- جيَنا ، هل أنتِ جادَّة ؟ نحُضر خمسَة أطفالٍ مِن وسَط إحدى المنازلِ القدِيمةِ ونتبنَّاهم هكذا دُفعةً واحدَة ؟!، أوهـ أرجُوكِ فكرِّي بمنطقَّية ، إنَّهم بشَر ، وليُسوا لُعباً ، يحتاجُون
لطعام ملابِس ، رعاية تربيَة ، علينا إعادةُ تأهيلهم ، ومحُوا كلَّ الصَّفات السلبيَّةِ الِّتي ربتَّهم عليَها تلَك البيْئةُ القذِرةَ ثم ما هَذا ؟! اشتريته ؟ أتقولِين اشترِيته ؟! كيَف تفعلِين ذلِك
وتعرِّضين مهنتِك للخطَر ؟! أتعلِمين أيَّ قانونٍ انتهكِت الآن ؟!
هكذا انفَجر غاضباً ، بعد أن عادَت زُوجته تحملُ طفلاً صغيراً بالكاد وراته خلفَ حجرةٍ بعيدةٍ بعد أن نام بسلام . احمرَّ وجهه ثم قال وهو يختتَم سيْل كلِماته :
- سأتصَّل بالشَّرطَة حالاً ، تلك العجُوز امرأةٌ نصَّابَة !
وقَفت أمام طاولِة العشاءْ فقَط لأنَّ زُوجها وقَف مُنفعلاً ونقَل إلِيها ذلِك الغضَب فانعكَس على نبرِتها :
- لن تفعل ، سأتحَّمل المسؤوليَّة بعد أن يبتعد الأطفالُ عن تلك العجُوز بالقدِر الكافِي !! دِعني أنقِذهُم ولا تتركُهم ليمُوتوا هكذا
تنَّهد ويليَام وبرقَت عيناهُ الزَّرقاوان إذْ أنَّه و رُغم شخصيَّته الطَّيبة ومحبَّته العميْقةِ لزوُجته لم يكُن قادراً
على الخرُوج عن طريْقةِ تفكيرهِ المنطقيَّةِ فِي هذا المُوقِف فواصَل كلِماته :
- أنا لا أعنِي تركُهم يموتون !، لكنَّني أريُد حلَّ الموضوع بالشَّكل الصَّحيح !! أتعلِمين بأنَّ تلك العجُوز لو كانت ماكرةً فعلاً فلسُوف تقُول
ببساطةٍ أنَّكِ اختطِفت الطَّفل وأنها لم تستلِم منكِ أيَّ مال !!
- أعلُم ذلِك وأنا مُستعدّة تماماً للمجازفة ، أرجُوك عليك أن تفكَّر جيداً كان ذلِك هُو الحلَّ الأمثل ، أنت لا تعلُم كم كان وضعهم مريعاً !!
كانَ الانفعالُ قد طال نبرتها فِي تلك اللَّحظة بأنفاسٍ متهدجةٍ ووجهٍ محمرّ .
هدَّأً ويليَام من رُوع أنفاسِه بعد أن استرَجع الأحداث الِّتي ألمَّت بزوجته هذا اليُوم فأخرجَتها عن اتَّخاذ القرار السليم لذلِك أمسَك كتفيها ودفعها للجلوِس على الكرسيّ مقابِله ،
ردَّد بنبرةٍ خافتَة بعد أن اتَّخذ مكانه خلف تلك الطاولة الصَّغيرة من جديد :
- أعلُم حجَم هذا الألَم ، مرَّ على زواجِنا عشرُ سنواتٍ ولمْ نُرْزق بـ ..
قاطَعته وهمَست : ليَس هذا ، صدّقني ليَس هذا هُو السَّببْ ، إنّني أبداً لم أقِصد شيْئاً كهَذا ولكِن
تنفَّست رسَمت ابتسامةً شاحبة ثم قالت بنبرةٍ عميْقة وصوتٍ متقطِّع :
- أنا .. أنا شعرُت بشيءٍ غريْب ، ذلِك المنزِل ،
قطَّبت حاجبيْها ارتجَف صُوتها :
- إنَّه مخيْف ، أولئِك المساكيْن كانُوا على بُعدِ خُطوةٍ مِن المُوت ، لوُ أنَّك رأيَت كيَف كان المكانُ مخيْفاً
كاد ويليَام أن يتحدَّث لكنَّها قاطعته :
- أعلُم أنَّك ستقُول أنَّني شعرُت بالرّعب لأن الحريْق دبَّ فجأةً بعد وصُولِي لكنَّني مُعتادةٌ على التَّواجُد فِي تلك الأحياء ، أبحثُ هنا وَ هُناك يستنِجدُ بِي بعضُ الفقراءِ وأنا أدرُك ما يُوجد هنُاك جيَّداُ رأينا أنا وأنت الكثيْر حيَن كانت لنا نشاطاتنا التطَّوعيَّة ، لكنَّني أقُسم لكَ بأنّ في ذلِك المنزلِ ما يُثيْر الـ .. الـخُوف! الاشمِئزاز الرَّعب ، وجُهها ، وجوهُ الأطفال ،
ذلك الفتى أكبرُهم إنَّه يُدرِكُ شيْئاً مَّا ، إنَّهم يتعرَّضُون لـ سُوء معاملَة ، أدرُك ذلِك فعملِي كمُحاميةِ سمَح لِي بتفحَّص وجوه المجرمين جيَّداً لأدرِك أنّ تلك العجُوز على قدرِ كبيْرِ
مِن الخُبث ،
رفعَت رأسها وردَّدت :
- أخشَى أنَّني قد وصُلت مُتأخرةْ ! .. إنَّني لا أدرِي ، أشعُر وكأن عليَنا إنقاذُهم سريْعاً
و أجهشت بالبكاء ولكنَّها واصلت كلامِها رُغم تقطِّع صُوتها :
- فتحت النَّافذَة ورأيُتهما ، رفَع الفتاة لـ أمدَّ يديَّ نحُوها وأساعدَها على الهروُبِ مِن الحريْق ، أردَّت الاتَّصال برجال الإطفاءِ لكنَّ .. لكنَّ تلكَ العجُوز منعتنِي ، تصَّور ذلِك !
رفعَت رأسها وعينيَها الممتلئتان بالدًّموع تحدّثتا بأكثر ممَّ تقوله كلِماتها :
- تلك العجُوز ، طلبَت منَّا إخماد الحريْق ، كانت خارِج المنزِل ، ولم يكُن ليُصيْبها شيْء ، وقَفت بجانبِي ، وكلَّ ما قالُته هُو لنُطفِئ هذا الحريْق اللَّعيْن ، وحيَن .. حيَن رفُعت
رأسِي لملامِحها ، لم تكُن خائفة ، لم تكُن ، قلقَة ، كانت غاضَبة غاضبةً جدَّاً كما
وشهَقت بفزَع واضعةً يدَها على فمِها لكنَّها لم تستطع مَنع الكلِمة المُعلَّقة بذِهنها :
- كما لُو كانت .. كما لو كانت لا تريُد لهم النَّجاة
وحيَن لاحَظ ويليَام أنَّ هذا الحديْثَ سيتجَّه إلى ما لا تُحمد عقباه مِن الأوهام بسببِ فزِع زوجِته وخُوفها الشَّديدْ ، أمسَك كفَّها ،
وهَتف بصوُتٍ حآزِم مُطمئنٍ في آنٍ مَعاً :
- توقَّفِي .. توقِّفي ، إنَّكِ تؤذِين نفسكِ بالتَّفكيْر هكذا ، لا داعي للقلَق ، وكلِّ تلَك الأفكار السَّوداويَّة ، أنتِ حقَّاً ، خائفَة وقلقَة ، ربَّما كان الحريقُ وشرَّ تلَك العجُوز هو السَّبْب ،
لكنَّها لا يُمكِنُ أن تحرِق بيَتها وهي فقيرةُ وتضَع نفسَها موضِع شبهةٍ ، ثُمَّ إنَّها عرضَت مبلَغاً مقابِل أولئِك الأطفال ، إذَن هيَ تريُد بيعهمُ والتَّخلص مِنهم ولكِن ليَس
بالطَّريقةِ البشعَة !
عمَّت لحظةُ مِن الصَّمت هدأت خلالها جينا قليلاً فِيم واصل زوُجها كلِماته :
- لكنَّ ما فعلتِه يَا جينا ، لم يكُنِ القرَار الأمثَل ، اسمعِيني الآن جيَّداً ، لن اتصَّل بالشَّرطة أعدُكِ ، فبأيَّ حالٍ سيعرَّض ذلِك سمعتكِ للخطَر وستدخلِين فِي متاهةٍ معقدة ،
لذلِك لنأخُذ الأمر برويَّة و لنبحث عن حلٍ يكفُل وسيلةً مرضية للجميع.
كان قَد نجَح فِي جَذب اهتمامِها وَ نبِذ الانفعالاتِ جانباً فتشجَّع بعد لحظةٍ من الصَّمت ثم قال :
- السَّيد ريتشارَد ، مدير دار الرَّعاية أنا أعرفه جيداً سأرتبَّ معه الأمر وسنأتي معَك لنأخُذ الأطفال من تلك العجُوز بطريقةٍ قانونيّة كلَّ ما عليَنا فعله هو أن نثبت عدَم وجود
قرابةٍ بينهم سيتكَّفل المسؤولون بهذِه الأمُور لذا لا داعيَ للتَّهُور ، سيحقَّقون بشَأنها وسنتمكنَّ من وضعهم فِي الملجأ فهذا هُو المكان المناسِب لهم ، لذا انتظرِي ليومٍ واحدٍ فقط ولا تذِهبي غداً بتهوّر!
فَّكرِت جيَنا ، ربَّما لن يرَى الأطفال بعضهم ، ربمَّا تفرَّقهم ولكِن مقابِل ذلِك ، بيْئةٌ جديْدَة ، أسُرٌ أخرى تتبنَّاهم مِن دارِ رعايةِ موثوقَة ، أجل ستحرصُ على مُتابعةِ حالتِهم ،
ورؤيِة منزِل وحالِ ووجوه كلِّ أسرةِ تعرضُ أخذَ واحدٍ مِنهم ، سُوف تراهُم يكبُرون وتزُورهم بيَن الفنيةِ والأخرى ، و تلَك العجُوز ، ستعرُف مِنها الحقيْقَة ، أهيَ شبكةُ تسَّول ؟
هل يُوجد بقيَّة ؟ ما الّذِي يتعرَّضُ له الأطفال ؟
لكنَّها استدركَت فجأةً فتساءَلت بنبرةٍ امتزجَت بكثيرٍ من الرّجاء :
- وَ هـ هذا الطّفل ؟! مايَكل !
أغمضَ ويليَام عينيه للحظةٍ محاولاً تحاشِيَ الإجابَة لكنَّ جيَنا استلمَت زِمام مبادرةِ الإقناع هذِه المرَّة حيَن عانقت كفَّه الممتدَّة فُوق الطاولة وتحدَّثت قبْلَ أن يُجيب :
- اسمع ، عزيزِي أرجُوك فكّر جيَّداً ، إنه مجردّ طفلٍ برئ لن يَّسبب لنا المشاكل ، تقُول بأنَّك تعرُف السَّيد ريتشارَد إذَن سنطلُب منه تسهيل إجراءات تبنيَّه الرَّسمية ، امنحنيَ هذِه الفرصَة وسترى كيَف ستكُون حياتنا صدّقني لن نندَم على هذا القرَار أبداً !
صارع ويليَام أفكاره لمدّةٍ طويلةٍ فِيم صمَتت جيَنا فِي ترقَّبٍ واضحٍ أتى لها بالجواب بعد طول انتظارٍ حيَن أطلق الرَّجل تنهيدةً عميقةً ليفصَح معها بتردَّد :
- حـ حسناً ، سـ أحادثُ السَّيد ريتشارد وأطلعه على جوانِب الأمُور كلِّها
رفَعت رأسها برَقت عينيَها فرحاً هتفت كطفلِ :
- أتعِني بأنَّك موافقٌ الآن ؟! أحقاً أنت كذلِك ؟!
ابتسَم ويليَام بشحوبٍ غير واثقٍ ممَّ إذ كان قرارهُ قد أتى بوحي اللَّحظة أم كان موافقة حقيقيَّة.
قبل هذا الشجارِ كانت الحادثُة الأساسيَّةُ الِّتي دفَعت جينا لـ اللِّقاءِ بمجُموعةَ الأطفالِ فِي ذاك المنزلِ العتيْق ، هُي زيارَتها لـِ منزلِ موكَّلتها فِي مساءٍ حالِك الظَّلمَة ، تجاوَزت خلاله
زقاقاً صغيْراً لأحد الأحياءِ الفقيرةِ ، و وصَلت لمنزلٍ متواضِع فِي الطَّابِق الأوَّل المُهترئ لبناءٍ صغير ، كانت بالأحرى غرفةً واحدةً قليْلة الأثاثْ ، رقدَت فيها على سريرِ حديدِّي
قديْم الطَّراز امرأةُ فِي خمسينَّياتها وهي السَّيدة جُوناثان الِّتي تحاُول رفَع دُعوى قضائيَّةٍ ضدَّ زُوجها الِّذي اعتدى عليَها بضربٍ أرقَدها على هذِه الَحال و وقَفت بجانبِها ابنَتها هزيْلُة البنيَة طُويلة القامِة بشعرٍ بنِّي طُويلٍ عقدَته إلى الخلِف وفُستانٍ أبيضٍ رثَّ ! كانت عينَاها قلقتان ، خائِفتان دوماً إذ يبدُو بأنَّها واجهت وقاسَت مع والدِها الكثيْر ممَّا يجُعلها
بهذا الحُزِن وهذا التَّوجسِ أمامَ كلِّ طارِق ، لكنَّ إدخالها لـ السَّيدة جينا بعد أن أفصَحت الأخيرة عن هويَّتها قد جعل الكلِمات تندُفع من فِمها بحرارة :
- آوهـ سيَّدة باروتن ، أنِت هُنا .. أنِت .. قبلتِ المجيْء أنا حقَّاً مُمتنةُ لكِ ، انُظرِي ، إنَّها إنها والدِتي .. إنَّها مريْضَة ،
والدِي فعَل بها ذلِك وهي .. وهي
وبكَت قائلةً : لا تستطيُع الحرَكة !
حاولت جينا رسم تعبيرٍ مطمئِن على وجهها ، تماسكَت ومضَت نحُو السَّيدةِ سحبَت مقعداً لـ الآنسة ليلَيان وطمأنتها :
- لا تقلِقي ، إنَّ هذِه القضايا ليست صعبة فِي المحكَمة ، والدِك سينالُ جزاءُه ، لن يؤذِيكُما ثانيةً ، عليَّ فقط الاستِماع لوالدتكِ الآن ، لذا اهدئي ولنجلِس معاً ،
ونتحدَّث حُول كلِّ شيءْ
جلسَت الفتاةُ وقد هدأت فُوراً أمَّا الوالدةً المُنهكةُ فقد كانتَ أكبرَ مِن عُمرها بكثيْر ، لكَّن فِي عينيَها عزيْمةً قويَّة على أن تتحدثَّ رُغم كلِّ ما تعانِيه من ألم حُول القضيَّة ،
كانت جينا تكُتب وتسألُ وتنُتظرُ بكلِّ صبرٍ وهدُوءٍ بكاءَ الأمِّ وابنَتها وكلِماتهم المتقطَعة وهنَّ يحاولَن وصَف أحداثِ تلَك اللَّيلَة ، كان لدِيها تلَك الهالةٌ التّي تمُنح اطمئناناً ، جَعل
كلمِاتهِم تخرُج بصدِقٍ لـ تضَعها أمام صُورةِ واضحةٍ لمُعطيَات تلَك القضَّية.
وسَط ذلِك الانشَغال علا صُوت صراخٍ مِن الخارِج ، نداءَاتُ استغاثةِ وأصُوات تناِدي ، أسَرعَت جينا وليلَيان لفتحِ النَّافذَة ، كان المنزُل أمامُها ، ذاك الّذِي يفصُله عَنهما طريقٌ طينيّ واسعٌ بعضَ الشَّيءْ يحترقُ ، النّيرانُ تلتهُمه ، خصُوصاً تلك النَّافذَة الواسَعة ، لاح لهما طيفُ طفلٍ يقُف خلفها محاوُلا رفَع طفلةٍ لم تتجاوَز السَّادسَة ، مدَّت جينا يدَها نحُوه
وصرَخت :
- أعطِني الطّفلة
حاولَت الخرُوج مِن نَّافذَة منزلِ السَّيدتين وقد نجَحت بذلك إذ كان المنُزل يقُع فِي الطَّابِق الأول عبرَت الزَّقاق القذِر ولم تعبأ بالحريْق الّذِي اشتعل للتَّو ولكنَّه كان ينتشرُ بضراوةٍ وبدا
أن مصدرُه هُو السَّقف ، كانت الطَّفلةُ تبكِي وترفُض الخرُوج بيَنما بدأ الجوُّ الخانق بإحاطة المكان ، بعَد لحظٍة ابتَعد الأطفالُ عن النّافذَة لأنَّ النَّار وصَلت إلِيها صرَخت جينا ،
وحاولَت المضيَّ نحُوهم أوقَفها صُوت العجُوز الِّتي جرَت نحُو المنزِل :
- توقَّفِي لنُطلِب المسَاعدَة
التفتَت المرأة بفزعٍ فالتقت عينيها بوجهٍ غاضبٍ حانق ليْس قلقاً ولا خائِفاً ، لامرأة ذات سطوةٍ مخيفةٍ صرخَت جيَنا على إثرِها :
- ليلَيان اتصَّلي برجال الإطفاءْ !
ردّت العجُوز بصرَخةٍ نافية :
- لا يُوجد وقَت اطرقي أبواب الجيران ليهبَّوا إلِينا ! لنطفيء هذا الحرِيق اللَّعين بســرعـة!
خرَجت ليَليان من المنزل طرَقت كلَّ بابٍ تعرفُه ولا تعرفهُ مضى الجميُع مذُعوريَن ، بدءوا بإخماد الحريْق ، أطفئِت النَّيرانُ ولكنَّ عازِل النَّافذِة البلاستيكيّ المتيَن كان قد تآكل تماماً
نظرَ الجميُع إلى المنزلِ المربَّع ببناءِه الحجرِي الصّلب وقد كان صموده معجزًة بحدّ ذاتها ، فقد أوقفوه فِي اللَّحظة المناسبة وكان أثر الحريق طفيفاً إذ لم يتعدَّ اسوداداً غزَ معالم
السَّقف والجدارِ الّذي أحاط بنافذته الوحيدة .
بعد ذلِك اندَفعت جينا من بيَن ركام نافذة المنزلِ المُحترقَة ، تنَّهدت وردَّدت وهي تقلَّب نظرَها بيَن الوجُوه الصَّغيرةِ المذُعورَة :
- هل أنتم بخيْر ؟
ونظرَت إلى الطّفليْن الباكييْن الفتاة ذات الأعوام السَّتة والطَّفل الأصغر فِي المجمُوعة احتضنتهما وردَّدت :
- لا بأسْ ، أنتم بخيرٍ الآن لا داعِي لهذا الذَّعر
رفَعت رأسها كان أمامها طفلٌ أشقُر الشَّعر ، ذُو بشرةٍ شاحبةٍ وبنيةِ ضئيلةِ رُغم طُول قامِته ، كان بنطالُه القُماشِي القذُر ممزَّقاً وقميُصه الأبيُض بحالٍ يرثَى لها ووجهٍ
خائف مُتسَّخ خلفُه لمحت فتىً وَ فتاةْ أصغَر بقليل ، توأمان لطيْفاًن شديدا البيَاض يميزَّهما شعرٌ أحمرٌ غريُب اللّون لم ترَى أحداً بمثِل حمرِته أبداً ، كانا يمسكَان ببعضُهما
والدَّموع تتحجَّر في عينيَهما ، الثيَّاب الرّثة ذاتها وملامح مختلفة .
انتقلتَ ببصرِها إلى الطَّفل الأصغر ببشرةِ سمراء و عيني سودوايْن وشعرِ داكِن بذات اللَّون ، والطفَّلة الصَّغيرةُ الجميلةٌ ، بشعرِ فاتح متموَّج وعينيَن خضروايْن نضرتيْن ،
عادت لـ التوأمان المتطابقان تماماً بذاتِ العينيَن الرماديَّتين و الشعرٌ الأحمرٌ المميَّز ، والطفَّل الأكبرُ في المجُموعة ذكيَّ العينيَن إذ التمَعت زُرقتهما وتناسَبت مع شعرِه الأشَقر
الملامِس لكتفِيه ، عرفَت جينا أنهم ليُسوا من عائلةِ واحدَة فهتفت :
- أين المسئُول عنُكم هُنا ؟
فُتِح الباب فكانِت العجُوز ذاتَها قبل قليْل ، بوجهٌ غاضَب وملامحُ قاسيَة صرخَت مؤنّبةً :
- من منكُم عبَث بمنزلِي أيَّها الأشقياءْ ؟!
كانت تلك المرأة القصيرة بوجهها المخيف وعينيها الغائرِتين قد جاءَت أخيراً بعد أن فضَّت الحشُود المُجتمعة بكلِمات نكران لا تُوازي معرُوفهم
معها قائلةً بأنها لم تُعُد بحاجةٍ إلى وجودهم.
نظرَت نحو جينا بـ حَنق :
- أنتِ ؟ الفتاةُ قبل قليْل ؟ كيَف دخلتِي ؟!
أشارتَ المرأة نحو النَّافذَة وقالت :
- حسبُتكِ رأيتني ، فقَد دخلتُ مِن هُنا !
ثُمَّ ردَّدت بعَد أن نظرَت حُولها إلى الغرفةِ الخاليةِ من الأثاث باستثناءٍ سجَّادةٍ قاسيةٍ فُرِشت على أرِضها :
- أنتِ المسؤُولة عُنهم ؟!،
ردَّدت العجُوز :
- أجل أنا ، لماذا تسألِين ؟!
- إنني أتساءُل عن سببِ الحريْق ؟ عليكِ الاتصَّالُ بـ ..
قاطعتها السيَّدة المسَّنة بانفعال :
- لا داَعِيَ لذلِك فأحدُ هؤلاءِ الأشقياءِ هو سبُب كلِّ ذلِك حتماً !
ثُمّ نظرَت بحسرةِ إلى الجدار الشاحب خلَف جينا وقد اسودّت حدود نافذته ، هتفت وهي تتوجَّه إلِيه :
- منزلِي ، منزلِي و الشَّيءُ الوحيدُ الّذِي أمتلكُه في هذِه الدَّنيا ، ماذا سأفعلُ الآن ؟ !
شعرَت المحاميُة الشَّابةُ بالحنقَ فحاولَت كبَح جماح غضبِها :
- سيدِّتي ، كان الأطفالُ فِي خطَر !
بدا وكأنّ تلك العبارة قد أيقظَت العجُوز مِن رثاءِ منزلِها إذ اتجّهت نحوُ أكبر الأطفال وكادت لتمسِك وجنتيهِ لولا أنَّه تراجَع
فقَالت بارتجافةٍ مُصطنعَة :
- دان ، ماذا حصَل ؟
تراجَع الفتَى باشمئزازٍ وقد كان فِي عينَيه حنقُ وخُوفُ ممُتزج بغضبٍ مكبوت ثم أطلق تساؤُله بنبرةٍ لا تفسير لها :
- لا أعلَم ، كيَف نتسَّبُب بالحريْق وقَد كُنَّا مُحتجزيْن هُنا ؟!
هتفت جينا : مُحتجزيْن ؟!
يتبع .. ~
المفضلات