علي بساط سحري ، حملتنا نسائم الفجر العليلة إلي ما وراء جبال النسيان ، حيث امتدت الرمال الذهبية تلمع علي ضوء الشمس في بداية رحلتها إلي كبد السماء الزرقاء ، المزدانة ببقع من السحاب الأبيض كأنها نتف قطنية نثرها فنان لتكون ظهراً لذلك الفارس الذي وقف يروي عطشه ويريح فرسه من عناء السير ...
بطوله الآدم ، وجسده الضخم ، وشعره الكثيف ، وعينيه اللتان تنطقان بالحكمة والأناة ، مع تلك القبضة القوية التي تمسك بحزم لجام جواده ، كأنه يتحدي ما يحيط به من جبال في شموخ ، يدفع ذهن الناظر إليه إلي محاولة التمحيص في شخص هذا البشري ، ليرد صوت من عمق التاريخ قائلاً :
" إنه من قال فيه أصحابه: أول من عَدَا به فرسه في سبيل الله... إنه المقداد بن الأسود ... "
الاسم / المقداد بن عمرو
الميلاد / قرابة 35 ق.هـ
الوفاة / 33 هـ
مكان الوفاة / المدينة
مكان الدفن / البقيع بالمدينة
هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة القضاعى الكندي البهرانى ، أصاب والده دماً في قبيلته الأصلية فلاذ بجوار كندة وهناك بقي حتى تزوج وأنجب المقداد ، وإذ بصاحبنا يخطو علي درب والده ، فيصيب ساق أحد شيوخ كندة ، ثم يلوذ بالفرار إلي قريش ، فيجاور الأسود بن عبد يغوث القرشي الذي تبناه فصار يلقب ( المقداد بن الأسود ) حتى نسخ القرآن التبني فرد نسبه إلي والده " عمرو بن يغوث "
إنه يكني بأبي العبد ، الكندي نسبة إلي والده ، واشتهر بالأسود وفاءً لمتبنيه وحليفه .
المقداد هو من أولئك السبعة الذين قال عنهم عبد الله بن مسعود :" أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلي الله عليه وسلم ،وأبو بكر ،وعمار ،وأمه سمية ،وصهيب ،وبلال ،والمقداد _ رضي الله عنهم جميعاً _ "
ولكن مكانته – رضي الله عنه – لم تتوقف عند هذا الحد ولكن الرسول - صلي الله عليه وسلم – قال:
"إن الله تعالي أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم.
قيل: يا رسول الله، سمهم لنا..
قال: علي منهم – كررها ثلاثاً – وأبو ذر ،والمقداد ،وسلمان "
وروي عنه أيضاً أنه قال :" إنه لم يكن قبلي نبي إلا قد أعطي سبعة رفقاء، نجباء، وزراء، وإني قد أعطيت أربعة عشر ... حمزة، وجعفر، وعلي، وحسن، وحسين، وأبو بكر، وعمر، والمقداد، وعبد الله بن مسعود، وأبو ذر، وحذيفة، وسلمان، وعمار، وبلال ."
كان المقداد وعبد الرحمن بن عوف جالسَيْن؛ فقال له: مالك ألا تتزوج؟. قال: زوجني ابنتك. فغضب عبد الرحمن وأغلظ له، فشكا ذلك للنبيّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم؛ فقال: " أنا أزوِّجك ". فزوَّجه بنت عمه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، ولم يكن له من الأولاد إلا كريمة بنت المقداد .
تحكي لنا عنه ابنته كريمة فتقول :
" كان رجلًا طويلًا آدم، ذا بَطْنٍ، كثير شعرِ الرّأس، يُصَفّر لحيته وهي حسنة وليست بالعظيمة ولا بالخفيفة، أعْيَنَ مقرون الحاجبين، أقْنَى. "
إن هذا الفارس المغوار قد شهد مع الرسول – صلي الله عليه وسلم- بدراً وأحداً والمشاهد كلها، وعرفه التاريخ كواحد من رماة الرسول – صلي الله عليه وسلم – وفرسانه ، ولكن شهرته جاءت من موقعة لولاها لما كان أخذ حقه من الرواية ..
إن رمال بدر المتحركة لا تزال ترسل قصة أبي العبد مع رياحها كثيرة الغبار إلي أسماع كل من يطأ تلك الأرض الترابية، وها هو عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – يروي لنا ما كان منه من بطولة فيقول:
" لقد شهدت من المقداد موقفاً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما في الأرض جميعاً "
أتي رسول الله يوم بدر وقد أقبلت قريش بخليها وخيلائها ، والمسلمون قلة ، لم يخوضوا في بلاء قبل هذا ، وإذ به يقف ليحصر جيشه ، ويحصي قواته ، ويقيس استعدادهم للمواجهة ، والأهم أنه كان يشاورهم في الأمر ، ولكن صاحبنا خشي أن يسمع أحدهم النبي – صلي الله عليه وسلم – كلمة تقع في نفسه موقعاً ، ولكن أبا بكر قال فأحسن ، وتلاه عمر فقال فأحسن ، ثم تقدم المقداد فقال :
" امض يا رسول الله ..
امض لما أراك الله ، فنحن معك ...
والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسي:
" اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون "
بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكما مقاتلون ...!!
والذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلي بَرْكِ الغِماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . ولنقاتلن عن يمينك ، وعن يسارك ، وبين يديك ، ومن خلفك ، حتى يفتح الله لك "
انطلقت الكلمات، كهزيم الرعد في ليلة ظلماء، ليشرق وجهه الكريم – صلي الله عليه وسلم - ، وتسري الحماسة في صفوف المسلمين ، فيهب حامل لواء الأنصار ، سعد بن معاذ، ويقول:
" يا رسول الله ،
لقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك علي ذلك عهودنا ومواثيقنا؛ فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك.
والذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدوك غداً.
إنا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا علي بركة الله"
وها هو – صلوات الله وسلامه عليه – يقول لأصحابه :" سيروا وأبشروا "
إن الشجاعة لم تكن وحدها الصفة التي تميز المقداد، ولكنها سارت جنباً إلي جنب مع الحكمة، فجاءت الاثنتان ممتزجتين متناسقتين، لا تغلب واحدة الأخرى، بل تقويها ..
إنه كان لا يدع طريقاً للذنوب إلا وتركه، وإن كان فيه كل ما يجذب النفس من شهوات.
أرسله رسول الله – صلي الله عليه وسلم – علي رأس سرية ما، فلما رجع سأله: "كيف وجدت الإمارة" ؟
إذ به يقول، والصدق يجري منه مجري الدم في العروق:
" لقد جَعَلتني أنظر إلي نفسي كما لو كنت فوق الناس، وهم جميعاً دوني ..
والذي بعثك بالحق، لا أَتَأمَّرنَّ علي اثنين بعد اليوم، أبداً "
إنه – رضي الله عنه وأرضاه – رفض الإمارة التي يتغني بها الناس ويتفاخرون، حتى لا يشعر بالزهو والكبر، فيخطئ، وكان يتغني دائماً بقوله – صلي الله عليه وسلم - :
" إن السعيد لمن جُنِّب الفتن "
فإذا كانت الإمارة تجعله يفتن، فلا داعي لها إذن!!
كان المقداد أيضاً يرجئ حكمه علي الشخص، حتى إذا جاءت لحظة موته، فلا يتبدل ولا يتغير، أخبر عن رأيه فيه، فقد علمهم النبي الكريم أن قلب ابن آدم أسرع تقلباً من القِدر حين يغلي.. !
يروي لنا أحد أصحابه فيقول :
" جلسنا إلي المقداد يوماً، فمر به رجل..
فقال مخاطباً المقداد: طوبي لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلي الله عليه وسلم ..
والله لودِدنا أنَّا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت، فأقبل عليه المقداد وقال:
"ما يحمل أحدكم علي أن يتمني مشهداً غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه ؟؟ واللهِ، لقد عاصر رسول الله – صلي الله عليه وسلم – أقوام كبَّهم الله عز وجل علي مناخرهم في جهنم..
أولا تحمدون الله الذي جنبكم مثل بلائهم، وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم"..
إن هذه لهي أقصي درجات الحكمة !!
ألم يكن ممن عاشر الرسول أقوام كفروا به وكذبوه ؟!
أليس الأفضل أن يحمد من تلاه وهو علي دينه ربه أن رزقه خير الدنيا والآخرة ؟
هذه هي بصيرة المقداد الثاقبة وحكمته الراجحة، وتفكيره السليم .
***
كان حب الإسلام ورسول الإسلام يتملك قلب المقداد، فيملأه مسؤولية تجاه حماية هذا الدين الحنيف، فها هو ذا يخرج يوماً في سرية، تمكن فيها العدو من حصارهم، فأصدر الأمير أمره بألا يرعي أحدٌ دابته، ولكن أحد المسلمين لم يحط بالأمر خُبْراً، فخالفه، فتلقي عقوبة لم يكن يستحقها..
مر المقداد بهذا الرجل يبكي، فسأله الخبر، فخبره، فانطلق صاحبنا إلي الأمير آخذاً بيمين الرجل، فكشف للأول منهما خطأه وقال:
" الآن أقِدْه من نفسك، ومكنه من القصاص "
فأذعن الأمير وعفا الرجل، وإذا به يقول في فخر :" لأموتنَّ والإسلام عزيز "
كان له غلام رُوميٌّ؛ فقال له: أشقّ بطنك فأخرج من شحمه حتى تلطف، فشقَّ بطنه ثم خاطه؛ فمات المقداد، وهرب الغلام. وقيل أنه شرب دُهْن الخِرْوَع فمات.
توفي رضي الله عنه بالجُرُف على ثلاثة أميال من المدينة فحُمل على رقاب الرجال حتى دُفن بالمدينة بالبقيع وصلّى عليه عثمان بن عفان، وكان له سبعون عاماً أو نحو ذلك .
أوصي إلي الزبير بن العوام ، ومدحه بعد موته عثمان بن عفا - رضي الله عنهم جميعاً ..
رحم الله المقداد بن عمرو ، ورضي عنه، كما أعز الإسلام، وأحيا سنة نبيه عليه الصلاة والسلام .
واشكر كل من تابعنا الى نهاية الموضوع واتمنى انه حاز على اعجابكم
المفضلات