بسم الله الرحمن الرحيَم *
؛
(1) لمرة واحدة دعني أحييك *
- سيّد سكارليت ، أين أنت ؟ !
صاحت الجدة (بيرتا) بهذا السؤال بقلق كما تفعل كل مرةٍ تدخل فيها الغرفة رغم أنها تعلم تمام
العلم أن السيّد سكارليت لن يكون إلا في مكانه المعتاد وَلن ييتعد بأي شكل .
كانت تلك الغرفة هي غرفة ( السيّد سكارليت ) كما تقول الجدة (بيرتا) ، لكن قبل أن تزورها هي
في كل ظهيرة لتصيح بسؤالها الشهير ، و تطمئن عليه ؛ ماكان يُسمح لأي كان بالدخول إليها ولم يكن
أحدٌ من أفراد العائلة يُفكر بذلك أصلًا ! لم يكن أحدٌ يهتم لا بالسيّد سكارليت وَ لا بغرفته الغامضة ، فبينما
يطرقون الممر جيئة و ذهابًا على مدار اليوم فأن أحدًا سيجفل لو أنكَ سألته : ألا تفكر بدخول غرفة السيّد سكارليت ؟!
سينظر إليكَ بعينين غائمتين مقطبًا حاجبيه بتساؤل : غرفة ماذا ؟! ثم سيهزُ رأسه وَ يعطيك نظرة سريعة تعني
" كلام بلا مغزى !" قبل أن يتركك مبتعدًا ، منغمسًا في شؤونه اليوميّة ؛ وَهكذا فإن أحدًا غير الجدة (بيرتا) ماكان
مهتمًا بالسيّد سكارليت .. سواي .
عندما يحين موعد زيارة جدتي لغرفته ، كنت أبقي باب غرفتي مفتوحًا قليلًا ، اضبط ساعة الجيب الذهبيّة للآنسه
(دولي) دميتي العزيزة ، ثم ارتب ربطة العنق لـ ( ميري بيري ) الدبدوب هديّة جدتي (بيرتا) لي في احتفال يوم ميلادي
السابع" آه ، يا ميري ألا يمكنك أن تصرف بتهذيب ليوم واحد فقط ! في كل مرة نجتمع لاحتساء الشاي أحتاج لترتيب
ربطة عنقك مرة أخرى .. أوه ، هكذا تبدو جيدة ، ألا توافقني ؟ " ألقيت عليه نظرة أخيرة ثم تنهدتُ بإرتياح : انظر إلى
نفسك ! تبدو كسيد مهذب ! و ماكدتُ انهي حديثي حتى دخلت جدتي في حين تعلقت عيناي بلهفةٍ على ملامح
وجهها وَهي تقدم لي الدعوة ذاتها كل يوم :
- حفلة شاي لطيفة ، أرجو ألا أكون قد قاطعتُ حديثُا مهمًا توجهينُه لميري يا صغيرتي ؟
أوه ! انظري لدولي البهيّة كيف تتعلق عيونها اللوزيتان عليكِ ! لابد أن حكاياتكُم مشوقه حقًا !
عندها فأنني أكشر ، اقطب حاجبي معلنة الاستنكار على قول جدتي المتطفل ، مانعة إياها من إبعادي عن فرصتي
التي انتظرها مع كل مقاطعة منها لحفل شاينَا المحترم ، ثم أجيبها :
- يا جدتي الحبيبة ! حفل شاينَا وَ الأحاديثُ الدائرة فيه سريّة ، بل في غايّة السريّه ! وَهي متاحة لأعضاء
نادي حفل الشاي الخاص بي فقط ، أنتِ تعلمين ذلك !
وَهكذا تشرقُ قسمات (بيرتا) الطيبه ، وترفع أحد حاجبيها لتبدو وكأنها تقرر أمرًا لتجيبني :
- بالتأكيد أعلم ، أعذريني على التطفل يا عصفورتي الصغيرة .. كنت أتسأل ..
- ماذا ؟!
- كنتُ اتسأل إن كنتِ ترغبين بمرافقتي لزيارة العزيز السيّد سكارليت .. لكن إن كنتِ مـ ..
- بالطبع يا جدتي ! بالطبع ! لكم يسرني ذلك
ثم لا أتمالك نفسي لأقفز من كرسيي الصغير وَ أغادر مائدة حفلة الشاي الأنيقة تاركة ورائي رفقتي
الطيبة ، ميري وَ دولي بالتأكيد هما يفهمانني ، أليس كذلك ؟ أنني ذاهبة مع جدتي لزيارة العزيز السيّد سكارليتْ .
* كررت بصوتٍ هامس سؤال جدتي الدائم حين دخلنا معًا الغرفة في ذلك اليوم " سيّد سكارليت ، أين أنت ؟! "
بالطبع أنتَ هُنا ! لا يُمكن لكَ إلا أن تكون هُنا فقط .. كما تفعل دائمًا ، أليس كذلك ؟ هكذا اعتدت الغوص في
دوامة أفكاري بينما كنتُ أتفحص الغرفة التي دخلتُ إليها..كأنني التقطتُ عدوى "لنطمئن على كل شيء هنا "
من جدتي ، أخذت أجيل ناظري في مساحات الغرفة وَ أركانها الداقئة ..كل شيء مرتب ، نظيف ، و رائحة اللافندر
تملأ المكان ؛ كان يخيّل إلي أن السيّد سكارليت هو من يعتني بالغرفة ويبقيها دائمًا بهذه النضارة كلما دخلنا لكنني اعلم
أن من يعتني بالغرفة حقًا هي جدتي (بيرتا) أما هو .. هناك .. فقط هناك .. حيث يجب أن يكون في ذلك الجزء من الغرفة
سرير ، لكن لا أثر لأي سرير بالطبع ، فالموقع الذي يتواجد فيه السيّد السكارليت هو خلف تلك الستائر الحمراء المخمليّة
الثقيلة ، تمتد من السقف مرتطمة بالأرض الخشبية المصقولة ، هناك تلتف الستائر حول شيء ما ، شيء يمثل
عالم السيّد سكارليت الوحيد .
وقفت في منتصف المسافة لا أجرؤ على التقدم ، أتابع جدتي تهرع لتفتح الستائر و تدخل ورائها ، اسمعها تتنهد بعمق
و تتحدث بين الفينة و الأخرى كأن السيّد سكارليت يرد عليها لأنني لم أكن اسمعه أبدًا يتحدث ، أعتقدتُ أنه
كان يهمس لها ..فهي بالتأكيد تتحدث معه ، و اسمعها تقول كلما دخلت : " أوه ! الحمدالله أنكَ هُنا يا عزيزي ..
لا تعلم مبلغ قلقي عندما فكرت ( تقاطع حديثها بضحة مرتبكه ) ثم تتابع : " بالطبع ما كان يجبُ أن أفكر بذلك !
وأنت كذلك أعزُ الناس إليّ ! .. نعم ، نعم هذا رائع لكم يسعدني .. لكم يسعدني أن أراكَ بحال أفضل كل يوم ..
لستَ كثير الكلام يا عزيزي لكني أفهم .. آه ، صحيح ! " تتوقف جدتي عن الكلام ثم تطل برأسها الباسم و عينيها
الحمراوتين من خلف الستائر ثم تسألني :
- السيّد سكارليت يرغب بتحيتك يا وردتي ، ألا تأتين ؟!
فأجيبها بـ " حالًا " مندفعة بلهفة إلى الأمام ، أمام الستائر السميكة .. أحدق فيها كما لو كان ذلك سيجعلني أخترق
نسيجها ببصري و أشاهد ماكانجالسًا خلفها ، أحنيت رأسي قليلًا ورفعت طرف ردائي في تحيّة سريعة ثم قلت :
- صباحكَ سعيد سيّد سكارليتْ .
ألقت جدتي (بيرتا) علي ابتسامة واسعة ثم التفتت تشمل السيد سكارليت بابتسامتها كذلك قبل أن تخرج مودعة
له ، واعدة إياة بزيارة قريبة في الغد بينما التفت أنا إليه أيضًا ألوّح للستائر ، أتبع جدتي للخارج .. هل بإمكانه أن يراني ؟
هل هو الآن يطل برأسه في الظلال يتابعنا ونحن نخرج ؟ أرجو أن يكون سعيدًا راضيًا حتى نعود في الغد في زيارة آخرى .
لكن الغد جاء ولم يحمل معه زيارة جديدة للسيد سكارليت .. كانت تلك الزيارة الأخيرة .
يُتبع *
المفضلات