.
.
إلتفتت عينيها هنا وهناك بحثاً عن مكانِ صدور الصوت , كانت أصواتُ الأقدام المقتربةِ والمبتعدة كثيرة
وبعد لحظةِ جمودٍ وإرتباك لم تجد فكرةً في عقلها أكثرَ شدةٍ من رغبتها في الإبتعادِ عن الشارع بأسرع ما يمكن .
قطبت حاجبيها شدة يدها على الحقيبة والكيس أخذت نفساً عميقاً ثم إنطلقت راكضةً بكل ما أوتيت من قوةٍ وسُرعة وقد كان وقعُ أقدامها على دَرجات السُلمِ الحديدي باعثاً لصوتِ ضَجيجٍ عالٍ ..
وصلت أخيراً الى نهاية السُلم وكادت أن تُكمل إنطلاقتها لولا إنزلاقُ الكيسِ من بينِ أصابعها الذي إستقر بين الأعشاب اليابسة التي كانت قد نمت تحت السُلم المُهترأ ..
وقفت لتلقي بنظرةٍ خافتة حول المكان , ثلاثةُ رِجالٍ بوجوهٍ عابسة ونظراتٍ حادة كانوا يُحدِقون بها من بعيد ..مما دفعها الى تغيير رأيها بشأن إستعادةِ الكيس ..
تظاهرت بعدم الإرتياب وسارت بخطواتٍ هادئة الى الأمام وسرعان ما بدأ الثلاثة باللحاقِ بها ولكن بخطواتٍ أسرع ,ُتسرِع فيسُرِعون
ليتَحولَ السير إلى هرولةٍ ثم يَنتَهي الأمرُ إلى مُطاردٍ عَلنية ..
ركضت بكلِ سُرعتها ودقاتُ قلبها تنبض أملاً بالوصولِ الى الشارع العام قبل أن يصلوا إليها ..إنعطفت الى إتجاهات عديدة وإختارت طُرُقا مُختلفة حتى تلاشت عن مسامعها أصواتُ أقدامهم ..
توقفت أخيراً لِتًلتقِطً أنفاسها في نهاية سُلم, وما إن رفعت رأسها لتٌلقي نظرةً عليه حتى لَمَحَت كِيسها تحته لتتوسع عينيها بصدمةٍ عارمة ..
- الكيس .. إنه نفسه الذي أسقطته ..أيعقلُ بأني كُنتُ أدورُ في دائرةٍ مُغلقة ..؟!
لم تمتلك الوقت للتفكير حتى أحاطها الرجال الثلاثة من كل الجهات ..
ومع مرور الوقت كانت الفتاةُ تُكافحُ وهي في قبضةِ عِملاقينِ مِنهم , كانت تُبلي بَلاءاً حسنا في مقاومتهما وتقاوم وتضرب بقدميها وكان الثالثُ يُكَمِمُ فمها بيدهِ رُغمَ مُحاولتها المستميتةِ لتخليصِ رأسِها ..
وبما إن الرجال كانوا منشغلينَ بِصراعهم مع الفتاة فلم ينتبهوا لتقدم شخص آخر من جهة السُلم
وكان أول إنتباههم عندما وجه الغريبُ لكمةً عَنيفةً لِفكِ الرجلِ الممسكِ بِفم الفتاة مما جعله يتراجع إلى الخلف
وقام الثاني وقد أخذته المفاجأة بترك الفتاة والإلتفات ولكن المنقذ كان مستعداً له فعالجهُ بِلكمةٍ أُخرى جعلته يتراجع ويسقط
ثم التفت الى الرجل الأخير الذي كان يتقدم نحوه وسرعان ما أعطاهُ نصيبهُ من اللكماتِ كما فعل مع الآخريَن فتدحرج ثم سقط ثم نهض وإندفع بإتجاه الظلام بعيداً ليَلحَقَ بهِ صاحِبَيهِ سَريعاً .
إنطلقَ المُنقِذُ خلفهم لكنهُ غيرَ رَأيهُ وإلتفتَ إلى الفتاةِ التي كانت متكأةً على حافةِ السُلم وهي تلهث ..
قالت بصعوبة:
- آه .. كان ذلك فظيعاً ..
رفعت نظراها لترى مُنقِذَها ,شابٌ في العشرينياتِ مِنَ العمر معتدلِ الطول,شعرهُ بُنيٌ قَصيرٌ تتناثرُ بضعُ خصلاتٍ منهُ على عينين بَدَتا عَسليتي اللون, وجهٌ أبيضٌ بملامحَ باردةٍ كالثلج , يرتدي مِعطفاً رمادياً وبِنطالاً أسود وكان له جوٌ يُعطي إنطباعاً بأنه مِمن يُعتَمَدُ عَليهم ..
ألقى الشابُ نظرةً فاحصةً على الفتاة التي أنقذها بمحضِ المُصادفة, بدت له في نحو الحادية والعشرين او الثانية والعشرين من العُمر زرقاءُ العينينِ حَسَنَةُ المَظهر مع قليل من الشُحوبِ على وجهها ..
قالت بملامح مُمتنة :
- شُكراً لك ..لقد كُنتُ ..!
قاطعها بكلمات هادئة ونظراتٍ باردة:
- عودي إلى منزلكِ , هذا المكانُ ليس مُنتَجَعاً لتتجولي فيه..
- أنا لم آتي إلى هنا بملئ إرادتي ..لقد دَخلــ...
همس بصوتٍ منخفض :
- لاتصدري صوتاً ..
- ماذا ..!
وفجأة سحب الشاب الفتاة من يدها وركض ليدخل منعطفاً ويتوقف عنده, سحب مسدساً من جيب معطفهِ وأتكأ بحذرٍ شديد ..
كانت الفتاةُ تراقبهُ بقلقٍ كبير وفي رأسها ألفُ سؤال ..بينما كان يتمتم بكلماتٍ بدت لها مبهمة:
- هل جاءوا أخيراً ..؟
- من هم؟ من الذي يلحق بنا ..؟ ..ولماذا ؟
إنتظرت جواباً لكن ما من إجابة .. مرت بضعُ دقائقَ حتى إلتفت إليها قائلاً :
- عندما أُعطيكِ الإشارة أُركُضي بكل قوتك وما إن تصلي إلى الشارع العام حتى حاولي أن تختلطي بالجموع ثم خُذي سيارة أُجرةٍ إلى منزلك..
- لا يمكن.. أنا لا أعرف أين يكون ..؟ ..لقد ظللت الطريق حتى قبل دخولي إلى هذا الشارع ..
- لِما لَم تَقولي ذلك منذُ البداية ..؟
- حاولت أن أشرح لكنكَ لم تستمع إلي ..
كان ينظر إليها وكأنها حِملٌ ثَقيلٌ وقعَ في طَريقهِ لِيُعيقَ خُطَته ..
المفضلات