*
الزجاج الشفاف لم يقدر على التصدّي لألوان الغروب القويّة ومنعها من اختراقه، فتسللت خلاله رغماً لتنعكس في الممر المبلط، وتضفي له لوناً هادئاً أضاءت به ظلمته بعد إطفاء الأنوار..
الأجواء زادت برودا مع بداية مغيب الشمس..
وفي ذاك الممر ذو السياج المطل على الجدار الزجاجي، تقدمت خطوتين كانتا متقافزتين أكثر من كونها مستقرة، واستدارت فور ذلك بكامل جسدها إلى صاحبتها التّي كانت متأخرة عنها قليلاً، مع ابتسامة واسعة شقّت ثغرها بسعادة تغلغل في روحها لسببٍ ما..
تقدمت الأخيرة وهي تدخل يديها في جيب معطفها ذو اللون الترابي الذّي ترتديه فوق زيها المدرسي، وبعفوية ابتسمت بالمقابل وهي لا تفهم سبب ضحكات صاحبتها كل لحظة، وقبل أن تفكّر في السؤال كانت الإجابة قد أتتها بشكل مموّه وتدريجي: "ستتأخرين؟"
ـ "كما يبدو.."
ابتسمت بمرحٍ حتّى بدا صفّ أسنانها، أدخلت يديها المتجدتان برداً في جيب سترتها الشتوية السوداء وهي تقول ضاحكة: "سنُخيم معاً في المدرسة اليوم كما يبدو"
ألقت تلك المزحة التّي لم تُضحِك الأخيرة لكنّها ابتسمت فقط، بدت هادئة بشكلٍ غريب لكن تلك هي عادتها، فهي الصامتة والأخرى ثرثارة.. تناقض لا يُعرف كيف جمعهما!
ـ"إذن.. متى ستنهين امتحانك؟"
كان السؤال آتٍ من تلك المرحة أو (المزعجة) كما تصفها الأخرى، وهي تسير للخلف حتّى تقابل صاحبتها التّي أجابت: "الجمعة بعد القادمة"
ضربت كفّيها ببعضٍ بعزم وهي تبتسم براحة: "جيد، لدي وقتٌ لأنهيه"
ـ "ماذا ؟"
بصوتٍ عالٍ: "مفااجأة! لن أخبرك"
وابتسمت بشغبٍ فقطبت الأخيرة حاجبيها بامتعاض: "سأقاطِعُك"
ـ "كلاااااااااااااااااااااااااااا"
صرخة عالية عبّرت بها عن سخطها ثمّ أدرفت فوراً بصوتٍ بدا دراميًا ومضحكاً بنفس الوقت: "إنها مفاجأة ستكون بمناسبة إنهائك للامتحان وتخلصك من الدراسة والتعب ووجع الرأس الذّي رفع لك الضغط والسكر.. كما تعلمين لا يجب أن تصيبك سكتة قلبية بسبب ذلك، لذا العلاج جاهز"
كردّة فعلٍ وضعت الأخيرة يديها على صدغيها وهي تقول بانزعاج: "التمثيل المزعج مجدداً"
تلك الجملة التّي اعتادت على سماعها دائماً لم تزعجها أبداً، بل جعلتها تضحك ككلّ مرّة..
استدارت حينئذٍ للأمام وأخذت تسير جنباً إلى صاحبتها، ساد الصمت بينهما وهيمن السكون على المكان الذّي لم يكن فيه غيرهما..
أخيراً تحدثت صاحبة السترة السوداء: "ذكرتني بذاك اليوم.."
ـ "همم؟"
همهمت مستفهمة وقد لفت انتباهها ما قالت، فتابعت: "قبل سنتين تقريباً عندما قاطعتِني لأكثر من أسبوع في العطلة الصيفية، تذكرين ذلك؟"
سألت وهي تضحك بخفّة لتذكرها ما حدث، فأجابت وهي تتوقع أن تبدأ الأخرى بالثرثرة: "أجل"
وكما أعتادت كلما تذكرت أمراً أن تتحدث عنه مسترجعة الذكريات كما لو أنها عجوز في السبعين: "لا تعلمين كم التعب الذّي أصابني بسبب التفكير، لقد تعبتُ نفسياً حقاً حتّى أنني كنتُ أراجع حساباتي إن كنتُ أخطأتُ في حقك فقاطعتني، لكن يوماً بعد يوم كنتُ أزداد قلقاً، لم يكن لدي أي خيط يوصلني بك، لقد حاولتُ بكل الطرق دون جدوى حتّى فقدتُ الأمل في أن تعودي، ظننتُك مِتِّ دون أن أعلم ولن أراك مجدداً"
ثم قالت بلوم وهي تلقي نظرة عتاب إليها بطرف عينها: "في النهاية لم يكن السبب غير هاتفك الغبي المعطل.. وددتُ لو أقتلك"
لم تلقى ردة فعل غير ابتسامة، فعادت بنظرها للأمام وهي تضحك على غبائها: "لقد عشتُ عزاءً حقاً.. ما أصعب ذلك"
ـ "ربما يتوجب عليك عيشُه فعلياً هذه المرة"
تلك العبارة الغريبة والجافة جعلتها تنظر إلى صاحبتها بتعجب، فرأتها تحدّق للأمام في الممر وهي تكمل بشرود: "لم يكن سبب اختفائها تافهاً كما تظنين"
بتقطيب: "أنتِ اخبرتني بنفسك السبب، إن لم يكن هو فما السبب إذن؟"
بتعابير وصوت هادئ: "لقد تعرضت لحادثٍ وماتت"
جفلت للحظة رهبةً مما سمعت وشعرت بنغزٍ في قلبها، لكنّ كان من الواضح لها أنها مجرد مزحة لإفزاعها، لذا جارتها قائلة وهي تغتصب ضحكة: "إذن من هذه التّي تسير معي؟"
لم تنتبه إلا بعد تقدّمها بخطوتين أن الأخيرة لا ترافقها، فتوقّفت والتفتت متعجبة لتجدها قد توقّفت قبلها وظلّت ساكنة..
ـ "ما الأمر؟"
سألت بعفوية حين رأتها تطرق برأسها بوجوم، والقلنسوة قد أخفت نصف وجهها حتّى توارت عيناها خلفها، لكنّهما ظهرتا حين رفعت بصرها لترسل نظرات كالسهام صوبها مباشرة، بدت عيناها ضيقتان ومظلمتان وحولهما سواد مخيف، نظرات مرعبة تنبثق منهما إليها كأنما هي نظرة ذئب إلى فريسة وقعت بين براثنه، وقد تحولت ابتسامتها التي لطالما كانت تسعدها إلى أخرى خبيثة رجّتها رجاً..
رأت هالة سوداء تحوم حولها وتحيطها وهي تهمس بصوتٍ شبحي خبيث: "لقد ماتت وما أنا إلا متجسد!"
تسارعت دقّات قلبها وبدأ يخفق حتى بات بإمكانها سماع صوته، ومع كلّ دقّة تشعر بقضبة تعصره عصراً فتحيل عليها الألم، أنفاسها تحور إلى لهاث مكتوم أشعرها بانقطاع الهواء عن رئتيها، ارتجفت شفتيها برعب وعيناها تزيغان وتتسعان هلعاً لرؤية ذاك الشخص الذّي يخرج من السواد، كأنما هو السواد المبطن في قلبه يظهر، لقد اختفت صاحبتها وظهر فيها شخص آخر، مختلف تماماً..
الشخص الذّي كان يرافقها قبل لحظات معدودة، الذّي كان يبتسم لها ويضحك معها..
الذّي رأته بالأمس وقبل أمس..
الشخص الذّي كان معها طوال السنتين الماضيتين لم يكن سوى متجسد بشع؟! كل اللحظات الجميلة التّي أمضتها برفقتها لم تكن معها حقيقة؟! كل هذا مجرد زيف؟! كانت مخدوعة؟
أما صاحبتها الحقيقية فقد ماتت.. ماتت؟! وتلاشت من الوجود؟ أصبحت لا شيء يذكر؟ اختفت هي وكل شيء جميل معها دون أن تشعر بذلك؟! دون أن تعلم حتّى!
لم تعد قدماها تحملانها من هول الصدمة، إنها تفقد رباطة جأشها، كلّ شيء ينهار بداخها، ويغلي ويتحرّق خيبة، قلبها ينتفض ألماً.. قهراً..
الدموع حبسية مقلتيها، تحرقهما بسخونتها..
إنها تنهار كأنما الزوبعة قد عصفت بها، لم يعد هناك شيء يستطيع إسنادها.. دعمها.. ليس هناك شيء يستطيع مساعدتها على الوقوف بعدما نكست الصدمة بها،
الشخص الوحيد القادر قد اختفى.. هذا هو العزاء بعينه!
بأقصى ما تستطيع عزفت على حبالها الصوتية التالفة لحن صرخة الذعر الممزوج بالوجع والخذلان..!
-تمت-
المفضلات