّشٌ لديّ، فالأستاذ بسّام ووالدي كانا زميلي دراسة في ما مضى.
    أمسكَ الرّجل الملثّم ذراعي جهاد بإحكام ولواهما للخلف، ثمّ قال بنبرة تهديد: إيّاكَ والحركة وإلّا ذهبَ صديقك.
    أومأ بسّام نافيًا: لا يهمّني، فأنا جئتُ من أجلِ القضاء على بدر.
    سأل بسّام باحتراس: أينَ بدر؟
    أغمَض جهاد عينيه باستسلام، وفهمَ بسّام أنّ صديقه ليس بخير .. على الأقل .
    -أهذا يعني أنّكَ لا تبالي لو قضيتُ عليهِ أمامك؟
    أومأ بسّام: لا يهمّني.
    اقتربَ من الرّجل أكثر وابتعدَ الأخيرُ عنه أكثر، كلّما قصرت المسافة بينهما .. تباعدت.
    ابتسمَ بسّام وهو يدخل يده في جيبه قائلاً: من الأفضل لكَ أن تخشاني، فأنا أحملُ سلاحًا.
    حدّ الرجل الملثّم من عينيه وقال بحدّة: لو كانَ عندك لاستخدمته على الأوّلين قبلي.
    تحدّث بسّام بالعربية فجأة وهو يركض باتجاه الرجل وجهاد: أغلق عينيكَ يا جهاد.
    أغلقَ جهاد عينيه بسرعة وأخرجَ بسّام بخّاخ الأنفِ الذي اشتراه من الصيدليّة قبل قليل بوجه الملثّم الذي لا يظهرُ منه
    سوى عينيه، مما جعله يترك جهاد ويصرخ بجنون وهو يحاول فركَ عينيه..
    بدأ يزمجر وهو يحاول فتحَ عينيه: أيّها المعتوووه ! أيّها الأحمق من تظنّ نفسكَ .. هااا ..
    نطَقَ بسّام وهو يجرّ يد جهاد: أركض بسرعة يا جهاد، إلى الخارج.
    أومأ جهاد نافيًا: لنذهب من الباب الأمامي، سمعت أنّ هناكَ سائقًا ينتظرهم.
    خافَ بسّام قليلاً فهمَسَ: دعم!
    ركَضَ جهاد بسرعة محاولاً الهرب، لكنّ ذراع أحد الرجلين المتمدّدين أرضًا أمسكت بساقه فهوى .
    صاح الرّجل وهو يسحب جهاد باتّجاهه: تريدُ الهربَ أيّها الغرّ !
    حاولَ جهاد ركله لكن ما استطاع،لذلك تدخّل بسّام لكنّه صدم بالرّجل قد تعافت عينه وأمسكه من خصره،
    فحوّطَ ذراعيه حوله وهو يقول: مسكين، تظننا بهذه السهولة.
    صاح بقوّة: من دخلَ هنا فلن يخرج ..
    أمسكَ الرّجلُ بسّامَ ودفعه بأقوى ما لديه باتّجاه الجدار..
    ضرب ظهر بسّام الجدارَ وفُتِحَت خزانةُ حديديّة ذابت أقفالها عن يساره من قوّة الاصطدام..
    تدحرجَ من الخزانةِ مضربُ بيسبول فلم يكن من بسّام إلّا أخذه كسلاح، بما أنّ البخّاخ طار بعيدًا عنه..
    نهضَ وهو يلوّحُ به، وكم كان تركيزُهُ منصبًّا على قائدهم الذي لازال يفركُ إحدى عينيه بانفعال..
    في الجهة المقابلة لهم كان جهاد يتعارك مع الرجل أرضًا، ساعةً يكونُ أسفله، وساعةً يكونُ أعلاهُ..
    ويتبادلان الضربات..

    بينما زحفَ الثالثُ حتى وصَلَ إلى جالون البنزين الذي أحضروهُ معهم، نهضَ متّكِئًا عليه في البداية، ثمّ استطاع
    أن يصلبَ طوله، فتحَ السدادة وركَضَ باتّجاه جهاد الذي كانَ دورهُ أسفلَ الرّجل يقاومه..

    رآهُ جهاد قادمًا نحوه بجنون حاملاً الجالونَ معه، لم يميّز ما هذا، وما هي إلّا ثوانٍ معدودة حتّى أحكم خصمُ جهاد
    تثبيته على الأرض، بينما سكبَ الآخر بشراسة البنزينَ على وجهِ جهاد وجسدهِ العلويّ، وكادَ جهاد يختنق من
    بلعِ بعضِ البنزينِ حينَ صرخَ، حاولَ أن يتخلّصَ من قبضةِ هذا الخصم،
    يركلهُ باستمرار، ويتحرّك عبثًا لم يستطع الانفكاك منه، يشعرُ أن جسدهُ يحترق، وجههُ يحرقه،
    بدأ يختنق من قوّة الرائحة ، يُحِسُّ أنّ جلدَهُ بدأ ينسلخ من الألم،
    يصرخُ مذعورًا في حين أنّ ذاك الرّجل لم يوقف سكبَ البنزين،
    يرفسه جهاد بقوّة فكأنّه من شدّة اختناقِهِ يشعرُ أن الموتَ قريب منه، يتربَّصُ به..

    أشار له صديقه بعدَ أن نهضَ بانتصار: أبقِ للمنزل بعضَ البنزين.
    وتركَ جهادَ يتلوّى وحيدًا، يحمي وجههُ بكفّيهِ ويمسحُ على عينيه وهو يشهق ويزفر وكأنّ أنفاسه تحشرجت..
    على مرأى من بسّام الذي تبعثر كيانه بعدَ أن رآهُ هكذا، اتّجه تاركًا خصمه ملوِّحًا بالمضرب نحو القريبين من جهاد،
    خلعوا قُمُصَهم وأقنعتهم ورموها قربَ جهاد، فقد تعطّرت البنزين بالتأكيد،
    أخرجَ أحدهم قدّاحته وأشعلَها ثمّ رماها على جهاد،
    جُنَّ جنونُ بسّام حينها وجهاد يصرخ بلا وعي وبطريقة كسرته تمامًا بعدَ أن اشتعلَ بالنّار،
    وهو مَن ظنّ أنّه قبلَ قليل قد أحكم الموقف.. وكانت الغلبة لهما !

    ضربَ بسّام أحد الرجالِ بالمضرب على وجهه بشكل مائل حتى سَقَطَ قربَ جهاد وقد اشتعلَ جزءٌ منه فقد تلوّث بالبنزين
    أيضًا، تنفّسَ بسّام الصعداء ثمّ شرعَ يلهث بصعوبة، نظَرَ بسّام للشخصِ أمامه متناسيًا الآخرَ خلفه،
    ورفعَ المضربَ يريدُ ضربَه به، لكن الملثّم خلفه تدخّل حينَ أمسكَ بالمضربِ بقوّة وهو بين يدي بسّام حتى الآن،
    كلّ منهما يشدّه نحوه، حتى ارتميا أرضًا قربَ جهاد والآخر الذي عاونه زميله على النهوض على عجل،
    وبينما هما يتدحرجان متمسّكين بالمضرب،
    انتصَرَ بسّام الذي رفعَ المضربَ للأعلى ليدفعه بشكل عكسي خلفَ رأسِهِ فضربَ بهِ رأسَ جهاد القريب منه دون قصد...
    وانتهى بإغماء جهاد.

    تركَ بسّام المضربَ بسرعة بعدَ أن استوعب ما فعل، لقد ضربَ جهاد على رأسِه بقوّة،
    لم يكن يدري أنهما اقتربا من جهاد بشدّة أثناء عراكهما، ولم يكن يقصد إيذاءَه،
    كانت نتيجة الشّد بينه وبين هذا الملثّم الغبي!

    نهضَ كالمسعور وهوَ يسحبُ جهاد من مكانهِ، ويا لحسنِ حظّه لقد كان يرتدي كنزة صوفيّة،
    شكرًا لله على المرض، بقدرِ ما كرهتُ مجيئهُ بمثل هذا الوقتِ فقد أُنقِذت، إنني لن أشتعل بسهولة!

    أخذَ المضربَ مجددًا بعدَ أن شاهدَ أحدهم يقتربَ نحوه،يجب أن يأمِّنَ دفاعه، ولا يتركَ لهم ثغرة،
    وجَعَلَ يسحبُ جهاد بذراعٍ واحدة بتعب.

    سحَبَ جهاد بقوّة وأخرَجَهُ من داخلِ المنزل إلى الحديقة بينما انسحبَ الثلاثة محاولين إنقاذ رفيقهم الذي اشتعلَ أيضًا..
    نظرَ بسّام للبيئة حوله، الهواءُ ساكن ولا شيء يتحرّك،
    من الجيّد أنّه أخرجه من رائحة البنزين تلك، فالهواء هناك سيزيدُ اشتعال جهاد فقط!

    بدأ المنزل يشتعل من جديد بعدَ أن أضرموا النار مرّة أخرى،
    رمى المضربَ قربَهُ وخلعَ ملابسَ جهاد بأسرع ما لديه كي لا يفوتَ الأوان وتلتصق مع جلده،
    انتزعَ كنزته الصوفيّة بشراسة وبدأ يغطي فيها جسد جهاد ويضغط عليها،
    كي يحبس الأوكسجين عنه ولا يشتعل أكثر..!

    لا يستطيع استخدام خرطوم المياه الموجود في الحديقة، ففي حالة جهاد سيكون خطرًا عليه،
    فكثافة البنزين أقل من كثافة المياه ولن يذوب بهِ، بل لو قامَ واستخدم الماء سيزيدُ من حدّة الاشتعال فقط!

    تفحّصَ جيبه، يبدو أنّ هاتفه في الداخل، ركَضَ نحوَ أسوار الحديقة حينَ انتبهَ للجيران في الحديقة يسقون الحديقة،
    وكانا العجوزين، صرخَ بقوّة مستنجدًا: " اتّصلوا بالإسعاف بسرعة، جهاد يحترق "
    أسرعَت العجوز و زوجها-اللذين لم ينتبها للحريق إلا بعدَ صيحات بسّام- إلى الهاتف،
    واتّصل الزوجُ على الإسعاف، خرجا ليجدا بسّام قد ارتدى كنزته الصوفيّة بعدَ أن أطفأَ جزءًا منها بقدمه..
    فحتى في مثل هذا الموقف الصعب لن ترحمه ليلى فقد حاكت هذه الكنزة بنفسها بعدَ تدريب شديد في معهد ما..
    لن يفرّطَ بها..
    عادَ لجهاد كي يفحصَ تنفّسه، يجبُ فتحُ مسالك الهواء للمصاب بحريق عند فقدانه وعيه،
    أو هذا ما يتذكّره من الإسعافات الأوّليّة،
    لم يفُت عليه سؤال العجوزين عن طفايات الحريق إن كانت واحدةً متواجدة عندهم لكنه خافَ أن يخنقَ جهاد أكثر..
    أخذَ نفسه يعلو ويزداد من الرّوعة، ربما كانَ شجاعًا قليلاً ومحظوظًا كثيرًا ..

    رفعَ يده لينظر إلى دمِ رأسِ جهاد عليها، تنهّد بحسرة، أي زيارة هذه يا بدر؟ لماذا المنزل محترق؟
    لماذا جهاد يُهَاجَم؟ ولماذا أنتَ مختفٍ يا بدر ؟! هل أنتَ بخير ؟
    بعدَ ذلك استوعبَ العجوزان وضعَ منزل جيرانهم،
    فزجرت العجوز زوجها ليتّصلَ بالإطفاء بسرعة وراحت تحدّق ببسّام بغرابة وشكّ.

    وما هي إلّا عشرةُ دقائق حتى وصلت الإسعاف وحملَ بسّام جهاد معه وساعدَ المسعفين،
    ليدخل سيّارة الإسعاف ويغلق الباب خلفَه.
    سألَ المُسعفونَ بسّام بشكل سريع عمّا حدث، وأخبرهم بأنّ هناكَ ضربة مضرب قويّة على رأسه،
    وعن إسعافهِ السريع له معَ تعرّضه لبنزين ونار في الآن ذاته.
    فهمَ المسعفونَ وكتبوا تقريرًا عاجلًا برسالة إلى المستشفى، كي يقوم الأطبّاء هناك بتجهيز مكانٍ له فحالته عاجلة..
    .
    .


  7. #806

    [ فــي الــمــشــفــى القــريـــب ]

    دخلت سيّارة الإسعاف من جهة بابِ الطوارئ في المشفى، وقد أبلغَ المسعفون المشفى عن حالة المصاب الحرجة
    من خلال رسالة عاجلة كي يستعدّوا فورَ وصولهم، وهذا ما حصل، استقبلهم الممرّضون والأطبّاء بسرعة،
    وأخذوهُ بالسرير المتحرّك بعيدًا عن عين بسّام، فقد أصرّوا عليهِ إدخال بيانات المصاب، ولم يكن يحمل أي إثبات
    من إثباتات جهاد، لذلك وضعَ بطاقته وإثباته هو عوضًا عن جهاد،
    فيبدو من حسن حظّه أنّ بطاقته هي الشيء الوحيد الذي نجا في جيبه،
    يا إلهي لازال يقول بأنّه محظوظ حتى في مثل هذا الوضع.

    أنهى إجراءات الدخول وأسرعَ يركضُ خلفَ جهاد الذي أدخلوه غرفة الطوارئ وشرعوا بتضميدهِ ومعالجته.
    خرجَ أحد الأطبّاء وهو يشيرُ لبسّام أن يأتي معه، بينما الأخير كانَ قلبه متوجِّعًا بشدّة.
    سأل الطبيب بسّام: هناكَ إصابة قويّة برأسهِ، أخشى أننا يجب أن نقوم بعمل أشعّة كي نتأكّد سلامته.
    تألّم بسّام كثيرًا ثمّ قال: بالتأكيد، أرجوك قم بكلّ شيء أيّها الطبيب ..
    -توم .. اسمي دكتور توم.. إنه اختصار توماس.. ولكنني أفضّل الاختصار..
    صافحه بسّام: تشرّفنا.
    -في البداية دعني أهنئكَ ، رغمَ هذه الحروق القويّة إلّا أنني سمعتُ من المسعفينَ أنّكَ أسعفته بشكل جيّد قبل وصولهم،
    فحروقه سنستطيعُ تداركَ أغلبها وعلاجها، لكنّ وجهه " أشار بالسبّابة على وجهه" هنا المشكلة.
    ابتلعَ بسّام ريقه: لم أفهم.
    -بعضُ جلده قد احمرَّ بشكل قوي وانتفخ، و " أشار على أنفه " قد تأثّر كثيرًا،
    الأمرُ راجعٌ للمصاب في النهاية لكنني سأعطيكم رقمَ هاتفِ زميلٍ لي، عنده عيادة تجميل،
    قد ترقّع الكثير من الآثار من أجل صحّة المريض النفسيّة مستقبلاً..
    أومأ بسّام شاكرًا فأخبره الطبيب توم: لديك حروق طفيفة وكدمات أيضًا لتذهب كي يضمّدوها لك.

    دخلَ بسّام الغرفةَ التي يعالجون بها جهاد وما زاغت عينه عنه، أمرته ممرضَةٌ أن يجلِسَ حتى تعالجَ جروحه،
    واستجابَ لها وبصرهُ مثبّتٌ في جهاد.
    خافَ بسّام كثيرًا عليه، هل هي عصابة؟ تسعى وراء جهاد؟
    لقد أرسل لي بدر قبل فترة عدّة رسائل، كتبَ فيها ألّا أفتحَ الرسالة الصغيرة حتى أغادر هذه الدنيا!
    ماذا تحمل الرسالة الصغيرة ؟
    أيعقل أنّ بدر قد غادر ؟ تعابير جهاد حين سألته كانت غريبة، غامضة، و حزينة.
    ماذا سأفعل الآن؟

    إن كانوا سيعودون للانتقام فعلينا الهربُ بأسرع ما يمكننا،
    لقد أشعلوا جهاد بكل بساطة، سيفعلون المزيد..

    المصيبة الآن هي إثباتاتي وإثباتات جهاد، لقد احترق جوازي بلا ريب في الحقيبة، لم تنجُ سوى بطاقتي.
    عليّ أن أتّصل بالسّفارة، أعرف صديقًا لن يخذلني..
    نهضَ خارجَ الغرفة وسأل عن هاتف، فأشاروا عليه بآخرِ الممرّ هناك..
    اتّجه ليتّصل على صديقه، أخبرهُ عن حالته بدون مقدّمات، وأنّه في مأزق عظيم، سيشرحُ له كلّ شيء فيما بعد،
    فقط عليه أن يساعده الآن بإخراج جوازه، وتدبير جوازٍ لجهاد حتّى لو اضطّرّهُ الأمر لتهريبه!
    قلق صديقه واستجابَ له من فوره، لكنه لن يستطيع فعلَ ذلك في يومٍ أو اثنين،
    على أقل تقدير عليه أن يمنحه أسبوعًا.
    أنبأه بسّام: أسبوع كثير جدًا، سأعطيك معلومات رفيقي بالفاكس غدًا فرفيقي لم يستيقظ بعدُ.

    عادَ بسّام لغرفة جهاد، نقلوهُ لغرفةٍ في الملاحظة، واتّخذَ بسّام كرسيًّا قربَ سريره يجلسُ بتعب،
    كانَ يومًا حافلاً بالأحداث، أطبقَ جفنه ونام ساعةً تقريبًا حتى أيقظه كابوسٌ مرعب.

    شهَقَ بذعر واقفًا من مكانهِ ثمّ قال بهلع: عليّ إيقاظ جهاد، يجبُ أن نغادر قبل العثور علينا!
    أيقَظَ بسّام جهاد بخفوت: جهاد .. جهاد .. أعلمُ أنّكَ في حالةٍ صعبة لكن عليّ وضعكَ على الكرسيّ المتحرّك،
    يجب أن نهرب.
    صمتَ بعدَ دخولِ جار منزل بدر من الجهة الثانية، يريدُ الاطمئنان عليه، كانَ جهاد لا يستطيع الرؤية بشكل جيّد،
    لكنّ أذنه تسمع .. لم يظهر لأحد في البداية أن جهاد يقظ ..
    " مرحبًا جيهاد .. متأسّف لما حدث لمنزِلِكَ .. أتيتُ للاطمئنانِ عليك بعد سماعي من العجوزين عنك.. "
    لم يكن يستطيع فهم شيء، من هذا الذي يقول " جيهاد " وأين هو ؟ ولماذا لا يرى ؟
    ومن الرجل الذي يردّ عليه..
    سأله بسّام: هل لي أن أعرف من أنتَ ؟
    -أنا جارُ السيّد بدر من الجهة الأخرى.
    توجّس بسّام وابتسم رغمَ ذلك: آه .. هكذا إذًا.. شكرًا لكَ على حضورِكَ.
    خرجَ جار السيّد بدر بعدَ أن ودّع جهاد متمنَّيًا له أن يشفى قريبًا..

    .
    .
    .

    [ أمام منـزل السيّد بـدر ]

    -في صباح اليوم التالي-

    وقفَ كثيرٌ من النّاس أمام المنزل، وتجمهرَ عددٌ كبيرٌ من رجال الصّحافة بكاميراتهم يصرّحون بتصريحات مختلفة
    حولَ سبب احتراق منزل السيّد بدر مرّتين في نفس اليوم، ويستنكرون ما حدث.

    يضعون صورةَ السيّارة التي احترقت بالأمس، تارّةً على صورة الدمية المرميّة بسبب قوة الانفجار،
    وعلى بعضِ أجزاءِ السيّارة المتطايرة وتارّةً على صورة ذراع متفحّمة قد غيّموها بالضباب من أجل فظاعتها.

    نطَقَ صحفيّ يضغطُ السمّاعة الصغيرة بأذنه اليمنى، ويمسك "المايكروفون" بيده اليسرى:
    لقد احترقت أسرة الصحفي المشهور بدر معه في سيّارته، ولا يُعرف عن الباقين..هل كُتِبَت لهم النجاة؟
    أم أنّهم صاروا في عداد الموتى والمفقودين؟
    يتساءل الجميع، هل ما حدث هو تحذير لكل صحفي ألا يذهبَ باتّجاه ما بلغه السيّد بدر،
    الصحفي المشهور الذي اتّسمت مقالاته باللذاعة والشراسة لكن على خطِّ مستقيم ..؟
    أهي النهاية لكلّ من حثّ على العدالة وسعى سعيها..؟
    أم ماذا ؟
    التفتَ الصحفيّ إلى رئيس صحيفة السيّد بدر يقف قربه بحزن وسأله: سيّد جيمس، ما رأيكَ بما حدث؟
    -لكم يؤسفني ما حدث لابني بدر، لقد خسرتُ ابنًا، وخسرتْ صحيفتي قلمًا كذلك!
    -سيّد جيمس ما قولك حولَ الحادثة؟ هل ترى مصادفة بينهما أم أنّها بفعل فاعل؟
    ضغطَ السيّد جيمس على عينيه بقوّة، ثمّ فتحها قائلاً بجديّة:
    من المستحيل أن تكون ثلاثة حرائق في نفس اليوم مصادفةً، إنّها بفعل فاعل بالتأكيد،
    ولن نسكت على ما حدث، لقد تلقّى بدر تهديدًا في مقرّ الصحيفة من قبل، وبإمكان الشرطة الإطلّاع عليه
    والتحقيق فيه إذا أرادت، وقد حذّرت بدر ألّا يكتب حولَ بعض المقالات القويّة لكنّه استمرّ يردّد
    "العدالةَ.. العدالةَ" وها قد راح ضحيّةً بسببها..

    -هل أقرّ فريق الفحص الجنائي والطب الشرعي أنّ الضحايا في السيّارة كانت للسيّد بدر؟
    -أجل، لقد تلقّيت اتّصالاُ منهم.
    -هل كانت كلّ الأسرة في السيّارة .. ؟ ألم ينجو فردُ منهǿ
    خافَ السيّد جيمس على جهاد وسامر، فقد عرف من فريق الفحص والطبّ الشرعي أنّهما لم يعثرا على
    جثّتِهما لا في السيّارة ولا في المنزل، وقد يكونان ناجيان، لذلك كذبَ بقوله: نعم، لم ينجو أحدُ منهم.

    .
    .

    أغلقَ بسّام التلفاز وهو يتنفّس بقوّة بعدَ هذه التصاريح القويّة، بدر .. مات!
    لقد مات بدر مغدورًا به وأسرَته!
    التفتَ إلى جهاد المستلقي على فراشه ولم يستيقظ منذ الأمس، يا إلهي، مات الجميع وتركوه.
    عقدَ العزمَ أكثرَ على أن يأخذه معه ويعودَ بهِ إلى بلدهِ، فالمكانُ لم يعد آمنًا..
    شكرًا لله ثمّ للدكتور توماس، لقد أوصلنا بنفسِه إلى هذه العيادة الكبيرة تقريبًا، ها نحنُ ذا نجلسُ دون فعل شيء يذكر.

    خرجَ من الغرفة من أجلِ أن يأخذَ شيئًا للفطور له، ليسَ معه مالٌ فقد احترقت بطاقته البنكيّة بالتأكيد،
    أو عثروا عليها الشرطة ربما، هذا إن حققوا بالأمرِ فعلاً.. سيصلون له بسهولة بالتأكيد، فحقيبة كاملة تركها لهم،
    يسأل الله أن تكونَ قد احترقت كلها وصارت هباءً منثورًا..
    شاهده الطبيب نيـــت من بعيد وابتسمَ له: صباح الخير سيّد بسّام.
    ابتسم بسّام: صباح النور.
    -كيف حالكَم اليوم..؟ يتّصل بي توماس منذ الصباح الباكر يسأل عن حالكما.
    -سأكذب عليكَ إن قلتُ بخير، لكنني أرجو ذلك.
    -لا ألومُك، ماذا تفعل عندك؟
    -أنتظر معجزة ما.
    -إذًا اصنعها بنفسك بدلاً من انتظارها.
    -ليست لديّ الإمكانات.
    -أعطيكها إن أردت.
    ابتسم بسّام بارتباك: إذًا لتهب لي فطورًا من فضلك، يبدو أنّهم لا يعطون مرافقي المرضى هنا.
    ثمّ أردف: خاصةً وأننا مرضى غير رسميّين.
    ضحكَ الطبيب نــيـــت بقوّة: أهذه معجزتك؟ ثمّ ما هذا الكلام، أنتما ضيفاي.
    أشار له أن يعودَ لغرفته وسيأتيه فطورٌ فاخر بالتأكيد.
    شكره بسّام وعاد لغرفة جهاد، بيدَ أنّه لم يعثر عليه في السرير!

    تلفّت بسّام بأنحاء الغرفة، كان يقف قريبًا من الباب، كيف لم يرهُ يخرج؟
    قطعَ أفكارهُ صوتُ صراخ جهاد في الحمّام قربه، صرخةٌ هزّت أركانه،
    ركضَ نحو الباب يفتحه، لكنّه مقفل، يسمعُ صراخ جهاد لكنّه لا يستطيع فتحه،
    ضربَ الباب بقبضته ينادي جهاد أن يفتح.

    " افتح يا جهاد "
    " أنا بسّام "
    " افتح أرجوك "

    فتَحَ جهاد الباب وشهقَ بسّام بعدَ رؤيته، فقد نزعَ الضمادة من على وجهه،
    وبانت علامات الحرق واضحةً كم شوّهته، هل كان ينظرُ لنفسِهِ بالمرآة وخاف؟
    التــــــــاعَ قلب بسّام كثيرًا، يا لبؤسك يا جهاد، يا لكَ من مسكين.
    كانت عيناهُ جاحظتين، بؤبؤه يهتزّ بهلع وكأنّه على وشكِ الانفجار،
    لقد شاهدَ منظرًا مروّعًا، لقد شاهدَ الموتَ بعينيه هاتين..

    أخذه بسّام في حضنه وهو يربّت عليه: لا تخف، أنت في مكانٍ آمن الآن، أنتَ بخير يا جهاد، لا تخف.
    نطَقَ جهاد بعدَ فترة من الزمن، بعد أن استكانت روحه قليلاً، وهدأ:
    مـــن أنــــت ؟
    صُدِمَ بسّام وابتعدَ عن جهاد ليتأمّله، لوهلة ظنّ أنّه سمعَ شيئًا خطأً.
    ابتعدَ جهاد بدوره عن بسّام وهو يرتجف ويمسحُ على نفسِه بيده بصعوبة،
    قال بصوت متهدّج: من أنت؟
    تلفّتَ جهاد حوله: وأينَ أنا ؟

    كم هو شديدٌ أن تعرفَ أنّ الذي أمامكَ يعاني المُرَّ بسببك؟
    ولا تعرف طريقة تكفّر بها عن خطيئتكَ المرّة هذه ..

    أدمعت عينُ بسّام ولم تتزحزح عن وجه جهاد، ارتجفت شفتيه، وزمّهما، ثمّ صرخَ بقوّة: أيّها الطبيب!
    رفعَ يده وأشارَ بالسبّابة محذّرًا جهاد: لا تتحرّك يا جهاد ..
    تقوقعَ جهاد حولَ نفسهِ على السرير، بينما ركضَ بسّام ينادي الطبيب نيــت، ويسرع به إلى الغرفة.

    أمَرَ الطبيب نــيــت مساعديه بنقلِ جهاد لقسم الأشعّة في العيادة كونهم في قسم الجراحة التجميليّة،
    وبعدَ إجراءِ الفحوصات، تبيّن أنّ جهاد قد فقدَ ذاكرتَه بسبب الضربة القويّة على رأسه، وعودتها إن لم تكن مستحيلة
    فهي صعبة جدًا، قليلُ من عادت لهم الذاكرة في مثل حالته، لقد تضرّر جزءٌ من دماغه.

    تساءل بسّام: وأيّ ذكريات حلوة سيتمنى استرجاعها لو علمَ الحقيقة؟
    فسألَ بسّام الطبيبَ قربه بيأس: إذًا تريدُ منّي إخبارهُ بوضعه الحقيقي كاملاً مهما كان ؟

    أومأ له الطبيب: أجل، التزم الصدق معه، لا تكذب، ستزيدُ عليه هكذا، ربّما الآن لا يثقُ إلّا بكَ يا بسّام.
    -ومتى تجدُ الفرصةَ مناسبةً لذلك؟
    -أجبه فورَ سؤالِه.

    مسَحَ بسّام وجهه بحزن، الإجابة أثقلُ همًّا من السؤال.

    .
    .

    [ فـي ملجأ الأيتام ]

    أُدخِلَ سامر رغمًا عنه إلى ملجأ الأيتام، فقد أبلغت والدةُ زميله عنه بعدَ سماعها نشرةَ الأخبار في الصّباح،
    وأنّ الأسرةَ جميعها رحلت، ولا يعرفُ أحدًا يُعيله، ظنّت بأنّها فعلت حسنةً ولم تدرِ أنّها ارتكبت جرمًا بحقّه.
    لم يكن لديه مجالٌ للهرب أو للرفض فقد وقفوا فجأة أمامه، بعدَ أن أرشدتهم والدة زميله الذي شعر بالعجز بسبب
    تصرّف أمّه التي ما برحت بدورها تخبره أنّها لا تستطيع الاعتناء به دومًا ، وفي الدّار سيعيشُ مكفولاً محمولاً،
    لن ينغِّصَ عليهِ أحد حياته، وسيجدُ الكثير ممّن هم في نفسِ حالتِه فقدوا آباءهم، سيشعر بالسعادة بالتأكيد
    والمواساة.

    يجلِسُ على سرير في إحدى الغُرَف المظلمة بصمت، التي اكتفت بنور النّوافِذِ الطويلة الممتدّة نحو السقف البعيد،
    يعايشُ السعادة التي سمّتها والدةُ زميله، و يشاركهُ أربعة آخرين الغرفة ، ينظرونَ للمخلوقِ الجديد باهتمام.

    دخَلَ الغرفةَ فتىً يبصُقُ الدّمَ من فمِهِ ويمسحُ بظهرِ ذراعهِ وجههُ المتورّم بسبب الكدمات،
    هابَ الأربعة من دخوله الملكي كالعادة، فهوَ ملكُهم المُمرّغُ أنفه بالترابِ دومًا،
    يخافونه ويعتزّون به كقطعة نادرة في كونهم الضيّق..

    ضيّقَ من عينيه وهو ينظر لسامر ... الفتى الجديد هنا،
    انطلَقَ نحوه وجلَسَ أمامه مباشرة وهو ينظرُ في وجهه،
    سأله بجديّة: هل أنتَ حديثً عهدٍ بالموتِ يا فتى ؟

    رفعَ سامر رأسه ينظرُ لصاحب هذا السؤال، ما هذا التعارف الفريد من نوعه؟
    أهكذا يسألون النّاس من يقابلونهم في المرّةِ الأولى؟
    نظَرَ الفتى للأربعة قربه ثمّ قال بتهكّم: أينَ المناديل؟ ألا ترونَ الدّماء في وجهي..؟
    رمى أحدهم المناديل عليه قائلاً: أعذرنا يا مايكل، انشغلنا بالفتى.
    قهقهَ مايكل بصوت مرتفع ثمّ قـال: ليسَ إلّا مثيرًا للشفقة، لا تلقوا له بالاً.
    لم يستطع سامر حبسَ ابتسامة صغيرة وباهتة من الخروج،
    لأنّ المدعوّ مايكل ما قال سوى الحقيقة، فهو مثيرٌ للشفقة بالفعل.

    مسحَ مايكل بسرعة وجهه، ثمّ ألقى المناديل على سرير سامر وأمسكَ بياقةِ الأخيرِ يرفعه بشدّة قائلاً:
    هذه غرفة المُلوكِ يا صاحب الوجه البائس.. إن لم تستطع أن تغدو مثلنا.. غادر فورًا.
    اكتفى سامر بالنظرِ لوجه مايكل دون تعبير
    ماذا يعني أن تكونَ ملكًا في ملجأ أيتام؟

    إنّه يعني لا شيء، أفضّل أن أكونَ ملكًا على نفسي وحدها، لا على دارٍ كهذه..
    كان هذا يدور في خلد سامر..

    رماه مايكل بقسوة ثمّ قال: ماذا تريد يا فتى؟
    شعرَ سامر في نبرةِ سؤالِ مايكل صدقًا مبطّنًا، يسأله سؤالاً جميلاً كهذا!
    قال بهدوء: أريدُ الخروج.
    ضحكَ مايكل مرّة أخرى وهو يقول: يعجبني هذا الفتى، لم تمضِ ساعات على قدومه ويريدُ الخروج.
    ضحكَ البقيّة بدورهم، واكتفى سامر بالنظر إليهم.

    جلَسَ مايكل على السرير ثمّ قال له: أيّهما أصعب تحقيقه، الأمنية أم الحُلم أم الهدف؟
    لم يفهم سامر السؤال، كلّهم سواء، ما الفرق بينهم؟

    ابتسم مايكل بثقة: كلّها صعبة إن كانَ وجهكَ هكذا.
    هزّ سامر رأسه نافيًا، فتابعَ مايكل: أنظر إليّ.
    نظرَ سامر جيّدًا، لكمات وكدمات ودماء، وجهه مصابٌ تمامًا.

    ابتسم مايكل بحدّة: هذا وجهُ من يرى الأمنية والحلم والهدف أسهل من أي شيء.
    ثمّ أردف: من يتمنى، سيحلمُ بما تمنّى، وإن جعلهُ حلمًا نصبَ عينيهِ وسعى له، فسيغدو هدفًا..
    كلّ وجوه أصدقائكَ هنا جاءت مثلكَ، أنت النسخة الألف بعدَ المئة هنا، لا جديد، " أشار على نفسه"
    أنا هنا مذ ما يقارب السنتين، " ابتسم " لقد ضُرِبتُ اليومَ بسبب محاولتي المئة الفاشلة في الهرب.

    تدخّل أحدٌ آخر بقوله: ليسَ بسبب الهرب فقط.
    زجره مايكل: إخرس يا مارك.
    قال مارك: لمَ لا تخبره؟ سيعرف في النهاية
    -ليسَ الآن، ليتعرّف على موطنه الجديد أوّلاً.
    نهضَ من مكانه قائلاً: سأهربُ رغمًا عن أنوفهم، لا يتبنّاني أحد فسمعتي سيّئة هنا، فأنا التلميذُ غيرُ المهذّب.
    ولن أنتظرَ بلوغَ سنّ الرشدِ، سأهربُ دائمًا حتى في أحلامي، لأنّ هدفي وضعته نصبَ عيني.

    لمعت فكرة الهرب في عقل سامر، لقد عاش ساعتين كالجحيم جاثمةٌ على صدره، وبالكاد مرّت، فكيفَ لو بقي أكثر؟
    قال الأربعة الآخرون: إنّ مايكل يخطّط ونحنُ ننفّذ..
    رفع مايكل حاجبيه وقال بسعادة: وجدتُ طريقةً للهرب لكن يلزمنا الوقت،
    والوقت طويل، سنصمدُ شهرين بدون محاولة واحدة للهرب، سنعيشُ سلامًا مؤقتًا هنا.
    خرجَ مايكل من الغرفة وهو يقول: من سوء حظّك اخترتَ أسوء سجن يا فتى.


  8. #807
    .
    .
    .

    [ فــي العيادة]
    -بــعــد يـــومـــيـــن-

    في غرفة جهاد، كانَ بسّام وبعضُ الأطبّاء يشرحون لجهاد وضعه،
    أنّه فاقدٌ للذاكرة قبل يومين فقط، وقد احترق المنزل به،
    لم يخبره حتى الآن بتفاصيل ما حدث، أخبره أنّ والده تعرّضَ لحادث أيضًا ومات فيه وأسرته
    وأنّ جيرانهم هم من اتّصلوا بهم وأخبروهم عن موتِ أسرتهم وهذه كذبة فقط ليُبعدوا الأخبار المختصّة بالعصابة عنه.
    فلم يأتِ دورُ العصابة بعد، رويدًا رويدًا سيخبـره.

    أخبره بسّام أيضًا أنّه صديق والده المقرّب قد جاء بعد أن تلقّى رسالةً منه قبل أيّام.

    -اسمع، الرسائل عندي لكن ليست هنا، بل هي في بلادي، سترجع معي، لأنّ موطنك الأم هناك،
    سنبحث عن عائلتكَ هناك يا جهاد.
    نظَرَ له جهاد المستلقي على سريره بفراغ كبير ولم يهمس بشيء
    ابتسم بسّام: صديقي في السفارة يُعدُّ لنا الإثباتات حاليًّا، لكن علينا أن نقوم بعملية جراحيّة هنا أوّلاً.
    انتبه جهاد وقال بعد دقائق: ماذا تعني؟
    ابتسم بسّام بارتباك: كما تعرف تعرّض وجهكَ لحروق وتأُّثّر أنفُكَ بشكل سلبي،
    لا يُمكن أن تبقى بالضمادات للأبد يا جهاد، عليكَ المضي قدمًا،
    سنبدأ بجراحة تجميلية لوجهك، وإعادة تأهيلكَ من جديد،
    سأتولّى إعادةَ التأهيل "ضربَ بسّام على صدره" أنا معلّم، وقد درستُ علم النّفسِ عن كثب،
    وعن حبٍّ أيضًا، بإمكانك الاعتماد علي، لكن لا أستطيع فعل شيءٍ دونكَ يا عزيزي.
    اكتفى جهاد بقول: لا أستطيع.
    تنهّد بسّام ثمّ قال بجديّة: ومن أخبركَ أنّك لا تستطيع، لو علمتُ ذلك ما سألتُكَ ولفعلتُ كلّ شيء لوحدي سيّد جهاد.
    نهضَ بسّام قائلاً بتحذير: علينا التعجيل حتى لا نقعَ في خطر.
    -ماذا تعني؟
    تلعثم بسام: خطرٌ على صحّتكَ وعلى جسدِكَ، يجبُ أن تأخذ راحةً بعدَ العمليّة، أنا هنا لأخبِرَكَ يا جهاد،
    ستدخلُ العملية بعدَ نقاش الطبيب نيــت حول التعديلات التي سيقومُ بها.

    وما هي إلّا دقائق حتى انتقلوا لغرفةٍ أخرى، جالسينَ أمام الشّاشة التي وُضِعَت بها صورةُ وجه جهاد المحترق،
    وصورة أخرى يغيّر الطبيبُ عليها ويجري عليها التعديلات التي ستتم خلال العمليّة.
    سألَ الطبيب نيــت: متى ستكونُ مستعدًّا يا جهاد؟
    أومأ جهاد نافيًا: للأبد .. لن أستعد..
    ابتسم الطبيب بينما تدخّل بسّام بجديّة: هل تريدُ عيشَ حياةٍ بائسة للأبد ؟
    الوقتُ يمضي، وأنتَ تريدُ إمضاءه جالسًا متقاعسًا حزينًا،
    هناكَ من هو أسوء من وضعكَ وابتسامته من الأذنِ اليمنى حتى اليسرى!
    اكتفى جهاد بالصّمت
    -عليكَ إنقاذ نفسِكَ يا جهاد، أعلمُ أنّكَ تستطيع..
    -لو أجريتُها ربّما لن يتمكّن أحدٌ يعرفني من أن يعرفني!
    تنهّد بسّام: جهاد بني، أعرفُ أنّها مشكلة كبيرة جدًا، بالفعل قد لا يتعرّف عليكَ أقاربك،
    لكـن.. لو كانَ مقدّرًا لكَ أن تلتقي بمن يعرفُكَ، فلن يحولَ وجهُكَ بينه أبدًا، ولو كانَ مقدّرًا لكَ ألّا تلتقي بمن يعرفك،
    فصدّقني حتى لو كانَ وجهكَ الحقيقي موجودًا فلن يحصل شيء ، إنّه قــدر يا جهاد .. قـدر !
    ثمّ تابع قوله بحماس: لديك صوت، وشخصيّة ، وطباع ، وذاكرة.
    -لا أذكر شيئًا.
    -لكن ستذكر! لذلك أخبركَ أن تساعدني.. أستطيعُ إنقاذ جزءٍ منكَ، لكنّ الجزء الأكبر يقع على عاتقك،
    إنني أحمّلكَ مسؤوليّة كبيرة، اسمها " نفسُكَ " ، اهتمّ بنفسِكَ يا جهاد .. اهتمّ " برجاء " أرجوك.
    شعرَ جهاد بأحمال كبيرة عليه رغمَ الفراغ الذي يسيطر على تفكيره، إنّه يُفكّر بلا شيء! لا يفكر!

    ابتسمَ بسّام وهو يرى الصورة المستقبليّة لجهاد: يا لَكَ من وسيمٍ يا بني، ازددتَ وسامة .
    لم يستطع جهاد منعَ ابتسامة صغيرة من الظهور، فربّت الطبيبُ على كتفه وهو يقول: هل أنتَ مستعد ؟
    أطلقَ جهاد زفرةً قويّة، وشجّعه بسّام بقوله: أنتَ معجزة يا جهاد! أقسم لكَ بذلك، أنظر إلى قوّتكَ،
    أنت تتغلّب على نفسِكَ في غضونِ يومين فقط، إنّك مقدام.
    ابتسمَ الطبيب نـيــت: يااه ، محظوظ يا جهاد، كلّ هذا الإطراء لكَ جعلني أفرح، ماذا عن شعورك؟
    أومأ جهاد نافيًا أن لا شيء، شعوره بالخوف أكبر،
    كلّ ما في القصّة أنّه يثق ببسّام .. لا يدري لماذا وهو لا يعرفه إلّا قبل يومين؟
    .
    .


    [ فــي مــلجـــأ الأيــتــام ]
    -بعدَ أسبوع-

    على مائدة الإفطار الجماعيّة، جلَسَ مايكل محاطًا بزمرتِهِ إضافةً إلى سامر العضو الجديد فيها،
    يتناولون فطورهم قبل البدءِ بالعمل.
    توكَلُ مهامٌ يوميّة لهم بعدَ الإفطارِ كالزراعة والغسيلِ والتنظيف والدّراسة حتى في يوم العطلة، لديهم استراحة
    قصيرة نوعًا ما يشاهدون فيها التلفاز في إحدى الغرف، ثمّ يعودون للعمَلِ حتى المساء.

    بدأ سامر يعتاد على الحياة الروتينيّة، ولولا خطط مايكل وثقته العظيمة بنفسِهِ لانتكَس،
    بدأ يعجبه مايكل أيضًا، فهوَ في نظَرِهِ نـسرٌ لا عصفور صغير، يطمحُ للحريّة والتحليق في أعالي السماء
    لا العيشَ داخل القفص.

    لاحظَ عودة مايكل كلّ ليلةٍ متعرِّضًا للضرب، رغمَ أنّه قال لن أهربَ حتى الشهرينِ القادمين،
    سألَ رفقاءه بالغرفة، لكنّهم التزموا الصّمت.
    دخَلَ عليهم مايكل وهو يقول: أخرج الضمادات يا مارك، لنرى من سيصمد أكثر.
    جلسَ أرضًا وهو يبصق على الأرض، فنهرَهُ زملاؤه: كفّ عن البصاق، سئمنا ذلك.
    ابتسم مايكل: إذًا لنتبادل الأماكن يا صديق.
    تشجّع سامر وسأله: ما هذه؟
    فهمه مايكل، فهو لمْ يقصد ما هذه؟ بل من فعل هذǿ
    أخبَرَهُ مايكل بجديّة وهو يربطُ الضمادات: عمّي أحدُ المعلّمين هنا، إنّه يريدُ الانتقامَ لأخيه بضربي، لأنني قتلته.
    اقشعرّ بدن سامر وسأل بخوف: ماذا تعني؟
    نظر مايكل لسامر مطوَّلاً: لقد مات أبي معَ أمّي غرقًا في رحلةٍ على قارب.
    ابتسمَ وهو يلفّ ضمادة حولَ معصمه: نجوتُ وحدي بأعجوبة، وأصبَحَ ناقمًا لذلك،
    يدّعي أنني قتلتهما فقط لأنني من أصرَّ على رحلة القارب ونجى، ليس ذنبي.

    ما هذا البرود؟ كيفَ يتحدّث عن موتِ والديه بابتسامة هكذǿ
    حدّق مايكل بسامر بتمعّن ثمّ سأله: ماذا عنك؟
    فهمه سامر فقال بعدَ تردّد: اشتعلت السيّارة واحترقوا، لم أكن فيها، واحترَقَ منزلي كذلك في اليوم ذاته مرّتين.
    سأل مايكل بفضول: كيفَ هذا ؟ أعني هل كانت السيّارة سبب اشتعال المنزل؟
    -لا، لقد خرجوا من المنزل واشتعلت، بعدَ ذلك احترق المنزل.
    ضحكَ مايكل بقوّة: يا لكَ من أحمق، وفقط لهذه الأسباب جئتَ هنا!
    ابتسم سامر بيأس: وهل تراها شيئًا هيّنًǿ
    -كان عليكَ الهربُ بعيدًا يا سامر.
    -لا أعرفُ إلى أينَ أهرب، " وبتردد " لديّ عمّ وحيـد كما سمعتُ من أبي، لكنني لم أقابله شخصيًّا.
    -لنأمل ألّا يكونَ مثلَ العم خاصّتي. "وانفجَرَ ضاحكًا "
    -حتى لو كان صحيحًا، لا أعرف أينَ يسكن، فقط في بلاد والدي الأم.
    -متأكّد أنّكم عائلة طبيعيّة؟
    -حسنًا، هذا ما حصل، ولا أعرف الأسباب.
    -لديكَ معلومات كثيرة عنه، اسمه الكامل وبلده، فقط لو تطلب مساعدة السفارة وتسافر لهم.
    -أحقًّا أستطيع ؟
    -أجل، لكن إن خرجتَ من هنا.
    ازداد طموح سامر، لكنّه تذكّر شيئًا: لم أعد أملكَ مالاً، ربّما سأحتاج أن أعمَلَ قليلاً بعدَ خروجي، لذا قد أتأخّر.
    -اطلب من عمّك بعد العثور عليه.
    -مستحيل!
    ابتسم مايكل بخبث: إذًا اعمل معنا.
    -وما هو عملكم؟
    نظَرَ زملاء مايكل له، فقال الأخير: نُتاجِرُ بالممنوعات ونسرقها أحيانًا.
    شهَقَ سامر غير مصدّق: ما الذي تعنيه؟
    -كما سمعت.
    -كيف ذلك ؟ أنتم لا تستطيعون الخروجَ من هنا.
    ابتسمَ مايكل: صحيح، ولذلك نحنُ نعمَلُ حلقةَ وصلٍ بينَ البائع والمشتري أحيانًا
    وقد نخدعهما ونسرقُ البضاعة أحيانًا أخرى!
    يُدخِلُ البائعُ بضاعته لنا، ونحتفظُ بها حتى يأتي المشتري، منتهى السهولة، عمل صغير ومال وفير.

    علا صدرُ سامر وهبَطَ، تبعثر الشعور في داخله، كيف يجرؤ على فعل ذلك؟

    نهضَ سامر وتقدّم من مايكل يسحبه من ياقته: كيف تجرؤ على فعل ذلك؟ عن أيّ عملٍ صغير تتحدّث يا مايكل،
    إنّه أحقرُ شيءٍ في الحياة!
    أبعدَ مايكل يده عنه قائلاً: تذكّر أنّني قائدك هنا.
    صرخَ سامر: لستَ قائدي، أنتَ زميلٌ ويا للأسف .. " زمّ شفتيه بألم " .. زمـــيـــل !
    ابتعدَ سامر عنه وهو يضبطُ نفسه، حسنًا هذا ليس الاختبار الوحيدَ الذي خاضه في حياتهِ، لن يهرب منه بل سيواجهه.
    -لو كنتُ سأهربُ في السابق لأنّ لديّ سبب، فالآن سأهربُ لأنّ لديّ سببان.
    -أنتَ جبان أيّها القط، إنّه مجرّد كسب.
    -من الآخر، لن أكسبَ معكم، أعيشُ معكم فقط لأنني مضطر.. وسأهرب لوحدي.
    -لن تستطيع... دون مساعدتنا يا سامر.
    ثمّ أردف: لو كنتُ مكانكَ لاستغللتُ من حولي لأنجو..
    رمى سامر جسده على سريره قبال مايكل الذي كانَ جالسًا قربَ البابِ وقال بحسرة: أنتَ فظيعٌ يا مايكل .. فظيع!
    نهضَ مايكل من مكانه ثمّ قال بجديّة: سأعيرُكَ بعضًا من مالي الخاص.
    رمقه سامر قائلاً: لا أريدُ مالاً ملوّثًا.
    ضحكَ مايكل ولم يستطع التوقّف: أنتَ عجيبٌ، ما حسُّ العدالةِ هذǿ لم أرهُ قبلاً..
    ثمّ أردف بهدوء: أخبرتُكَ أنني سأعيرُكَ من مالي الخاص، سأعطيكَ مبلغًا تستطيعُ الهربَ به، وتُعيدُه لي فيما بعد.
    قال بجديّة: إنّه مالٌ ورثته من والديّ، سأعطيكَ منه.
    نظرَ سامر للسقف بتأمّل وقال: وما الذي يضمنُ لي أنّكَ صادق؟
    -أنا الخاسر في النهاية لماذا أعيرُكَ مالاً أيّها الأبله؟
    -لا أدري، فما عرفتُه أنّك ملغم بالشروط، ما هو المقابل؟
    -ستنظمُّ تابعًا لي طوال الشهرينِ، على الملجأ كلّه أن يعلمَ هذا.
    -وكيفَ أضمنُ بعدَ أن تدمّر سمعتي بسببك أنني سأخرجُ بعيدًا..؟
    -عندما أقول سننجح.. سننجح.
    -لكنني لن أساعدكَ في كسبكَ الخاص ولن أسرق، بل قد أمنعك.
    ضحكَ مايكل: تبًّا لكَ، ردودكَ المشرقة ستقتلني، إن لم تتاجر معنا أو تسرق،
    يكفيني أن تدخلَ ضمن شجارات العصابات الليلية هنا، والثّمنُ نجاتُكَ من هذا المكان!
    -موافق لكـن تأكّد أنني قد أوقفك.
    ثمّ أتبعَ قائلاً: لن تستطيع إيقافي..." ابتسم بسعادة" مرحبًا بكَ في عصابةِ مايكل.
    .
    .
    .

    [ أمــام مــبنى السفــارة ]

    قابلَ بسّام صديقه الذي دبّر لجهاد جواز سفر جديد، وجدّد جواز بسّام خلال أسبوع أمام مبنى السفارة،
    حيث تركَ سيّارة الأجرة مركونة بعيدًا عن الأنظار، لأنّ وجه جهاد مغطى بالضمادات بعدَ إجراء الجراحة التجميلية له،
    ولا يستطيع كشفه للشمس، يرتدي قبعة عبثًا يحاول صنعَ جوّ من الغموض حوله.
    تذكّر توصية الدكتور نــيــت له والتفتَ لكيس الأدوية والدهانات الكثيرة فيه،
    لقد تأثّر نظره قليلًا، حتى لو لم يحتج لنظارة، فقد ألزمه بسّام على ارتداء واحدة من شأنها تغيير شكله وشخصيته.
    استلم الجوازين شاكرًا وودّع صديقه متّجهًا للمطار بالسيّارة.
    ركِبَ بالخلفِ مع جهاد وهو يعطيه جوازه قائلاً: تفضّل يا فريـد.
    استغربَ جهاد: فريد؟
    ابتسم بسّام: أجل، إنّها إجراءات مؤقتة فقط، ستعيشُ بهذا الاسم إلى أجلٍ غير مسمّى.
    -تعني حتى ترجع ذاكرتي.
    -ستكون حينها أنتَ من يقرر يا جهاد.
    -فهمت.


    وصلا المطار وانتظرا ساعةً أنهوا فيها إجراءات جهاد، وأوراقه الطبيّة التي تثبت أنّه أجرى جراحة عليه الالتزام بضماده،
    ولأنّه سيكمل العلاج في أحد المشفيات هناك أيضًا فقد حجزَ بسّام في أحد المستشفيات الخاصّة هناك..

    تشاجر بسّام قليلاً معهم بشأن عدم إزالةِ ضمادات وجه جهاد، لكنّه حكم القوي، رضخوا لهم.. ليسمحوا لهم بالتحليق..
    سمعوا النداء الأخيــر للرحلة، وهرولوا نحو بوّابةِ المغادرين يحلّقون باتّجاه الوطن!
    غير واعين لمن حجَزَ كرسيًّا خلفهم على متنِ الطائرة ذاتها يستمع لمحادثاتهم دون علمهم.
    .
    .
    .

    [ فــي مــلــجـــأ الأيـــتــــام ]

    ينقلِبُ الملجأ الكبير ليلاً إلى ملجأ أحزاب وعصابات ومعارك باليد والسكاكين الصغيرة بينهما،
    حيثَ اعتاد سامر على حملِ السكّين في حذاءه دومًا لأنّ الأطراف في نزال دائم، وكثيرًا ما يهاجمونه بسكاكينهم بغتةً،
    لذلك احتاجها ليدافع عن نفسِهِ فقط.

    كلّ مبنى له زعيمٌ مميّزٌ يحكمه، الجانبُ الشرقي لمايكل وزمرته، والجانب الغربي لـ رافاييل وزمرته.
    أعلنَ مايكل على الملأ أنّ سامر فردٌ من عصابته،
    وصارت أنظار الغربييّن تتّجه له كونه تابعًا جديدًا لزعيم الجانب الشرقي الذي بالكادِ أدخلَ أحدًا في عصابتهِ الصغيرة
    بالمقارنة بهم، فهذا شيء نادر فهو لا يثق بأي شخص.

    افتخَر مايكل كثيرًا بوجود سامر، فمهما نظرتَ إليه تراه يتعلّم القتال معهم بسرعة، ويتحمّل الضربَ،
    وله قدرة جبّارة على التكيّف ضدّ هذه البيئة.

    وكم ازداد فخرُ مايكل به يومًا عن يوم، حتى أرادَ نقض عهده معه وإرغامه على الدخول معهم في مجال الممنوعات،
    واستطاعَ إدخاله في معاركِ السرقة التي تحدث بينَ الجانبينِ أحيانًا.. تحتَ مسمّى استعادة ممتلكاتنا!
    .
    .
    .

    [ في أرضِ الوطن – منزل بسّام ]

    رحّبت السيدة ليلى بجهاد بابتسامة، رغمَ قلقها من الضمادات التي تلفّه،
    وصُدِمت بإصابات بسّام وخدوشهِ، رغمَ أنّها سطحيّة تقريبًا، وقد شُفِيَت بعدَ أسبوع ..
    قدّمت الضيافة لهما في الصالة على الطاولة المستطيلة أمامَ أريكتهما،
    وضعت كأسين من عصير الفواكه الباردِ أمامهما،
    وصحنينِ توسّطتهما قطعة مثلّثة من كيكِ الجزر والدارسين بجانب شوكة صغيرة..
    ثمّ أشارت لبسّام-على حين غفلة من جهاد- أن ينهَضَ معها..
    دخلا المطبخ تاركين جهاد يجلس بهدوء وسرحان على الأريكة،
    ابتلعت ريقها بخوف: يُستَحسنُ أن تخبرني بشيء طيّب ومعقول، ماذا حصل لك؟ وماذا يفعل رجل الضمادات ذاك هنǿ
    ابتسمَ بسّام: أنظري إلي إنني بخير، و رجل الضمادات ذاك هو جهــ.. أعني فـريد .. إنّه أستاذ تعرّض لحادث وأنا
    ساعدته.
    أومأت له متفهّمة: حسنًا ستخبرني بكلّ شيء لاحقًا، فقط عد لضيفكَ لا يجب أن تتأخّر.
    أومأ لها ثمّ عاد للجالس هناك، وضعَ يدهُ على فخذِ جهاد يربّت عليه: أحسنتَ يا جهاد، لقد وصلنا حتى هذه النقطة.
    ابتسم جهاد مجاملةً فقال بسّام بخفوت: لقد اشتريتُ بيتًا قريبًا من هنّا،
    لم أستطع العثور على بيتٍ أقربَ منه، كما طلبتَ يا جهاد، بما أنّكَ لا تريدُ العيشَ معي وأسرتي.
    شكَرَ جهاد الأستاذ بسّام: أنا ممتن.
    تنهّد بسّام قائلاً: بل أنا الممتن يا جهاد.
    -ألم تقل أنني فريد؟
    -أنا ممتن يا فريد. " ضحك"
    -بعدَما أخبرتني بأمرِ العصابة التي لا أعلم شيئًا عنها في الطائرة، أعترف لقد صعبَ علي التصديق.
    زفَرَ بسّام بحسرة: ولذلك إنني قلق، أخشى أن يتبعوك.
    -بل يتبعونا على حد قولك، بما أنّك شاهد على ما حدث لي معهم، ألم تقل هذǿ
    -بلى، ولكنني لست في نفس الخطرِ الذي أنتَ فيه، لذلك قد استأجرتُ لكَ مدبّرة للمنزل، ستساعدك.
    -لا أحتاج لها.
    -لا تقاطعني.
    -حسنًا.
    -أيضًا، أدخلتُكَ معي في المدرسة، كأستاذ.
    نظَرَ له جهاد ببلاهة: ماذا تعني؟
    -أعني ما سمعته.
    -لم أفهمك.
    -ستدخلُ كأستاذ فريد في نفس قسمي، يجب أن تكونَ تحت عيني ورعايتي.
    -لا داعي، لن أستطيع تأدية مثل هذا الدور.
    -لقد فات الأوان، أرسلتُ أوراقكَ للمدرسة، ستُنقل إليها على أنّكَ معلّم منقول.
    غضبَ جهاد لكنّه تمالكَ نفسه قليلاً وهو يحكم قبضته بقوّة
    نهَضَ بسّام قائلاً: تعالَ لنتسوّق ثمّ أرشدكَ لمنزلك، تحتاجُ لبعضِ الأغراض، كما أنّ لدينا موعدُ مع الطبيب.
    .
    .
    .




  9. #808

    [ فــي مــلـــجــأ الأيتـــام ]
    -بــعـــد شـــهـــريــــن-

    اليوم الموعود الذي اتّفق عليه مايكل وأصدقاؤه على الهرب من الملجـــــأ لقد أرادوا أن يجعلوا من المعلّمين
    نسيان محاولات هروبهم خلال هذين الشهرين، والتزموا تدريجيًّا بنظام الملجأ حتى لا يثيروا الشكوك، وبنفس الوقتِ
    حرصوا على رسمِ ملامح اليأسِ والاستسلام لهذا المكان، الشيء الذي جعل المعلّمين يضعفون من دفاعهم وحراستهم المنيعة
    لهذا المكان، حيث أنّ أكبرَ إزعاجٍ كان يهددهم هدأ ورضَخَ لهم.

    أخرجَ مايكل خريطة رسمها بنفسِه وضعها على الأرضِ، التفَّ هو وزمرته وسامر حولها في زاوية الغرفة،
    بينما واحد يحرس باب الغرفة يستمع لخطوات القادمين.

    مدّ مايكل الخريطة على الأرض وقال وهو يحرّك سبّابته بشكل مستقيم على الورقة:
    هنا، وجدتُ نقطة ضعف خلال المحاولات المئة التي فشلتُ بها، لم ألاحظ إلّا متأخّرًا،
    الحارسُ البدين الذي يأتي دورهُ في الحراسة و زميله صاحب العضلات هما أكثر حارسين يمسكان بنا.
    سأله سامر: طيّب وماذا نفعل؟
    ابتسمَ مايكل: يقعُ قربهما مكبّ النفايات، الأنبوب الطويل المفتوحُ من المطبخ، لم أجرّبه قبلاً.
    فهمه سامر فقال: تعني أننا سنهربُ منه ثمّ نسقطُ عندَ الحارسين هذين؟
    هزّ مايكل رأسه: أجل، لديّ خطّة احتياطيّة لنا، لكنّها تعتمد على نجاحك.
    أشار لأصحابه قائلاً: لقد أمسكنا البدين مرارًا أنا ومارك، والثلاثة أمسكهم حارس العضلات!
    -لم أفهم يا مايكل.
    -أعني يا سامر، ما شهدناه أنّ البدين في كل مرّة نهرب بها لا يستطيع سوى أن يلقي القبض على اثنين منّا،
    بينما الحارس ذو العضلات، استطاع الإمساك بثلاثة، لذا إن كنّا محظوظين الليلة سنستطيعُ إخراجَكَ.
    تردّد سامر ثم سأل: أتعني أنّكم لن تهربوا ؟
    -بلى، ولذلك أخبرتُكَ أنّ لديّ خطّة احتياطيّة أنتَ مفتاحُ نجاحها.
    ركّز سامر بكلام مايكل: هل لكَ أن تسردَ الخطّة ؟
    ابتسمَ مايكل: سنخرجُ من النافذة متسلّقين الجدران نحوَ نافذِة المطبخ، سنكسرها،
    ثمّ ندخلُ من مكبّ النفايات للخارج، فنحنُ نتسلّق الجدران في العادة ولم نخرج من مكبّ النفايات ذاك.
    ابتلعَ سامر ريقه: حيثُ سيكونُ الحارسان هناك.
    -أجل.
    -لكن، ماذا لو أمسكوا بنــا..؟
    -لا بأس، سنخرجُ بعدها أمامَ أنظارهم وهم صاغرين.
    نهَضَ مايكل وسلّم سامر ورقةً صغيرة قد طواها مرّات عديدة وظرفًا صغيرًا كذلك: احتفظ بها عندكَ بمكان آمن.
    أخذها سامر منه وخبَّأها داخل سترته.
    أعطاه مايكل المال الذي وزّعه في جيوب بنطاله وسترته كذلك.
    ربّتَ على كتفيه: هذا دينك، إن نجوتَ ستذهب للعنوان في الورقة وتسلّم الظرف !
    -ما هذا الظرف؟
    -لا يهمّك كثيرًا، كل ما عليكَ أن تنجو وحسب.
    أومأ سامر إيجابًا..

    أمرَ مايكل الجميعَ بالتحرّك للخروج من النافذة نحو نافذة المطبخ، وصلَ الجميعٌ لنافذة المطبخ التي بدأ مايكل
    يلصقُ عليها الشريط اللاصق العريض الذي جمعه من الغرف خلال الشهرين الماضيين،
    كي تقلل من صوت كسر الزجاج ولا ينتبه أحد لهم.

    أنهى وضعَ اللاصق والآخرين لازالوا يقفون قربه على جدار الملجـــأ ثمّ كسَرَ بغمدِ سكّينه النافذة،
    تكسّرت بعضُ أجزاء النافذة من أسفل مما سمح لمايكل بمدّ ذراعه وفتحِ القفل، رفعَ النافذة ودخلَ ثمّ نادى
    زمرتَهُ لتدخل بعده.

    وضعوا أقدامهم جميعًا على بلاطِ المطبخِ، فأشار مايكل:
    سندخلُ جميعًا لتأمين مكانكَ، سنسبقك بدقيقة...الحارسان معتادان على أنّ عددنا خمسة،
    ويمسكان بنا دائمًا بناءً على هذا العدد، فنحنُ بعدَ مئة محاولة لن يصدّقا أنّ معنا سادسًا،
    كما أنّ هذه المرّة الأولى التي أفكّر فيها بمكبّ النفايات، لذلك ستكون ضربتين مفاجئتين لهما.

    ثمّ أردَفَ: سأصرخُ باصطناع، وستنزلقُ بعدَ سماعكَ لصراخي، لن تسرعَ وحسب، بل ستطير!
    أمامكَ سيكونُ طريقً ذو 20 مترًا، ستركضُه ثمّ ستقفزُ السورَ، هل تستطيعُ تسلّق الشجرة قربَ الجدار؟
    أومأ سامر، فهو معتاد على جلبِ كرة البيسبول لجهاد عندما تعلق بين الأغصان.

    ابتسم مايكل: جيّد!
    -وماذا أفعلُ بعدَ القفز ؟
    -ستكونُ نلتَ حرّيتَك، لكنني أحذّرُكَ يا سامر، لا ترخي دفاعكَ حتى لو خرجت،
    أمِّن نفسكَ من بقيّة الحرّاس حولَ الملجأ واستمرّ بالركض حتى تصلَ إلى أبعد نقطة يمكنك الوصولُ إليها.
    حدّ عينيه وقال بحدّة: حتى لو وصلتَ للقمر!

    اقشعرَّ بدنُ سامر قليلاً، وظلّ واقفًا أمامَ الأنبوب الذي يرمون فيه أكياس القمامة،
    وتنزلق حتى تخرجُ للحاوية في الخارج، يشاهدُ مايكل ورفاقه ينزلونَ منهُ وهم يبتسمون بحماس.

    لا يستطيع أن يكون مثلهم، الأمر أشبه بجريمة في منتصف الليل قربَ مركز شرطة!

    مضَت دقيقةٌ على نزولِ الخمسة الذين سقطوا في أحضان الحرّاس كما توقّع مايكل، حاول الخمسة المقاومة
    كي يبدو الأمر حقيقيًّا، إلّا أنّ الحارس البدين وذا العضلات قد أحكموا القبضَ عليهم بالفعل!

    اقتربَ سامر من الأنبوب واضعًا رجله اليمنى فيه أوّلاً ثمَ توقّف بعدَ سماعِهِ لباب المطبخ يُفتَحُ من خلفه،
    وصوتٌ يصرخُ عاليًا: إنّ مايكل وزمرته يهربون مجددًا.
    انقبضَ قلبه ودبّ فيه الرعب، لأنّ صاحب الصوتِ اقتربَ منه راكضًا، فأسرعَ سامر بالدخول بالأنبوب،
    لكنّ ذلك الشخص الذي أتى خلفه أمسكه من شعرِهِ يشدُّهُ بأقوى ما لديه وبكلّ حقد: لن تهربوا اليومَ أيضًا.

    شهَقَ سامر بصوت منخفض وهو يقاوم الشخص الذي يسحبه لأعلى كي يخرجه من الأنبوب، أصيبَ بالهلع،
    يجبُ ألّا يصدر صوتًا، فمايكل لم يصرخ حتى الآن، يجب أن يلتزم بالخطّة بحذافيرها،
    يجب أن يخرج مهما كان الثمن حتى لو باتَ أصلعًا..

    تكوّر سامر داخل الأنبوب وحاول أن يصلَ لوضعية القرفصاء بينما رأسه يُسحبُ للخلف،
    وهو يعضُّ على شفتيه يمنع صراخه من الخروج، جذورُ شعرِه ستُقتَلَع..
    "ما هذه اليد البغيضة التي تجرُّ شعري وترفعني!"

    قرّبَ يده بصعوب إلى حذاءه، استطاع سحبَ السكّين منها، وسقطَ الحذاء قبلَه من الأنبوب،
    لوّح بالسكّين بيده كي يرعبَ هذا المجنون الذي ألقى القبضَ عليه وكأنّه شاهدَ كنزًا.

    لا يريدُ إيذاءه، فقط ليبتعد، خدشَ بالسكّين الأنبوب وهو يقاوم ثمّ جرحَ يدَ الشخص الذي يجرّه فارتعَبَ
    وخافَ أن يُجْرَح أكثر حينما رأى جديّة سامر، ليتركه دون وعي منه فيسقطَ الأخيرُ من خلال الأنبوب
    في الوقتِ الذي سمِعَ فيهِ صراخ مايكل: " ســــامــــر "

    نزلَ سامر بقوّة في مكبّ النفايات وتعلّقَ حذاءهُ الثاني بينَ الأكياس في الحاوية، لكنّه لم يأبه له،
    فدقّاتُ قلبهِ الآن ستخلعُ صدره إن لم يغادر المكان، كانَ على مرأى الحارسين ومايكل وأتباعه،
    شاهدوه ينزلُ من الأنبوب بصدمة، لم يتوقّعا أن يكونَ عددهم هذه المرّة ستّة..

    صرخَ أحد الحرّاس: النجدة هناك هارب!

    قفَزَ من المكبّ وركَضَ باتّجاه السور الأخيرِ الذي يفصله عن العالم، سيخرُجُ الآن عائدًا إلى منزلِهِ، حتى لو كانَ
    محترقًا، فهواءهُ ممزوجُ بهواءِ الحريّة، كيفَ لم يعرف قدرَ الهواء الخارجيّ من قبل.. ؟
    هل كانَ في هذا الملجأ خيرٌ له ؟
    أستطاعَ خلعَ لثام الحزنِ والفقدِ الذي أحاطَ عنقه بسبب هذا المكان ؟
    فكانَ كالشّخصِ الذي لم يعرف قيمةَ النّور إلّا بعدَ انغماسه في الظلمة
    هل حالُه من دونِ أهلهِ خارجًا أفضل من الوضعِ هنا ؟
    أو كيفَ تفكيرُه ؟


    ركَضَ بدون حذاءه بأقوى ما لديهِ، لم يهتم بعدد الحصى الذي دهسه، ولا بالشوكِ أو أيّ شيء مرميّ أمامه،
    ولا بالسكّين الصغيرة التي يمسكها ويضغط عليها دون أن يعي، كان متشبِّثًا بنفسِهِ يركضُ بكلّ عزمٍ
    بينما يسمعُ صوتَ مايكل يصرخ بحماس ويضحك: أركض يا سامر ولا تنظر خلفك!
    أركض أيّها الأحمق.. أنت َبطــيء!
    لا تنسَ الظرفَ .. لا تنساه..

    وصَل سامر بعدَ أن اجتاز العشرين مترًا ركضًا بسرعة جنونيّة إلى الشجرةِ التي أمسكَ فرعها وقفزَ للأعلى،
    ثمّ تسلّقها ليرميَ نفسَهُ خارجَ الأسوار..

    كأنّها الدقيقة الأخيرة في سباق ماراثون طويل، على الرّغمِ من تعبِ الركض
    إلّا أنّ الجميع يسعى للفوزِ كي لا تذهب جهودهم سدىً..

    هبطَ على الأرضِ بقوّة شعرَ بها أنّ عظامه تحطّمت، لكنّه ما استقرّ أبدًا في بقعته بل لا زال يواظبُ راكضًا..
    حتى وصلَ نهايــة الطريــق المؤدّيةِ لمنزلِه وصوتُ ضحكات الانتصار من مايكل تدندنُ بأذنه..

    لقد كانَت ليلةً مرعبة .. أكثرَ من أي شيء آخر .. وهو الذي ظنّ ألّن يتجرّع الرعب والخوف والألمَ بعدَ موت أسرته!
    وصَلَ لمنزِلِه بصعوبة بالغة، يلهث ،
    والعرقُ قد غطّاه تمامًا، أمسكَ مقبضَ الباب ودَخَلَه، سَعَلَ بشدّة حتى ظنَّ أنّ حنجرته جُرِحت..
    وسقطت السّكينُ من يدهِ ..

    نظَرَ للمنزلِ ودار ببصره فيه، يستوعب أين كان؟
    من أين خرج؟
    وإلى أين عاد وجاء ووصل؟

    صرَخَ مخرجًا ما كتمه طوال الطريق .. صاحَ بأعلى صوتِهِ بصيحات لا معنى لها ..
    لا يفهمها إلّا من سحبِ كرسيًّا على مائدة العذاب وجلَسَ راغمًا يتجرّعُ من كؤسِها ..

    علا صدره وهبَطَ ورأسه مرفوعٌ للأعلى ، عيناهُ تنظران للسقف،
    كأنّه بحاجة لفحص المكان من كلّ جهاته حتى يطمئنَ قلبه، أنّه وصَلَ لدارِ الأمان!

    استندَ إلى الجدارِ وانزلقَ ظهره حتى جلَسَ بإهمال و وهن، ينظرُ للفراغِ أمامَهُ..
    الهباء المنثور من حوله، انعدام الحياة فيه، وصوتُ ترانيمِ الموتِ يغنّيها الهواءُ الذي يعبثُ في البيت
    ويدورُ حولَه بغنج.

    حاوَلَ جفنُهُ أن يغلبَهُ بالنّعاس، لكنّ سامر كان له بالمرصاد، يمنع جفنيه من أن يطبقا عليه،
    هوَ في منزلهِ الذي اعتاده فلمَ الخوف؟ ولم الشعور بعدم الأمان يجتاحه الآن ..
    أليسَ هذا ما حلمَ بهِ خلال الشهرين الماضيين .. ؟
    تلفّتَ من حولِهِ وليسَ غيرُ الظلام، وخيطُ نورٍ من البدرِ المنيرِ يشعُّ عبرَ النافذة،
    ابتسم بمرارة، هل هربَ في وقتٍ اكتمَلَ فيهِ القمرُ بدرًا ؟
    مثل أبيه؟
    حرّك الهواء باب المنزل المهترىء فجعلَهُ يصدِرُ صريرًا ، لينتبه سامر إليه ويلتفت..
    اتّسعت عيناه حالما وجدَ مضربَ جهاد الخشبي ملقىً عند الباب، نهَضَ بتثاقل يمشي نحوه..
    ارتجفت شفتاه ثمّ أجهَشَ بالبكاء، لقد تعبَ من البكاء، فالدموع التي تنتحرُ على وجههِ سئمَت البقاء معه بدورها أيضًا،
    لذلك ما طفقت تُولَدُ وتُنحَرُ ..
    الأمر خارج إرادته، يبكي بحرقةٍ أخاهُ وشقيقه ..

    مشى بضعف بعدَ أن استنفذَ الركضُ والجريُ طاقته،
    بعدَ أن عجزت أقدامه على حملِهِ مسافة المتر، ثمّ أخضعته للجلوس.. لينامَ في مكانهِ..
    محتضنًا المضربَ بين ذراعيه بحزن.
    .
    .
    .

    حـلَّ الصباحُ بيـومٍ جديد، وأشرَقتِ الشّمسُ بالنورِ والدّفءِ تُحيطً الكائنات من حولها،
    حتى ذاك الوحيد .. المتمدّد على الأرضِ،
    والقابضِ على مضربِ البيسبول يتقلّب على اليمينِ تارةً وعلى الشّمالِ تارّةً أخرى..
    يهتزّ جفنُهُ بانزعاج، ويفتحُ عينيه ببطء لينظرَ للسقفِ، ليسَ المنظرَ الذي اعتاده..
    انتصبَ واقفًا بعدَ شهقة، ورمى المضربَ من يده، تلفّت بالمكانِ حولَه،
    ولصوتِ الارتطامِ الذي أحدثه المضرب بالأرض،
    أخذَ منه الأمرَ دقيقة أو ربما اثنتين حتى يسترجع ذكرى الليلةِ الماضيّة الأِشبه بالكابوس،
    غير مصدّق أنّه لازالَ على قيدِ الحياة، بل وفي منزِلِه..

    تنهّد، جفّ حلقه، يريدُ ماءً ، لم يشرب شيئًا منذ البارحة، تلمّسَ جسده يبحث عن الأموالِ التي بعثرها
    وخبّأها هو ومايكل في جيوبِ سترتهِ وبنطالهِ، عليهِ أن يجمعَها كلّها ليذهبَ للسفارة..
    لكنه لن يخو خطوة قبل الفطور، نظرِ للمال في يديه، وأعاده لبنطاله..
    سيذهبُ لمتجر البقالة الصغير القريب من هنا، ليأخذَ مأونةً له..
    لكن قبل ذلك عليه أن يبحثَ عن حذاءٍ حتى يشتري واحدًا ..

    لقد قرّر العيشَ في منزلِه، أو ربّما في القبو، سيكونُ المكانُ أكثرَ أمنًا،
    وسيسمع حينها خطوات القادمين..
    اتّجه نحو المتجر، كان يُطأطِأ رأسه مرارًا خيفةَ أن يتعرّف عليهِ أحد،
    أخذَ مجموعةً متنوّعة من الطعام المعلّب وبعض الخبز طويل المدى، والمياه، ثمّ خرج عائدًا..لمنزلِهِ !

    نزَلَ سلالم القبو وهو يسعلُ بسبب الغبارِ في المكان، هنالكَ نافذة صغيرة لكنّها ستفي بالغرض،
    عليه أن يفتحها لعلّها تُخرِجُ هذا الهواء الملوّث..
    تركَ الأكياس خارجًا، وأخذَ خرطومَ المياه الطويل في حديقتهم، سحبّهُ حتى يُدخله من بابِ القبو ويرشَّ
    المكان بالماء، الأثاث مدمّر، ولم يسلم منه شيء، المكانُ بلا ملامح .. دون تفاصيل .. ماتت فيه أحلى أمنيات جهاد..
    أمامَ عينيه ..
    ظلّ يشجّع نفسَه: لا بأس، فما قيمةُ الأثاثِ لو ذهبَ أصحابه؟

    كانَ يغسلُ المكان ويفكّر بعدم إمكانيّة الشرطة في العثور على جثّة جهاد، هل مات حقًـــا ؟
    أو هل ما قاله السيّد جيمس في التصريح حقيقي؟
    انتبه سامر لشيء، لقد صرّح السيّد جيمس أنّ سامر قد مات، وهو حيّ؟
    هل يعقل أنّ السيّد جيمس لا يعلم؟ لا يدري عنّي أو عن جهاد وصرّح بشكل عشوائي لسبب ما ؟
    هل هناك فرصة أمل ؟
    عليهِ أن يذهبَ له، سينظّف المكانَ هنا أوّلاً ويأكلَ ثانيًا، وثالثاً يجب أن يأخذ الرسالة التي أعطاهُ إيّاها مايكل،
    فقد وثَقَ بهِ مايكل من بينِ الجميـع ولأجلِ هذه الثقة يجب أن يوصِلَ الرسالة.

    خافَ سامر أن تكون رسالة حولَ ممنوعات أو ما شابهها،
    فهوَ يعرف أخلاق مايكل الملتوية خلال العيشِ معه في الملجأ..
    لا يريدُ مساعدته في الشرّ، رغمَ أنّه ربّما غمسَ يده فيهِ معه..

    "الشمسُ ساطعة وحارّة الآن، سأنتظرُ حتى يجفّ المكان"

    قال سامر بخفوت: على الرّغم من أنّي فتحت غطاءَ تصريفِ المجاري في القبو.. سيأخذ التجفيف وقتًا.
    أغلقَ خرطومَ المياه، وأعاده لمكانهِ، ثمّ جلَس في الجهة الخلفيّة أمامَ باب القبو يتناول الطعام بشراهة،
    كأنّه لم يأكل قبلاً..
    " حتّى الماء مختلفٌ هنا "
    ابتسمَ بسعادة: يبدو أنّ سجن الملجأ قد علّمني أنّ حياتي حتى من دونِ أهلي خارجًا،
    أفضل بكثير من حياتي هناك!

    حاولَ طردَ الأفكار والذكريات حول الملجأ والعصابات والسكاكين، لقد تعب منها عدا الأخيرة،
    فلا يزالُ يحتفظُ بسكّين في حذاءِهِ الجديد، لا يدري متى سيداهمه الخطر أو يقتحمُ مكانه؟

    ألقى المخلّفات في حاويةِ الجيران، كي لا يشكّ أحد في وجوده في المنزل،
    ثمّ انطَلَقَ نحوَ العنوان المكتوب في الورقة التي استلمها من مايكل،
    ولم يكن بعيدًا جدًّا، استغرقَ نصفَ ساعةٍ سيرًا على الأقدام..

    وجَدَ سامر المنزل بسهولة، وتقدّم للداخل ليضغطَ على الجرس وهو يمسحُ حذاءهُ بالسّجادة الخشنة أمام الباب،
    كي يُبْعدَ الأوساخَ أو الترابَ العالق قبلَ دخوله.
    فُتِحَ الباب فرَفَعَ رأسه بسرعة وهو يقول: مرحبًا.
    كانَ رجلاً متوسّط الطول، قطّب حاجبيه ثمّ قال: أهلاً.
    قدّم سامر الظرفَ إليه: إنّه من مايكل.
    رفعَ الرجل حاجبيه باستغراب وأخذَ الظرفَ سريعًا ليفتحه، ابتسمَ ثمّ قال: شكرًا، أوصلتَ رسالتك.
    ودّعه سامر مغادرًا نحوَ مقرّ الصحيفة التي كان يعمل فيها والده، هدفُهُ الالتقاء بالسيّد جيمس مديرها!
    .
    .
    .


    [ فــي مـــنـــزل السيّد ســــامـــح ]
    -بعدَ شـهــر-
    كانَ السيّد سامح وزوجته السيّدة سميّة يجلسان في الصالةِ معَ ابنيهما عمر وأمل يتابعون أحد البرامج
    التلفازية على الشاشة، في الوقتِ ذاتهِ الذي يؤدّي سامح وظيفته وهي الرسم، حيثً عدّة الرسمِ حوله على الطاولة،
    والكراريسِ على الأرضِ بجانبه وأقلامٌ وفُرَشُ هنا وهناك.
    رمَى القلمَ على ظهرِ عمر فنهضَ الأخيرُ كالملسوع وهو يحكّ ظهره: أبي!
    ابتسمَ أبوه: يا ولد! ألا تسمع !! الهاتف يرن، إذهب وانظر من هناك.
    -ألا تستطيع قول ذلك بلطف؟
    -لقد كنتُ أناديك ولم تسمعني.
    قال عمر بملل وهو ينهض: حسنًا .. فهمت فهمت!

    رفعَ سمّاعةَ الهاتف ليأتيه صوتٌ: مرحبًا نحنُ نتّصلُ بكم من السفارة، هل السيّد سامح يتحدّث؟
    ارتبَكَ عمر: لا، أنا ابنه.
    وضعَ عمر يدهُ على السمّاعة ونادى والده: أبي هناك اتّصالٌ من السفارة.
    نَهَضَ سامح باستغراب وهو يقول: خيرًا .. السفارة ؟ أيةُ سفارة.. ؟
    هزّ عمر كتفيه: لا أدري.
    أخذَ السيد سامح السمّاعة مجيبًا: مرحبًا.
    -أهلاً سيّد سامح، نحنُ نتّصلُ بكَ لأمرٍ مهم، ليست لدينا صلاحيّات للحصول على بياناتك بهذه الدقّة،
    لكن لأمرٍ طارئ حدث، هناك فتى يأتينا منذ أسبوع ويُلِحُّ علينا أن نعطيه بياناتك،
    وهذا شيء لا يمكننا فعله بالطبع،
    لكنّ هذا الفتى دخَلَ على السفير، لذلك طلبَ منّا التأكّد من صحّة قولِهِ أوّلًا..
    -لم أفهم شيئًا..
    -هذا الفتى يقول أنّ لديه عمًّا في هذا البلد والذي هو أنتَ سيّد سامح .
    اقشعرّ بدن سامح قليلاً فقال بربكة: أي فتى؟ أعني من هو ؟
    -هل لديكَ أقرباء؟
    -نعم لديّ أقرباء لكن تفرّقنا منذ سنين، وتواصلت قبل فترة مع أحد أشقّائي.
    -إنّه يقول أنّه سامر ابنُ بدر..
    -سامر!هل قلتَ ابنَ بدر ؟!
    -أجل.
    -هل يقفُ عندك؟
    -أجل.
    صرخَ سامح: إذًا وماذا تنتظر!! دعني أحدّثه..

    شكّ السيّد سامح بالوضع قليلاً، فما الذي يدفع سامر للجوء إلى السفارة لطلبه؟
    وقد أصرّ بدر قبل عدّة سنوات أن يقطَعَ الأخبار والاتصالات بينهما لسبب خطيـر اكتشفه ولم يخبرني به!
    استمرّ بالتواصل معي في الرسائل والمكالمات التي لا تتجاوز الـ10 دقائق وفي فترات متباعدة.
    آخرُ عهدٍ ببدر بالروحِ والجسد كانت تلكَ الصورة الجداريّة التي يعلّقها ..
    ولم يكن سامر بها بل كانَ جهاد، فسامر كان صغيرًا آنذاك.. هذا آخر عهده بهم ..
    حيثً تزوّجت إيمان وغضب سهيل فغادرَ مع بدر وعائلته خارجَ البلاد.. وتركه في رعاية سميّة وأبويها ..

    نطَق سامر بارتباك: مرحبًا.
    ابتلعَ السيّد سامح ريقه: هل أنتَ حقًّا سامر ابن بدر؟
    قال سامر: نعم.
    -ماذا حدث يا سامر؟
    أنا مستغربٌ لماذا تتّصل أنتَ بي وليسَ أبوكَ أو جهاد، لقد انقطعت أخباره عنّي منذ عدّة أشهر!



  10. #809
    تهلّلت أساريرُ سامر، كانَ خائفًا ألّا يكونَ عمّه، لقد تحدّث مع السيّد جيمس قبلَ شـهر وأخبره أنّه صرّح بموته
    وموتِ جهاد كي يبعدهما عن الخطر الذي أودى بحياة بدر.. فوالده تلقّى تهديدًا واحدًا بأذنهِ..
    بينما السيّد جيمس تلقّى تهديدات أخرى دون إخبار بدر.. فلا فائدة من إخباره!

    أعطاه بعضًا من الأوراق والملفّات التي تخصّ والده في خزانته التي يأتمِنُ السيد جيمس عليها،
    وهي عبارة عن أوراق ثبوتيّة لجدّه سهيل وعمّه سامح فقط.
    خبَّأها بدر عن والدِهِ الذي قطَعَ الصلات كلّها وشتّتهم، لا يريدُ أن يتواصلَ مع سامح الذي وقفَ بجانب إيمان،
    أخذَ أكبرَ أبنائِهِ وهربَ منهم بعدَ بيعِ منزلِهِ ومنازلهم، وعاشَ معَ بدر في المنطقةِ نفسها..
    رافضًا الإقامةَ معهم، لم يحبّذ الزيارات بينهم ، فعاشَ وحيدًا .. وماتَ وحيدًا ..

    استمرّ بدر في البحث عن سبب مقنع لهرب والده من أبنائِهِ بعيدًا عنهم..
    بل وبعثرتهم كلّهم ولم يعثر على شيء عدا الشريحة..التي أثارت انتباهه بعدَ وفاة والده..
    لقد تركته زوجته والحياةَ معًا قبله لأنّ فراق أبنائها اشتدَّ بها حزنًا وأسفًا ..

    الشريحةُ التي عثر عليها في خزانةِ والدِهِ الثمينة، مع رُزَمٍ من الأموالِ وطبعة بنكيّة مميّزة بسنةّ مميّزة كذلك،
    سُرِق فيها مالٌ من أحد البنوك في حادثة مشهورة لم يُعثَر فيها على الجناةِ الحقيقيّين،
    فضّل الاحتفاظ بها عوضًا عن صرفها.. فسيُكتَشَفُ حينها..

    كلّ أسئلة بدر التي تدور في نفس الحلقة، وتسبحُ عكسَ التيّار لتعودَ لمجرى النهر نفسِه قد وجدَ الإجابةَ
    عليها بعدَ فتحِ الشريحة واكتشاف المسروقات فيها وأماكنها، بدا لبدر كأنّه دفترُ يوميّات دوّنوا أحداثه بدقّة.

    تتبّع المسروقات وتواريخها في المجلات و الصحف والجرائد وعلى الشبكة واستطاع معرفة
    كلّ شيء بصورة والده مع العصابة، وربطها بسفراتِهِ الكثيرة لدول كثيرة مختلفة، فالدليلُ أمامه!

    استنتجَ في النهاية أنّ والـده ربّما تابَ عن عمَلِه وسرقاتِه ولكن لم يُعد المسروقات خيفةَ الإمساكِ به،
    لذا فضّل أن يرمي الشريحةَ التي لم تغرق في ظلماتِ بحرهِ .. بل طَفَتْ على شاطئ بدر المشرق..

    الذي دونَ أن يدري .. حذا حذو والدِه .. وبدأ يقلّل من اتصالاتهِ مع شقيقه سامح.. خوفًا عليهِ..
    رغمَ تواصله معه بالسرّ في السابق بعيدًا عن أبيه ..
    واختصَرَها بعدَ إحساسه بالمراقبة وذاك التهديدُ في الصحيفة..
    فقد قرّر أن يحميَ ما حماهُ والده.. قبله.. ألا وهي أُســـرتــــه !

    شتّت الجدًّ سهـيل عائلته كي لا يستطيع أفـرادُ العصابةِ الانتقامَ منه بهم ...
    بعدَ أن انسحبَ من حياةِ الجريمة والسرقة، لذا كانت توبتهُ أسوءَ توبـة ..
    على صورةِ انتشار مأساوي حزين ..
    فاحت منهُ رائحةُ الفراقِ النتنة!
    واستحالت حياتُهم فيها لأجساد يُقيمُ فيها قلبُ رحّالة تائِه ..

    فـلو عـرَفت العصابة مكانَ أبنائِه لانتهزوا الفرصة بقتلهم أو باستخدامهم كتهديد ضدّه
    ليعطيهم أماكن المسروقات المخبَّأة عنده، لذلكَ فكّرَ وقدَّر .. للخروجِ من هذه المشكلة ..
    ليسَ عليه إلّا تقليل الخسائر ..

    وما مِـن طريقة سوى هذه الطريقة ..
    التضحيّةُ بتفريقهم ..
    وإن كانَ مقدَّرٌ لهمُ اللقاء فلن يضرّهم أي شتات..
    وستبقى القلوبُ على ما كانت عليهِ رغمَ البعاد ..
    أبناؤه .. وهوَ خيرُ من يعرِفهم ..

    فجاء زواج إيمان بسنّ صغيرة من جنديّ كفرصةِ العمر، وكبداية الانطلاق لتحقيق هذه الفكرة..
    فكرة الهزيمة بأقل الخسائر ..
    لأنّه مهما انتصَرَ على العصابة بإبعادِ الشريحةِ عنهم واحتفاظه بسرّ مكان المسروقات ..
    سيظلُّ مهزومًا لخسارتِهِ أبنائِهِ بتلكَ الطريقة الوحشيّة .. بذنبٍ لم يقترفوه ..

    صُدِموا من قرارِ والدهم بطردِ إيمان وبشكل مفاجئ لعدم رغبتهِ بالزواجِ من جنديّ
    دون علمهم أنّه قد أصرّ على هذا الجندي ..
    التمسّكَ بإيمان لأنّ العائلة في خطر وتعاونَ الجنديّ والدُ راجح مع سـهيـل وأخذَ إيمان بعيدًا..

    لم يستمع لأي من أبنائِهِ ولم يعطِهم فرصة،
    سافرَ للخارجِ معَ بدر وأسرتِهِ الذي رضَخَ لوالدِه، ظنًّا منه أنّه سيشتاقُ لهم .. ويعود ..
    وحصلَ فعلاً أن اشتاقَ لـهم .. ولكن .. مــا عــاد ..

    لقد كانَ مجرمًا دكتاتوريًّا حقًّا .. لكنّ قلبَهُ قلبُ أب!
    لقد أخطأ فعلاً وهذا ممّا لا ريبَ فيه ..
    لكنّه تاب .. توبة نالَ عقابها باكرًا ..
    الأبُ سُهيل لا اللّصُّ ..

    .
    .
    .


    [ مــنــزل فــريــد ]

    -الحديقة الخارجيّة-

    أمَرَ الأستاذ بسّام المدبّرة أن تحضِرَ بعض المشروبات للحديقة، له ولـفريـد.
    جلَسَ مقابلاً لفريـد.. الأستاذ الجديد في المدرسة وفي القسمِ معـه ..
    والذي يجلسُ بخوف وهو يراقب المكانَ حـولَه والأسوار المحيطة بالمنزل ..
    تنهّد بسّام: كفّ عن النظر بهذا الشكل .. أنا هنا لأهنّئَك لحصولك على رخصةِ القيادة يا عزيزي..
    ضحك: أنتَ رائع!
    حمَلَ بسّام الكيسَ الأبيضَ المزخرف بالورود من على الأرضِ ليضعه على الطاولة ويخرجَ منهُ
    علبةً كبيرة مربّعة وهو يقول: هذه هديّتي لك .. مباركٌ يا عزيزي.
    اكتفى فـريد بإيماءة شاكرة له وقول: ممتن يا بسّام.. شكرًا..
    حزن بسّام قليلاً: كل هذا لأنّي أخرجتُكَ للحديقة .. لو دخلنا للداخل هل ستصرخ شاكرًا يا ترى ؟
    ارتجَفَ حاجبيه وقال بتوتر: أنا .. أنا بالكاد أتحمّل خروجي للمدرسة ومراقبة كل أولئك الأولاد التافهين.
    ابتسم بسّام بينما تابع فريد: إنني خائفٌ من ظلّي يا بسّام .. ظننتُ أنني هربتُ من الموت ..
    لقد لحقوا بـي .. يتّصلون على هاتف المنزل .. يعرفونَ عنواني ..
    وصلوا لأثاثِ المنزلِ وحطّموه .. بحثًا عن الشريحةِ السخيفة مثلهم ..

    -أيّ أثاث؟ سرير وطاولة .. كما أنني أخبرتُكَ أن تعودَ معي حينها ورفضت!
    صرخَ فريد بانفعال: وهل تريدُ منّي أن أعرّضَكَ للخطر وأسرَتَك؟!
    ابتلعَ بسّام ريقه، فما قاله فريد صحيح، لكنّ أحد الأسباب التي جعلت فريد هكذا هو بسّام ..
    يؤمنُ أنّ الضعفَ في عيني فريد الآن بسبب ذاكرته ..
    فوقَ عيشِهِ وحيدًا .. لا يستطيعُ أن يسترجعَ شخصيّته السابقة وليس الذاكرة وحسب ...
    لا يعلم ماذا كان يحب أو يكره ؟ ممّ كانَ يخاف ؟
    لا يعلم من كان عدوّه .. أو إذا وقفَ أمامه صديقه .. لا يعلم شيئًا ..
    كل ذكريات فريد الجديدة هو روتين معلّم يكسرُ الفصل بنوبة غضب ويشتم الطلاّب ويخرج..
    لا يقدرُ على تحمّل رؤيةِ الطلبة مع ذويهم .. في الوقتِ الذي هو وحيـد بروح جريحة..

    في كلّ حصّة يخبرُ بسّام أنّه لا يصلح أن يكونَ معلّمًا ..
    لكنّ الآخر مصرٌّ على أنّ هذه أفضل وظيفة له.. وستساعده على استعادة ذكرياتهِ ..
    ألا يكفي أنّ الدروسَ كُتِبَت وكأنّها خصّيصًا تحيك المؤامرات ضدّه.. ألا يكفي ؟!


    قال بسّام بتهكّم: حسنًا العصابة كان لديها سبب لكسرِ أثاثك، ماذا عنك؟
    ما سببك لكسر سبوّرة الفصل ؟
    جاءت مدبّرة المنزل بصحون وسكّين، وبعض المشروبات،
    وزّعتهم على الطاولة وأشار لها بسّام بالمغادرة.
    أغمضَ فريد عينيه باستسلام مسترخيًا على الكرسيّ: يا تُرى هل تستحق هذه الشريحة أن يضحِّيَ
    أبي بنا ؟
    -لم يضحِّ بدر بكم يا فريد.. هذا قضاء وقدر .. كان سيموت..
    صرخَ فريد وهو يفتح عينيه بقوّة: أعرف ! أعرف لا يحتاجُ لأن تذكّرني دائمًا يا بسّام ..
    أومأ نافيًا: ما أريدُ معرفته هو الأسباب التي دفعته لكي يرمينا معه.
    قال بجديّة وهدوء: أريدُ أن أعرف ما كانت ردّة فعلي، وهل أخبرني أبي سابقًا عن شيء؟
    طأطأ بسّام رأسه وهو يشدُّ بنطاله بقبضته: أنا آسف يا جهاد.
    نظرَ له فريد: ولمَ تعتذر؟
    -ما حصلَ بسببي.. أنا السبب.
    -لقد ساعدتني يا بسّام.. الذنب ليس ذنبك.
    نهضَ من مكانه: لندخل بالداخل، لا أشعر بالأمانِ هنا.
    ابتسم بسّام بصعوبة: حسنًا، لنأكل قبل أن ندخل.
    .
    .
    .

    [ عـــودة للحــاضـــر – مــنزل الطبيب توماس ]

    أنهى الطبيب توماس سردَ ما يعرفه عن وضعِ جهاد، وبقدرِ ما صدمَ الاثنين زياد وسامح
    كانا فرحيـن ..
    علا صوتُ السيّد سامح من مكبّر الصوت: هل تعني أنّ جهاد ابن بدر حيّ؟
    فرح زياد: إنّه حيّ يا سامح!! ذريّة بدر عاشت يا سامح..
    ابتلعَ سامح ريقه: لكن .. تقول بأنّ ذلك الطبيب الذي أجرى له الجراحة قد أخبركَ بأنّه فاقدٌ للذاكرة؟
    قال توم: أجل.
    سأل زياد بحماس: هل تحتفظُ بصورةٍ له بعدَ الجراحة؟
    زمّ توم شفتيه: للأسف، السيّد بسّام وجهاد رفضا الاحتفاظ بأي صورة.
    ارتخت ملامح وجه زياد بخيبة، لكن سرعان ما استعادت وضعها بعدَ قول الطبيب توم:
    لكن ربما تنفعكما كاميرا المراقبة آنذاك، فالعيادة ملآ بالكاميرات وقد تستطيعان تمييزه هكذا.
    نهضَ زياد: وأينَ العيادة يا حضرة الطبيب توم؟
    أمسكَ الطبيب توم يد زياد وأجبره على الجلوس: هدّىء من روعك، لن يعطوكَ شيئًا حتى لو انتحرتَ عند الباب.
    حرّك زياد حاجبيه بعبث: لن انتحر بالطبع، فما فائدة كل هذا البحث والتنقيب؟!
    أخرجَ الطبيب هاتفه وضغطَ على رقم ما وهو يقول: نيت هو من أجرى الجراحة وسيتفهّم لو اتّصلتُ به بسرعة.
    ثوانٍ حتى أجابَ الطبيب نيت: أوه مرحبًا توماس.
    -أهلاً بك، نيــت... إنني بحاجتك..
    -رهنُ إشارتك .. بماذا تحتاجني؟
    -هل تذكر المريض جهاد ؟ الذي نقلناه مع رفيقه لعيادتك وأجريتَ له جراحةً تجميلية لإصابته بحروق متفرّقة.
    -رغمَ أنّه حصلَ قبل عدّة شهور لكنني لازلتُ أذكر، إذًا ؟
    -هل تحتفظُ بصورةٍ له قبل إجراء الجراحة وبعدهـــا ؟
    -"بأسف" لا مع الأسف، لقد أصرّ جهاد ألّا أحتفظ بأي صورة.
    -إذًا هل بإمكاني طلبُكَ تصويرَ فيديو كاميرا المراقبة آنذاك؟ واحدٌ من أسرته يجلس معي الآن،
    ويريدون التأكّد، لأنّهم فقدوا جهاد بعدَ الحريق.
    -حسنًا، أمهلني بضعَ دقائق وسأرسلُ لكَ.

    بعدَ دقائق، أرسلَ الطبيب نــيــت فيديو لهاتف الطبيب توم، انتظرا تحميلـه، ثمّ قام توم بتشغيله ليُعطيَهُ لزياد
    الذي كانَ يُدقِّقُ بوجه جهاد وبسّام وهما يخرجان من غرفةِ الجراحة ويتشاجران ثمّ يعيده بسّام إليها
    ومن خلفهما الطبيب نــيـــت.
    أوقفَ زياد الفيديو يريدُ تأمّل وجه جهاد أكثر
    أرسلَ بعدَ ذلك الطبيب نــيـــت رسالة قال فيها:
    " هذا الفيديو بعدَ الجراحة حينما نزعنا الضمادات عن جهاد وهربَ من الغرفة،
    ليس لدي فيديو آخر في تسجيل الكاميرا يظهرُ فيه وجهه، فالضمادات لم ننزعها عنه بعدها "

    قالَ سامح قاطعًا السكون: ماذا عنّي يا زياد؟
    انتبه زياد: عذرًا سأرسلُ لكَ المقطع، لكن لا أدري لم يمر عليّ وجهه من قبل.

    أرسلَ زياد المقطع لسامح ثمّ قال للطبيب بإحراج: معذرةً أريدُ ماءً.
    أومأ له الطبيب ونهضَ نحو الثلاجة القريبة يفتحها لتمتدَّ يدهُ نحو قنينة ماء.
    بينما أغلقَ سامح هاتفه ليستقبلَ المقطعَ المرسلَ إليــه بصدمة
    .
    .
    .



    اخر تعديل كان بواسطة » ~پورنيما~ في يوم » 08-09-2018 عند الساعة » 12:34 السبب: تكرار

  11. #810

    [ فــــي مـــركـــز الشـــرطة ]

    بعدَ سماعِ التسجيل من كل من مؤيّد وفراس وعامر، أدلى كلّ منهم بدلوه،
    فقالَ الأوّل بجديّة: لقد فهمتُ أنّ الرّقيب ليسَ في وضعٍ طبيعي.
    تدخّل الثاني: معكَ يا مؤيّد، لقد أثار استغرابي استخدامه لمصطلحات عسكرية.
    فقال الأخير: بالفعل يا فراس.
    نظرَ مؤيّد وفراس للمتحدّث الأخير: ما قولُكَ يا عامر؟
    قال عامر بعدَ تأمّل وانتظار شديدين: لو كانَ الوضعُ طبيعيًّا لأخبرَ ابنه بشكل مباشر أنه بخير،
    وربّما لتحدّثا عن المهمّة، أليست هي أهم شيء لليوم .. ؟
    نهضَ عامر وهو يتمشّى في الغرفة قال بجديّة: لذلك استخدم مصلحات عسكريّة،
    وما يؤكّد هذا هو اختيارنا نحن الثلاثة معاً.. لقد جمعنا نحنُ رغم أننا لسنا مقرّبين مثل مؤيّد لكن هناك رابط
    بجانب أننا في الشرطة.. لقد خدمنا الجيشَ سابقًا .. قبل التحويل إلى رجال شرطة ..
    فالمصطلحات سيفهمها من كان في الجيش بسرعة .. قد لا يقصد بها نفسَه، لقد قال:
    (باللهِ عليكَ أينَ سأكونُ .. عند رأس جسر أو في جيب مثلاً.. أو ربما نقلتُ إلى الجبهة..)

    رفعَ عامر إبهامه قائلاً: رأس جسر هي مصطلح عسكري مكان يحتلّها الجيش غالبًا ويستخدمونها
    كنقطة للهجوم أو التراجع..
    رفعَ السبّابة ثم تابع: لو قالَ جيب لوحدها ربّما ما كنّا فهمناها، لكن جيب في سياقِ كلامه "عند رأس جسر"
    بالتأكيد لن تكونَ إلّا الثغرةَ، فهي مصطلحٌ عسكريُّ تعني أنّ القوات المنتشرة في مكان ما غير قادرة على المناورة،
    وربّما طوِّقَت من العدو.
    قاطعهُ فراس: تعني مكشوفةً للعدو!
    أكمَلَ مؤيّد: بل وصيدًا سهلاً فهم غيرُ قادرين على الحركة بشكل أدق.
    أومأ له عامر بعدَ أن رفع الوسطى: وقولهُ نقلت إلى الجبهة لا أظنّها تخفى عليكم.
    شدّ مؤيّد قبضته اليمنى وضربها بالطاولة أمامه: تعني أنّ عمله قد تغيّر إلى آخر!
    تدخّلَ فراس: أو قد تكونُ الجبهةُ نزاعاً بين فريقين يا عامر.

    نَهَضَ مؤيّد يكتم غيظه: حتى لو كانت يا فراس، كلّ ما علينا هو المُضيُّ في تغييرِ الخطّة، يجبُ إنقاذُ الرّقيب.
    أومأ له فراس وعامر، وقال الأخير: هناك شيءُ لم أفهمه.. وهو حبر كلوريك كوبلت المائي.
    قال فراس: ماذا عن أمجد.. ابنُ الرّقـيب ؟
    اتّصَلَ مؤيّد على هاتفِ أمجد ليجيبه الأخيرُ : كنتُ على وشك معاودةِ الاتّصالِ بكَ حضرةَ الملازم مؤيّد!
    قال مؤيّد: خيرًا يا أمجد؟
    -لقد عرفتُ ما قصدَهُ والدي.. هناكَ رسالة في كلامه، رغمَ أنني لا أعرف ماذا تعني بالضبط..
    -قل ما عندك.
    -حبر كلوريك كوبلت المائي هو حبر سرّي، يا إلهي كيفَ لم أنتبه لهذا المركّب الكيميائي،
    ويقال أنني أحفظُ الجدولَ الدوري وعناصره!
    تابعَ أمجد: هنالكَ رسالة مبطّنة في كلامه، فهذا الحبرُ السريّ كانَ يستخدم للرسائل السريّة فيما مضى،
    بحيثً لا يظهرُ شيءُ حتّى تعرّضَهُ لبخار اليـود .. لا أجدُ تفسيرًا غيرَ هذا !

    سمِعَ عامر وفراس كلامَ أمجد، وقال فراس بإعجاب: إنّكَ ابنُ والدِكَ يا أمجد.
    تلعثم أمجد وضحك بتوتر: أأ .. شكـرًا ..
    ابتسمَ عامر قائلاً: يبدو أنَّكَ تذكّرتَ عنصرًا في الجدولِ الدوري ونسيتَ رقم بطاقةِ والدك يا أمجد.
    -لا، الرّقمُ الذي قلتُهُ صحيح، والدي أخطأ..
    لاحظَ أمجد شيئًا: لحظة ! بما أنّه يبطّنُ رسالة.. لعلّه أخطأ متعمّدًا!! لا أدري هل سينفعُ أم لا ؟
    قال مؤيّد: أخبرنا، لقد توصّلنا لشيء، لذا دعنا نتأكّد.
    -عندما تكونُ أمامَ الصرّافِ الآلي وتدخلُ بطاقتك أيّها الملازم .. ماذا ستضغط؟
    أجابَ الملازم: رقمي السرّي بالطبع.
    -صحيح، لكن ماذا إن أدخلتَه بشكل عكسي .. من اليمين إلى اليسار !
    توسّعت عينا الثلاثة، فقال عامر: الرّقيب ليسَ عاديًّا.. إنّهُ مذهل يا أمجد ..
    ابتسمَ فراس: وابنهُ أيضًا ..
    بينما قالَ مؤيّد: هذا يعني أنّه تحتَ التهديد..
    -ماذا أفعل إذًا ؟
    -لن تفعل شيئًا، ستتابعُ مهمّتكَ، وسنمضي بإجراء طارئ .. سنحيط ُ المنزل بالتأكيد!

    أغلقَ أمجد الهاتف وهو يشعر بالخوف ويتأمّل الأرقام التي كتبها على ورقة صغيرة أمامه..

    صحيحٌ أنّ الفكرة لم تُطبّق على أرضِ الواقع لصعوبتها، وهي أن يدخلَ المهدّد بالسلاح رقمه السرّي
    للبطاقة البنكيّة بشكل عكسي كي يوقِفَ آلةَ الصرافة و يجعلها لا تعمل حتى لا تسحبَ النقود أو تستدعي الأمن ..
    لأسباب عديدة وكثيرة .. مثل الذي سيكون رقمه السري 5995
    فحتى لو عكس الرقم لن يحد شيء، أو الذي يدخل رقمًا واحدًا مثل 5555
    بيدَ أنّها إِشــاعة مشهورة يُحذّر الناسُ منها بعضهم دائمًا...
    فهي محضُ خــيال!

    لذا استفادَ الرّقيبُ منها كي يوصِلَ لأمجد رسـالـته فقط في حين لم يعرف
    معنى المصطلحات العسكريّة أو يلاحظها!
    .
    .
    .

    [ فــي مــدينــة المــلاهـــي ]

    جلَسَ سامر على الأرضِ، يشعر بثقل يجثم على صدره، يستندُ إلى الحائط الخارجي لدورة المياه،
    ينتظرُ قربه عمر الذي لم يبعد عينيه عنه، يراقبه عن كثب.
    عاد رائد وجواد من باعةِ المشروبات بمياه غازيّة، قال جواد بجديّة: لقد نفدَ كل الماء البارد.
    ابتسمَ عمر وهو يقول: لا عليك، لا يهم.
    ضحكَ رائد: نفدَ أكيد .. لقد فتحَ عمر القوارير كلها على رٍأس سامر كي يوقظه بعدما أغمي عليه.
    فتحَ عمر قارورة وناولها لسامر الذي أخذها وهو يتذكّر حريق السيّارة يومها، وكيفَ حمَلَ القارورة وقتها،
    يحاولُ إنقاذَ أهله، قرّبها ويده ترتجف قليلاً من ألمِ الذكرى، ضغطَ وشدّ على القارورة وهو يتنهّد ثمّ أخذَ يشرب محاولاً
    إطفاءَ نار الغضب في داخله.
    كيفَ لفريد أن يكونَ جهاد.. ؟
    ويبقى السؤال الأكبرُ في داخله: لماذا لم يخبرني؟ ما السبب خلف هذا ؟

    كانت مها تراقبُ عن بعد بقلق وهي تفتحُ هاتفها كل ثانية تتأكّد من وصول رسالة من أبيها تخصّ الوضع هنا،
    أرسلت لاعتماد رسالة تخبرها فيها عن مكانها بيدَ أنّ اعتماد تلهو مع أماني في مكانٍ ما..

    رفعَ سامر رأسه بسرعة حينما شعرَ أنّ هناكَ من يراقبه، تلفّت بخوف يصحبه حذر، يمنةً ويسرة تحت أنظار عمر.
    قال عمر بتعجّب: ما بك يا سامر.. ؟
    نهَضَ سامر وهو يضعُ القارورة أرضًا قائلاً بخفوت وعينه تبحث في الأرجاء: شعرتُ أنّ هناك من ينظر إلي.
    تلفّت عمر حوله: ماذا تعني؟ الجميع ينظر لنا بشكل عادي..
    خاف سامر قليلاً: يجب أن أبحث عن الأستاذ فريد ..
    -تقصد جهاد.
    أومأ نفيًا: حتى يعترف لي بنفسه .. لابُدّ وأنّ ثمّة سبب يحولُ بيننا..
    حكّ عمر مؤخّرةَ رأسهِ وقال بجديّة: حسنًا.. فريد .. فــريـد .. تريد أنْ تجعل الأمر معقّدًا كعادتك.
    قال سامر لرائد و جواد وحسام ومها: سنذهب أنا وعمر للبحث عن الأستاذ فريد.. عودوا لمنازلكم..
    غضب رائد وقال بانزعاج واضح: ولماذا لا يعود عمر لمنزله؟
    حوّط بطنه بذراعيه وزمّ شفتيه: لن أعود.
    ردَّ عليـه سامر: عمر لن يعود حتى لو أصررتُ عليه، سيظلّ يتبعني خلسةً.
    ابتسم عمر بانتصار: وأخيرًا صارت لديّ صفة حميدة يا شباب.
    صاح رائد: أيّة حميدة أية صفة .. ؟ سنأتي ولو كان على رأس حميدة..
    انزعج عمر: هل تعني أنني حميدة..؟
    -لم أقل ذلك..
    -ماذا عنيتَ إًّذًا..؟
    صاحَ حسام بهم موبِّخًا: تبًّا لكم ولصفاتكم معكم.. أليس الأستاذ في وضع حرج؟
    سكتوا بينما قال سامر بجديّة وهو يضغطُ بقدمه على الأرض يتأكّد من وجود السّكّين: سأذهب وحدي أفضل.
    غمز عمر للبقيّة: صحيح ، الأفضل أن نذهب معاً ..
    التفت هو وسامر وأشار لهم بيده خلف ظهره أن اذهبوا بالاتجاه المعاكس
    قال رائد بتمثيل: يا إلهي نريد الذهاب معكما.

    كشّرت مها بعد سماعها جملة رائد الواضحة والجليّة لأذهانهم أنّها تمثيل فاشل.

    أغمضَ جواد عينيه وقال بحسرة: لقد كشفنا كشفًا مبينًا.
    ضحكَ عمر بصوت مرتفع لم يستطع السكوت بينما أشار سامر لهم رافعًا يده اليمنى دون أن يلتفت
    يبدو أنّه لا مفرّ من ذهابهم معه..

    دخَلَ سامر إحدى البوّابات الكبيرة وفي المقابل فعلَ البقيّة ذلك مع البوّابة الأخرى في الجانب البعيد،
    يرون أنّ مجموعتين أفضل من واحدة..
    واستقرّت مها على الكرسيّ في المنتصف بين البَوّابتيـن تراقب المستجدّات..
    معها هاتفها وتعرف رقمَ هاتف عمر وسامر ..

    كانت عينا سامر تبحثان بحرص وكذا عمر ..
    قال سامر بعدَ فترة وجيزة: عمر .. لو كنتَ مكان الأستاذ فريد أين ستختبِىء؟
    أجابه عمر بعد برهة كذلك: لا أظنّ المشكلة في تفكير الأستــاذ بل المشكلة أينَ سيبحث ذلكما الشخصان عنه؟
    تابع بقوله: فكّر كأنّكَ واحدٌ منهم، أين سيخمّنوا موقعَ الأستاذ ؟
    -أليس المهم أن نجد الأستاذ أوّلاً ؟
    -بلى، لكن الأهمّ منه هو إيجاد فردي العصابة كما قلت ..
    شرحَ عمر موقفه: ماذا لو وجدْنا الأستاذ وقبضوا علينا دفعةً واحدةً؟
    -تعني أننا سنراقب فقط؟
    -ربما.
    شدّ سامر قبضته: لا أريد الاكتفاء بالمراقبة.
    ربّتَ على كتف عمر: حين نجد الأستاذ لتقم أنتَ بالمراقبة وتخبر مها..

    نظرَ عمر حولَه ، المكان مكتظ بالناس والأطفال ومفعم بالحياة!
    صرخاتهم من فوق الألعاب في أعلى السماء، وضحكاتهم خلفه وحركتهم أمامه ..
    المكان مزدحم .. لايظنّ أنّ الأستاذ قد يختار مثل هذا المكان ..
    لأنّه إن كانَ جهاد فعلاً .. وكما ادّعى رائد بأنّه طيّب .. لن يعرّض الآخرين للخطر ..
    هذا لو يعلم أنّه مراقب ..

    شدّ عمر يد سامر وأخذَ بها : تعالَ يا سامر .. لا أظنّ المـكان هذا مكانه..
    أوقفَ سامر عمر وهو يشير إلى إحدى البوابات بعيدًا ..
    التفتَ عمر إليها وقال بتفكير: ربما.
    اتّجَه سامر نحوه راكضًا ولحقه عمر بقلق: سامر ربما ليس مسموحًا لنا أن ندخل .. تعلم أنّ هذا العالم
    لازالَ تحت الصيّانة والألعاب لم ينتهوا منها كلّها بعد .. لن يدخلوا أيّ أحد ..
    قال سامر بجديّة: لن نعلم ما لم نجرّب.
    -لن يدخَلَ العصابة هنا.. أعني صحيح أنّ المكان ملائمٌ لهم لكن كيفَ سيضمنوا وجود الأستاذ فريد..
    -بسيطة.. أي تهديد بسيط سيضمنُ لهم دخولَ فريد لذلك المكان .. لا تنسَ وقاحتهم بالاتّصال..
    ثمّ أردَفَ: لقد سمعتهما بأذني قبل قليل .. أحدهما يحملُ مسدّسًا كاتمًا للصوّت!
    شهق عمر: مستحيل ! كيف استطاعا إدخاله بوجود أجهزة الأمن هنــا ؟
    ازرد سامر ريقه: من يعلم.. إنّهما يُبيّتانِ النيّةَ لقتلِه..

    اقتربا من البوّابة لكن صدف وجود حارسٍ أمامها، ابتسمَ لهم قائلاً: إنّ المكان مغلق يا أولاد.
    سأله سامر بهدوء: نحنُ نبحث عن شقيقي .. إنّه ضائع .. لذلك ربّما دخَلَ هنا.
    -أوه هل هو طفل ؟ لم يمر أيّ أطفال من هنا يا بني.
    -لا ليس طفلاً.. شكرًا لك ..

    أشاحا بوجـهـهما عنه واقتربا يتهامسان، بدأ سامر بقوله: عمر.. عليكَ أن تستدرجه وتلهيه كي أستطيع الدخول،
    أرجوكَ يا عمر .. يجب أن أتأكّد بنفسي ..
    أغمضَ عمر عينيه بانزعاج وحاول ضبط نفسه ثمّ قال: تريد أن تدخل وحدك ..
    أشار بالسبّابة على البوّابة: لن أفعل.
    ثمّ أردف: أنظر .. الأستاذ وحده لن يستطيع فعلها .. حتى لو هدّدوه لن يدخل ..
    سألَ سامر: هل نستطيع الدخول من مكان آخر ؟ البوّابة ليست مهمّة ..
    قطّب عمر حاجبيه: لنجرّب فقط .. سندخلُ العالم المجاور ونبحث عن طريقة توصلنا لهذا المكان المنفيّ ..
    أومأ سامر .. وغادرا باتّجاه العالم المجاور ..

    وصدَقَ حدسُ سامر .. لقد كانَ هناكَ أحدٌ في هذا العالم المنفيّ على قول عمر ..
    لكنّه لم يكن الأستاذ فـريد .. بــل شخصًا آخرَ ..
    يجلِسُ على قمّةِ طائرة قديمة متوقّفة في ومتعلّقة بسلاسلَ كادت أن تموتَ وتنقطع ، فلم يتمّ إصلاحها بعد..
    يضحكُ بقوّة لوحده كالمجنون وهو يغطّي وجهه بكفّه الأيسر ويمسحُ شعره بحماس..
    صاح بأعلى صوتِهِ: تعالَ يا سامـِر .. تـعـال.
    أخرجَ من جيبِهِ سكّينًا صغيرة مطويّة وفتحها وهو ينظر إليها بهيام:
    اليومَ سأتأكّدُ من موتِ الجرو الذي عضّني بعدما أطعمته..


    من جهةِ الثلاثيّ رائد وجواد وحسام .. لم يكُن هنالكَ شيء يذكر ..
    بحثوا باستمرار في نفس المكان ولم يعثروا على شيء ..
    قال جواد بعدما ملّ: لنبحث في عالمٍ آخر .. هذا الأستاذ .. أين اختفى ..
    قال رائد بجديّة: لم نبحث في كل العوالم يا جواد .. بالتأكيد هو في مكان ما هنا ..
    تربّع حسام على الأرض وشغّل الكاميرا وهو يقول باهتمام: ربّما صورتُ شيئًا .. دعونا نرى ..
    ضحكَ رائد: هل تحاول أن تبدو ذكيًّا يا حسام ؟ لسنا في فيلم .. لن تكون آلة التصوير هي البطلة لا تقلق ..
    أنهى جملته رائد .. ليسمع صرخة جواد وهو يشير بسبّابته على الكاميرا: قف هنا يا حسام .. أوقف المشهد..
    أليسَ هذا الأستــاذ ؟
    شهقَ رائد: ماذا !!! تمزح..
    ضحكَ جواد لخداعِهِ رائد وقال: ما بكَ أراكَ قد صدّقتني بسرعة ؟
    ضربَ رائد ظهر جواد بأقوى ما لديه: هذه لكذبك عليّ.. صرت تتمادى في الأيّام الأخيرة ..
    -آآآآه ... لقد بعثرت فقرات عامودي الفقري ..
    -أووه لديك عامود فقري .. لم نكن نعلم ..
    كشّر جواد بوجهه وهو يمسحُ على ظهرهِ بألم: كبرت وخرّفت يا بني .. لا ألومك .. دور الأمير لازال يتعبك.
    صرخَ رائد بقهر: آآه من دور الأمير الفاشل .. لقد كرهته بسببك .. أنا سعيد أنني لم آخذه .. هل ارتاحت نفسكَ الآن؟
    ثمّ أردف بغضب طفيف: كلّ كلمة والأخرى تُعيد علي قصّة الأمير هذه .. سئمت.
    -حتى أنا يا رائد .. حتى أنا!

    جلَسا قربَ حسام المنهمك بالبحث بين المشاهد التي صوّرها ..
    أوقفَ صورةً وكبّرها حتى وصَلَ للشخص المطلوب، قال ببرود: هل هذا هو الأستاذ ؟
    ضربَ رائد الأرضَ قربه بيده بانزعاج: سحقًا .. لقد فازت الكاميرا ..
    ضحكَ جواد: أيّها الأحمق .. دعكَ من الكاميرا .. لنخبر سامر و عمر .. عثرنا على الأستاذ ..
    لقد دخَلَ عالم البـحار ..

    أخرجَ رائد هاتفه واتّصلَ على هاتف عمر: هل عثرتما على الأستاذ يا عمر؟
    عمر بخفوت: لا، ماذا عنكم؟
    رائد ببرود: لو عثرنا عليه فلمَ أسألكَ الآن؟
    -صحيح ..
    -لقد عثرنا عليه.
    شهق عمر: رائد أيّها المخادع.
    ضحكَ رائد وهو يضعُ يدهُ على معدته: آآه أنتم عبارة عن كتلة أعصاب اليوم.
    -تعرف أنّ الموضوع أكبر من خدعتك، هيّا أخبرني .. هل هو معكم ؟
    -لا، لكننا نعرف أينَ هو .. لدى حسام صورة ظهرَ فيها الأستاذ من بعيد .. لقد دخلَ إلى عالم البحار ..

    أغلقَ عمر الهاتف بوجه رائد والتفتَ لسامر قائلاً: لقد دخَلَ عالمَ البحار .
    تفاجأ سامر: هل قلتَ بحار ؟ هل يوجد مثل هذا العالم هنــا ؟
    -أجل.
    -لم أكن أعلم ..
    سكتَ عمر ينتظرُ من سامر المتابعة فقال الآخر: إنّ جهاد يحب البحر كثيرًا ..
    همَسَ بضياع: لقد كنتُ أفكّرُ به كـفريـد ..
    -إذًا ماذا تنتظر ... لندخل ..

    اتّجها بسرعة إلى عــالم البــحـــار ..
    وكان المدخلُ عبارة عن مجسّمٍ شبه حقيقيّ لسفينة كبيرة .. ومقطورة تذاكر ومكانٍ صغير لبيع القهوة
    والمشروبات الساخنة على هيئة متجر قراصنة ..
    قصّ كل من سامر وعمر تذاكرًا للدخول .. وأخذا قاربًا صغيرًا لهما ..
    يتحرّكُ فوقَ ممرّ مائيّ ملتوٍ .. ويتعرّضان فيهِ لعدّة موجات من الماء .. تُبلّلُ ثيابهما ..

    استغرقَ الممرّ دقيقتان من الإبحار .. حتى وصلا لليابسة .. وكان باستقبالهما ..
    بعضُ المحلّات التجاريّة للملابس..
    قال عمر بانزعاج بعدَ أن ابتلّ قميصه: لن تخدعوني .. لن أشتري قميصًا ..
    يضعون محلّ ملابس بعدَ تعرّضنا للموج.. يا له من ذكاء!
    قال سامر مشيرًا: أنظر هنالكَ غوّاصة ..
    ابتلعَ عمر ريقه: سامر .. أنا لا أحبّ المخاطرات .. أرجوك .. لنترك الغوّاصة..
    -عمر .. يجبُ أن نتأكّد ..
    -تأكّد وحدك .. سأنتظرُكَ خارجًا .. سأشعرُ بالاختناق إن دخلتُ هذه الغوّاصة ..
    -حسنًا سنتركها .. لننتظر خروجَ النّاس منها .. ربّما كانَ فيها ..
    -بالله ما مزاجُ الأستاذ فريد وهو يتجوّل بين الألعاب أحدهم يحاول قتله؟
    -مثل مزاجك الآن.
    .
    .
    .

    [ في المقــهى القريــب – عــند أمــجــد ]

    لقد جرّب أمجد المشروبات الساخنة كلها في هذه الساعة، كلّما أنهى مشروبًا تناولَ كوبًا آخرَ غيره،
    يخشى أن يخبره النادل أن يغادر المكان ما دامَ لن يطلب شيئًا، وهذا مكانُ الاتفاق، ومكانُ المهمّة الأصلي..

    مقهىً متواضع .. لن يخمّن اللصوص أنّه سيكون مكانَ تسلـيـم الشـريحة لأصحابها ..
    في حين أنّ كبشَ الـفـداء فـريـد الذي يتبعونه على الـدوام قـد يلقـى حـتفـه والنهاية أن لا شيء معه ..
    فهو خالي اليدين تقريبًا ..

    نَظَرَ للساعىة المثبّتة على معصمه مرارًا .. لقد حانَ وقتُ اللقاء ..
    تلفّتَ في المكان .. فإذا برجلين قادميـن نحوه .. يرتدي أحدهمـا بدلةً رسميّة سوداء ..
    والآخرُ بدلةً عاديّة غير رسميّة درءًا للشبهات ..

    رحّبوا بأمجد الذي نهضَ لهم باحترام و كذلك هم فـعـلوا ..
    صافحوه وأشارَ لهم أمجدُ بالجلوس،
    ثمّ رفعَ يده ينادي النادلَ القريبَ منه بإحضار كوبين من القهوة السوداء للضيفين..
    الذي تظاهرا بأنّهما يعرضان على أمجد وظيفةً ما وبعضَ الأوراقِ في جعبتهما ..
    وقد كان المشهدُ هذا هو كلمة الـسرّ بينهم لتأكيد أنّهم من أفـراد السـلطات ..

    ابتسمَ أمجد بارتباك عندما رأى حاسوب أحد الرجلين يُفتَح أمامه كي يعرضا عليهِ مادّة الوظيفة التي يناقشانها معه،
    ويخبره فجأة أنّ ثمّة عطل يعانيه الحاسوب.. منع عليها عرضَ تقديم المادّة دون سابق إنذار ..
    وكان هذا الإنذار حقيقةً!

    ردّ عليه أمجد بأنّ هذه المشاكل عاديّة تعاني منها أغلب الحواسيب .. ولديه الحلّ ..
    اخترعا أحاديث من جعبتهما ليماطلا بسبب وجود النادل قربهما يضعُ الأكوابَ على الطاولـة ..
    شكَرَ أمجـد النادلَ وهو يخرجُ الشريحة بسرعة ويدخلها في الحاسوب قائلاً:
    هذا برنامج معالج أحمله دومًا أينما ذهبت سينفعكَ بالتأكيد ..
    ابتسمَ الرجلين وشكرا أمجد كثيرًا ..

    كانَ مشهدًا طبيعيًّا .. حرصوا أن يبدو كذلك .. خاصّة أنهم في مكانٍ عام وأمامَ الجـميـع كي يثبتوا
    لأنّهما استمرّا بالتحاورِ والنقاشِ حولَ وظيفة أمجد المستقبليّة وعدم التحاقه بقسم
    هندسة الحواسيب ما دامَ بهذا الذكاء ..

    أنهـى أمجد حديثه معـهـما بتأكيدِ ما قاله والدهما حولَ عدم فضح السيّد سـهيـل جد
    الأستاذ فـريد صاحب الشريحة وكبش الفداء!
    وانزاحَ بعضُ همّ أمجد بعدها .. وبقيَ همُّ آخرُ ..

    .
    .
    .

    اخر تعديل كان بواسطة » ~پورنيما~ في يوم » 08-09-2018 عند الساعة » 13:21 السبب: تكرار

  12. #811

    [ فــي مــنــزل السـيّد جــاســـر ]

    كـسّرَ زعيمُ العصابة الأواني الفخارية الموضوعة للزينة أعلى الرفوفِ قربه بعدَ سكوتِ
    الرّقيبِ جاسر وعدم استجابته لأمرِه ..
    نظرَ خالد بحسرة: " راحت صحونُ أمينة المسكينة "
    أمّا فاتن كانت ترتجف ولم تكن في وضع جيّد للتركيز في الواقع الحالـي ..

    أغمضَ الرّقيب عينيه ثمّ فتحهما بعدَ قولهِ: حسنًا.
    التفتَ الزعيم وهو جاحظُ العينين نحو الرّقيب واقتربَ منه: ماذا قلت ؟
    -قلتُ سأعطيكَ الشريحةَ لكن لديّ شرط .
    شقّت ابتسامة بشعة وجه الزعيم الذي انفجرَ ضاحكًا: أنتَ مميّز حقًّا أيها الرقيب..
    نظرَ بحدّة له وقال وهو يشير إلـيهم: لستَ في وضعٍ يسمح لك بوضع الشروط.. لا تنـسى هذا ..
    ردّ عليه الرقيب بجديّة: أنا أدعوها مفاوضة أكثر من كونها وضعًا لشروط ..
    صرَخَ بوجهه: لا أتفاوض معكَ.. ستعطيني الشريحة رغمًا عن أنفك..
    -لا أحدَ هنا يعلم عن مكانها سواي... لذا.. إذا أعطيتُكَ إيّاها ستأخذها دونَ أن تمسَّ شعرةً من أبنائي ..
    رفعَ الزعيم أحد حاجبيه بينما تابعَ الرّقيب: ولن تمسَّ شعرةً من فـريـد!
    قـال الزعيمُ بسخط: لا يهمني مفاوضتك... سنفتِّشُ عن شريحتنا بنفسنا.. وسنقتلكَ شرّ قتلة ..
    ابتسمَ الرّقيب وباستسلام قال: لكَ ذلك.. ابحث عنها بنفسك..
    غضِبَ الزعيمُ من نبرةِ الثقة في صوتِ الرّقيب، وفوجِىء باتّصالٍ ما ..
    رفعَ هاتِفَه ليسمعَ صوتَ أحد مساعديـهِ يقول: أيّها الزعيـم هناكَ تحرّكُ كبير من رجال الشرطة حولَ الشارع..
    أنهى الزعـيمُ الاتصال ورفعَ سلاحَهُ مصوّبًا إيّاه على خالد الذي شعَرَ أنّها نهايتُه، ولكن فليكُن ..
    ليكن هو الضحيّة هنا .. لا شقيقته ولا أبوه ..
    صرخَ الزّعيمُ في وجوههم: سأعدُّ حتى الثلاثة، إن لم تخبرني أينَ الشريحة سيموتُ ابنُكَ أمامك ..
    صرخت فاتن بعدَ سماعها الجملة بـهــلـــع .. وشرَعَ الـزعـيمُ بالعدِّ .. حتى الثلاثة ..
    والرّقيبُ ملتزمٌ الصَّمتَ .. فكل ما يحدث الآن هو غلطتهُ وحده .. لماذا لمْ يفكّر في حمايةِ عائلتِه؟
    ركّزَ على إيصالِ الشريحة .. وعلى حمـاية فـريد وأمجد .. ونسي نفسه وأسرتَه ..
    لقد غـفَلَ عن جزءٍ مهـم ..
    هو من أصرَّ على فتحِ ملفّ لفريـد وقضيتهِ حتى وصلَ للشريحة ..
    هو السبب ولا أحد غيره ..

    لم يستطع الزعيم الحفاظَ على صبره .. بعدَ انتظارهِ عدّة ثوانِ فقط ..
    أنهى العدَّ وأطلـقَ النّارَ على خـالـد .. الذي كانَ محظوظًا جدًّا فقد جاءتِ الطلقةُ في ذراعِهِ اليُمنى ..
    ليرتمي بالأرضِ متأوِّهًا يتلوّىَ .. يشدُّ بيدهِ اليُسرىَ على الذراعِ اليُمنى ويتقلّب على جمرٍ ..
    عضَّ شفتَه السفلى بقوّة حتى تشقّقَ جزءُ منها .. ودخلت فاتن في حـالة هيستيريا وهي ترى الدماء
    تُلوِّنُ قميصَ خـالد .. أمامَ عينيها ..
    بينما اكتفى الرّقيب بوقوفه مذهولاً مبهوتًا ومشـدوهـًا ..
    هل كان لا يتوقع إطلاق هذا الأحمق النار عليهم ؟
    صرَخَ بقوّة وهو ينحني لخالد: خـالد!!
    صاحَ الآخرُ: لقد أخطأتُ التصويب .. "أشار بالسبّابة" كان من المفترض أن تدخلَ قلبه ..
    هدّد بأصابعِه نحوَ خالد بتوتر واضح: لو أعطيتني الشريحة ما حدث هذا ..
    خافَ بقيّة الأفراد من توتّر زعيمهم الواضح وربطوهُ بسرعة بالاتّصال قبلَ برهة، فقد تغيّرَ سكونه
    إلى ضجيج ..
    حاولَ الرّقيب وهو يتجاهلُ تقلّب ابنِهِ قربه رغمًا عنه أن يتفاوضَ مجددًا، يودُّ أن ينجو جميعًا ..
    أو فـاتن وخـالد على أقل تقديـر ..
    نهَضَ وهو يقول: سأعطيكَ إيّاها إن أطلقتَ سراح أولادي ..
    مدّ الزّعيم يده اليسرى المرتجفة وهو يقول بجنون: أعطني إيّاها وإلّا رحتَ بعدَه..
    تقدّمَ الرّقيبُ أمامَ أولادِهِ وقال بجديّة مجددًا محاولاً استغلاَل توتّر الرّجل أمامه: سأخبِرُكَ بعدَ أن تأمرَ رجالَكَ
    أن يُبعدوا أسلحتهم عنّا .. فليخفضوها ..
    حرّكَ الزّعيمُ يده اليسرى بالعرضِ بسرعة استجابةً له: أخفضوها..
    ابتلعَ الرّقيب ريقهُ ودقّقَ النظرَ في عيني الرّجل، قـال بـجديّة وهو يحرّكُ سبّابته اليمنى بتحذير:
    لن تُطْلِقوا النّار عليـنـا..
    اقتربَ الزعيمُ من الرّقيب بجنون وشدّ ياقته بيده اليسرى بغضب عارمٍ: قلتُ لكَ أعطني إيّاها..
    نظرَ له الرّقيبُ جاسر ثمّ قـال بعدَ برهة: إنّها مغروسة في حافظة صغيرة داخلَ أصيص النبتة الكبيرةِ خلفك.
    توسّعت عيناه وانطلقَ راكضًا نحوَ النبتة التي أخبرهُ عنها.. حفرَ في الأصيصِ على عجالةٍ وعثَرَ عليها كما وصَفَها
    الرّقيبُ تمامًا ..
    فالشريحة محميّة بحافظة صغـيرة ..
    ابتسمَ بسعادة غامرة وذهول وهو يرى حُلمه الذي تعبَ من مطاردتِهِ مذ كانَ تابعًا لسُهيـل،
    كم سنةً مضت وهو يبحثُ عنه .. ويطاردُه .. لقد نسيَ الآلامَ كلّها بلحظة ..
    أمّا الآن فقد نجى وعليهِ الخروجُ من المكان قبلَ مداهمةِ الشّرطة ..
    لكن عليهِ أن يقتلهم أوّلاً فهُم شهود ..
    التفتَ لـلرّقيب الذي كان يقف في مقدّمة أبنائهِ لحمايتهم ..
    ويحدِّقُ فيهِ بغضب .. لقد علمَ أنّ هذا الرّجل لا عهدَ معه ولا ميثاق ..
    غدّار!
    كادَ يرفعُ سلاحه لولا صوتُ سيّارات الشرطة القريب، التفتَ لأتباعه بتوتر وبصوت مرتفع قال: أخلوا المكانَ فورًا!
    ركضَوا باتّجاهِ إحدى النوافذِ ليخرجوا منها، وخرجَ بعضهم من البابِ فسيّارتهم هناك و كم كانَ من الغباءِ ذلك..
    فقد وصلت سيّاراتُ رجالِ الشـرطة في الوقتِ المناسب تمامًا ..
    واستطاعوا محاصرتهم والقبضَ عليهم ومداهمةَ المـنزل .. بأسلحتهم ..

    دخَل مؤيّد وفـراس للمنزل وهم يصوّبون أسلحتهم أمامهم وينادونَ على اسمِ الرّقيب..
    بينما اتّجهَ عامر ومجموعة من رجال الشرطة خلــفَ المنـزلِ للّحاقِ بالهاربيـن ..

    اندفَعَ مؤيّد نحوَ الرّقيب الذي كانَ يهزُّ ابنه خالد ويصفعُ وجهه كي لا يغفى ..
    -خالد .. خالد.. بُني .. هل تسمعني ؟
    اقتربَ مؤيّد منهم وخافَ وهو يرى دماءَ خالد حولَه، صرخَ بقوّة للرجال من خلفه: اتّصلوا بالإسعاف.
    شدّ قبضته بقوّة وهو يقول: تبًّا .. لم أحسب حسابَ الإسعاف ..
    ركَض فراس نحوَ الأعلى وهو يحمي ظهرَهُ بالالتصاقِ بجدار السلالم: اتبعوني ..
    تبعه بعض الرجالِ وانتشـروا في الـمنزل للبحثِ عن أي رجل مختبىء .. أو محتمي هنا ..

    صرَخَ الرّقيبُ بوجه فاتن: أحضري لي قطعةَ قماشٍ بسرعة..
    نهضت فاتن كالملسوعة دون أن تشعر وتعثّرت مرارًا
    وهي تتّجه نحوَ المطبخِ لتبحث عن أي قطعة قماش قد تجدها، لكنها ما عـثَرت على قطعة واحدة!
    تساءلت أين تضع أمّي المناشف ؟ كلّ يوم تعلّقها في كل زوايا المطبخ ، لماذا لم أعد أراها اليوم ؟!
    خرجت من المطبخ عائدةً تتّجه نحوَ الطّاولة في غرفةِ المعيشة لقد نسيت المفرش الكبيرَ عليها ..

    سحبت المفرشَ من الطاولة وناولتهُ لوالدها الذي خطفَه منها بخفّة وجثت على ركبتيها لتلتقِطَ أنفاسها..
    كانَ الرّقيبُ ينادي خالد ويحرّكَه ويصفعه كي يمنعه من النّوم، مزَّقَ المفرشَ إلى نصفينِ وأخذَ
    يضغَطُ على ذراعِ خالد مكان الطلقِ الناريّ بقوّة كي يتخثّرَ الدّمُ في محاولةٍ لإبطاءِ النزيفِ وإيقافِهِ..
    شعَرَ بالضياعِ والخوفِ على ابنِهِ .. ليتَ الطلقَ الناري جاءَ في ذراعِهِ هو بدلاً من خـالد ..
    ليتهُ كانَ في قلبِهِ ..
    وما تنفعُ ليتَ بعدَ فواتِ الأوانِ .. ؟

    جبينُهُ يتصبّبُ عرقًا، والتوتُّرُ بلغَ منه مبلغه ، لو كانَ المصابُ ليسَ خالد ربّما كانَ ثباتُهُ أكبرَ،
    لكنّ المصاب هنا خـالـد!

    صاحَ مؤيّد على رجلٍ قربه: إذهب وأحضر بعضَ الثلج من المطبخ بسرعة..
    ركَضَ الرّجلُ بسرعة يبحثُ عن مكانِ المطبخِ،
    ورفعَ الرّقيبُ عينهُ باتّجاهِ مؤيّد ويدهُ لاتزالُ تضغطُ على مكانِ الجرح..
    فهمَ مؤيّد نظرات الرّقيب فقال موضِّحًا: لا يُمكن أنّكَ نسيتَ؟ الثلجَ يساعدُ على إغلاقِ الشرايينِ المُتَضرِّرَة..
    تنهّد الرّقيب محاولاً استجماعَ شجاعتِهِ: وهل بقي معي عقل يا مؤيّد؟
    قامَ بطيّ القماشِ أكثرَ من مرّة ثمّ لفِّ ذراعِ خالد، نظرَ في المكانِ حولَه، همَسَ: أريدُ قطعة صلبة لتثبيتِ يده.
    ناولَه مؤيّد بسرعة جهاز التحكّم بالتلفاز، حدّقَ الرقيب طويلاً: ألم تجد غيره؟
    ارتبكَ مؤيّد: الإسعاف قريبه، لا تضيّع الوقت.
    علت ابتسامة خفيفة وجهَ الرّقيب وهو يقول لابنه بصوت منخفض: أنظر حشرنا جهازكَ المفضّل معكَ.
    ربطَ الرّقيب جهاز "التحكّم عن بعد" بذراعِ خالد ورفعها أعلى من مستوى القلب لتقليل تدفّق الدم لها.
    همَسَت فاتن وهي تنظر لشقيقها الذي يتنفّسُ ببطء: هل سيكونُ بخـير أبي؟
    ردّ عليها مؤيّد بعدَ أن طالت إجابةُ الرّقيب لـسرحَانــِهِ بخـالد: لا تقلقي سيكون بخـير،
    أدّى والدُكِ الإسعافات الأوّليّة بشكل جيّد ..
    التفتَ الملازم مؤيّد للشرطي الذي أحضَر الثلجَ عن شمالِه،
    أخذَ الثلجَ ووضعه في قلبِ قطعةِ القماش الأخرى التي مزّقها الرّقيب،
    ثمّ ربَطَهـا ووضعها على جرحِ خـالـد..

    .
    .
    .

    [ مــشغــل الخـــيـــاطـــة ]

    دخَلَت السيّدة إيمان والدةُ راجح متجرَ الخياطةِ تحملُ كيسًا كبيرًا وابتسامة تعلو مُحيّاها الجمـيل،
    كان المكانُ يعجُّ بأصوات المكائن، وضحكات بعضِ الزبائن، ورائحةِ الأقمشِةِ العريقةِ تتدلّى من أعلى الطاولاتِ.
    رحّبَ بها زميلاتُها بحرارة بكلمات وعبارات مثل " افتقدناكِ " و " اشتقنا لمكانك بيننا " ..
    واكتفى آخرون بالنظرِ من بعيد بحسرة..
    اقتربت خطوات مديرة المتجر ورئيسة المشغل من السيّدة إيمان، صافحتها وحيّتها.
    سلّمت لـها إيمان الكيسَ وأخبرَتها أنّه الفستان الذي كانت تعملُ عليــه لإحدى الزبائن، واعتذرت لتأخّرِها.

    قالت إيمان بنبرة تظاهرت فيها بالثقة وبصوتٍ تعمّدت أن ترفعه: لم تعجبني نتيجة الفستان الأوّل لذلك تخلّيتُ عنه،
    لا يستحقُّ أن يكونَ ضمنَ معرضِ الثياب الخاصّ بي ..
    استغربت المديرة فهي لا تعلم شيئًا عن الفستان الأوّل: أي فستان أوّل يا إيمان ؟
    ابتسمت إيمان: فستانٌ لا يستحقُّ أن يُذكَرَ حاليًّا، لم يَعُد يُهمُّني .. لقد كانَ مجرّد تجربة فاشلة.
    وضعت المديرة الكيس أرضًا وأخرجت الفستان ببطء منه ورفعته عاليًا لتفتحَ فمها مذهولة: ما هذا ؟
    تجمّع بعض من زميلات إيمان حولَ الفستان يرمقنه بنظراتهم التي تضخُّ بالإعجاب،
    وكم أرضى هذا قلبَ إيمان المكسور.. وجبَرَ بعضًا منه..
    قالت المديرة بعدَ طول نَظر: أيّ تحفة هذه يا إيمان .. ؟ كم أتمنى لو كنتُ زبونتكِ .. لقد أبدعتِ عزيزتي ..
    لا تعلمين سعادتي بوجودِكِ بيننا بالمتجر ..
    اكتفت إيمان بابتسامة صغيرة، وعيونٌ حاسدة ناقمة وساخطة تراقبها من بـعـيـد
    سألتها رئيستُها قائلة: أينَ فستانُكِ الأوّلُ يا إيمان إذًا .. ؟
    شعرت إيمان بتلوّن إحدى زميلاتِها، واقترابها منها شيئًا فشيئًا ..
    كانت قد قرّرت في نفسِها أنّها لن تفضَحَ تلكَ المرأة التي تقف خلفها الآن، ستترفّعُ عن هذه الدناءة،
    هي أقوى من أن تنتقمَ بفضحها حتى لو كانَ الحقُّ معها .. لقد قررت أن تتنازَلَ عنه ..
    وحسبها الفستان الجديد الذي ما كان سيظهر لولا اختفاء الفستان الأوّل ..

    فقد اعتادت على المشاكل والتعب والمرض ، وعرفت تمام المعرفة أنّ في كل محنة منحة،
    وفي كلّ حزنٍ فرحًا مختزلاً ..

    مرضها وتعبها جعلها تتعرّف على سامر ..
    مشاكل راجح أيضًا قادته للتعرّف على سامر .. قريبه ..
    من كان ليظن هذا ؟
    في النهاية ماذا استفادت تلكَ من سرقة الفستان ؟ حتى لو أثنى عليها الجميع.. شيء ما بداخلها سيظلُّ ناقصًا،
    فهو نصرٌ غير مستحق لها في معركة لم تخضها حتى .. و لم تذق فيها نشوة الانتصار ..
    تركت السيّدة إيمان شعورَ الحسرةِ والنّدَمِ لـهـا .. ليَعِشْ ضميرُكِ في دوّامة من الألم .. إن كانَ حيًّا ..!

    ابتسمت إيمان بسعادة: دعكِ من الفستان الأوّل، أريـدُ أن أحادثكِ بأمر ما .
    استغربت المديرة: خيرًا يا إيمان.
    ارتبـكـت إيمان لكنّها قالت: خيرًا يا عزيزتي .. أتمنى أن نذهبَ على انفراد.
    أشاحت إيمان بوجهها تجاه تلكَ المتوترة،
    أرادت أن تقدّم ورقة استقالة لكن بما أنّ راجح لم يكتب شيئًا عدا [استقالة] فضّلت أنها ستقولُ لها وجهًا لوجه،
    فالمديرة ليست غريبة عنها..
    .
    .
    .




    [ فــي مــنــزل الســيّــد ســامــح ]

    فكّ السيّد سامح أزاريرَ قميصه العلويّة ورمى جسده على الأريكة خلفه، فالإحساس بضيق النّفس يراوده بقوّة،
    ارتخَت يدهُ وسقطَ الهاتفُ على وسادةٍ قربه، وحرّكَ رأسه برفض غير مصدّق،
    لقد شاهدَ التسجيل 4 مرّات حتى الآن، لم يعرف بسّام لكنّ وجه الآخر هو بلا ريب وجه أستاذ سامر..
    لكن كيف ..
    جلَسَت سميّة قربه بخوف تسأله ماذا حدث؟
    أغمَضَ السيّد سامح عينيه ودفنَ وجهه بكفّيه قائلاً: لا أعرف يا سميّة .. ولا أدري هل أفرح أم أحزن ؟
    رفعَ رأسه وحرَكَ يديه عبثًا بالهواء: شعوري لا أدري ما شعوري ..
    قالت بقلق: ما الذي حدث يا سامح ؟
    نهَضَ من مكانه متوجِّهًا نحوَ الباب ومتجاهلاً أسئلة سميّة، أخذَ حذاءَهُ الموضوعَ على أرففِ الأحذية عند الباب،
    رماه بقوّة على الأرضِ وسارعَ بارتداءه..

    لحقت به لتمسك ذراعه: سامح .. لن تغادر المكان حتى تخبرني مابك ؟ ما الذي يحدث؟
    إزدرَدَ ريقه بصعوبة ونفَسُهُ يعلو: جهاد حيّ يا سميّة .. حيّ!
    فرحت سميّة: كـيف .. أعني .. هل حقًا هو حيّ ؟
    أردفت سريعًا: من أخبرك؟ كيف علمت ؟
    انحنى سامح ليعدّل فردة الحذاء الأولى قائلاً: اتّصلَ بي زياد وتوصّل بالبحثِ عن حقيقة موتِهِ، الفتى كان مفقودًا لم يمُت.
    شهقت سميّة واضعةً يدها على فمها، بينما تابعَ سامح: منذ أن أتى سامر كان يخبرنا أنّ موتَ جهاد لم يتأكّد بعد.
    ارتدى الفردة الثانية وأمسكَ مقبض الباب: أنا ذاهبٌ لمنزل المدعو فـريـد..
    خرجت سميّة خلفه وهي تسأله: لحظة .. بالهونِ عليكَ يا سامح .. ما علاقة الأستاذ فريد.. ؟
    قال وهو يخرج مفتاح السيّارة من جيبه: إنّه جهاد.

    لم تفهم سميّة شيئًا، ظنّت أنّ سامح يعاني من شيء .. ما باله متخبّطٌ هكذا ؟
    ودّعته بعينها وهو يحرّكُ سيّارتَه، وعادت لأنّها تريدُ الاتّصال بزياد، فما علاقة زياد بجهاد الآن؟
    ألم يذهب كي يدرس الطب؟ ما الذي يفعله هناك؟
    .
    .
    .


  13. #812

    [ أمَام مــنــزل الأســـتـــاذ فــريـــد ]

    ركَنَ السيّد سامح سيّارتَهُ ووقفَ أمامَ بابِ المنزلِ بحيرة، يفكّر كيفَ سيفاجىء فريد أو جهاد ويخبره أنّه جهاد،
    وأنّه فــاقــدٌ للذاكرة .. وأنّه عمّه الوحــيــد ؟
    كيف سيخبره بكل تلك الــحقـــائق ؟
    كم كانَ قريبًا منه ولم يشعر ...
    زفَرَ وهو يقول " آآه " بوجَع ..
    بعدَ أن جاءَ سامر بباله ، فهوَ مُعلّمه في النهاية ، إن كانَ شعوره عبارة عن مجموعة من المشاعر الملخبطة،
    فكيفَ بشعور سامر ؟
    بل شعور جهاد وهو يدرّس شقيقه ولا يدري .. أنّه شقيقه ؟

    لـكــن لحظة !

    وضعَ يده في جيبه وبدأ يتحسّسه، قال: تبًّا .. نسيتُ الهاتف ..
    يجب أن أخبر زياد ..ربّما مصادفة ، لكنها قويّة ..

    قال بخفوت: على أي أساس يُخرِجُ ابني عمر من المدرسة مدّعِيًا أنّه ابنُ عمّه ؟
    توسّعت عيناه: هل عادت له الذّاكرة ؟

    رفعَ يده ليضغطَ على جرس المنزل ، سيدخـل ويقابل هذا الـفـريد ..

    .
    .
    .

    [ فـي مــشفــى قــريــب ]


    توقَّفَت سيّارةُ الإسعاف أمام البوّابة وتلتها سيّارتي شرطة يدوي صوتُهما عاليًا بنغمتِهم المميّزة،
    أنزلَ المسعفونَ السرير المتحرّك يحملونَ عليه خـالد على مدّ نظرِ النّاس في المكان،
    يركضُ معهم والده الرّقيب جـاسر وشقيقتُه فــاتن وكذا مسعفٌ آخَرُ يحملُ بيده المحلول الوريدي الذي غُرِسَ في
    يد المصاب..

    صوتُ طبيب يصرخْ قربهم " بسرعة إلـى الجـراحـة " وآخرُ يقول " طلق ناري هنا "

    والرّقيب يقلّب بصره في أرجاء المكانِ حولَه .. كأنّهم في خليّة نحل، تعمل بلا استراحة،
    حدّق بوجه خـالد مطوّلاً والكمّام الذي يرتديه قد ضُبِّبَ مرارًا في نفسِ البُقعةِ بفعلِ زفيرِه،
    أشاحَ بعينيه نحو فاتن الشاحب وجهها تركضُ معهم وعينيها على أخيها، تُتَمتم بكلمات لا تصلُ إليه..
    اندفَعَ الملازم مؤيّد من خلفِه راكضًا حتى وصلَ جانبَ الرّقيب: أيّها الرّقيب ماذا سنفعل الآن؟
    أجابه الرقيب: فقط سأدخِلُ خالد لغرفةِ العمليّات وأعودُ معكَ، يجب أن ننطلق نحو فـريـد في المـلاهي..
    أردفَ سائلاً: هل استطعتم الوصول إلى هاتفه ؟
    ردّ عليه مؤيّد بجديّة: لا.
    حدّ الرّقيب عينيه وهو يقول بخفوت: لقد تكلّفتُ بحمايته ووعدته، لن أخلفَ وعدي.
    قال مؤيّد متراجعًا للخلف: إذًا سأسبقك في الدوريّة أيّها الرّقيب.
    هزّ الرقيب جـاسر رأسه إيجابًا وهو يراقب خطوات مؤيّد تبتعد عنه ..
    رفعت فاتن رأسها بغضب قليلاً: أبي!
    استنكرت بقولها: كيف تغادر وخالد بهذه الحـالة ؟
    ابتسمَ الرّقيب: وهل رميت ابني في الشارع يا فاتن؟
    أردف بجديّة: إنّه مع شقيقتّه والأطبّاء ... إنَّهُ في إيدٍ أمينة.
    .
    .
    .

    [ فـــي مــديــــنــة الـــمـــلاهـــي ]

    -عـالـم الـبحــار-

    راقب كل من سامــر وعــمــر الخارجين من الغوّاصة ولم يكن الأستـاذ فـريـد من بيـنهم،
    لذلك توجّها نحوَ اللعبة التالـية وكانت عبـارة عن حبل تربطُ نفسكَ فيهِ ثمّ تقفز من نقطة عالية يُطلق عليها
    " انتـحار "
    تمتم عمر: لن يفعلها الأستاذ فـريـد " التفت لـسامـر وبخوف " هل سيفعلها ؟!
    اكتفى سامر بنظرة باردة تجاهه، هل هو وقتُ النّكت ؟
    قال وهو يضربُ كتفَ عمر برفق: إنّها لعبة يا عمر، لو أرادَ الانتحار فلماذا اليوم ؟
    -لا أدري فهو غامض ولا تتوقّع ردّات فعـلـه.
    مطَ سامر شفتيه وهو يحرّك بصره حوله بحذر وضجر، يراقِبُ المارّة يدخلون من بينِ النوافير المتدفّقة
    من تحتِ الأرضِ نحوَ الأعلى والتي تتراقصُ على الموسيقى بعبث، يمرحونَ حـولـه ويضحكون،
    انقبَضَ قلبه وهو يتخيّل شعور الأستاذ فـريد لو كان حقًّا جهاد ..
    ويرى المشاهـد ذاتها منذ افتراقهما .. كيفَ سيكون؟
    هل عـاشَ بمثل حزني أو أكـثر؟
    الصّورة واضحة له، لن يكونَ حاله أفضل من حـالي، فأنا مع عائلة عمّي.. أقربائي..
    أمّا هو .. وحيــد ..
    تذكّرَ هاتفه الخالي من كلّ شيء .. بلا أرقام .. ولا أسماء..
    وتهديدٌ بالاتّصالات .. هل يعقل ؟
    أينَ مصابي من مصابِك يا جهاد ؟

    أشار عمر لأعلى قائلاً: سامر ما رأيكَ لو نذهب بالقطارِ المائيّ؟
    ردّ عليه سامر بانزعاج: لا، يجب أن نستمر بالبحث.
    -أعلم ولذلك أقترح عليك ركوب القطار المائي، سنستطيعُ رؤيته من الأعـلى لو كان حولنا في عالم البحار.
    -فكرة سديدة، لنسرع.

    تقدّما نحو طابور الانتظار بعد أن قصّا التذاكر لركوب القطار وتفاجَآ بشخصين أمامها يقفان في نفسِ الطابور
    ارتبكَ عمر ثمّ وكّزَ جانبَ سامر الأيسر بذراعه، وبخفوت قـال: هيـه سـامر.
    كان سامر يحدّق بالساعة الكبيرة والطويلة المثبّتة أمام صفّ الـطابور هذا، لقد خسر وقتًا كبيرًا في البحث.
    همَسَ لعمر: اتّصل برائد وجواد، ربّما عثرا على شيء يفيدنا... هل تراه خرج من الملاهي؟
    زفر بحدّة على ضياع الوقت الذي يقوم به الآن!
    لم يكفّ عن الالتفات
    انتبه لهم أحدُ الشّخصين فقال بهدوء: أووه ألستَ سامر؟
    رفعَ سامر أحد حاجبيه باستفهام حتى التفت الشّخص الثاني له قائلاً: إنّه عصام صديقي..
    ابتسم بخبث طفيف: لا يعقل أن تنساه فهو سبب تعارفنا.
    ابتسم سامر يعيدُ إليه الكلام: تشرّفنا يا راجح.
    ضحكَ راجح ضحكة قصيرة واكتفى عصام بابتسامة ثمّ سأل: هل تلعبان القطار ؟
    أومأ عمر: يعني .. لنقل أننا نحاول اللعب.
    لم يفهم عصام أو راجح شيئًا
    بينما قـال سامر بجديّة: نبحثُ عـن الأستاذ فـريـد، إنّه مطارد هـنا.
    عكّر راجح حاجبيه مستغربًا، وكذلك عمر الذي استغربَ إفصاح سامر لراجح بهذه السهولة،
    وهو الذي حاول أن يكونَ متحفظًا قليلاً..
    تابع سامر: لو رأيته .. أخبرني أرجوك..
    حكّ عمر جبهته بأظفرِ سبّابته مرتبكًا، يجول في خاطره سؤال عن ردّة فـعل راجح لو علمَ
    أنّ ابنَ خـالِه الكبير حيّ ، هل سيصرخ منفجرًا ؟
    يا إلهي! عائلته عائلة مفقودي الحـرب الذين يعودون دون موعـد لوطنهم ..
    اكتفى راجح بالنظر لسامر وفسّرها الأخير أنّ السّكوت علامة الرضى..

    فُتِحت البوّابـة وتقدّم الطّابور فجاء دورُ الأربعة، اتّخذوا مقاعدًا متتالية خلفَ بعض،
    في المقدّمة عمر ثمّ سامر ثمّ راجح ويليه عـصام..

    تحرّكَ القطار الذي يخترقُ المياه حوله ويشقّها بقوّة ليبلل ركّابه ثمّ يصعدَ للقمّة المنحنية و المقلوبة ويعود،
    تمسَكَ عمر بخوف وصرخ: ليتني لم أركب .. ليتني لـم آتي هنااا ..
    توتّر سامر من صراخ عمر لكنّه قال بصوت مرتفع:
    لم تقل بأننا سننقلب يا عمر،بالله عليك كيف سنرى الأستاذ ونحن مقلوبون في الأعـلى ؟
    صاحَ عمر عندَ اقترابهم من القمّة أكـثر: لم أكن أعلـــم !!
    حاول سامر أن يتماسك ويركّز في الأماكــن حـولـه، ولم يعـلم أنّ راجح فعلَ الشيء ذاته،
    عيناهما تبحث عن ذلك الـفريــد معًا!
    هتفَ سامر حين اقتربوا للقمة: لن أستشيركَ في أمر يا عمر .. إطلاقًا!

    أنهوا اللعبة بعد أن ابتلّوا تمامًا بالمياه وبدأ عطاس عصام الذي يبدو أنّه أصيبَ بالبرد.
    أخرجَ راجح منديلاً من جيبه ليعطيه عصام لكنّ الأخير أبعده بيده بضجر: إنّه مبلل ما الفائدة؟
    أعاده راجح لجيبه قائلاً بجديّة: سيجف فيما بعد وستحتاجه صدقني.
    -لن أحتاجه.

    تنهّد سامر وهو يعصر قميصه الذي ابتلّ بالماء: لقد كان القطار السريع أفضل بكثير،
    والانحناءة الحلزونيّة كانت معقولة .. لم نرَ شيئًا من هنا!
    التفتَ إليه راجح قائلاً: ربّما لمحتُ شيئًا.
    انتفضَ عمر: أو تقول الحقيقة؟
    حكّ راجح خدّه وبهدوء قال: لا أدري.. هناك أشخاص في العالم المجاور لنا.
    نظر سامر وعمر لبعضهما: لقد كنّا هناك قبل دقائق .. لم يكن هناك أحد.
    هزّ راجح كتفيه وهو يضع يديه في جيبيه: حسنًا .. لقد رأيتهم الآن .
    خافَ عمر أنّ راجح يخدعهم، وأبعد سامر هذه الفكرة فلا مصلحةَ لراجح بالكذب عليهم..

    رنّ هاتف عصام وأخرجه بهلع: يا إلهي نسيت هاتفي.. أرجو أنّه لم يصب بأي عطل!
    مطَ راجح شفتيه: لا تقلق .. إنه يرن.. أجب فقط ..
    أجابَ عصام بانزعاج لأنّ الهاتف لم يلتقط إشارة ، فقد رنّ رنّة واحدة وسكت..
    لذلك أشار لراجح أنّه سيذهب لمكان آخر بحثًا عن إشارة جيّدة وهو يتساءل " كيف رنّ هنا إذًا ؟ "

    انتبه راجح للآخرَين: ماذǿ
    ابتسم عمر: هل ترافقنǿ
    ربّتَ سامر على كتِفِ عمر: لا داعي لأن تدخله بالأمر.
    انزعج عمر قليلاً: أي داعي يا سامر .. أبناء خاله في ورطة ليأتي معنا.
    أومأ سامر نفيًا وهو يتحرّك من أمامهما ويقول مستهزِئًا: لنقلل ضحايا المعركة.

    " ضحايا "
    الكلمة لم تعجب راجح، هل يحاول سامر الجزم بنهاية المعركة قبلَ أن يبدأ بهǿ
    سامر جانبه الآخر .. وشبيهه من العالم الثاني كما زعم .. يعترفُ بضعفه قبل النزال ؟
    كم هذا مثير ..
    من هو عدوّهُ هذه المرّة ..
    ماذا سيختار ؟
    البقاء والتجاهل .. أم التعرّف على خصمِ سامر الجدير بالفوز؟

    سأل راجح بفضول: أريد أن أعرف ما الذي يحصل هنــــا ؟
    أجابَ عمر بارتباك وكأنّه غير مصدّق لسؤال راجح: الأستاذ فريد.
    قطّب راجح حاجبيه أكثر حتى يكمل عمر قائلاً: إنّه شقيق سامر المفقود.

    أغمَضَ عينيه وفتحهما بغيظ وهو يحكم قبضته في جيبه يحاول إفراغ الغضب الذي داهمه الآن!
    ما كانَ ليتوقّع حبكةَ هذه القصّة في عـقلـه ..
    لم يستطع حبس كلمة " كيف " من فمه ..

    سأل عمر وهو يطيل النظر بسامر الذي يبدو جدِّيًّا ممّا جعله يستبعد أن يكونَ الأمر مجرّد " نكتة ": كيفَ هـذا ؟
    قال عمر: إنّها قصّة طويلة يا راجح .. الأستاذ أجرى جراحة تجميليّة لوجهه بسبب حريق في الماضي،
    لذلك لم يستطع أحد التعرّف إليـه ..

    سأل مجددًا: ولماذا لمْ يخبر الأستاذ أهله ؟
    صرخَ بوجههم: هل تهزؤون بي؟! تعتقدون بأنّكم أوقعتم بي بهذه المزحة!

    التفتَ سامر إليه بغضب واتّجه نحوه بعيون حمراء قد تشعّبت فيها أعصابه وبانت،
    هزّ رأسه نافيًا وهو يحرّك يده أمامه ثمّ يجرُّ بها ياقته بنفاد صبر: تحسَبُ أنّ همّنا كلّه في إيقاعك وخداعك يا راجح..
    لستُ مسؤولاً عن إقناعك.. نحنُ لا نكذب!

    أنهى سامر ما أنهاه وراجح يتفحَّصُهُ بنظرات يبحثُ فيها عن عثرات..

    التفتَ سامر مجددًا وهو يصرخ: هيّا يا عمر.

    قال عمر برجاء: نحن نخشى أنّ الأستاذ في خطر، سمعَ سامر أحدهم يحاولُ قتله هنا.

    أخذَ راجح يتنفّس الصعداء ثمّ قال بعد برهة: سآتي معكم.
    اقتربَ عصام منه بعدَ أن أنهى مكالمته: إلى أين؟
    لم يجبه راجح الذي تبعَ أبناء خـالهِ، ومشى دونَه عصام..

    توّجهوا نحوَ ذلك العالم المغلق المجاور، وعادوا نحوَ النقطة التي انتهوا منها قبل دقائق،
    عند الحارس!
    سيضلّلُهُ عصام ويسأله، ليهربَ الثلاثة الآخرون للدّاخل.
    عصام مفتاحُ الأمان هنا، وهي مهمّة سهلة عليه..
    ليمثّل أو ليسأل وليعطنا الحارسُ ظهره كي ننطلق..

    في الجهة المقابلة حيث الأشخاص الثلاثة الذين شاهدهم راجح في الدّاخِل،
    كانَ الأستاذ فـريد محاصرًا من قِبَلِ اثنين من أفراد العصابة يقفون على لعبة كبيرة على شكل طائرة.
    يرفَعُ يديه بحذر واستسلام ظاهر لأنّ أحدهم يهدّده بالسلاح..بعدَ أن تلقّى عدّة ضربات منهما..
    وتلوّن وجهه بالكدمات ..

    ازدرد ريقه وهو يحدّق بهما، قال بعدَ فترة استيعاب: أنتَ نفسُ الشَّخصِ الذي هاجمني في منزلي وحرقه!
    ضحكَ الرجل المقصود بصوت عالٍ: صحيح! إذًا لقد عادت ذاكرتك حقًّا يا جهاد.. يا لكَ من شقيّ..
    أردَفَ ببغض: وهذا سببٌ كافٍ لــنا كي نقتلك.. فأنتَ شاهدٌ على أشياء كثيرة يا عزيزي.
    ابتسمَ فـريد بارتباك: تعيدون نفس الحوارات في كلّ مرّة، هل نسيتَ أنّكَ بقتلي ستخسرُ لا محـالة؟
    قطّب حاجبيه قائلاً: فلا أحدَ يعرِفُ مكان الشريحةِ سواي!
    ضحكَ الرّجل وهو يرفعُ هاتفَهُ قائلاً: لقد انتهى زمن هذه الكذبة سيّد جهاد.. اتّصلَ زعيمنا بعدَ أخذِه
    الشريحةَ من الرّقيب الذي استعنتَ به.. فقد سلّمَ لنا الشريحةَ بعدَ تهديدهِ بأبنائِه..
    رفعَ السّلاحَ باتجاه فريد وهو يقول: الشريحة بحوزتنا.
    أشار برأسهِ إلى زميـلـِه فأخذَ الآخر ُحبالاً وقيّدَ بها ذراعي فريد من خلفِ ظهره بإحكام..
    وهو يحافظُ على وضعية سلاحه في التصويب عليه..
    قالَ بعدَ أن اطمأنَّ بجلوس فريد وإحكام القبضِ عليهِ: الآن، لديكَ فرصة لتعيش.. أخبرنا عن كلمةِ السرّ لفتح الشريحة!
    ابتسم فـريد بسعادة، إذًا لازال لديه فرصة ليعيش حقًّا..
    قال بجديّة: ولمَ لمْ يخبركم زعيمكم الذي أخَذَ الشريحة من الرقيب؟
    انزعجا فقال أحدهما: وهل تظنّ أن الزعيم سيغفل عنه لولا اقتحام رجال الشرطة المكان؟
    قال فريد بداخله: " جيّد .. إذًا الرّقيب بأمان "
    تابعَ وهو يقتربُ من فريد ويلكمه بقبضته على وجهه فيسعل دمًا: أنتَ محظوظ لأنّكَ لم تمت على يدي بعد، أجب فقط.
    تنهّدَ فريد وحدَّقَ بوجهه مجددًا: ماذا إن رفضت؟
    لم يتمالك الرجل نفسه فأخفَضَ جسدَهُ وأخذ يمسكُ مقدّمةَ شعرِ فريد ويشدّها بقوّة وهو يصرخ:
    ليس مسموحًا لكَ الرفض.. ليسَ من خياراتِكَ الرّفضُ .. أتفهم؟
    أغمضَ فريد عينيه من الألم: ومن قال أنَّ عندي خيارات من البداية؟
    نهَضَ ليسدّد له رفسةً في بطنه بقسوة: حرقناك بالبنزين وها قد خرجتَ حيًّا كالقط.. كن شاكرًا لبقائك
    على قيد الحياة هذه المدّة .. إلّا إن أحببتَ أن يعاد هذا السيناريو مجددًا!

    طأطأ فريد رأسَه بحزن، وهل بقائي حيًّا يعودُ فضله لكم؟
    إنني حيُّ قبلَ أن ألقاكم !

    لديه كلمة السر للشريحة المزيّفة التي جهّزَها أمجد خلال وقت قياسي،
    ووضعوها في البيتِ كـفخٍّ في حالة الطوارئ ليستخدموها، على أن يكونَ هو كبشَ الفداءِ في هذه الخطّة،
    ويأخذَ أمجد الشريحة الأصليّة إلـى السلطات، فهو سيبقى ملاحقًا طوال الوقت، وسيعرفونه ويمسكون به
    في أي لحظة، بعكس أمجد .. فهو ليس معروفًا لهم!
    يستطيعُ إعطاءَهم كلمة السرّ فهي ليست شريحة حقيقيّة في النهاية، لكن يخشى أن لو أعطاهم إيّاها
    سيقتلونه فورًا، وهو ينتظر مساعدةً من الرّقيب .. أو السلطات .. أو كلاهما ..
    لذا مـازال يماطلهم .. حتى يجيء بصيصُ الأملِ ..
    و تنقشِعَ عنه روائح اليأس التي تغمرُ المـكانَ قربه..
    يجب أن يتمّ القبضُ على جميعِ أفراد العصابة حتى لا يُهدّدَ مستقبلاً!
    وهذه الخطة ( قـد ) تضمن لـهم ذلك دون ملاحظة العصابة الهدفَ الأساسي لها..

    تنهّدَ بقوّة، هل سيموتُ بعدَ النّضال؟ هو أخبرَهم أنّه لم يكن عنده خيارات من البداية،
    كانَ لديه طريقُ واحدٌ يجب أن يخوضه.. وهو طريق المغامرات ..
    مغامرتُه لم تكن بطعم التشويق .. بل بطعم الإجبار ..
    لقد أجبِرَ على خوضِ هذه الرّحلة و ركوبِ هذا الطريق ..
    بعدَ فقدِ ذاكرتَه ..
    والآنَ بعدَ أن عادت .. عليه أن يواجِهَ قرارَه الذي أجبِرَ على اتّخاذه !

    أخرَجَ الرجل الآخر سكّينًا مطويّةً من جيبهِ، فتحها على طولِها وأخفضَ جسده ليساوي جسدَ فريد،
    قال بانزعاج طفيف: ربّما ستجعلنا نوفِّرُ لكَ الآن عدّة خيارات يا جهاد..
    شدَّ شعرَ جهاد الطويلَ من الخلفِ بمقت وقرّبَ السكّينَ إلى رقبتِهِ وهو يقول بتهديد:
    ما رأيُكَ لو نُخيّرُكَ بينَ الحياةِ والموت ؟ أليست خيارات رهيبة ومصيرية ؟
    ضحكَ بانتصار وهو يرى شحوبَ وجهِ فريد وجحوظ عينيه..
    نهَضَ باستغراب والتفتَ نحوَ الوجهة التي كان ينظُرُ فريـد لـها .. توسّعت عيناه بصدمة ..
    قال لزميـلـه: أنظر من جاءَ إلينا ؟
    التفتَ زميله وقـال بابتسامة واسعـة: إنّه .. نفسُ الشَّخصِ في الصّورةِ عندنـا ..

    أخفَضَ فريد وجهه وطأطأ رأسه بخوف، قال في داخله: " أرجو أن يكونَ خيالاً "
    فما الذي سيدفعه للقدوم هنا تحديدًا في عالمٍ منفيٍّ .. ؟
    يبدو أنني وصلتُ مرحلةً أتخيّلُ فيها سامر أمامي الآن في مكانٍ كهذا..
    ما الذي سيحضره من منزلِهِ إلى هنا ؟
    يبدو أنّ عقلي مشوّش ..

    رفَعَ أحد الرّجُلين رأسَ فريد قائلاً: لمَ أنزلتَه ؟ أليسَ هذا هو شقيقُكَ الذي كنّا نهدّدكَ بصورتِه ؟
    أردفَ قائلاً: لقد عرفنا بعضَ المعلومات عندما سرقنا ذاكرة هاتفِ فتاةٍ صوّرتنا صدفة!
    ركَلَ الرجلُ بطنَ فريد الذي سقطَ متأوّها يحاول جمعَ شتاتِه:
    من المؤسف أننا لم نكن نملك إلّا صورةً قديمةً له وهو صغـير ..
    ابتسم بخبث: لقد خطّطنا البحثَ عنه بما أنّه قريب واستخدامه كورقة رابحة ضدّك ..
    وضعَ يدهُ على عينيه بسعادة وضحك: لقد جاءت الورقة الرابحة بقدميها إليـنا ..
    هزّ الآخرُ يده التي تحملُ المسدس: إنها ثقافة الحظّ يا فريد .. من لا حظّ له لن يعيش ..
    تنفَّسَ فريد الصعداء واكتفى بالنظرات الغاضبة نحوهما، بل ما أغضبه أكثر هو وجود سامر هنا!
    ماذا يفعل ؟

    " أستاذ فـريد "
    كانَ صوتَ عمر بعدَ أن دخلوا واستمرّوا بالبحث في المكان الذي لا يصلح أن يكونَ إلّا مقبرة طائرات،
    يبدو أنّه كانَ عالم طائرات سابق!
    وجدوا الأستاذ فريد محاصرًا على لعبة طائرة كبيرة معلّقة ومقيّدًا..
    رفعوا رؤوسهم شاخصين، لم يستطع سامر النطق من الصّدمة، بل لم يعرف أيًّا ينادي ..
    " الأستاذ فريد " أم " جـهـاد "
    لذلك صرخَ عمر دون شعور مناديًا على الأستاذ ..
    تقدّمَ عمر راكضًا نحوهم لكن راجح أمسكه بقوّة محذّرًا: لا تكن أحمقًا.. أحدهم يحملُ مسدّسًا ..
    نسي عمر أمر المسدّس، بل لماذا هو مندفع .. لا يعرف حتى كيف يقاتل أو يدافع عن نفسِه !


    اخر تعديل كان بواسطة » *طيار الكاندام* في يوم » 18-09-2017 عند الساعة » 19:10

  14. #813

    في الأعلى .. على الطائرة .. قال أحدهما لصاحبه:
    إضربه بقوّة والحقني كي نتخلّصَ من الأعباء قبلَ أن يصعب علينا الأمر ..
    أجابَه: حسنًا..
    -لدينا فريسة جديدة يجب أن نصطادها.
    كادَ فريد ينطقُ بعد تحرّكِ أحد الرجلين أمامه ونزوله للأسفل، لكن ركلة سدّدها الآخرُ ببطنه جعلته ينشغلُ
    بالألمِ عوضًا عن الكلام..
    همَسَ راجح بعدَ أن وجدَ الوضعَ حقيقيًّا وليسوا في فيلم سينمائي:
    عمر لنتعاون على الرجل الذي يمسك المسدس..
    ولنفتح المجال لسامر للركض نحو الأستاذ..

    شدّ عمر على كتفِ سامر: ما بك؟
    ارتجفَ سامر قليلاً: لا شيء ..
    ثمّ أردف بقلّة حيلة: فقط قدمي.. لا تتحرّك ..
    نظرا للأسفل إلى أقدام سامر، هل هي ردّة فعل عكسية غير متوقّعة للموقف ؟
    من يلومه لكن ليس وقتها إطلاقًا !
    لم يتعب راجح بالتفكير، فقط داسَ بكلّ ما لديه من قوّة على قدمِ سامر اليمنى ثمّ اليسرى،
    وكررّ ذلك فشدّه عمر يسحبه للخلف بانزعاج: توقّف يا راجح يكفي.
    ابتسمَ سامر بارتباك وهو يبعد قدمه عن راجح وبهدوء: أدينُ لكَ بواحدة.
    أبعدَ راجح يدي عمر وهو يرسم نفس الابتسامة: أتمنى أن لا تنسى!

    مسحَ سامر وجهه بكفّه اليسرى وهو يحاولُ السيطرة على نفسِه،
    لأنّ صوتَ ركلِ الرجلِ لفريد وتأوّهات الأخير واضحٌ لأسماعهم.

    تطوّع راجح: دعوا الرّجل ذو المسدّس لي.
    خاف عمر لكن راجح قاطعه قبل أن ينطق: أنا مصرّ.
    حاول سامر المشاركة بشيء ينفع فقد أخذ الجانب المتفرّج اليوم: هل تعرف كيفَ تأخذُ سكّينًا من خصمك؟
    أومأ راجح ببرود لأنّ السؤال بدا سخيفًا جدًّا بالنسبة لهما
    تابع سامر في محاولة لتحسين السؤال: المسدّس لن يختلف إلّا في شيء واحد ..
    ربّما أنّه يمكنه الإطلاق عليك من بعيد، أمّا السّكّين سيحتاجُ أن يكونَ قريبًا كي يتأكّد إصابتك..لاتنسَ هذا..
    همَسَ راجح: لا تحتاجُ أن تعلّمَ خبيرًا في قتال الشوارع شيئًا كهذا..
    حدّق سامر براجح مطوّلاً: لو أصابك شيء.. لن تسامحني عمتي إيمان.
    حدّ راجح من عينيه: في أحلامك..

    خاف عمر منهما: " قال خبير قتال شوارع .. قال ! "

    التفتوا جميعًا للرجلين يقتربان منهما .. ويفصل بينهم وبين فريد أمتارٌ عديدة..
    ركَضَ راجح باتّجاه الرجل ذو المسدّس، وعمر وسامر باتّجاه الآخر الذي يحملُ السّكّين،
    كانا خائفين على راجح من السلاح..

    علـى الرّغمِ من أنّ راجح قد تهوّر في قراره لأنّ أحد الأسباب المجنونة هي أنّه يريدُ مواجهةَ
    خصم يحملُ مسدّسًا وكيفَ سيكونُ نزالـه ؟
    توقّف الـخمـسـة في السّاحة الرمليّة حيث يحيطُ بهم مجموعة من الألعاب الخرِبَة والتي انتهت صلاحيّة اللعبِ
    بها مع مجموعة من أعمال الهدم والبناء والحفرِ والأحجار المتفاوت حجمها!

    ابتسمَ الرّجل الذي يحملُ سكّينًا: هذا ليسَ عدلاً .. اثنان ضد واحد..
    لم يستطع عمر الذي يقف خلفَ الرجل من قول شيء، بينما قال سامر الذي يقفُ أمامه بجديّة:
    لو كنتَ عادلاً من البداية ما أشرتَ بسلاحكَ ضد أعزل.
    قال بإعجاب مصطنع: يبدو أنّكَ متحدّث بارع مثل شقيقكَ..
    ابتلعَ سامر ريقه واكتفى بالتحديق
    الوضعُ يثبتُ له أكثرَ أنّ ما يسمّى بفريدٍ اليوم قد كانَ جهادَ بالأمس!
    وأنّهم يعرفون عنهم وليسوا بجاهلين..

    أمّا الرجلُ ذو المسدس فقد صوّبَ سلاحه بتهديد لراجح الذي لم يتغيّر تعبيرُ وجهه على الإطلاق،
    قال الرجل بغرور : يبدو أنّكَ معتادٌ على رؤيةِ الأسلحة تُصوّبَ في وجهك.

    ابتسم راجح نصفَ ابتسامة: وهل ستصدّقني لو قلتُ لكَ أنّني خائف؟

    كانَ خائفًا فعلاً، لكن ماذا سيستفيدُ من خوفِهِ ؟
    لا شيء عدا أنّه سيقضي عليه قبلَ أن يُقدِمَ عدوّه على حركة..
    أيضًا ربّما كانت الثقة المصطنعة بنفسِهِ حتى لو لم يكن يمتلكها أمامَ الأعداء، فهي سلاحٌ نفسيُّ فعال،
    لا أحدَ يستطيعُ تخمينَ ما يجولُ بذهن راجح !
    ومن يدري هل أرادَ استخدامِ خوفِهِ كوقود يملأُ بها خزّان الشجاعة؟

    صمتَ الرّجل وهو يركّز براجح الذي يقف دون حراك أمامه، لم يظهر عليه تعبير الخوف،
    ولم يتحرّك أو يتزحزح من مكانه، ينظرُ إليه بتركيز شديد..

    فاجَأَهُ راجح: كنتُ أشاهدُ والدي يحملُهُ دائمًا.. لذا معتاد على رؤيتها .. لا مواجهتها..

    ارتبكَ الرّجلُ وأزعجته ثقة راجح ووِقْفَتُه الهادئة، كأنَّه يملُك أسلحةً أقوى من سلاحهِ وهو لا شيء سوى نكرةٍ أمامه..
    أطلَقَ طلقةً واحدةً قربَ راجح لإرعابِه لكنّه لم يتحرّك، بل كأنّه غضِبَ فجأة!
    تراجعَ الرّجل على الرّغمِ من أنّه الطرفُ الأقوى هنا ، ما الهالة التي تحيطُ بهذا الفتى؟
    ما به يقفُ كالصُّلبِ ثابتًا ؟
    تساءل لثوانٍ معدودة ..

    همسَ له راجح: كنتُ أريدُ معرفةَ السلاحِ الذي قتَلَ والدي واختبارَ مواجهتِه..

    هزّ رأسه نفيًا بنبرة غريبة: إنّه مخيف ..

    اقتربَ من الرّجل أكثر وهو يقول: لكن الفكرة المخيفة أكثر .. هو أن يموتَ أبي على يد جبانٍ مثلك ..

    انفجَرَ الرّجل وهو يرفعُ ذراعه اليمنى باتّجاه وجه راجح الذي يستمرّ بالاقتراب منه: أنتَ الجبانُ هنا!
    صُعِقَ عندما قال راجح: إذًا لماذا تبتعدُ للخلف؟
    ثبّتَ سبّابَتَه على الزنادِ وثمّة خوف وتردّد بدأ يأكلُ قلبه، لم يشعر باندفاعِ راجح نحوَه..
    رفعَ راجح يدهُ اليسرى ليُمسِكَ مقدّمة المسدّس يحاول تغيير مسار التصويبِ أوَّلاً ليرفَعَ فوّهتَهُ للأعلى
    بالوقتِ نفسِه يسدّد لكمةً بيدهِ اليمنى لوجه الرّجلِ ولا يعطيه أدنى فرصة..
    أبعدَ يدهُ مجددًا ليضربَ بها مرفَق الرجلِ في وسطِ ذراعهِ اليمنى بينَ العضدِ والسّاعد
    ويسحبَ المسدّسَ منه بيدهِ اليسرى..

    ابتسمَ وهو يأخذُ المسدّس ويبتعدُ عنه متراجعًا بقفزة للخلف تحت ذهول الجميع ..
    صوّبَ راجح في السماء عدّة طلقات حتّى نفِد السلاحُ .. ثمّ رماهُ بعيدًا ..
    قال برضًا وهو يُصفّقُ نافضًا غبار المسدّس عن يده: الآن نحنُ متعادلين،
    وأستطيعُ الجزمَ بأنّي لن أكونَ ضحيّة مثلَ غيري.

    اندهش الآخرون وقال عمر: " لئن نجوتُ من هنا لألزِّمَنَّ عليهِ أن يعلّمني كيفَ فعلها! "
    فهمَ سامر إشارةَ راجح بقوله " ضحيّة " هذا الولد هل يهتم كثيرًا لمثل هذه المفردات على الرغم من الوضع الراهن ؟

    الرّجلُ أمامه يحملُ سكّينًا، الأمرُ ليسَ مستحيلاً بالنسبة إليـه، فقد جرّبَ ذلك بالملجأ.
    صرَخَ راجح دون أن يبعد عينيه عن الرجل: لتدع عمرَ هنا واذهب للأستاذ يا سامر.

    تأفّف سامر بداخله: " هذا الراجح ألا يعرف أنّ عمر ليس لديه خبرة في القتال "

    أومأ سامر نفيًا وابتسم: لن أدعَكَ تهزمني يا راجح.
    لم يقصد راجح ذلك لكن جاءت على ما يتمنّى ، إذًا فز وانطلق يا سامر!

    قاطعهم صوتُ ضحكة ساخرة بصوت مرتفع، فما كانَ من أسماعهِم إلّا الانجذابُ لها والالتفات نحو صاحبها
    الذي يقفُ أمامَ الأستاذ فريد المقيّدة يداه ومتمدّد على سطحِ الطائرة.

    قال عمر بصدمة: مايكل!
    صُدِمَ سامر للمرّة الألف لهذا اليوم، الصدمات بدت كأنّها طلقات متتالية خرجت من مسدّس رشّاش،
    ليست ذا جودة عالية في دقّة التصويب وليس لها فائدة بالمدى البعيد لكنّها لا تخطىء الهدف..
    تُصيبُه بعدّة طلقات ناريّة بأماكن متفرّقة ... هكذا كانَ شعور سامر باختصار..
    صرخَ بحقد: ماذا تفعل هناك؟!

    رفع مايكل الأستاذ فريد من ياقته وهو يطبق أنيابه بغيظ: إذًا هذا هو الأخُ الذي أحببت..
    لم يكن للأستاذ فريد أيّة حيلة، كل ما قاله هو: مـا... أنـ.....ــت .. " بصوت متقطّع "
    نظرَ مايكل بحسد: أنا صديقٌ سابق لأخيكَ سامر ..
    رمى جسدَ فريد بكل ما أوتي على جناحِ الطائرةِ.. تحتَ أنظارهم ..
    صرخَ سامر وهو يترُكُ مكانه ويركُضُ باتّجاهِ أخيـهِ .. يخطّط للصعودِ على الطائرة ..
    لكنّه خائفٌ أن يسقطَ فريد من أعلى الجناحِ إلى الأرض والمسافة ليست بسيطة!

    " جـهــاد "

    توسّعت عينا فريد، على طول اللقاءاتِ بينهما لم ينادِهِ جهاد أبدًا ..
    أكّدَ له مرارًا أنَّهُ يشكُّ به، لكنّه لم يقل شيئًا عدا " أستاذ فريد"
    واليومَ يجزمُ بها بصوتٍ مرتفع .. يسمعها الواثبونَ على الأرضِ كلّهم..
    هل كان يعلم ؟

    ركَضَ أحد الرجلين مناديًا صاحبه: أسرع لنمسك فريد قبل أن يقضي عليه هذا المجنون،
    يجب أن يبقى حيًّا وإلّا قتلنا الزعيـم ..
    تركَ الآخرُ راجحَ وذهبَ خلفَ صاحبِه للإمساكِ بفريد ..

    نظر مايكل باشمئزاز لفريد: يا لكَ من ضعيف ..
    ثمّ أعادَ نظره نحو سامر الذي يركضُ قادمًا إليه من جهة ، و رجلي العصابة من جهة أخرى ،
    وهدفهم هو فريـد ..

    أخذَ سكّينَه وجلسَ قربَ فريد، واكتفى الأخيرُ بالنظرِ إليه والتخمين " بمَ يُفَكِّرُ ؟ "

    صَرَخَ سامر خوفًا على شقيقه وكذا الرجلين الذين ظلّا يشتمان مايكل الذي ظهر من العدم يحاولُ تخريبَ خطَطِهم،
    بالأمسِ مايكل أطلقَ على أحدِهم ببرودِ وانعدام مشاعر، فما الذي سيفعله بالسّكين اليوم؟

    أخذ السّكّين وقطَعَ بها الحبل الذي يُقيِّدُ يدي فريد، ابتسم وهو يقول بهمس: حتى يدينَ لي سامر أكثر..
    وصلَ سامر قبلَ البقيّة إلى الطائرة وما إن وضعَ قدمهُ عليها حتى اهتزّت وأصدرت سلاسلها صريرًا مزعجًا..

    اعتدَلَ فريد جالسًا وهو يرفع يديه أمامه يقبضُها ويبسطها، مسَحَ وجهه بكمِّ قميصِه ثمّ نظر طويلاً لمايكل..
    قال بصوت مبحوح: من أنت؟
    نهضَ مايكل قائلاً بجديّة: شخصٌ لا يُهمَكَ أن تعرِفَهُ أبدًا.
    تقدّم سامر مشيًا على سطحِ الطائرة المهتزّة والتي بدأت تتحرّك بغير توازن، جاعلاً ذراعيه ممدودتان بوضع أفقي،
    وعيناه تتحرّكان ما بينَ موطىء قدمهِ إلى مايكل الواقفِ قربَ فريد!

    في هذه الأثناء استغلَّ راجح انشغال الجميع بمشهد سامر ومايكل وعادَ أدراجَهُ إلى عصام الذي ينتظرهم عندَ
    الحـارس بنفاد صبر، مدّ يدهُ أمامه عينيه يراقبُ ارتجافَها، هذا شعورُ إمساكِ مسدّس حقيقيّ !

    كلّ شيء يتعلّق بالجيشِ والمعاركِ والأسلحة والحرب يقومُ مقامَ الذكرى عندَ راجح لوالده،
    هذا كلّه بجانبِ الضعفِ والموت ، بالنسبةِ له، اختلفت الصور والحقيقة واحدة..
    يريدُ تغييرَ تفكيرهِ الذي بدأ يعلُمُ أنّه ليسَ صحيحًا تمامًا .. لكن كم هو صعبٌ تغييرُ شيءٍ شببتَ عليه!
    يعزّي نفسَهُ بأنّ إنكارهُ الصغير هو بداية التقدم نحو التغيير

    خرجَ من البوابة مناديًا على عصام الذي تغيّرت ملامح وجهه لتحذيره من أن يراه الحارس،
    لم يهتم راجح ووقفَ أمام الحارس يخبر عصام: اتّصل بالشرطة حالاً، هناكَ فوضى بالدّاخل.
    خافَ عصام قليلاً: ماذا تعني؟
    -عصام الوقتُ يداهمنا بالفعل، اتّصل فقط .
    -آآه يا راجح لم تقل لي جملة واضحة طوال اليوم، حسنًا سأتَّصل.

    اقتربت منهم خطوات يعرفون أصحابها، قال أوّلهم وهو يلهث:
    تبًّا .. وأخيرًا عثرنا على شخصٍ نعرفه.

    اكتفى راجح بالتحديق بهم، وانشغلَ عصام بطلبِ الشرطة وهو لا يدري ماذا سيقول لهم بالضبط،
    التفتَ لراجح يريدُ تلميحًا على الأقل ، فأخبرهُ: " قل لهم طوارئ ورجلُ يحملُ سلاحًا في الداخل"
    وضعَ عصام يده على رأسه: هذه مصيبة! يا لبرودة أعصابك..

    سأله أحدهم: راجح هل رأيتَ سامر أو عمر؟ نتّصل بهما دونَ جدوى..
    أومأ له وهو يشيرُ بإبهامِ يده للخلف: إنّهم في الدّاخل.
    قاطعه الحارس: أيّ داخل ؟ ماذا تفعل بالداخل ؟ المكان خطر يا أولاد، هيّا ابتعدوا.
    حدّق راجح به طويلاً ثمّ قال بانزعاج طفيف: كانَ عليكَ الانتباه لدخول عدّة أشخاص في الدّاخل أكثر،
    لو استطعت منعهم، ما كانَ سيتأذَّى أحد.

    شهق واحد: ماذا ؟ يتأذّى ! من ؟ هييه راجح.

    وكزه آخر: وماذا تنتظر من صاحب العيون يا رائد، لتحمد الله أن أعطانا توضيحًا عمّا يحدث..

    مطّ رائد شفتيه وبهمس: جواد لنتحرّك هيّا.
    منعهم راجح من التقدّم للداخل بذراعه التي مدّها: لا تزيدوا الطينةَ بَـلَّـةً.
    صرخَ رائد بانزعاج: بل علّة يا راجح، دعنا ندخل.
    أشار راجح للحارس بجديّة : على الأقل امنعهم، لمَ أنتَ متسمّر؟

    قال جواد بحسرة: يا له من متعجرف، أنظر إليه يعطي الأوامر.
    أخذَ رائد هاتفَ جواد واتّصلَ على رقمِ والدِه، ليأتيه الرّدُّ الصاعق: رائد أنا في مدينة الملاهي الآن،
    كيفَ نسيت الاتصال بهاتف جواد.. كيف؟!!
    شهَقَ رائد: ماذا تفعل هنا يا أبي؟
    -أريدُ لقاء سامر أيها الأحمق! أينَ سامر " زمجر بصوت مرتفع " أين هو ؟
    ابتلعَ رائد ريقه: لا أدري..
    قاطعه أبوه: كيف لا أدري؟ إذا كنتَ أنتَ لا تدري فمن يدري إذًا .. ؟ لا ترفع ضغطي يا ولد..
    -إنّه هنا لكن ليس معي.
    صاحَ بسّام: سلامًا على صوتي اليوم، يبدو أنّها آخر أيّامه.
    -ما الذي تريدُه بشدّة من سامر الآن ؟ حاول تأجيل الموضوع يا أبي.. الوضع خطير هنا..
    خافَ بسّام قليلاً: لماذا تهمسُ ؟ وعن أي وضعٍ تتحدّث؟
    تنهّد رائد وبدأ يشرح لوالده: اكتشفنا أنّ هناك رجلين يحملُ أحدهما مسدّسًا يطاردُ الأستاذ فريد.
    انقبضَ قلبُ بسّام بقوّة: ماذا تعني؟ فريد ما علاقته هنا ؟
    -الأستاذ فريد هنا يا أبي، إنّه في الملاهي.
    -أينَ أنتَ ؟
    -أمام عالم الطائرات المغلق تحت الصيانة.
    -إنّي قادم.

    أغلَقَ رائد الهاتف وناولَهُ لجواد، جاء عصام يخبرهم بصدمة: راجح! الشرطة قريبة من هنا..
    لم يكن هناكَ داعٍ للاتّصال بهم ..

    سمعوا صوتَ الدوريّات وصوتَ رجالِ الشرطة يطالبون بإخلاءِ المكان ..

    استغرقَ الأستاذ بسّام عدّة دقائق للوصول إلى حيث رائد، ليأخذَ الأخير ضربة قويّة على ظهره.
    -كم مرّة أخبرتكَ عندما تكون خارجًا ألّا تستخدم مدّخرةَ الهاتف .. كم مرّة ؟
    ضحكَ رائد بارتباك وهو يمسح على ظهره: دعكَ من المدّخرة، لماذا ظهري يؤلمني يا ترى ؟
    ضحكَ جواد: يا إلهي! إنني أضحكُ على الرغمِ من مصيبتنا .
    التفت بعدَ أن استوعَب: رائد ! ألم يأتِ حسام معنــا ؟
    هزّ رائد رأسه: بلى.
    بحثوا عنه بأعينهم في المكانِ من حولهم، ليأتيهم صوتُه من أعلى غرفةِ الحارس وقد ثبَّتَ حاملَ آلة التصوير:
    إنّي أشاهدُ سامر من هنا وأصوّر الشرطة من هناك.
    التفتَ بسّام: سامر!
    قال رائد: أبي راجح يعلم شيئًا، يبدو أنّه كانَ بالداخل.
    -بالداخل؟
    أشاحَ بسّام بوجهه نحو راجح، ليقول رائد معرّفًا: إنّه ابنُ عمّةِ سامر يا أبي.
    سأل بسّام: ما الذي يحدث هنــا ؟

    شرَحَ راجح الوضعَ باختصار كالعادة: هناكَ رجلين أمسكا بالأستاذ فريد وحاولَ سامر وعمر إنقاذه.

    التفتَ عصام عنهم وهو يضع كلتا يديه على رأسه: راجح!
    اندفعَ بسّام نحو الباب محاولاً الدخول ومنعه الحارس: لو سمحت .. من فضلك أيّها الرجل!
    -دعني أمرّ.
    -لا يمكنُك دخول هذه المنطقة.
    -فهمت.
    أمسكَ بسّام الرجل وحوّطه بذراعيه ورفعه بقوّة ثمّ رماه من الخلفِ وهو ينفضُ ملابسَه..
    أشار بالسبّابة للحارس المتمدّد: حاسبني على هذه فيما بعد فهذا من حقّك.
    لم يفهم الحارس شيئًا، هل يهاجمه ويطلب منه أن يبلّغ عنه فيما بعد؟
    ما هذه العقليات التي مرّت اليوم عليه؟
    صفَّرَ راجح بعدما شاهدَ الحارس على الأرض، لقد رفعه بسّام بخفّة.
    علّل رائد بفخر: يأخذُ أبي دورات مختلفة لعدّة رياضات.

    ثمّ دخل هو وجواد خلفَ الأستاذ بسّام ليبحثوا عن الأولاد.
    .
    .

    وقعت أبصارُهم أوّلَ ما وقعت على عمر الشّاخصِ يراقبُ المعلّقين على الطائرة،
    ولم يحس بوجودهم.
    شعرَ عمر بالخذلان في هذه اللحظة، كم عابَ على سامر القتال،
    وكم كره القتال وكم كان أبغضَ شيء عنده هو القتال!

    والآن استنتج أنّه محتاجٌ له حتى لو دفاعًا عن النفس،
    كان مجرى القصّة سيتغيّر لو عرفَ كيفَ يقاتل، كانَ إنقاذ فريد حينها أقرب لهم ..

    أصبحَ نقطة الضعف الواضحة للكوكبِ كالشمسِ ..
    وذلكَ الخرقَ الصغير الذي في الثوّب يتَّسِع !



  15. #814

    شدّ قبضته بقوّة وهو يشاهدُ سامر يمسِكُهُ أفراد العصابة كي يُهدّدوا الأستاذ فريد به.
    ومايكل يقفُ بين الأخوين كالحاجز ..
    لا يستطيع التحرّك بعدَ أن شاهدَ السِّكينَ على عنق سامر يفصلُ بينهما إنشُ وحيد..
    لقد فطِنَ ذلكما الرجلين أنّ مايكل لم يؤذي فريد فانتبها لسامر وهاجماه من الخلف..

    صاحَ بسّام: جهاد!
    التفتَ صاحبُ الاسمِ نحو المنادي، فإذا هوَ بسّام، ما الذي أحضرَ بسّام هنا أيضًــا ؟
    اقتربَ بسّام منهم مهرولاً والغضبُ كلُّ الغضبِ بادٍ على وجهه
    وصلَ إلى الطائرة حيث يقفُ الخمسةُ عليها، وضعَ قدمًا ليهتفَ مايكل: إنّ اللعبة لن تحتملَ المزيد منّا،
    لا تصعّب الأمور وعد .
    أشار مايكل للسلاسل التي تحملهم ففهم بسّام أنّها صَدِأة، لذا ردّ عليه أن ينزل هو ليصعدَ بدلاً عنه.

    اكتفى مايكل بابتسامة ساخرة

    بينما قال جهاد بجديّة كي يُهَدِّىء الوضع: سأعطيكم كلمة السرّ الآن.. فقط أتركوا سامر..

    صرخَ بسّام محذّرًا: إنتبه يا جهاد .. لا تُضيّع تعبَكَ .. دعني أهزمهم فقط ..وأمزّقهم هؤلاء الأوغاد..

    قاطعه جهاد بخوف وهو يصيح بوجهه : هل ترى الوضعَ هنا يا بسّام لتفكّر بالعراك؟
    الشخصُ الذي قضينا أنا وأنتَ شهورًا للبحثِ عنه، وحمينا الشريحةَ من أجلِه هوَ بينَ أيديهم الآن ..
    هزّ رأسه نفيًا: ما فائدة الاحتفاظِ بالرقم ؟

    كبحَ سامر مشاعره المضطربة، بدأ يفهم قليلاً من الحوارات،
    لكنّ سؤالًا ما برحَ يخرجُ أمامَه في كل ثانية،
    " لماذا ؟ "
    لماذا لم يعترف له بأنّه شقيقه، كنتُ سأسانده، وكنّا سنتخلّصُ معاً من أكثر المشاكل شدّة؟
    ما كانت الأمور ستؤول لهذا الحال ؟

    تفاجؤوا من صوتُ سامر الذي دوى في أذانيهم: وماذا كنتَ تفعلُ تلكَ الشهور دونَ أن تخبرني أنّكَ جهاد؟!
    تابعَ صراخه بضياع: ما الدافعُ لإخفائِكَ هويّتَكَ الحقيقيّة عنّي وقد كنتُ قريبًا منكَ.. ؟
    أيةُ حماية تتحدّث عنها وأنتَ لستَ واقفًا بجانبي حتى!

    شدّ الرجلين على سامر يثبّتِانه لأنّه كان يتحرّك بانفعال: إخرس أيها الفتى وإلّا لقيتَ حتفك!
    التفتا لجهاد: هيّا أعطنا كلمة السرّ ودعنا نمضي، فليسَ من مصلحتِكَ المماطلة، الشرطةُ هنا وعلينا الذهاب!
    ثبّت سامر أكثر وقرّب السكّين لعنقه وهو يقول: مصيرُ شقيقكَ في هذه الدقيقة.
    اقتربَ جهاد منه ببطء بعدَ أن شاهدَ تحرّكَ الأستاذ بسّام زحفًا خلفَهم: ما الذي يضمنُ لكَ أنني سأعطيكَ الرقم الصحيح؟
    ابتسمَ بخبث وهو يرفعُ الهاتف: سنتّصلُ بالزعيمِ ونُدخلُ الرقم معًا..
    أشارَ بالسبّابة على جهاد: إن فُتِحَت الشريحة سنُطلِقُ سراحَه وإلّم تُفتَح صدّقني لن يكونَ هنالك حلُّ آخر عدا أن تشهدَ
    موتَ شقيقك بأمِّ عينيك!
    رمى مايكل سكّينه لأعلى وأعاد التقاطها ممسكًا بالطرفِ الحادّ للتسلية،
    ووافق جهاد فاتّصَلَ أحدُ الرجلين بزعيمهم ينتظرُ إجابتَه..

    تبادلَ كلّ من سامر وجهاد النظرات، يحدّقُ كل واحد فيهم بعين الصبر..

    ابتلعَ جهاد ريقه وهو يعطي الرقم ويُملِيهِ على الرجلين بقلّة حيلة، كانَ عليه أن يستسلمَ منذ البداية،
    لقد صبرَ من أجلِ الرّقيب ولم يعطهم كلمة السر، والآن تورّطَ سامر بالأمر وأعطاهم إيّاها على طبق من قهر.

    الكلمة صحيحة لكنّ الشريحة ليست كذلك، عليهِ أن يهربَ منهم خلال فتحهم للشريحة ،
    لأنّهم سيعرفون أنّها مزيّفة بعدَ دقيقة أو ربّما اثنتين، فلا شيء بداخلها عدا صورة العصابة الجماعية،
    وهي الشيء الوحيد الذي نقله أمجد من الشريحة الأصليّة.

    يماطلُ لأن بسّام يزحف من الخلف لا يدري ما الحيلة التي سيستخدمها،
    بسّام هذا ليس عنده في قاموسِهِ أي معاني لليأس..

    ما إن سمِعَ الرجلُ الذي يضعُ السّكّينة على عنق سامر كلمة زعيمه بالهاتف " لقد فُتِحت ! "
    حتى أمسكَ سامر بكلّ عنف ودفعه باتّجاهِ جناحِ الطائرة الآخر، ليتقلّب جسده ويصلَ إلى طرفِ الجناح..

    هتفَ جهاد مذعورًا: وغد!
    ضحكَ المدعو بـ " الوغد " وهو يقول: تعلّم ألّا تثِقَ بالمجهولِ يا جهاد..

    التفتَ جهاد لسامر ، لم يستطع سامر التمسّكَ بشيء، كادَ أن يهوي لولا ركلة مايكل في بطنِهِ..
    قفزَ مايكل دون سابق إنذار وأوقفَه من السقوط وهو يقول بجديّة: هذا دينُكَ الثالث يا سامر ..
    هزّ رأسَهُ نفيًا وهو يركلُ بطنه: بالطبعِ ستخدعني .. ولن تردّه لي..
    صرخَ جهاد خوفًا على أخيه: سامر!

    نهضَ سامر وبالكاد يحافظ على توازنِهِ فالطائرة مستمرّة بالاهتزاز يثبّت يدًا على الجناح والأخرى تشدُّ قميصه:
    لن أشكركَ يا مايكل.

    ابتسم مايكل وهو يهمس: لم أتوقع أن تشكرني يا سامر..
    ثمّ أردَف بحدّة: أخرِج سكّينَكَ حتى تنتهي هذه المهزلة!

    " تبًّا له يعرفُ أنّي أحتفظُ بسكّيني "
    رفعَ سامر مؤخِّرَةَ قدمِه ليسحبَ السكّينَ الصغيرة من حذاءه وهو يقول:
    من المؤسِفِ أنّكَ اغتررتَ بنفسِكَ إلى هذا الحد.

    وقعَ جهاد في حيرة، يخشى أن يقفزَ على الجناحِ الآخر ويسقطوا جميعًا

    اقترحَ سامر على مايكل بقوله: ما رأيُكَ لو نغيّرُ ساحةَ المعركة؟
    حدّ مايكل بصره: لا وقتَ لدينا فالشرطة على الأبواب.

    نظرَ سامر له مطوّلاً: سأدعُ لكَ فرصة يا مايكل، أهرب الآن حتى لا يتمّ الإمساكُ بك!

    ضربَ مايكل صدره: لم أشفِ غليلي بعد.


    في الجانب السفلي تحتَ الطائرة، أخبرَ رائد عمر وجواد أنّه سيذهب ليقودَ الشرطة
    بشكل أسرع نحو هذا المكان ..
    ناداه عمر: والدُكَ يؤدّي عرضًا غريبًا يا رائد، ألا تخاف عليه؟ إنّه يزحفُ تحتهما..
    هزّ رأسه نافيًا: هل هو مجنون؟

    ابتعدَ رائد وهو يشير بذراعه: إنني أخاف عليهما يا عمر، لا تقلق.

    في الوقتِ الذي كانَ الرجلين يتقدّمان باتّجاه جهاد الذي يتراجع،
    كان الأستاذ بسّام مستمرًّا بالزحفِ خلفهما،
    يترصَّدُ أقدامهما .. تحيّن فرصةَ كلامهما مع جهاد وانشغال عقلهما بالحوار .. كي يمدَّ يديه
    ويمسكَ بقدم الرجلين باندفاع يُسقِطْهما على وجوههما معًا..
    فطارت السكّين .. السلاحُ الأخير في يديهما بعيدًا ..

    التفتَ أحدُ الرجلين ينظرُ لوجه بسّام ثمّ قال بعدَ فترة استيعاب: ألستَ أنتَ ذلك الرجل الذي كانَ مع جهاد..؟

    قفَزَ بسّام بينهما بسرعة وضربَ رأسيهما ببعض وهو يقول بجديّة: تذكّرتَ وجهي بسرعة يا هذا ..
    رمى قبّعاتِهما وشدّ شعرهما بنفسِ الوقت وهو يزمجرُ: أنت الذي نازلني على المضرب؟
    خافَ جهاد من بسّام لكنّ الأخيرَ صرخ وهو يشدُّ شعرهما ورأسهما للخلف حتى صاحا من الألم:
    أنتَ الذي سكبت البنزين على جهاد أم غيرُك .. تكلّم!!!
    كانا يحاولانِ النفاذ من جبروتِهِ فوقهما، يتساءلان عن قوّة هذا الإنسان أو هل هو إنسان أصلاً؟

    انقطعت إحدى السلاسل بغتةً، وتحرّكَتِ الطائرة بمسار نصف دائري ثمّ بدأت تتأرجح، لم يستطع بسّام الحفاظَ
    على الرجلين بنفسِ الوضعيّة، لأنّ حركة الطائرة سهّلت إفلاتهم منه..
    انزلقا حتى وصلا لحافّةِ الجناح، صرخَ الأوّل وهو يزحف: لندخل داخلَ الطائرة.
    أجابَهُ الثاني وهو يمسِكُ بقدمِ صاحبِهِ الذي يتقدّمه: هل أنتَ أحمق؟ ستسقطُ الطائرة، يجبُ أن نخرجَ من هنا سريعًا!

    انتبه بسّام لجهاد متعلّقًا بسطح الطائرة واقتربَ يمدُّ ذراعه له: تمسّك بي يا جهاد لنخرج..
    مدّ جهاد يده لتشدّها ذراع بسّام وهو يقول: سامر هنا.

    كان سامر ومايكل يتشبّثان بقطعٍ حديدة صغيرة برزَت على الجناح كي لا يسقطا..

    -سنسقطُ هكذا يا مايكل! ليكن نزالنا في وقتٍ لاحق!
    ضحكَ مايكل بسخرية: لقد قطعتُ وعدًا لنفسي ألّا أخرجَ اليومَ إلّا وسكّيني ملطّخَةُ بدمك..

    اندَفَعَ مايكل راكِضًا باتّجاه سامر الذي تفاجأ من جنونه، فالطائرة غير متزِنَة.. وهو يركضُ كالمهبول!
    أمسكَ مايكل ياقةَ سامر ودفعَهَ للحافّةِ ... تدلّى رأسُ سامر للأسفل وهو يمسِكُ بالجناحِ بكلتا يديه..
    سبقتْهُ سكّينه التي هوت إلى الأرضِ قبله ..

    ذُعِرَ عمر وهو يرى سامر سيهوي في الحفرةِ إلّا قليلاً، ركضَ باتّجاهه وبلا حيلة ، لم يكن هناكَ ما يستطيعُ
    تقديمه سوى الدعاء بنجاتِهِ ..
    جثَمَ مايكل على صدرِ سامر والأخيرُ يدفعهُ بركبتهِ ..
    رفعَ مايكل السكّين ليطعنَ بها سامر: مايكل!
    اتّسَعت عينا سامر وهو يسمعُ مايكل يقول بجنون: وداعًا!

    أيُّ نهاية كُتِبَت له ؟
    لا ولن ولم يعلم ..

    دوت صرخةُ سامر باسمِ مايكل في المكان،
    لم تمضِ ثوان حتى تساقَطت قطراتُ دمٍ على جبينِه،
    لم يستوعب ماذا حصل ؟
    لا يسمعُ صوتًا .. عدا نبضِهِ ..
    الرؤية عنده باتت حمراء ..
    ما الذي يحدث؟
    هل أنا حيّ؟
    كيفَ؟

    شعرَ بمرور نسمة باردة فجأة على وجهه ، أغمضَ عينه وفتَحها لتحبِسَ الدهشةُ لسانه،
    فقبضةُ جهاد اليُمنى تُمسِكُ السكّين والأخرى تُحيطُ برقبةِ مايكل ..
    كانَ مايكل ينزلُ السكّين على صدرِ سامر بانفعال، وكأنّه عدوّ الإنسانيّة الأكبر وقد تمّ حصدُ مكافأة العمر لقاتله!

    في الوقتِ الذي ظنّ جهاد أنّه لو لم ينتبه لهما لثانية، كانَ قد ودّعَ سامر للأبد..
    قاومَ الألمَ الناجمَ عن إحكامِ قبضتِه حولَ سكّينِ مايكل وهو يصكّ على أسنانهِ بقوّة:أبعد سكّينَكَ أيّها الـ..
    شد قبضته حولَ السكّين أكثرَ ليقتلعها من مايكل الذي ذُهِلَ للحظة ثمّ رماها بالهواء بعيدًا عنه..
    ارتجفت يده المدماة وارتعَشت..

    تركَ مايكل ورمى بجسده للخلفِ يسندُهُ بذراعهِ الأخرى.. يلهث بقوّة .. غير مصدّق أنه استطاع إنقاذ أخيه..
    ظلّ سامر متيبّسًا لبرهة، يسترجع كابوسَه الأخير حول مايكل وجهاد والسكّين !
    هذا ما حدث اليوم تماماً كالكابوس..
    قال مذعورًا: أخي!

    جاءهم صوتُ بسّام قربهم: هيّا اقتربوا قبلَ أن تسقط السلسلة الأخرى .. علينا أن نبتعدَ عن هذه الطائرة ..
    أمسكَ جهاد ياقةَ سامر وشدَّه باتِّجاهِهِ لأعلى وهو يقُطِّبُ حاجبيهِ ويزمّ شفتيه من شدّة الألم ..

    اعتدلَ سامر وجثى على ركبتيه أخيرًا وهو يطلقُ زفيرًا وشهيقًا متواصلين ..
    فلم يكن بينه وبين الموت إلّا القليل !

    رفعَ بصره ليد جهاد التي لازالت مقبوضة لم يفتحها بعد، وقد اكتست بالحمرة ..
    مرّره جهاد إلى يدِ بسّام قبله ثمّ همسَ لمايكل وابتسامة نصر متواضعة على فمه: سأترُكُكَ حتى تدينَ لي أكثر!
    أردفَ: الشرطة هنا الآن.
    .
    .

    خرجَ سامر من طائرة المغامرة إلى أرضِ الواقع، وخرجَ بعَده كل من بسّام وجهاد ..
    تقدّمت الشرطة للداخل بعدَ أن وجدَ رائد الرّقيبَ جـاسر والملازم مؤيّد يحملونَ أسلحتهم
    وجهازَ اللاسلكيّ معهم يبحثونَ عن رجلين مشبوهين ..

    واستطاعت القبضَ على الرجلين المعلّقين في الطائرة ، ولم تستطع العثور على مايكل ،
    فالأخير هربَ في وقتٍ قياسيّ انشغل فيه الجميع بجُرحِ جهاد وعودة سامر وبسّام دونَ إصابات..

    فرِحَ الرّقيب بإلقاء القبضِ على ثـمانية من أفراد العصابة دفعةً واحدة،
    ستّةٌ من الذين داهموا منزله، والاثنين الآخرينِ هنا ..
    وجاري القبض على زعيمهم الذي لم يعلم أنَّهُ بتشغيلِهِ للشريحة سيفصِحُ لأجهزَةِ التَتَبُّعِ عن مكانِه !

    تأمّل الرّقيب وجوه الجميع التي قضت لحظات عصيبة و حاسمة ،
    وكلّهم فتية لا يحظى من في مثلِ عمرهم بمثلِ هذه المغامرة دومًا ..

    ربّتَ على كتفِ جهاد: أنا سعيدٌ لأنَّكَ بخير يا فـريد.
    شكره جهاد: أنا شاكرٌ لكَ وقفتَكَ حضرة الرّقيب.
    سأل بفضول: لم تّتصل بي ولم أعرف ماذا حصلَ إلّا من خلال كلام الرجلين عن إعطائكَ
    الشريحة لزعيمهم.
    خلعَ الرقيب قبّعته الرسميّة وهو يمسحُ على شعرِهِ بقلّة حيلة: مماطلتي معهم تسبّبت بإصابة خالد.
    -هل هو بخير؟
    -أجل لا تقلق.

  16. #815

    تقدّم الملازم مؤيّد بعدَ أن أدّى التحيّة: سيدي الرقيب، الإسعاف هنا لنقل المصابين.
    وضعَ الرّقيب سلاحه في حزامِه من الخلف ِوأسدلَ قميصَهُ عليه ثمّ قال: لا إصابات قويّة لدينا، عدا واحدة.
    ابتسمَ جهاد وهو ينظرُ لقبضتِه اليمنى في الوقتِ الذي قال الأستاذ بسّام بجديّة:
    حقًّا قد آلمتماني لعدم إدخالكما إيّاي في هذا المخطط!
    قال جهاد: تعبتُ من قولي " لا أريدُكَ أن تتورّطَ معي " يا بسّام.
    نطقَ سامر بعدَ طول صمت: إذًا .. هل أنا أيضًا تناسبني جملة التورّط هذه.. ؟
    ربّتَ الرّقيبُ على ظهرِ سامر بسعادة: لا داعي لمثل هذا الكلام يا سامر .. لقد عادت الأمور لنصابها الصحيح..
    سأل سامر الرقيب بانزعاج طفيف: هل كنتَ تعلم أنّه شقيقي منذ البداية؟
    نفى الرّقيب من فورِه: على الإطلاق يا سامر .. " ضحكَ بقوّة " هل نسيتَ كيفَ ضربَك في السّابق ؟
    تنهّدَ جهاد منزعجًا: لا جدوى من ذكرِ هذه الأمور.
    -لقد نسيت حقًّا.
    حدّقَ جهاد بسامر ثمّ ابتسمَ قائلاً وهو يشير على رأسه بيده السليمة: كنتُ لا أعرفُكَ وقتها.
    زفرَ سامر بندم: أنا آسف.
    -ليس هناكِ داعٍ للأسف يا سامر..

    تأثَّرَ سامر كثيرًا، من كونِ جهاد حيًّا، من عملية الإنقاذ هذه ومداخلة مايكل المرعبة،
    وإصابةِ أخيِهِ في النهاية، لم يسعه سوى البُكاء بحرقة ، استرسلَ فيهِ ، وجرى دمعهُ على خدِّه ..
    حطَّ رأسَهُ وأخفَضهُ يمسَحَ دموعَهُ بساعِدِه..
    ابتسمَ جهاد وأخذَهُ يضمّهُ بذراعهِ اليسرى وهو يقول مازحًا: لا تُشمّت بنا الأعداء يا أخي، إنّهم ينظرون.
    صاحَ رائد لأنّه عرفَ أنّه المقصود: تبًّا لكَ أستاذ.
    ضحكَ جواد عليهِ وكذلك عمر الذي كانَ يتابعُهم ويستقبل شتماتٍ عديدة من والدهِ عبر اتّصال هاتفيّ.
    حثَّهم الرّقيب على التحرّك: هيّا الإسعاف هناك يا فريد.
    همسَ جهاد: يبدو أنني سأودّعُ هذا الاسم أيّها الرّقيب.
    لا أستطيع مصافحتَكَ لكن أستطيعُ تهنئتَكَ..
    ابتسمَ الرّقيب قائلاً: مبارك يا جهاد.
    -شكرًا سيّد جاسر.


    اتّجهَ نحو البوّابة الخارجيّة معَ الأستاذ بسّام وسامر وعمر والآخرين..

    والتفت الرّقيب لزميله مؤيّد: اكتب تقريرًا في الوضعِ الراهن يا مؤيّد وأرسِلْهُ لغرفة المكتب فيما بعد.
    ثمّ أردف: عليّ أن أطمئنَّ على إصابةِ فريد أوّلاً ثمّ أعودَ إلى خـالد .. كما أنّ ابنتي مها هنا..

    تقدّمَ نحو بعضِ أفراد الشرطة وهو يشير إليهم:ضعوا الشرائط حولَ المكان وامنعوا دخول النّاس هنا،
    وأريدُ أن تحقّقوا مع حرّاس الأمنِ كذلك..

    قلّب بصره في الأرجاء وهو يقول بخفوت: على كلّ حال فالمكانُ مهجورٌ منذ فترة.

    .
    .

    أوقفَ الملازمُ سيّارة الإسعاف خارجَ الملاهي، وأبقى أبوابها مفتوحة على مصراعيها للسرعة في نقلِ المصابين،
    ومن حسنِ الحظّ أنّ الإصابات كانت خفيفة ما بين رضوض وكدمات، عدا جـهاد .. الذي يجلسُ في سيّارةِ الإسعاف
    الآن وبسّام والبقيّة يقفونَ خارجَها ..
    أمرَ المسعفُ جهاد أن يفتحَ قبضَةَ يدِه التي لم يبسطها منذُ رمى سكّينَ مايكل..
    قال جهاد بانزعاج طفيف: لا أستطيع ..
    صرخَ بسّام بتهوّر أمام الأولاد: دعنا نرى مصيبتَكَ الجديدة بسرعة يا جهاد..
    وبأمر: ابسط يدك هيّا.
    بسَطَ جهاد يده وهو يحاول ألّا ينظر لها لأنّه أدرى بحجمِ هذه الإصابة وعمقِ سكّين مايكل فقد اختبرها!

    اقشعرّت أبدانهم بعدِ أن رأو يده، ولم يستطع سامر إزاحةَ نظرهِ عنها، فهذه الإصابة بسببه وبسبب مايكل..
    فهمَ جهاد نظرةَ سامر بسرعة ولم يقل شيئًا، فإصابتُه ليست بسبب أحد ..
    إنها بسببِ قرار قد قرّره في لحظة تهوّر ..
    وسعيـدٌ به ..

    بدأ المسعف يعقّمُ جرحَ جهاد لكنّه قال: أنت بحاجة لخياطة الجرح، لذلك سنعود للمشفى حالاً..
    ركِبَ كلّ من سامر وبسّام في الإسعاف، سأل سامر عمر الذي يقفُ أمامهم: تعالَ يا عمر.
    أومأ عمر نافيًا: سأسبِقُكم للمنزل.

    أغلق بسّام باب الإسعاف بنفسِه وهو يصرخ بوجه ابنه:
    عد للمنزل واشحن مدّخرةَ الهاتف.

    قال جواد مازحًا: يااه والدُكَ حقود .. لم يستطع الصفحَ عن مدّخرةِ هاتِفِك.. حتى بعدَ هذه الأحداث..
    حرّكَ رائد سبّابته بشكل دائري حولَ رأسِه وهو يقول بملل: مشكلته أنّه لا ينسى يا جواد.

    نظرَ جواد لحسام الذي كانَ أسعدَ شخصٍ في المكان:
    هل تذكرُ يا رائد حينما كنّا نتحدّث عن كونِ الأستاذ فريد وسامر متشابهان ؟
    -بالطبع... كما أنّه "بنبرة اعتزاز" جهاد وليس أستاذ فريد يا جواد..
    -لقد كانا أخوين في نهاية المطاف... ما قولُكَ بحسام وطارق يا ترى..؟
    هربَ جواد من رائد بسرعة لأنّه كان يمزح مزحةً ثقيلة، فالجميع يعرف أنّ طارق الصغير هو شقيقُ حسام.
    .
    .

    -في سيّارةِ الإٍسعاف-
    سألَ بسّام جهاد: جهاد .. هنالكَ شيءُ أودُّ إخباركَ عنه..
    ابتسم جهاد وهو يُسنِدُ نفسَه إلى الكرسي: أعرف..
    -متى استعدتَ ذاكرتك؟
    التفتَ سامر بسرعة صوبَ بسّام ليستفهِم فقال بسّام بشكل سريع: لقد فقدَ أخوكَ ذاكرته بعدَ حريق المنزل بسببي.
    حرَّكَ جهاد يده السليمة نفيًا: دعكَ منه يا سامر، لقد كانَ حادثًا..
    قال بسّام بقلّة حيلة: وعلى الرغمِ من كونِ ما حدثَ لذاكرتِكَ بسببي إلّا أنني أعتبُ عليكَ إخفاءَ مثل هذا الأمر عنّي.
    أردف بحزن طفيف: لقد أخذتني الأفكار بعيدًا وخفت أنَّكَ ..
    قاطعه جهاد: أنني لم أعد أثقُ بك ؟
    ضحكَ ضحكة قصيرة: بسّام لقد وقفتَ معي وقفة لن أنساها ما حييت، عن أي ثقة تتحدّث ؟
    أردَفَ بابتسامة صغيرة: لقد تجاوزناها منذ مدّة، لذلك لديّ شرط.
    استغربَ سامر وكذلك بسّام، فقال الثاني: شرط ماذا ؟
    اتّسعت ابتسامة جهاد وهو يشير بالسبّابة والوسطى: سنلعبُ البيسبول على الشاطئ.
    كشّر بسّام: تبًّا ظننته شيئًا قويًّا.
    نظرَ سامر للنافذةِ الباب الخلفي للإسعاف وهو يقول بابتسامة: إنّه شيء قويّ حقًّا!

    .
    .
    .


    [ في المستشفى ]

    نجحت عملية خالد ونقـلوه إلـى غرفَةِ الإفـاقة والملاحظة تجلِسُ برفقتِه فاتن وشقيقها أمجد،
    لم يُخبِروا والدتَهم حتى يخبرها خالد بنفسِه لأنّها لن تصدِّق أنّهُ بخـير ..

    وفي نفسِ المكان قربَ مدخلِ الطوارئ كان يجلس كلُّ من السيّدة إيمان والسيّد سامح ينتظرون
    وصول سيّارة الإسعاف بعدما أخبرَ عمر والده فور عودتِهِ للبيت واتّصالهِ به.

    استدعى شقيقته إيمان التي كانت أوّل كلمة تقولها: لقد شعرتُ بأنني أعرفُه منذ زمن..
    ابتسمت بينَ دموعِها: لقد كانَ يضحكُ مثل جهاد تمامًا..

    وما هي إلّا لحظات حتى ركنت سيّارة الإسعاف قربَ المدخَلِ لينزلَ الثلاثة معًا،
    ويُفاجَؤوا بوجود السيّد سامح وشقيقتِه إيمان الواضحِ عليها آثارُ الدُّموع..

    ابتسم جهاد الذي يُمسِكُ يدهُ اليمنى بالأخرى ويرفعها قليلاً، قال وهو ينظر لبسّام وسامر بسعادة
    تناسى فيها الألم: أستطيعُ القولَ الآن أنني عُدت.
    بادَلَه الاثنين الابتسامة ذاتها، وربَّتَ بسّام على ظهره قائلاً: أهلاً بعودتِك.
    .
    .
    .

    [ في مـنزلِ السيّد سـامـح ]
    -بعد يومين-

    استيقظَ سامح في الصباحِ الباكِرِ وأخذَ العصا الحديدة التي يستخدمها للطوارىء في بعضِ الحالات
    التي يتحوّل فيها عمر لدبّ نوم كبير ، يسحبُها على الحائِط ويضربُ بها كلّ شيء يرفعُ صوتها ويزيدُ منه،
    تمامًا كما يفعلُ السجّان للزنزانة.. هل عادَ لعادتِه ؟

    فٌتِحَ بابُ غرفَةِ الضيوف في الأسفل وإذ بصوتِ زياد المليء بالنوم: تبًّا لكَ يا سامح، لقد عدتُ قبلَ ساعتين،
    وأريدُ أن أرتاح من نومِ الطائرة !
    وقفَ السيّد سامح أمامَ باب زياد وهو يقول بقلّة حيلة: لقد قلتها بنفسِك، كفاكَ نومًا.. نمتَ بالطائرة ولم تشبع!
    صرخَ زياد بألم: آآآه .. ليتني نمتُ في منزلي .. أنا أحمق وغبي لا أتَّعظُّ ..
    استسلمَ سامح ورحِمَه: حسنًا..تلميحٌ .. إذهب إلى غرفةِ عمر ونم .. فأنا لن أصعدَ هناك..
    دخَلَ زياد وأخَذَ وسادته وصعدَ السلالِم ليدخُل سامح ويشغّل الأنوار َفي الغرفة
    ويضربَ الباب بالعصا ثم يتّجِه للستائر فيفتحها كي يتغلغل ضوء الشمسِ للداخل:
    استيقظوا .. هيّا .. اليقظَة .. دعوا النوم ..
    فتَحَ عمر عينيه بصعوبة: أبي .. لدي سؤال ..
    ابتسم السيّد سامح وقال بسعادة: مؤشّر جيّد أن تستحضرَ الأسئلة حتى في مثل هذه الحال ..
    مدّ ذراعه برحابة صدر: تفضّل ..إسأل ..
    أشارَ عمر لجهاد الذي ينامُ على الأريكة وسامر الذي ينام أسفلها ولنفسِه التي استيقظت الآن!
    ضربَ عمر صدره وبصوت متقطّع: هل تعرف الرحمة ؟
    استنكرَ السيّد سامح: كم مرّة أخبرتكم ألّا تسهروا وحذّرتُكم أنني سأكونُ لكم بالمرصاد في الصباح.. ؟
    حكّ عمر صدره بحسرة: فهمت .. تقصد " ناموا وأنا فوقَ رأسِكم "..
    سحبَ الغطاء عليه وغطّ في النومِ..

    دخلت سميّة وهي تشهق وتُطفِىءُ الأنوار وتُغلِق الستائر بسرعة وتسحب سامح للخارج:
    يا إلهي! لا تقسوا على الأولاد في هذا الصباح .
    انزعج السيّد سامح: ماذا عن الفطور ؟ منذ قدم جهاد وأنا أريدُ أن نحظى بفطورٍ جماعي، هل هذا صعب؟
    ابتسمت السيّدة سميّة في وجهه: لا عليك، لقد تناولتَ غداءً جماعيًّا بالأمسِ معه وإيمان وابنها راجح أيضًا،
    هل طعم الفطور سيكون مختلف ؟
    ثمّ أردفت برحمة: الأولاد متعبون دعهم، ولنخرج أنا وأنت نتناولُ الفطورَ خارجًا ..
    أعجبته الفكرة فقال بسرعة على غير العادة: موافق، فلتستعدّي وأمل ..
    أومأت له بنصر وشرعت في الاستعداد
    عادَ سامح وفتَحَ الباب ببطء وهو يراهم نائمين..
    شعورٌ بالسعادة لم يستطع مقاومته ..
    ابتسم طويلاً وهو يودّعهم بنظراتِهِ ..
    أبناء بدر أحياء، إيمان وابنها بخير .. لقد عادَ الجمـيع !
    .
    .
    .

    [ فـي الـمـدرسـة –بعدَ يومـين ]

    عادَ التلاميذُ بعدَ أن أنهوا عطلةً حافلة بالأحداث إلى فصول الدراسةِ وأجوائها الملآ بالسلام الداخلي،
    على الرغمِ من السلامِ لم يتغيّر شيء ..
    فها هو راجح يدخُل متأخِّرًا ليضع ساقه فوق الطاولة بملل ..
    وها هو حسام قد طبعَ صورَ الأسبوع الماضي ويتجمّع حولَه شجاع ورائد وجواد وتلاميذٌ غيرهم..
    وليد ولؤي يتناقشان حول الأمراض كالعادة .. بحكم خبرتهم المرضية في الحياة ..
    الفتيات يراجعن آخرَ ما درَجَ في مجلّات الموضة ..

    عدا مها التي كانت تثبّت عينها على سامر بابتسامة كبيرة، فهي سعيدة لاجتماعِ الأخوينِ أخيرًا،
    وقد كانت سببًا في ذلك منذ البداية حتى النهاية ..

    دخَلَ حمزة داخلَ الفصلِ مهرولاً وهو يقول: الأستاذ أكرم قريب استعدّوا ..
    جلسَ في مقعدِهِ ووكَزَ سامر: هيّا إنهَض ..
    دخلَ الأستاذ أكرم وابتسامة تعلو محيّاه البشوش مستغربًا الهدوء في الفصل..
    نهضَ سامر بشكل آلي بعدَ أن درّبَه حمزة كثيرًا بما أنّه رئيس الفصل وحمزة نائبه: قيام.

    قامَ الجميع ثمّ قالوا بـصوت واحد: مباركٌ عقدُ قرانِكَ يا أستاذ.

    شعرَ الأستاذ أكرم بالحرج منهم ومن مفاجَأَتِهم، وزادَ عليه زميله الأستاذ وليد الذي كانَ مارًّا وسمِعَ ضجّتهم..
    اتّكَىء على الباب والتفتَ الطلبة إليه، قال وهو يضحك: فلتباركوا له على رئاسة القسم أيضًا ..
    كشّر الأستاذ وليد وغمَزَ: هزمني بفارق نقطة.

    ودّعهم وخرجَ

    سألت أماني بهمس: من هي زوجُ الأستاذ أكرم.
    أجابتها مها بصوت منخفض: ماذا ؟ ألا تعرفين ؟ إنّها الأستاذة حنان ابنةُ السيّد نظام.
    -يا للعجب، مديرنا!

    كتب الأستاذ أكرم: [استكمال لدرس العناكب] .. على السبّورة ثمّ سأل سؤاله المفضّل:
    هل هناكَ من لم يكتب تقريره ؟

    ابتسمَ وهو يرى شباب المستقبل ينهضون واحدًا تلوَ الآخر ..
    أشار بالقلمِ عليهم: حسنًا .. لدينا رائد الذي كان من اقترح التقرير.. جيّد .. وبالطبع جواد يؤازره دائمًا في
    حسناتِه.. أووه لدينا سامر أيضًا قائد الفصل .. أحسنتم ..
    صفَّقَ الأستاذ أكرم وقال مازحًا: حتى لو هنّئتموني بشكل جميل قبل ثانيتين لا يعني ألّا أقيمَ حقّ العدل فيكم.
    دافعَ رائد عن سامر: أستاذ أنتَ تعرف قصّة الأستاذ فريد .. لقد كان منشغلاً بشؤونِ أخيه..
    لذلك تجاوز عنه من فضلك..

    ابتسمَ الأستاذ أكرم: أحسنتَ ولذلك انشغل بشؤون نفسِكَ عزيزي ..
    أشارَ على الباب: أنتَ والفرقة للخارج بما أنّها مناوبة الأستاذ بسّام .. ليرى الأزهار المعلّقة على حائطِ الممر..

    خرجَ الثلاثة ليصطفّوا على الحائطِ وتفاجَأ سامر من عمر معاقب أيضًا ويشيرُ مبتسمًا،
    ضحكَ ضحكة قصيرة وهو يتذكّر أوّل يومٍ له هنا .. يبدو مشابهًا لما حدث ..

    مرَّ قربهم الأستاذ بسّام وهو يرمقهم بالشرر ، ثمّ خلفه جهاد يشيرُ إليهم بيده المصابة..
    قال رائد: أستاذ فريد.
    ركضَ جهاد باتّجاه رائد وخنقَه بقوّة وهو يقول بامتعاض: فضحتني عند المدرسة كلّها وأخبرتهم أنّي جهاد،
    وتناديني فريدًا الآن ..
    اختنق رائد: آسف .. آسف .. لم أستطع السكوت ..
    ابتسم وهو يترك رائد: مع الأسف كنت أودّ أن أدرٍّسَكَ يا عزيزي .
    أمسَكَه بسّام من ياقته وجرّه إليه: تعالَ .. ليتكَ درّستهم في الشهور السابقة حتى تشفعَ لكَ أمام السيّد نظام،
    استدعانا الآن وعلينا تجهيز عريضة اعتذار لغشّ الأمّة.
    كشّر جهاد: حسنًا .. حسنًا ..
    ودّعهم: لا تنسوا سنلعب فريقين اليوم مجددًا..

    غادرَهم جهاد وبسّام ليقول رائد بخوف:
    لن ألعبَ معه اليوم ، بالأمسِ ضربَ رأسَ جواد ثلاث مرّات متتابعة بنفسِ المكان..
    أردف بدهشة: هل هو مصابٌ حقًّــا ؟
    وكزَهُ سامر بانزعاج طفيف: تبًّا لك يا رائد، لقد أصرَّ على الطبيب أن يضمِّدَ يده بقوّة،
    ويشدَّ عليها حتى لا تُفتَحَ الغُرز..
    أشارَ جواد على رأسِه:يا لدقّة تصويبِه.. شعرتُ أنّ جمجمتي انكسرت ..
    قال سامر بصدق: بالفعل، لقد كسرَ في السابقِ زجاجَ نفسِ النافذة أربع مرّات..
    رائد بجديّة: لمَ هو مهووسٌ بالبيسبول لهذا الحد؟
    هزَ سامر كتفيهِ وهو ينظر لخيال جهاد: من يدري .. وإن يكُن .. سأظلُّ ألعبُها معه للأبد.
    .
    .
    .

    اخر تعديل كان بواسطة » *طيار الكاندام* في يوم » 19-09-2017 عند الساعة » 01:14

  17. #816
    .
    .
    .


    [ فـي مـنزل الرّقيب جـاســر ]

    بعدَ إصابةِ خالد في ذراعه لم يذهب لعمله، وقد كانت فرصةً رائعةً له، يمارسُ فيها طقوس العجزِ والكسل،
    ولأنّ ذراعه ملفوفة بالضمادات كانت والدته تطعمه كلّ خمس دقائق ممّا جعَلَه يتعب نفسيًّا.

    نهضَ من أريكتِهِ المفضلّة والتي تحتلّ موقعًا استراتيجيًّا أمام شاشة التلفاز، قال بضجر طفيف:
    أمّي .. سيّدة أمينة و أمّ خالد .. أرجوكِ .. لقد نمت عظامي في يومين بسبب طعامكِ ..
    ألا يكفي القناة التي نشاهدها رغمًا عنّا ؟!

    وضعت السيّدة أمينة بخوف الملعقة على الطاولة الصغيرة أمامها: هل أنتَ بخير ؟
    تنهّد خالد وعادَ جالسًا ثمّ نهضَ ليقفزَ على الأريكة كي يثبت لها أنّه بخير: أنظري إليّ .. أنا .. بخير ..

    شهقت السيّدة أمينة وهي تلتلفت لزوجها الذي يقلّب الصحيفة ويقرأ تقارير و أخبار الصحافة حول
    مداهمة لصوص مدينة الملاهي، وغالب الصور كانت من تصوير حسام الذي باعها عليهم واستغلّ
    الحادثة ليتاجرَ بموهبته.
    قال الرّقيب بابتسامة: التقاطاتُه رائعة!

    لم يظهر في صور حسام إلّا أفراد العصابة وخيالٌ للآخرين، حرَصَ ألّا تُفصَحَ هويّة الضحايا
    بعدَ استشارتِه للرّقيب واستئذانه في بيعِ ونشر صورّه .

    قالت أمينة لزوجها الذي كانَ منهمكًا في القراءة: أنظر يا جاسر، الولد ليس بخير.
    أنزلَ الرّقيبُ الصحيفة ثمّ نظرَ لابنهِ خالد يقفز وأعادَها ليكمل القراءة: لا تقلقي إنّه بخير.

    جلَس خالد وهو يقول لوالدتِه ويأكلُ بيده الأخرى بعضَ الفشارِ على الطاولة: أمّي إنني أفتقد جهاز التحكم،
    لم أعثر عليه.
    أخذت والدته صحن الفشار للمطبخ وهي تقول بجديّة: لا أدري يا عزيزي..

    أخذَ والده رشفةً من كوبِ الشّاي أمامه: لقد أوصيتُ فاتن أن تحضرَ الجهاز معها بعدَ عمليتكَ يا بني.
    مطّ خالد شفتيه: حسنًا وما دخل هذا بالجهاز؟
    أنزلَ والده الصحيفة وهو يقول بدهشة: أوه ! أنت لم تعلم بأننا ربطانهُ بكَ يا خالد.
    التفتَ خالد إليه بصدمة: كيفَ ربطته ؟!
    ابتسمَ والده: أخبر أمجد أن يحضرَ واحدًا آخرَ من سوقِ الأدواتِ المستعملة .
    -أبي! تعرف أنّ أمجد في الكليّة الآن .. لا أستطيع الانتظار .. حاولتُ أن أحبّ القناة التعليمية هذه ولم أفلح..
    حفظت الأبجديّة بكلّ اللغات !
    ابتسمَ والده مجاملاً: لا مانع، تخيّل أنّكَ لم تحفظ واحفظ من جديد.
    .
    .

    [ وزارة التجارة والصِّناعـة ]

    خرجت كلّ من السيّدة إيمان والسيّد سـامح من وزارة التجارة والصناعة بعدَ أن أخذوا موافقةً
    في تحويلِ جزءٍ من المنزلِ والإذنَ ببناءِ مشغلَ خياطة فيه، فهم بحاجة لتصريح.

    ابتسمت إيمان وهي تضعُ قدمها خارجَ المبنى: أنا سعيدة يا سامح.
    بادلها سامح السعادة ذاتها وأشار عليها:
    سأنتظرُ راجح اليوم بعدَ أن يعودَ من المدرسة لأنّه يعرفُ بعض مواقعِ البناء الجيّدة التي قد تبيعُ لنا بسعر جيّد.
    أومأت له: سيفرحُ راجح يا سامح..
    -عندما ننتهي من البناء، سنذهب أنا وسميّة برفقتِكِ من أجلِ اختيارِ الأثاث ، ما قولُكِ؟
    ضحكت إيمان: على الرَّحبِ والسّعة.
    سألهـا سامح باهتمام: ما الاسمُ الذي اخترتِه يا ترى ؟
    -مشغلُ شمس للخياطة.
    -شمس.. ؟
    -أجل.
    -ولمَ هذا الاسمُ تحديدًا ؟
    -ألّا تدلُّ الشمسُ على البداية والقوّة فهي ظاهرة للجميع ولا شخصَ يستطيعُ إخفاءَهــا ؟
    ابتسمَ: إذًا .. ؟
    -هكذا هو شعوري الآن.
    احتضنت ساعدَ أخيها وهما يتّجهان نحوَ السيّارة المركونة: إنني قويّةٌ بكم يا سامح.

    .
    .
    .

    -بعدَ عـدّة شـهور-
    [ عــلى شاطئ البحــر ]
    أثناءَ الـغروب

    دعا الأستاذ بسّام وجهاد بعضَ الأساتِذة لحفلة شواء على الشاطــىء
    ولم يأتِ عدا الأستاذ أكرم واعتذرَ السيّد نظام لانشغالهِ برحلة عائليّة.

    حضَرَ الثلاثي المرح كالعادة ، فهم لا يفوِّتون مثل هذه الرحلات، وها هم يلعبون مرغمين البيسبول
    ضدّ جهاد وفريقهِ..
    اختار أمجد وعمر وجواد فريق جهاد كي يسلموا من الإصابات،
    وكانَ في الجهة المنافسة فريقُ سامر وراجح ورائد وعادل شقيقه..

    حضرَ السيّد جـاسر وأسرتُه، وكذلك السيّدة إيمان وراجح..

    انشغلت كل منهما بإعداد المشويّات على حاملٍ للفحم، استلمت إيمان جانبَ التتبيل والبهارات مع السيّدة لـيلى
    زوجة الأستاذ بسّام ، وساعدت كل من مها وفاتن في وضعِ اللحومِ والخضروات في أسياخٍ مخصصة لها
    باهتمام واندماج كبيرين، فقد بدا عليهما حبّ هذا العمل اليوم ..

    أمّا السيدة أمينة تولّت أمرَ المائدة وترتيبها تُساعِدُها أمل الصغيرة

    صرخَ رائد وهو يضرب الكرة بألم: سحقًا لكم، لم أرى أحدًا يلعب بيسبول على رمال الشاطئ..
    ثمّ هتفَ بألم وهو يتحسّس رأسَه بخفوت: الآن شعرتُ بإحساس جواد حينَ قبّلته كرة جهاد عدّة مرّات.

    ضحكَ عادل بصوت مرتفع وهو يمسكُ بطنه بقوّة: آآآه لا أقدرُ أن أسكت .. حجمُ رأسِكَ ازدادَ يا رائد.

    رمى رائد المضرب واتّجهَ نحوَ والدِه الذي كانَ جالسًا على الكرسيّ برفقةِ الرّقيب وأكرم وخالد وقد حضّرَ
    علبةَ إسعافات أوّليّة مسبقًا..

    أشار له بسّام بتحذير: إيّاكَ أن تُصاب، لست مستعدٍّا لأتحمّل شخصًا آخر يفقد ذاكرته.
    كشّر رائد وجلَسَ قربَ والده وهو يتناولُ قارورة مياه باردة: آآآ لقد تعبت.

    سمعوا صوتَ جهاد من بعيد: رائد هذا ليسَ عدلاً، لقد تركتَ فريقَكَ يخسر.

    -لم نخسر بعد.
    -اهدأ يا راجح، لم يقصد جهاد ذلك.

    ألقى عادل بجسده على الرمال: دعونا نأخذ استراحة.

    صاحَ جهاد: أنظر يا بسّام أبناؤكَ ضعفاء بدون قدرة تحمّل .
    نهضَ بسّام وهو يشمّرُ عن ساعديه: لا بأس، فوالدُهم سيعوّضُ عن هذا الضعف.

    نهضَ خلفه خالد أيضًا وهو يشمّرُ عن ساعديه: وأنا لها.
    سحبَه والدهُ من الخلفِ وأجلَسَه رغمًا عن أنفِه: أنت إجلس.
    وبّخَه قائلاً: دع ذراعك ترتاح.

    زمّ خالد شفتيه: لقد مضت عدّة شهور وشفيتُ وانتهى الأمر.
    أشـارَ الرّقيبُ بالسبّابةِ على السيّدة أمينة ترمقه بعينيها: ستفضحنا أمّكَ لو لعبت.

    رنَّ هاتفُ السيّدة إيمان فخلعت قفّازاتهِا وأجابته: مرحبًا.
    اتّسَعت عيناها وهي تقول: حقًّا يا سامح.
    ثمّ أردفَت قائلة بسعادة: مبارك يا أخي.
    أومأت وهي تردّد: حسنًا لا تقلق عليها، سأخبرُها الآن.
    -بالسلامة يا سامح.

    أغلقت هاتِفها لتنادي أمل: أمل يا ابنتي .. تعالي ..
    جاءت أمل راكضة نحوَ عمّتِها: نعم عمّتي.
    أخفَضَت السيّدة إيمان جسدها ليتساوى مع أمل وربّتَت على كتفيها وهي تقول: لقد اتّصَلَ والدُكِ بي الآن،
    لقد أنجبَت أمّكِ بنتًا يا أمل ..

    تهلّلت أساريـــرُ أمل ولم تستطع مقاومةَ الاحتفاظِ بهذا الخبرِ لنفسِـهــا ..
    فهرولت نحوَ سامر تشاركه فرحتَها وهو الذي التفتَ إليها وهي تقول: أمّي أنجبت فرح ..

    ارتفعَ حاجبا سامر وهو يسمعها تقولُ بأنَّ والدتهُ قد أنجبَت " فـرح "
    رفعَ أمل يحملُها من الأرضِ ويدورُ بها: هل تقولين الحقيقة يا أمل ؟

    حرَكَ عينيه لعمّتِهِ إيمان التي أشارت له بيدها تؤكّدُ صحّةَ الخبر..
    وما إن فهمَ الإِشـارة حتى نادى عمر : عمـر!
    ابتسمَ وهو يهنِّؤه: مباركُ يا عمر، لقد رُزِقتُم بـفرح.

    شعَرَ عمر بالـخـجـل وهو يسمعُ التهاني من الجميع.. ويردُّ عليها..

    سمعوا صوتَ الرّقيبِ الجهوري يدعوهم للمائدة التي جهّزتها السيّدة أمينة على الرمالِ

    " اغسلوا أيديكم أوّلاً "

    حكّ عادل خدّه: لن تكون أمّي إن لم تخبرنا بغسل الأيدي أوّلاً.

    جلسوا متربّعين في فرقتين، الرجالُ والأولادُ عن اليمين والنساءُ عن الشمال،
    عدا السيّدة ليلى التي كانت تقفُ على الشواء وإعداده.
    حدَّقَ جهاد بالموجِ طويلاً وصوتِ هديرهِ وانعكاسِ الغروب على سطحِهِ،
    أغمَضَ عينيه يسترجعُ كلّ الأحداث التي مضت وإلى أينَ انتهت ..

    ربّما كانَ ناقمًا كيفَ اختفى والدهُ وكيفَ تشتّتَ هو وشقيقه،
    ربّما كانَ خائفًا من العصابة حينها،
    ربّما عاشَ وحيدًا لفترة ،
    لكنّ لولا كلّ تلكَ الأحداث التي مضت ما كان سيصلُ إلى ما هو عليه الآن ..
    المصائب هي الشيء الوحيدُ في الحياةِ التي يبدؤُ كبيرًا ثمّ يصغر ..
    كانَ عليهِ أن يمنّي نفسَه بمثل هذا الكلام باكرًا ..
    وألّا يُقلِقَ نفسَهُ بأمورٍ كثيرة شغلت حيِّزًا عظيمًا منه!
    ما كان سيخسَرُ لو روَّضَ مخاوفَه وكوابيسَه و صيَّرَها أحلامًǿ
    ما كانَ يتوقّع نهايةً سعيدة لأنَّ كلّ الطرق تؤدّي إلى عكس ما يتمنى..

    مصيبتُهُ لم تصغر فقط .. بل اختفت ..
    وقد عُوِّضَ بها أشياء كثيرة ..

    تعرّف على بسّام .. ومن منّا لا يتمنّى صديقًا يخافُ عليكَ أكثرَ من نفسِه ؟
    تعرّف على أصدقاء جدد كانوا طلّابه في البداية .. وباتوا رفاقه في النهاية ..
    ازدادت الروابطُ عنده والعلاقات توطّدت..

    كان يجب أن يفهم، أنّهُ مثلما غادرتْ فرح، ستولَدُ أخرى !
    كانَ يجب أن يعلمَ أنّ الفرحَ يولَدُ من رحمِ الحزن، فلولا الحزنُ ما مُيّزَ الفرح ..

    قد نسمعُ قولاً عن كونِ الغروبِ السّاحرِ حزينًا مرّة،وسعيدًا مرّة!
    وهو الذي تحدّثَ بلغةٍ يفهمُها الجمـيع ..

    هذا يعني أننا لم نمتّع أبصارنَا بكلّ ألوانِه ..
    واكتفى كلّ واحدٍ منّا برؤيةِ لون ..


    الغروبُ اليوم سيكونُ ماضي شمس الغد،
    والعودةُ للماضي في وقتنا الحاضر هي نوعٌ من أنواعِ التَّقدُّمِ للستقبل!


    تمّت

    اخر تعديل كان بواسطة » *طيار الكاندام* في يوم » 19-09-2017 عند الساعة » 11:44

  18. #817


    attachment

    وهنا خطُّ النهاية، من يدري ربّما بداية أخرى لغروب جديد في المستقبل biggrin
    > ما شاء الله لازال فيني أمل أكتب smoker

    أخطر جزء على الإطلاق وتعبت من كثرة إعادة قراءته، لأنّ أي غلطة لن تُصَحّحَ فيما بعد ، أقصد غلطة بالأحداث،
    " يعني عمره 5 سنوات كيف أخوه الأكبر انولد بعده ؟؟ " أنا خايف من هذه المداخلات laugh

    استغرقت الرواية 8 سنوات متقطّعة بشكل لا يوصف، وصلت فيها مرحلة كرهتها، ومرحلة بديت أتقبلها،
    ومرحلة اشتقت لها وتحمّست في الكتابة كثيرًا ، لذلك خايف من الأحداث اللي نسيتها وانقلبت ضدّي في النهاية،
    خايف من المتناقضات للأمانة ! biggrin

    لأني تعبت وأنا أعيد قراءة الأجزاء من البداية للنهاية في كل مرة أكتب الجزء الجديد..
    والفرق بين أسلوب الفصل الأول -ما يخفى عليكم- وأسلوب الفصل الأخير شتّان ما بين وبين!

    لذلك كنت أشعر أحيانًا بالإحراج من قراءة الأجزاء القديمة .. وأتحاشاها .. لكن هذا شيء جيّد..
    أنني بدأت برؤية أخطائي التي لا تعد ولا تحصى في الكتابة ..

    ما أقول إني ممتاز وأسلوبي ممتاز والرواية ممتازة ، ما وصلت هذه المنزلة وأعرف قدري تمامًا..
    لكنني كتبت شيء أرضاني .. كتابيًّا .. ولمست فيه أنّي بالفعل قد تطوّرت .. بغض النظر عن الفصول الأولى..
    أنا سعيد بالتطوّر أكثر من شيء ثاني biggrin
    وسعيد بأحداث الرواية اللي ما كانت بعقلي وسبحان الله أشياء كثيرة تحوّلت لعقدة رئيسيّة
    ما كنت حاسب حسابها، كان كل شيء قدرًا P:
    سعيد بالانتقادات اللي ما نسيتها كلما كتبت جزء جديد ..
    بالتوقعات وتحليلات القرّاء الصابرين المرابطين المكافحين ..

    كنت أبذل جهدي أن أخالف كل ما توقّعتموه تمامًا .. وهذا سرّ الآكشن في الرواية smoker
    محتاج تحليلاتكم عشان أكسرها تقريبًا .. كنتم السلاح السريّ laugh hurt

    الرواية ككل كانت جميلة .. والشخصيّات عزيزة على قلبي .. لو أسمع اسم شخصية في أي مكان ..
    على طول أقارن بينها وبين الشخصيّة في الرواية ..
    حتى في الأيام البعيدة عن الكتابة .. أي حدث يمر علي أدونه بدفتر أو بملاحظات الهاتف ممكن ينفعني
    مستقبلاً ..
    عندي 3 دفاتر لحد الحين biggrin
    في إحدى سفراتي أخذت أوراق A4 وقلم وكنت أكتب في الطريق ..
    ما تخلّيت عنها .. لكن كنت في صراع !
    الجزء الأخير كلما أنهيت صفحة منه أو مجموعة صفحات رفعته بسرعة على الإيميل، لأنّي راعي سوابق laugh
    أكثر من مرّة ضاعت الأجزاء وتحطّمت لإعادة الكتابة، لذلك حمدًا لله ..

    التزمت بأسماء عربية و وطن عربي في بداية كتابتي للرواية و وددت أن أخرج بشيء جديد عن الساحة،
    وعن قصص الفان فكشن التي انتشرت بشكل مرعب hurt
    إضافة إلى ذلك أردت المحاولة في تلميع الرواية التي يكون أبطالها عرب biggrin
    ولولا أن ثبّتني الله لشطحتُ إلّا قليلاً ... > اعتبروني شطحت
    كانت هنالك عدّة محاولات من القرّاء والمتابعين في تهدئتي وإعادتي
    للواقع بفضل انتقاداتهم zlick

    ما حبّيت أحدد دولة حتى لا يقال " طيّار أساء لها "
    ونفس الأمر مع الجانب الأوروبي، تحاشيت ذكر الدولة وذكرت بالعموم، حتى لا يقال أيضًا مثل الكلام.
    أعتذر مقدّمًا عن أي إساءة في الرواية، تأكّدوا أنّني لم أقصدها حتمًا biggrin
    وبالتأكيد ما كُلّ ما يُكتبُ حقيقيّ أو حقيقية! بل قد لا يمت للواقع بصلة، وهنا يظهر ذكاء القارىء،
    ماذا فهم ؟ ماذا استنتج ؟ أي الأشياء التي سيأخذها معه من الرواية وأيّة حقائق ومعلومات ؟
    وعلى النقيض أيّة أشياء وحقائق سيتركها خلفه أو ربّما خزعبلات biggrin
    كُن قارئًا ذكيًّا .. لأنّ الكاتب ليس معصومًا أبدًا ..

    بإذن الله سأقوم بإعادة كتابة الأجزاء حتى أرتاح نفسيًّا biggrin وأعدّل على السرعة الخارقة في سلوك وتصرّفات
    بعض الشخصيّات xD
    اعتبروها فضفضة كاتب أنهى روايته (الحقيقيّة) الأولى و غير مصدق laugh
    > يبي لنا كيكة كبيييييرة xD


    -هذا أطول جزء كتبته في حياتي ، 80 صفحة بخط 14 tired بالوورد، ويا للعجب كسرت القاعدة حتى يكسرني مكسات hurt
    بدت الأجزاء قصيرة dead أتمنى تكون بالطول المطلوب xD

    قرّائي الأعزّاء
    شكراً شكرًا شكرًا شكرًا لكم ولدعمكم المستمر
    وهالله هالله بالردود ogre

    اخر تعديل كان بواسطة » *طيار الكاندام* في يوم » 18-09-2017 عند الساعة » 16:19

  19. #818





    عاااااااااااااااا e107
    أخيراً لا اكاد اصدق *فيس ميت من الفرح*
    أول وأكبر حجز asian


    +


    ستتم نقلها إلى قصص الأعضاء المكتملة gooood


    attachment

    { لا تدع مرّات سقوطك تمنعك عن النهوض! }




  20. #819
    مبارك على النهاية طيّار 3>
    ومبارك على عودة الإخوة لبعضهم xD

  21. #820
    إقتباس الرسالة الأصلية كتبت بواسطة ~پورنيما~ مشاهدة المشاركة





    عاااااااااااااااا e107
    أخيراً لا اكاد اصدق *فيس ميت من الفرح*
    أول وأكبر حجز asian


    +


    ستتم نقلها إلى قصص الأعضاء المكتملة gooood
    laugh
    أنا مو مصدق بعد xD

    شكرًا على النقل، وبانتظارك gooood



بيانات عن الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

عدد زوار الموضوع الآن 1 . (0 عضو و 1 ضيف)

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

collapse_40b قوانين المشاركة

  • غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
  • غير مصرّح بالرد على المواضيع
  • غير مصرّح لك بإرفاق ملفات
  • غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك
  •  

مكسات على ايفون  مكسات على اندرويد  Rss  Facebook  Twitter