الظلام يزحف والسواد يزداد شيئاً فشيئاً وكأنه يشرب الطاقة في هذه الأرض التي تركتها الأحلام ، يبدو القمر كما لو أنه في ليلته الحادية عشر ، تخفيه بعض السحب الشقية بين تارةٍ وأخرى ، ومن بين ذلك كله فقد أصبح الهدوء ملكاً مغواراً في أرضِ معركةٍ دامت ودامت حتى تشربت الأرض دماء كل من فيها ...
دماء طاهرة لشخوص احتضنوا وطنهم في قلوبهم وأبوا تركها ، وها هي الآن أرضهم الغالية تبكي دماءهم الطاهرة ، وتندب رحيلهم عنها إلى خالقٍ عزيزٍ كريم استقبلهم كشهداء في جنة الخلد ..
إذا أمعنت النظر قليلاً يخيل لك أنك دخلت جهنم من باب وخرجت منها من باب آخر ! ، أرض امتلأت بتلك الأجساد التي ارتمت هنا ، وهنا ، وهناك ، انتُشلت الأماني من أجسادهم وتركتهم في مجزرة دمائهم ، مغيبون وبعضهم عند ربهم يرزقون ..
من بينهم شابٌ في مقتبل العمر ، من براءة طيفه الصغير لم يدخل في العقد الثاني من عمره بعد ، يحتضن علم بلاده ، علم الكويت بين يديه وكأنه يحتضن طفلاً يود الهرب من ذراعيه ..
يمسك به بشدة متناسياً تلك الرعشات والرجفات التي ملأت مفاصل جسده بالكامل ، شعره الأملس مبلل بدمائه ، بعضها قد جف والبعض الآخر لا زال يبكي من جروحه !
أنفاسه تتصاعد وتتنازل كما لو أنه يصارع وحشاً كاسراً أطبق على رئتيه ولا يود تركها ، مضى من الزمن ما مضى ولا زال على حاله ، يقرب علم الكويت إلى صدره ويرتجف بضعف ..
خنقته العبرة عندما جرفته أمواج الذكرى إلى صباح يوم الأحد ، حينما كان مع أخته سارة يتناول طعام الإفطار كعادته ، تذكر شعرها الأسود وكيف كانت تسرحه في الصباح لأنها تزعم بأن لا وقت لها بأن تلقي تحياتها إلى المرآة في وقتٍ مبكر ، تذكر عندما وضعت تلك المكعبات الملونة من السكر في الشاي الذي أعدته بنفسها له مدعية البطولة ، وكيف كانت تتذمر عندما لم تجد سكراً سوى هذه المكعبات الملونة من الصيف الماضي ، كان الشاي بارداً لكنه لم يتذمر لأنه أحب طاقتها في صنع شيء له .
آآآه وتذكر والدته ، التي كانت توبخه دائماً لأنه من هواة السرعة في القيادة ، وكم جعلها تسهر الليالي تنتظره عند الباب الأمامي لأنها لن يغمض لها جفن حتى تراه ينام على سريره، كانت تخاف عليه حتى من نسيم الهواء ، كم يعشق رائحة العود والعنبر التي تنبعث من حجابها الأسود ، وكم يهوى صوتها الرنان يغني ويلحن كل ظهيرة في المطبخ ..
أدمعت عينيه وبدا كأنه يحاول أن يكتم ألم التصق به وأبى الرحيل ، فأخذ ينوح كالطفل الصغير الذي أضاع دربه ، لسبب ما تذكر موقف ابن عمه ناصر عندما كانوا صغاراً ، فقد أرادوا أن يذهبوا إلى أحد الدكاكين لشراء الحلويات كعادة الأطفال ، نسي ناصر نقوده داخل المنزل ، فأخبره بأن يسير في اتجاه مستقيم حتى يجد الدكان الأقرب إليه وليدخله ، وعندما يأتي ناصر بالنقود سيلحق به ، لكنه كان صغيراً جداً في ذلك الوقت ، فتاه بين الأزقه باحثاً عن أي شيء ، أحس بالضياع لأول مرة في حياته ، لكنه عندما أقبل على البكاء ، وجده ناصر ، فضمه إلى صدره وطأطأ على رأسه ليبعد عنه الخوف والقلق الذي تشربه بالكامل ..
وها هو ناصر ممد الجسد بالقرب منه ، تولته رصاصات العدو فأكلت الحياة منه .
وها هي الآن تأكل ما تبقى له من طاقة لتسحبه إلى العالم الآخر ، تبسم بضعف ، وتنهد بصعوبة ، أنه راضٍ على ما فعل ، لقد بذل كل إرادته من أجل وطنهم ، وها هي الآن حبيبته الغالية تداوي جروحه بأن تمتص دماءه الطاهرة لتفخر بها بين الشعوب !
تجمع صوته الضائع وأخذ يلحن نشيد لطالما كان يردده بتملل في طابور الصباح بالمدرسة لكنه الآن أحس كم كان أحمقاً بفعلته .
وطني الكويت سلمتَ للمجد ..
وعلى جبينك طالع السعد ..
صمت قليلاً ، أراد أن يودع والدته أن يضمها إلى صدره للمرة الأخيرة ، وأن يقول لسارة كم كان يحب وجهها البسوم عندما كانت تتغلب عليه في لعبة الورق ..
كم أراد أن يفعل ذلك قبل أن تأتيه المنية ، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
أخذ نفساً عميقاً فصدر منه صوت بحة قوية بسبب الجروح التي نسفت كل ما فيه من لحمٍ ولين ..
رفع سبابته التي ارتعشت وتجمدت في الهواء ثم صاح بقوة عندما استجمع كل قواه الجسدية والنفسية قائلاً :
الله أكبر ...
الله أكبر ...
الله أكبر ...
أشهد أن لا إله إلى الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله
ذهبت الحياة منه وودعته بصعوبة ، فتركت سبابته تستلقي بجانبه ، ولا زالت يده تمسك بعلم الكويت لا يريد أن يتركه حتى عند مماته ..
تاركاً رسالة رددها في قلبه لكِ دماء الروح يا وطني .
المفضلات