بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
هذه أول مشاركة لي
أكتب اليكم هذه الموضوع وهو كتابتي ونشري ومنتقاة من كتابات الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
أرجو ان تحوز على إعجابكم
1,2( التعليق في الأسفل)
أميرة(1 )
الحلم الذي طاف بكياني اثنين وأربعين شهرا
أميرة:
يا أجمل حلم طاف بكياني اثنين وأربعين شهرا
يا سنا برق أومض في حياتي من علياء الجنان
أميرة:
يا اسما غدا آخر زهرة أملكها في واحتي المصوّحة، وجنتي المقفرة، يا بقية نعيمي المدبر، ويا ذكرى خميلتي الغناء، ويا شفق شمس دفنها المغيب.
أميرة:
هذه شهور ستة مضت على اليوم الذي أسدل فيه الموت بيني وبينك الحجاب، ولا تزال كآبة الدنيا في وجهي وحول قلبي كما هي.. لم يغلق الهمّ دوني بابه، ولم يفتح الأنس أمامي نحوه من سبيل.
لا تزال دنيا الناس من بعدك غريبة عني، ولا يزال ضوضاؤها يلسع فؤادي كأنه قهقهة الشامتين.
لا تزال جراح قلبي، تتنـزى بالألم وتغرق في اللهب. لم يطفئها كر الغداة ولا تقادم الأيام، ولم يخفف من لظاها وطأة اليأس، ولا نسيم الألم، ولا هاجس الأحلام..
لقد عادت الدنيا من بعدك تدور دورتها، وتسير في دربها، كأن شيئا لم يقع!!..
لا تزال الشمس تطل كل يوم من خلف دارنا كما كانت، ولا تزال تبعث الأشعة نفسها من خصاص النافذة إلى الجدار المقابل.. حتى إذا جنحت نحو مغيبها اصفرت ذاوية كعادتها، ثم لملمت أذيال نورها واحتجبت خلف الهضاب.
وصفحة السماء في الليل، لا تزال من بعدك كما هي، ولا تزال كواكبها المنثورة التي لا تحصى يخفق بياضها في سواد الليل الحالك، كحبات الماس التي كانت تخفق فوق خملتك (فستانك) الخمريّ الجميل.
والربيع.. لقد عاد الربيع من بعدك دون أي اختلاف عن ربيع عامنا الفائت، يوم كنا نتمرغ فوق سندسه تحت أزهار المشمش والخوخ في البستان الممتد أمام بيتنا الصغير، ويوم كنا نستنشق معا فوح بساطه الملون على سيف البحر في طريقنا إلى اللاذقية! ..
لم يختلف شيء من ذلك كله من أجل طول بكائي، ولم تذبل زهرة واحدة منه في ضرام أشجاني.
وطيوره الصادحة كعهدك بها تماما، لم ينقطع تغريدها، ولا اختلفت أنغامها، ولم يظهر لأحزاني أي أثر متميز في شدوها وتغريدها الذي تعرفين.
والبنفسج الذي تحبين، والزنبق الأصفر البريّ الذي جمعت لي منه باقة من بين غابات كسب، لا يزال كل منهما يفوح بالرائحة نفسها دون أي نقص أو اختلاف.
ونقيق الضفادع في الساقية المجاورة، عاد مع الربيع الجديد يوقظ النائم مع تباشير كل فجر جديد، في ترنيمة جماعية صاخبة كما تعهدين.
والناس.. الناس والأصدقاء الذين اكتأبوا لمصابي ولبسوا سيما الحزن في وجوههم من أجلي، خلعوا سيماهم بعد ساعات، وانفضت عني جموعهم، وانصرف كل إلى شأنه ودنياه.
حتى الأقربون من أهلك، بكوا أو تباكوا لي حينا من الوقت، ثم ما كادت جعبة ذاكرتهم تفرغ من عبارات الحزن والآلام، وما كادت ألسنتهم تمل من تكرارها حتى عادوا هم أيضا (فيما بينهم) إلى لهوهم وأفراحهم، وعادت لياليهم، كما كانت، عامرة بالمآكل الشهية، والأثمار العابثة، أما الحديث عنك فقد أصبح واحدا من الأرقام في قائمة الأحاديث التي تمتع بها النفس ويزجي بها الوقت.
لقد تابع الزمن مساره من بعدك كما كان، وتابع الناس معه رحلتهم الصاخبة خلال الحياة، وبقيت وحدي الغريب بينهم، المختلف عن ركبهم، الشارد عن سبيلهم.
تشرق الشمس، فلا أراها إلا مدبرة عني، كاسفة عن بصري، فإذا غربت ودعتني بلحن صامت يضرب في أغوار نفسي على قيثارة الموت، ويمتزج بحشرجة الأنفاس الشاردة لحظة الوداع.
ويقبل الربيع، بخضرة مروجه، وفوح زهوره ورياحينه، فلا أرى في ذلك كله إلا ما يذكرني بربيع أيامي معك، ويعيدني إلى عبير الدنيا في أنفاسك، ويمرغني على شاطئ سندسي خلاب من دنيا عينيك الخضراوين.
وأنظر إلى الغادين والرائحين في جوانب الأرض والمنغمسين في لهوهم وأفراحهم، والمتعانقين سعيا وراء أمانيهم وغاياتهم، فلا أجدني إلا كضائع بينهم، غريب عن أحوالهم، ولا أحس في ضجيجهم العابث إلا بمثل ما يحس به المعذب إذا تعالى من حوله صيحات الشامتين.
أسير معهم في الطريق الذي يسيرون، وأتقلب معهم حيث يجتمعون ويتجالسون، ولكن كما تسير سحابة صيف، وسط رياح لاهبة ساخنة، أو كما يتقلب غصن من بقايا الخريف بين أمواج تتدافع في عرض البحر.
لا أرى الدنيا، إن ضحكت أو اكفهرت، إلا مغموسة حولي بالكآبة والسواد، كأنها لا تزال حبيسة في عمر ذلك اليوم الذي شيعت فيه أحلامي إذ أودعتك داخل صندوق ثم دفنتك تحت ركام من التراب!....
* * *
أميرة:
لم يبق لي من نعيم دناياي بعدك، إلا الذكريات التي تشدني نحوك والبقايا التي تنتمي إليك.
الناس يفرون من ذكريات مصائبهم وأحزانهم، إلى أسباب المرح والنسيان، أما أنا فلا يطيب لي إلا أفر من أسباب المرح والنسيان إلى ذكرياتي مصائبي وأحزاني.
لا يأنسني إلا الحديث عنك، ولا يطربني إلا استرجاع أيامي الخوالي معك.
وماذا يصنع من افتقد أنيس حياته سوى أن يستأنس من بعده بآثار ويترامى بين الأطلال؟...
ماذا يفعل من افتقد ريحانة قلبه سوى أن يشم من بعدها عبير التربة التي نبتت فيها، ويستنشق الهواء الذي كان يطوف من حولها؟...
ولكني افتقدت من بعدك – يا أميرة – حتى بقاياك التي رجوت أن أركن إليها وأستأنس بها...
(فساتينك) التي تحكي قدك الرائع، لم أعد أعلم شيئا عنها، ولم يعد لعنيّ من سبيل للاكتحال بها، ولا لرئتيّ الظمآنتين من حيلة لاستنشاق عطرها والاستغراق في أريجها..
شجرة الرمان التي طالما أظلتنا أغصانها، في أيامنا الأولى، وشجرة الياسمين التي طالما شربنا النشوة تحت ظلالها، والورود الباسقة الحمراء التي كانت تقرأ تحيات الطبيعة إلينا، وتترجم فرحة الدهرلنا، لم أعد أعلم - وأحر قلباه – عنها شيئا..
وباب داركم الذي كان ينفتح أمامي كلما أقبلت زائرا، عن وجهك المشرق البسام، لم تبق لي من وقفة عنده اليوم...
وهكذا انقلبت جنتي التي عرفتك فيها إلى دار غربة لا تتعرف عليّ، واستحالت الدنيا التي عرفتها ينبوع أمل وكنـز سعادة، إلى قفل كبير وسجن قاتم، يصنع المزيد من آلامي، ويزجني في مزيد من الغربة عن أيامي!.... وعادت دنيا الوفاء مهجورة كعادتها، إلا من بقايا.. وصور.. وأطلال..
غير أني سأتخذ من هذا العالم المهجور مهجعي وقراري. سأجعل منه ساحة العهد، لا أفارقه إلى يوم اللقاء. لن أخيس بصداقة كل من صداقتهم في سبيلك، أهلا كانوا أو رحما أو جيرانا.
سأطوف حول داركم وإن لم أدخل إليها، وسأستنشق هوائها غاديا ورائحا، مشرقا ومغربا.
سألتقط الجميل، لا أذكر غيره. وسأتوج حب قلبي بنار من الصبر.
إن بكيت، فسقيا لأطلال تلوح في دنيا الوفاء.
أو تألمت فجزعا من أن ينسخ الجميل الباقي بعرض دنيا فانية.
أجل.. لقد نفضت يدي – يا حبية دنياي وآخرتي – من بقاياك. ولكن بقية غالية لا أزال أملكها، إذ لم يضنّ عليّ أهلوك بها...
إنها أغلى ما يذكرني بريحانة روحك، ويمزجني بدافيء حبك وتحنانك.
إنها رسائلك.. أوراقك.. تلك القصاصات التي كنت تستودعينها صادق حبك لي. مناسبات لم تدعي واحدة منها تمر، حتى تجسدي منها صفحة ناصعة تثبتين عليها بأرق العبارات أرق العواطف الجيّاشة وأعذب كلمات الحب والهيام.
هذه الأوراق... هي كنـزي الثمين من بعدك، إنني أحتفظ بها في صندوق صغير مضمخ بالعطر..
إنني أرتل نجواك، وأردد كلماتك الباقية لي من بعدك، في محراب خلوتي، مع دموع قدسية لذيذة، يكرمني الله بها، ويرحم بها وجيب قلبي الخفاق.
إنني أقرأ سطورك بعيون مشاعري وإحساسي، فأبصر فيما بينها روحك الوادعة الرقيقة تحنو عليّ حنو الأم على وحيدها، وتجذبني عن نار آلامي لتضمني إلى جنة فؤادك الخفاق.
يا حبيبتي الخالدة:
هل كنت وأنت تخطين لي بأناملك الرقيقة أروع آيات البيان عن مشاعر قلبك المحب، تمنحيني زادا من عصارة حبك الورديّ، أتبلّغ به في دروب وحشتي من بعدك؟ ...
هل همست الأقدار في إحساسك – يا مليكة أرهف حس رأيت – أنك ستصنعين لي من حبك أحر نار تكوينـي من بعدك، وأنك لن تعيشي لي عمر حبك الطويل، فأودعت في نهاد هذا الحب ترجمانك الخالد، والطرزته بكلماتك الحلوة وتوجته ببيانك الرائع الرقيق؟...
يا له من مهد عذب أليم !....
يا للضلوع المستعرة على جنباته!...
يالفؤادي الهيمان وسط جنة ناره!...
* * *
أميرة:
ترى هل أحدث فيك وهما، جسدته في خيالي أصداء ماض طواه بئر الزوال؟...
أم أناجي فيك حقيقة تراني ولا أراها، وتدركني دون أن أجد سبيلا لرأيتها أو الشعور بها؟...
معاذ الله !...
فقد علمت فيما درست من معارف الحياة الإنسانية، وأيقنت بعد إيماني الجازم بالله وبكتابه ورسله، أن هذا الذي نسميه موتا إنما هو اليقظة الكبرى.. إنما هو شعور متكامل يخضع لأحكام وموازين غير التي تخضع لها حياتنا الدنيوة اليوم!..
هو، فيما نرى، من هدأة الجسم بعد حركته، وانطفاء سر الحياة فيه بعد اشتعاله والتماعه، عدمٌ تحكم به العين، وزوالٌ يقضي به الإحساس.
ولكن هيهات أن تكون منافذ الحس، في هذه الحياة الإنسانية، محيطة بسر الحياة أو بدائرة الروح.
إن الحواس الإنسانية أثر من آثار هذه الحياة الدنيوية الضيقة، وفرع صغير في أغصانها الكثيرة. فكيف يكون الفرع محيطا بحقيقة الأصل عليما بنهايته ومصيره؟..
إن الموت ليس إلا لحظة انطلاق وتحرر للروح من ذلك القفص الجسدي الذي كانت حبيسة فيه، وإن بدا أنه لحظة خمود وإقفار في حساب ذلك الجسد نفسه.
ومن يدري؟.. لعل الأموات يمارسون حيويّتهم وانطلاقهم في جوانب الكون، أكثر مما نمارسها نحن الذين أثقلتنا هياكل هذه الأجساد!...
من يدري.. لعل هؤلاء الذين نسميهم أمواتا يمرون على مقابرنا الجسمية، فليلحظونها بنظرة إشفاق على الروح الحبيسة في داخلها، ويدعون لها بانبعاث قريب إلى عالم الأحياء!..
لقد عرفت كل هذا، يا حبيبتي، يوم منحني الله عقلا حررته من التبعيّات والأغلال، ووهبني إيمانا أقمته على بيّنات العلم ونواميس الوجود.
وإيماني هذا، هو العزاء الوحيد الذي يمنحني نعمة الصبر على سعير ابتعادي عنك.
أنا أعلم علم اليقين أن الموت لم يطحنك بين شدقي العدم. ولكنه انتقل بكينونتك الذاتية من عالم إلى آخر. كل الذي أسدله الموت بيني وبينك، وهو حجب المقاييس والقوانين المتاغيرة.
وإنني على يقين أننا سنلتقي.. سأنفذ إليك من الباب الذي سبقتيني إليه، ولسوف تعود قصة حبنا من جديد.
هذا إن أكرمني الله بخاتمة ترضيه. وإلا فواكبدي للنذير الرهيب الذي يصرع اللب: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
المفضلات