ولدت في قرية ريفية فكانت طفولتي مزدحمة بالجبال , والأشجار , والوديان , وبرك الماء , والضفادع , والكلاب , بل وبالبقر ! , ولا أدري – حقيقة ! - لم لا أمتلك صورة شخصية محترمة لي وأنا أقطع شوط هذه المرحلة الشيقة جدا – بالنسبة لي على الأقل - !!؟ , فكل ما امتلكه صور فتاة شعثاء غبراء تجد متعة غريبة في صنع حفرة في جبل لتقحم فيها جسدها عدا الرأس فتبدو كخلد يستطلع الجو خارج جحره ! , لكنه ولا ريب خلد غريب الأطوار خرج فجأة من مكمنه ليجري ويقفز مقلدا أصوات الخيل وإيماءاتها !! , بيد أنني ما عدت أحفل كثيرا بذكريات طفولتي فهي بلا شك تجعلني أحمر خجلا وغيضا !, وتترك أثرا سيئا في نفسي يضاهي الأثر الأسوأ الذي تحرص على استبقاءه شخصية متملقة مداهنة تقطر نفاقا مقيتا يجعلني في معظم الأحيان أسلك طرقا مباشرة في التعامل قد لا اسلكها عادة ! , لكن .. ولأنني مؤمنة بأن طفولتي كان لها أكبر أثر في حياتي أبقى أحن إليها .. وممتنة لها , ولكل طبع حسن أمدتني به هي والمحيط الرائع الذي رافقتها فيه !!
.
.
أنا إنسانة قروية بروح خضراء ! , وأضيفوا إليها مع التشديد ( جدا ) ! لا يطيب لي المقام إلا في قلب اللون الأخضر المؤطر بالبني , المظلل بالأزرق , المزركش بمختلف الألوان !, ومن المؤسف أن المنظر الذي أغدو فيه واقفة بجانب فيلا وسيارة لا يبدو متسقا أبدا ولا متماشيا مع محتوياته البتة !! كما لو كنت فيه بجانب بيت جدي المتواضع وشجرته العتيقة الضاربة بجذورها في الأرض وفي الزمن ! , على أنني سوف أخيب آمال نفسي – كالمعتاد – بتذكيرها .. في أرض تعيش !
.
.
في طفولتي تعلمت ..
من الشجر .. تعلمت كيف ان علي أن أعطي على الدوام حتى لمن أساء إلي , وتعلمت أيضا كيف أن الفضل لله ثم للزارع ! , على أنني ما رأيت شجرة تتجه في منبتها إلى غير السماء ! , إلا إذا كانت الشمس تشرق من الأرض ! أو كانت الشجرة تتوهم ذلك ! , ويا للأسف .. فمن الشجر أيضا ما هو أحمق !!, ومن الورد رأيت كيف أن المظهر الجميل لا يغني عن الداخل الأجمل , ورأيت كيف أن الزهر الذي يحوي بداخله ثمر خيرٌ من منظر ستغرب عنه الشمس في ذات يوم بلا فائدة ! , ورأيت من الورد أيضا ما هو محفوف بالأشواك .. لأن قيمة نفسه معلومة .. لدى نفسه ! , ومنه كذلك ما هو جميل الشكل .. خبيث الرائحة ! , وأنا لا أفهم كيف تعتاد أنوف البعض .. هكذا رائحة !!؟ , ومن الماء .. عرفت كيف أن الشيء قد يكون نعمة ونقمة في نفس الوقت .. وعرفت أيضا كيف أن الحافظ الله ! , ...... إلخ !
كل شيء في الطبيعة الغناء يخفي شيئا – نسجله في أذهاننا إذ نحن أطفال , ثم نكبر فنعي ماهيته !, وأكثر شيء تعلمته من البيئة التي احتوتني وطفولتي .. أن المرء حر منذ ولادته !!, حرية حقيقية يحملها المرء بين جنبيه ومقترنة بروحه ! , وشتان بين من يعيش طليق الجسد مكبل الروح , وبين من يعيش طليق الروح مكبل الجسد , .. فأيهما أسعد ؟
.
.
يُقال أن هناك تقليد متوارث لإحدى القبائل الهندية يخرج فيه المرء بمفرده إلى الغابات أو إلى أي طبيعة أخرى حوله لا تحوي ظلالا بشرية ويبقى فيها بلا طعام أو مئونة إلى أن تتحدث إليه الأرواح فتدله على طريق مستقبله وموضع لقائه بذاته !
وبغض النظر عن كوني واثقة من أنها هلاوس الوحدة والجوع إلا أنني مؤخرا بت أتساءل حقا ما إن كنت أمت لهذه القبيلة العزيزة بصلة !؟, فأنا قطعا توارثت هذا التقليد – المحترم ! - الذي جعلني في صغري أخوض غمار الوادي المرعب المجانب لجبل يعتليه منزل جدي – حيث كنت أعيش , وحيث تلقيت علقة ساخنة أثبتت لي أن جدي لا يبالي أبدا بالتقاليد و الموروثات !!, على أنني أتساءل بالفعل ما إن كانت الأرواح العزيزة في الوادي مصابة بالبكم ؟! فانا يقينا ما سمعت شيئا غير صوت أقدامي وهي تنثر مياه الغدير هنا وهناك .. !!
.
.
ظننت على الدوام أنني فاشلة في الحديث عن نفسي , ليس لأنني لا اعرف من أين أبدأ , لكن لأنني لا أعرف .. أين أنتهي !!
المفضلات