*
سلام الله على أحبائي رواد قسم الروايات والقصص!
(أوركيد) عضوة جديدة بينكم تتمنى أن تجد لها موضعاً في اسرتكم الكريمة.
أضع بين أيديكم قصّة قصيرة، كأول مشاركة لي في قلعتكم الشامخة، مع العلم أن أحداثها
قد جرت كاملة على أرض الواقع ونقلت لي على لسان أحدهم
(يعمل طبيباً) فأحببت صياغتها ومشاركتكم إياها وكأنها رويت بلسانه.
قصتي القصيرة هي جزء يسير من رواية حقيقيّة تصور مجزرة عاشها الآلاف!
سكون مهيب قبيل هبوب العاصفة، خفقات قلبٍ متسارعة، ترقّب يحبسُ الأنفاس، وأخيراً كانت الطلقة الأولى - هكذا بدأت الملحمة!
روايةٌ فصولها أعظم من أن تحصرها المراصد البشريّة، في كلّ زاويةٍ من تلكَ الساحة الرحباء المخضبة بالدماء تكمن قصّة، وفي كلّ ركن تنجلي فصولها، لتسطّر واحدة من أعظم ملاحم الصمود والإباء، دروسٌ عملية قدّمها شعبٌ أعزل من الرصاصِ وبنادقِ الحرب ودباباتها، مدّعم بعتادٍ من ربّ السماء هيّأه لثباتٍ دامَ نصف اليومِ وجلدٍ أوقد شرارة هذهِ الثورة الخالصة. كانت ليلة ساكنة تحفلُ بأصواتِ الذكرِ كسائر الليال، شقّ صوتُ الأذانِ هدوءها ليرسلَ الأنفس المتطلعة إلى مناجاةِ المولى في رحلةٍ قصيرة من الركوعِ والسجودِ والدعاء الزاخر بأدمعِ المكروبينَ السائلين الله فرجاً عاجلاً ونصراً مؤزراً أو شهادةً لوجهه تعالى وفي سبيلِ نصرة دينِه وإعلاء كلمة الحقّ في أرضه. انتهت الصلاة وامتلأت الخيام من جديدٍ فمكثَ المعتصمون منهم من يتحدثُ ومنهم من غفى استعداداً لغدٍ آخر سيمتلئ بالأحداثِ كما حسبوا. كانت الأخبارِ المتواترةُ حولَ المجنزراتِ التي أحاطتِ الميدانِ ومدرّعاتُ الجيشِ المحتلّ المهيمنةِ على مداخلهِ قد ساقت طريقها إلى الأسماعِ والقلوبُ تصارعُ نفسَها ما بينَ الخوفِ من هولِ المتوقّعِ والتطلعِ إلى الارتقاء. أبلغتُ من أستطيع بتلميحاتٍ عما أعلمُ، كانت النيّة الصادقةُ هي منجانا الوحيدُ وأملنا في الاستمرار. صلّيتُ ركعتينِ لتستقرّ النفسُ وأخذتُ اقرأ شيئاً من كتابِ الله وجمعتُ في ذهني من الآياتِ ما يثبتُ ويرفعُ الهمم. أسندتُ رأسي على أحدِ الجدرانِ لأتنفسَ تلكَ النسماتِ العطرةِ التي قد تكونُ الأخيرة فأفعمتُ صدري بها وتطلعتُ إلى الميدانِ بنظراتٍ تحاولُ التقاطَ صورٍ تحفظها الذاكرة. أغمضتُ عينيّ فإذ بيدٍ مترددةٍ تربّت على أحد كتفيّ، التفتُ إليهِ فإذ بالشهيدِ ( ) ينظرُ إليّ بشيءٍ من التوتّر، سألني بصوتٍ خافت: أصحيحٌ ما يقالُ؟ أهو يومُ الحسمِ؟! أومأتُ برأسي تفادياً للحديث. لم يكن في البالِ ما يقال والروحُ منشغلةٌ بالآتِ. شعرتُ بكفّ الشهيدِ يضغطُ على كتفي وابتسامةٌ فاقت شمسَ الظهرِ إشراقاً قد علت ثغره، عادَ للحديثِ والحماسةُ قد ألهبت ناظرتيهِ: الحمدُ لله، الحمدُ لله، خشيتُ ألّا أحضرها! كدتُ أجلسهُ بجواري لكنّي فوجئتُ بصوتٍ يناديني، كانَ رفيقُ الشهيدِ قد أتى ليطمئنَ قلبه ويعلمُ أنّ الله اصطفاه لشهودِ ذلكَ اليومِ الذي سيحفرُ نفسه عميقاً في صفحاتِ التاريخ. علمتُ ماذا سيسألُ فأسرعتُ أخبره: نعم، إنّه هو! كونا على استعداد. غادر الضرغامانِ جواري وذهبا إلى خيمتِها ليدعوا الشبّان إلى تأمينِ المداخل. ضقّت الساعة لتعلنَ حلول السابعة، ومعها انطلق دويّ الرصاص. اتجهت المستشفى لاستقبالِ المصابين، كنتُ على يقينٍ بأنّ أرواحَ كثيرةٍ ستزهق ودماء عديدة ستسال، لكنّي أعلمُ أن هنالك من سينجوا وأنّا كأطبّاءُ سنكونُ سبباً في ذلك بعد مشيئة الله. نظرتُ إلى الأحبّة وأطلتُ النظر، لستُ أدري ما إن كنتُ أودّعهم أو أستقي الثبات من عزمهم. رفعتُ يدي لأشيرَ لأحدِهم لكنّي تراجعتُ سريعاً، لم التفت لما يدورُ وواصلتُ قاصداً ذاك المبنى المتواضعُ الذي سيغدو مسكناُ للجثث والجرحى حتّى نقلهم. أوشكتُ الوصول إلّا أن قنابلَ الغازِ والدخّان كانت قد طالتنا بداخل الميدان، تراجعتُ لأبتعدَ عنها شيئاً حتّى تتضح الصورة، والتنفسُ قد باتَ عسيراً، شعرتُ بشيء لامسَ مرفقي فأبصرته وإذ بالشهيدِ ( ) نفسه مرتدياً خوذةَ صفراء وفي يدهِ عصا قصيرة مضرجاً بدمائهِ على الأرضِ وفي منتصفِ جبهتهِ رصاصةُ قناصةٍ غادرة. أسرعتُ أنخفضُ على الأرضِ وأمسكتُ بكفّهِ مستعجلاً، رفعتُ يدي للشبّانِ الذين كانوا يستعدّون لحملهِ كي يتلقى العلاج، قلتُ مصارعاً ما اختلجَ القلبَ من الوصبِ: دوّنوا اسمهُ إنّه بينَ يدي الله. أمسكتُ الهاتفَ لأحدّث أحد والديهِ إلا أنّ العجزَ عن تدبيرِ ما سيقالُ قد أعقد اللسان، فأنهيتُ الاتصال وأرسلت برسالة نصيّة لوالده أقول: هنيئاً لأبي الشهيد. كانَ الرصاصُ يلاحقُ الأبطالُ حيثما ذهبوا، تتطايرُ الأشلاءُ في صورةٍ من وحشيةِ لم يسبق لها وجود في أرض الوطن، عدتُ بالذاكرةِ إلى ما أبصرتُ في سوريّة من جراحٍ، لم أكن أعلمُ في ذاكَ الحين أنّا سنشهدُ يوماً مماثلاً، كانت أوّل مرةٍ أدركُ فيها مفهومي ( الخوف الحقيقي ) و ( ترقبِ الموت )، لطالما قرأتُ في الكتبِ عن ذاكَ الشعور، تقتُ إلى اليومِ الذي نحسّ فيهِ بمعنى المواجهة، حينَ سافرتُ شهراً إلى الشقيقةِ المكلومة لم أقف على خطّ النار فكنتُ آمناً من الرصاصِ، سالماً من القنّاصاتِ. لوهلةٍ تساءلتُ ممَ الخوف؟ أهوَ من مواجهةِ الموت؟ أو خشيةِ الشعورِ بالألم؟ أو لربما هو الخوف ممّا سيحلّ بعد هذا، كيفَ ستنتهي مجزرةُ فضّ ميدانِ الصامدين؟ ميدان الآبين الراكعينَ الساجدين؟ على أيّ صورةٍ سيغدو بعدَ رحيلِ قواتِ المحتلّين؟ أسيرحلونَ حقاً أم تكونُ لهم الجولةُ ونخرج نحن من أرضنا منكسرين؟ قطع سلسلةِ الأفكار المتخبطةِ تلكَ إحساسٌ يحملُ شيئاً من الألمِ الخافت، مرّت الرصاصةُ من جانبي لتلامسَ وجنتي وتحدثَ شقاً ضامر الحجمِ، تساءلتُ هل يجبُ أن يسعدني ما كانّ أم يُشْقي، هل أكون بالنجاةِ مسروراً أم ساخطاً على تجاوز الرّصاصة لي واختيارها شخصاً آخر ليبيت ليلتهُ في الجنان؟ أحسستُ أن التفكيرَ في ذاكَ الحين ما كان إلا ليؤخرنا، أعميت بصري عمّا أشاهدُ ومنعتُ نفسي من إدراكِ ما تسمع، لكنّ ذاكَ الصراخ والنحيب الذي اختلط بأصواتِ التكبير الممتزجة بدوي النارِ كان أصعب من سدّ الآذانِ عنه. قدتُ نفسي بخطواتِ مثقلةٍ إلى داخل المستشفى الميدانيّ وأنا أستشعرُ الدماء القانية التي أمرّ فوقها وأستحي من سوء ما أرتكب، لكنّ إنقاذ ما يسع إنقاذه كان أوجب من التفكير في قدرِ هذه الدماء. رحتُ أقتحم الصّفوف إلى أن بلغتُ حجرة الجراحات البدائية، أجهزة ومعدّات بسيطة كانت جلّ ما نملك. أعدادُ المصابين لم تكن في جانبِ الأطبّاء فكان الفردُ يتولّى مجموعة منهم، والأدوات مقارنة بالإصاباتِ كانت مثاراً للضحكِ فكيفَ لهكذا تجهيزاتٍ أن تفي لتخفيف نتائجِ مذبحة العصرِ ؟ كان بينَ يديّ عديد من الجرحى أتساءل أيّهم أولى بالعلاج، أهو صاحب الإصابةِ الأقل وطأة وأضعف شدّة وصاحب الفرصةِ الأكبر في التعافي، أم هو ذو الجرحِ الأعمق والألم الأعظم الذي لا يحتملُ التأخير، لستُ أدري من كتبَ الله له النجاة يومَ ولد، فلم تكن شدّة الإصابات معياراً لاحتماليةِ النجاةِ يوماً، تساءلتُ من ألائك من بينِ الجميع، قرّرتُ أن أصبّ التركيز على من بقيّ فيهم شيء من الوعي، كانت آلامهم الجليّة هي داعي ذاك الاختيار، تسكين الألمِ كان أولى من إنقاذ حياةِ من غاب عن وعيه. أدركتُ أنّ من كتبت لهم النجاةُ سيسوقهم الله إليّ دون عناء. دخل أحد الشبّان مسرعاً إلى الحجرةِ يقولُ أن طبيباً شاباً قد تمّ قنصهُ في الطابقِ السفليّ وعلينا توخي الحذر، لم أأبه لدعوتهِ إلينا بالحذر فلم يكن ثمّة سبيل لذاك يومها، إلا أن ما شغل البال من يكون ذاك الطبيب الشابُ الذي أصابته رصاصات القنّاصين، أهو ( ) أم ( ) أم ( ) أم ( ) ؟ أسئلة كثيرةٌ أخذت تتخبطُ بالذهنِ، مع كلّ واحدٍ من ألائكَ تطرحُ آلاف التساؤلاتِ المختلفةِ نفسها، إلا أنّ سؤالاً واحداً قد أجبرَ البقيّة على الانحناء والتراجعِ إفساحاً له كيّ يقبلَ بعظيم قوّتِه ويقف مواجهاً النفسَ التِي أعناها المصابُ المقبلُ من كلّ حدبٍ وصوب! ماذا لو كانَ هو؟ سؤالٌ لم يتطلب وقتاً طويلاً للتفكيرِ فيه فقد أسرعتِ الإجابةُ بإبداءِ نفسها، والصراعُ على أشدّه. نعم إنّه الشهيدُ قد أتَى محمولاً على أكتافِ شابٍ آخر قد تلونَت ثيابهُ بالأحمرِ القاني من تلكَ الدماء الزكيّة التي أخذت تتناثرُ على الأرضِ كمَا تفعلُ بتلاتُ الخطامِ الحمراءِ، لقد حانت تلكَ الحظة إذاً! حانت باكراً، بل أبكرُ من أيّ استعداد مسبّق. بدأ القلبُ يَخْفق بقوّةٍ بينَ الأضلع، سوادٌ حالكٌ قد بدا لي أمام ناظرتيّ، شعرتُ بأنفاسي وقد جعلت تتسارع، والجبينُ يتصبب عرقاً بينما أحسستُ بغصّة في حلقي، هزيمُ رعدٍ غاضبٍ قد عصف بالآذانِ وكأنّه ينهرُ النفسَ بقوّة على ضعفها، أهذَا ما يسمى بالجزع؟ أهو عدمُ الصبرِ ورفضُ القدر؟ ازدادَ الألمُ ليهاجمَ بأعظمِ درجاتهِ حينما وقعَ البصرُ على شقيقةِ الشهيدِ وهي تشهقُ بعنف وتصيحُ ” أرجوكم، افعلو شيئاً، أرجوكم! ” بينما كانت تنهي كلمتها الأخيرة، في مكانٍ آخر انطلقت رصاصة من فوّهةِ القنّاصة لستقرّ في رأس الشهيدَ الذي حملَ الشهيدَ وقد وقفَ والدمعُ مبلل سوادَ عينيه، فانْهَارَ أمام الجميعِ عَلَى الأرْضِ، و يَدَيْهِ إلِى جَانِبِهِ مرخياً عَضَلَاتَهُ و أعْصَابَه لتعلنَ نبضاتِ قلبه حلول الثوانِ الأخيرة من عمره. لم أجد بدّاً من إغفال كلّ ما يدورُ حتّى ألتفت إلى الشهيدِ الأوّل لأزعم محاولةَ إسعافه، نظرتُ إلى محيّاه الباسم والرصاصة تنصّف جبهته، وضعت كفّي بترددٍ على موضعها ودنوت منّه أقبّل جبينه، همستُ في أذنيهِ ” اصطفاكَ الله، فهلّا كنتَ لنا شفيعاً عنده.” نظر إليّ بعينين كساهما الرضَا، رأيتُ فيهما الأمل، تلكَ المخاوفُ التي أحاطت بالقلبِ تبددت حينَ أجابَ بصوتٍ مستعجلٍ في طريقهِ إلى الجنان ”عرفتُ لمَ فعلت ذلكَ يومها، أشهدُ ألا اله إلّا الله، وأنّ محمداَ رسول الله! والله إن النصر لقادم، اصبروا، انتظروه، الجنّة أجملُ بكثيرٍ من كلّ الأوصافِ والصور، الجنّة أعظمُ مما تمنيتُ كثيراً كثيراً” أطبقَ الشهيدُ أجفانه لتزداد ابتسامته اتساعاً، أخذت أتطلعُ إلى محيّاه طويلاً، وفجأة اختفت من أمامي جمعاءُ الصور، لا أشعُر بالألم! لستُ أعلم ما إن كنتُ في عداد الموتى أم أنّ بدني المرهق وذهني الفاتر لم يقويا على المواصلة لأكثر من ذلك! انتهت قصّتي القصيرة التي تمثل فصلاً في رواية استمرت من بعد ذلك طويلاً! لم أصحو إلّا بعد أيّام من تلكَ الملحمة، فلم أجد لساني إلا مقسماً بأن يثأر!
نعم غداً نثأر!
*
تلكَ روحي أزهقت وذاكَ دمي على أرضِ الميدانِ قد سالْ
باسمُ الثغرِ أقبلتُ على رصاصٍ غادرٍ بيني وبينَ الحلمِ حالْ
بأيّ حقٍ خانوا العهدَ باعو الغدّ أدموا القلبَ قتلوا الرجالْ
كلّ بوقٍ لهم كانَ للمينِ قوالاَ ما من رشدٍ إلا وعنه قد مالْ
نهجهُ الغيّ سبيله الزيغُ يقولُ الصدقّ أقولُ وما يوماَ الحقُ قالْ
للجندِ خاضعٌ للسوطِ عابدٌ للضيمِ داعمٌ ومن عرضي قد نالْ
في أعينهم مُتَّضِع وأنا ذاك الذي على أسيادهم قد صالَ وجالْ
أهتفُ أعزلاً والصُداحُ هو السلاحُ ضدّ حيفٍ للسويّة اغتالْ
أنا في القيدِ حرّ وتحتَ الترابِ حيّ فذاكَ إزماعٌ لم يألف الكلالْ
إن صدري لسهامكم متسعٌ بها ارموني فإنّ عزمي من جبالْ
لله كانت غضبتي للحقّ كانت صيحتي لوطنِ يسمو إلى الكمالْ
سأكون سعيدة لسماع آرائكم وانتقاداتكم البناءة، مع العلم بأنّ ما روي لي كان يحمل تفاصيل أكثر من ذلك ولن ينتهِ عن ذاك الحد إلا أنّي آثرت إنهاء قصتي القصيرة هنا، لأستخدم بقيّة التفاصيل في موضوعٍ آخر.
ملاحظة: القصّة ليست معروضة لتناقش سياسياً إنما أدبياً، والرجاء ممن ينوي تحويل الموضوع لجدال سياسي أن يوفر جهده لمكانٍ آخر.
*
دمتم بودٍ
المفضلات