مشاهدة النتائج 1 الى 4 من 4
  1. #1

    أول مشاركة لي (أميرة)الحلم الذي طاف بكياني اثنين وأربعين شهرا

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم
    هذه أول مشاركة لي

    أكتب اليكم هذه الموضوع وهو كتابتي ونشري ومنتقاة من كتابات الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
    أرجو ان تحوز على إعجابكم
    1,2( التعليق في الأسفل)

    أميرة(1 )
    الحلم الذي طاف بكياني اثنين وأربعين شهرا
    أميرة:
    يا أجمل حلم طاف بكياني اثنين وأربعين شهرا
    يا سنا برق أومض في حياتي من علياء الجنان
    أميرة:
    يا اسما غدا آخر زهرة أملكها في واحتي المصوّحة، وجنتي المقفرة، يا بقية نعيمي المدبر، ويا ذكرى خميلتي الغناء، ويا شفق شمس دفنها المغيب.

    أميرة:
    هذه شهور ستة مضت على اليوم الذي أسدل فيه الموت بيني وبينك الحجاب، ولا تزال كآبة الدنيا في وجهي وحول قلبي كما هي.. لم يغلق الهمّ دوني بابه، ولم يفتح الأنس أمامي نحوه من سبيل.
    لا تزال دنيا الناس من بعدك غريبة عني، ولا يزال ضوضاؤها يلسع فؤادي كأنه قهقهة الشامتين.
    لا تزال جراح قلبي، تتنـزى بالألم وتغرق في اللهب. لم يطفئها كر الغداة ولا تقادم الأيام، ولم يخفف من لظاها وطأة اليأس، ولا نسيم الألم، ولا هاجس الأحلام..
    لقد عادت الدنيا من بعدك تدور دورتها، وتسير في دربها، كأن شيئا لم يقع!!..
    لا تزال الشمس تطل كل يوم من خلف دارنا كما كانت، ولا تزال تبعث الأشعة نفسها من خصاص النافذة إلى الجدار المقابل.. حتى إذا جنحت نحو مغيبها اصفرت ذاوية كعادتها، ثم لملمت أذيال نورها واحتجبت خلف الهضاب.
    وصفحة السماء في الليل، لا تزال من بعدك كما هي، ولا تزال كواكبها المنثورة التي لا تحصى يخفق بياضها في سواد الليل الحالك، كحبات الماس التي كانت تخفق فوق خملتك (فستانك) الخمريّ الجميل.
    والربيع.. لقد عاد الربيع من بعدك دون أي اختلاف عن ربيع عامنا الفائت، يوم كنا نتمرغ فوق سندسه تحت أزهار المشمش والخوخ في البستان الممتد أمام بيتنا الصغير، ويوم كنا نستنشق معا فوح بساطه الملون على سيف البحر في طريقنا إلى اللاذقية! ..
    لم يختلف شيء من ذلك كله من أجل طول بكائي، ولم تذبل زهرة واحدة منه في ضرام أشجاني.
    وطيوره الصادحة كعهدك بها تماما، لم ينقطع تغريدها، ولا اختلفت أنغامها، ولم يظهر لأحزاني أي أثر متميز في شدوها وتغريدها الذي تعرفين.
    والبنفسج الذي تحبين، والزنبق الأصفر البريّ الذي جمعت لي منه باقة من بين غابات كسب، لا يزال كل منهما يفوح بالرائحة نفسها دون أي نقص أو اختلاف.
    ونقيق الضفادع في الساقية المجاورة، عاد مع الربيع الجديد يوقظ النائم مع تباشير كل فجر جديد، في ترنيمة جماعية صاخبة كما تعهدين.
    والناس.. الناس والأصدقاء الذين اكتأبوا لمصابي ولبسوا سيما الحزن في وجوههم من أجلي، خلعوا سيماهم بعد ساعات، وانفضت عني جموعهم، وانصرف كل إلى شأنه ودنياه.
    حتى الأقربون من أهلك، بكوا أو تباكوا لي حينا من الوقت، ثم ما كادت جعبة ذاكرتهم تفرغ من عبارات الحزن والآلام، وما كادت ألسنتهم تمل من تكرارها حتى عادوا هم أيضا (فيما بينهم) إلى لهوهم وأفراحهم، وعادت لياليهم، كما كانت، عامرة بالمآكل الشهية، والأثمار العابثة، أما الحديث عنك فقد أصبح واحدا من الأرقام في قائمة الأحاديث التي تمتع بها النفس ويزجي بها الوقت.
    لقد تابع الزمن مساره من بعدك كما كان، وتابع الناس معه رحلتهم الصاخبة خلال الحياة، وبقيت وحدي الغريب بينهم، المختلف عن ركبهم، الشارد عن سبيلهم.
    تشرق الشمس، فلا أراها إلا مدبرة عني، كاسفة عن بصري، فإذا غربت ودعتني بلحن صامت يضرب في أغوار نفسي على قيثارة الموت، ويمتزج بحشرجة الأنفاس الشاردة لحظة الوداع.
    ويقبل الربيع، بخضرة مروجه، وفوح زهوره ورياحينه، فلا أرى في ذلك كله إلا ما يذكرني بربيع أيامي معك، ويعيدني إلى عبير الدنيا في أنفاسك، ويمرغني على شاطئ سندسي خلاب من دنيا عينيك الخضراوين.
    وأنظر إلى الغادين والرائحين في جوانب الأرض والمنغمسين في لهوهم وأفراحهم، والمتعانقين سعيا وراء أمانيهم وغاياتهم، فلا أجدني إلا كضائع بينهم، غريب عن أحوالهم، ولا أحس في ضجيجهم العابث إلا بمثل ما يحس به المعذب إذا تعالى من حوله صيحات الشامتين.
    أسير معهم في الطريق الذي يسيرون، وأتقلب معهم حيث يجتمعون ويتجالسون، ولكن كما تسير سحابة صيف، وسط رياح لاهبة ساخنة، أو كما يتقلب غصن من بقايا الخريف بين أمواج تتدافع في عرض البحر.
    لا أرى الدنيا، إن ضحكت أو اكفهرت، إلا مغموسة حولي بالكآبة والسواد، كأنها لا تزال حبيسة في عمر ذلك اليوم الذي شيعت فيه أحلامي إذ أودعتك داخل صندوق ثم دفنتك تحت ركام من التراب!....
    * * *
    أميرة:
    لم يبق لي من نعيم دناياي بعدك، إلا الذكريات التي تشدني نحوك والبقايا التي تنتمي إليك.
    الناس يفرون من ذكريات مصائبهم وأحزانهم، إلى أسباب المرح والنسيان، أما أنا فلا يطيب لي إلا أفر من أسباب المرح والنسيان إلى ذكرياتي مصائبي وأحزاني.
    لا يأنسني إلا الحديث عنك، ولا يطربني إلا استرجاع أيامي الخوالي معك.
    وماذا يصنع من افتقد أنيس حياته سوى أن يستأنس من بعده بآثار ويترامى بين الأطلال؟...
    ماذا يفعل من افتقد ريحانة قلبه سوى أن يشم من بعدها عبير التربة التي نبتت فيها، ويستنشق الهواء الذي كان يطوف من حولها؟...
    ولكني افتقدت من بعدك – يا أميرة – حتى بقاياك التي رجوت أن أركن إليها وأستأنس بها...
    (فساتينك) التي تحكي قدك الرائع، لم أعد أعلم شيئا عنها، ولم يعد لعنيّ من سبيل للاكتحال بها، ولا لرئتيّ الظمآنتين من حيلة لاستنشاق عطرها والاستغراق في أريجها..
    شجرة الرمان التي طالما أظلتنا أغصانها، في أيامنا الأولى، وشجرة الياسمين التي طالما شربنا النشوة تحت ظلالها، والورود الباسقة الحمراء التي كانت تقرأ تحيات الطبيعة إلينا، وتترجم فرحة الدهرلنا، لم أعد أعلم - وأحر قلباه – عنها شيئا..
    وباب داركم الذي كان ينفتح أمامي كلما أقبلت زائرا، عن وجهك المشرق البسام، لم تبق لي من وقفة عنده اليوم...
    وهكذا انقلبت جنتي التي عرفتك فيها إلى دار غربة لا تتعرف عليّ، واستحالت الدنيا التي عرفتها ينبوع أمل وكنـز سعادة، إلى قفل كبير وسجن قاتم، يصنع المزيد من آلامي، ويزجني في مزيد من الغربة عن أيامي!.... وعادت دنيا الوفاء مهجورة كعادتها، إلا من بقايا.. وصور.. وأطلال..
    غير أني سأتخذ من هذا العالم المهجور مهجعي وقراري. سأجعل منه ساحة العهد، لا أفارقه إلى يوم اللقاء. لن أخيس بصداقة كل من صداقتهم في سبيلك، أهلا كانوا أو رحما أو جيرانا.
    سأطوف حول داركم وإن لم أدخل إليها، وسأستنشق هوائها غاديا ورائحا، مشرقا ومغربا.
    سألتقط الجميل، لا أذكر غيره. وسأتوج حب قلبي بنار من الصبر.
    إن بكيت، فسقيا لأطلال تلوح في دنيا الوفاء.
    أو تألمت فجزعا من أن ينسخ الجميل الباقي بعرض دنيا فانية.
    أجل.. لقد نفضت يدي – يا حبية دنياي وآخرتي – من بقاياك. ولكن بقية غالية لا أزال أملكها، إذ لم يضنّ عليّ أهلوك بها...
    إنها أغلى ما يذكرني بريحانة روحك، ويمزجني بدافيء حبك وتحنانك.
    إنها رسائلك.. أوراقك.. تلك القصاصات التي كنت تستودعينها صادق حبك لي. مناسبات لم تدعي واحدة منها تمر، حتى تجسدي منها صفحة ناصعة تثبتين عليها بأرق العبارات أرق العواطف الجيّاشة وأعذب كلمات الحب والهيام.
    هذه الأوراق... هي كنـزي الثمين من بعدك، إنني أحتفظ بها في صندوق صغير مضمخ بالعطر..
    إنني أرتل نجواك، وأردد كلماتك الباقية لي من بعدك، في محراب خلوتي، مع دموع قدسية لذيذة، يكرمني الله بها، ويرحم بها وجيب قلبي الخفاق.
    إنني أقرأ سطورك بعيون مشاعري وإحساسي، فأبصر فيما بينها روحك الوادعة الرقيقة تحنو عليّ حنو الأم على وحيدها، وتجذبني عن نار آلامي لتضمني إلى جنة فؤادك الخفاق.
    يا حبيبتي الخالدة:
    هل كنت وأنت تخطين لي بأناملك الرقيقة أروع آيات البيان عن مشاعر قلبك المحب، تمنحيني زادا من عصارة حبك الورديّ، أتبلّغ به في دروب وحشتي من بعدك؟ ...
    هل همست الأقدار في إحساسك – يا مليكة أرهف حس رأيت – أنك ستصنعين لي من حبك أحر نار تكوينـي من بعدك، وأنك لن تعيشي لي عمر حبك الطويل، فأودعت في نهاد هذا الحب ترجمانك الخالد، والطرزته بكلماتك الحلوة وتوجته ببيانك الرائع الرقيق؟...
    يا له من مهد عذب أليم !....
    يا للضلوع المستعرة على جنباته!...
    يالفؤادي الهيمان وسط جنة ناره!...
    * * *
    أميرة:
    ترى هل أحدث فيك وهما، جسدته في خيالي أصداء ماض طواه بئر الزوال؟...
    أم أناجي فيك حقيقة تراني ولا أراها، وتدركني دون أن أجد سبيلا لرأيتها أو الشعور بها؟...
    معاذ الله !...
    فقد علمت فيما درست من معارف الحياة الإنسانية، وأيقنت بعد إيماني الجازم بالله وبكتابه ورسله، أن هذا الذي نسميه موتا إنما هو اليقظة الكبرى.. إنما هو شعور متكامل يخضع لأحكام وموازين غير التي تخضع لها حياتنا الدنيوة اليوم!..
    هو، فيما نرى، من هدأة الجسم بعد حركته، وانطفاء سر الحياة فيه بعد اشتعاله والتماعه، عدمٌ تحكم به العين، وزوالٌ يقضي به الإحساس.
    ولكن هيهات أن تكون منافذ الحس، في هذه الحياة الإنسانية، محيطة بسر الحياة أو بدائرة الروح.
    إن الحواس الإنسانية أثر من آثار هذه الحياة الدنيوية الضيقة، وفرع صغير في أغصانها الكثيرة. فكيف يكون الفرع محيطا بحقيقة الأصل عليما بنهايته ومصيره؟..
    إن الموت ليس إلا لحظة انطلاق وتحرر للروح من ذلك القفص الجسدي الذي كانت حبيسة فيه، وإن بدا أنه لحظة خمود وإقفار في حساب ذلك الجسد نفسه.
    ومن يدري؟.. لعل الأموات يمارسون حيويّتهم وانطلاقهم في جوانب الكون، أكثر مما نمارسها نحن الذين أثقلتنا هياكل هذه الأجساد!...
    من يدري.. لعل هؤلاء الذين نسميهم أمواتا يمرون على مقابرنا الجسمية، فليلحظونها بنظرة إشفاق على الروح الحبيسة في داخلها، ويدعون لها بانبعاث قريب إلى عالم الأحياء!..
    لقد عرفت كل هذا، يا حبيبتي، يوم منحني الله عقلا حررته من التبعيّات والأغلال، ووهبني إيمانا أقمته على بيّنات العلم ونواميس الوجود.
    وإيماني هذا، هو العزاء الوحيد الذي يمنحني نعمة الصبر على سعير ابتعادي عنك.
    أنا أعلم علم اليقين أن الموت لم يطحنك بين شدقي العدم. ولكنه انتقل بكينونتك الذاتية من عالم إلى آخر. كل الذي أسدله الموت بيني وبينك، وهو حجب المقاييس والقوانين المتاغيرة.
    وإنني على يقين أننا سنلتقي.. سأنفذ إليك من الباب الذي سبقتيني إليه، ولسوف تعود قصة حبنا من جديد.
    هذا إن أكرمني الله بخاتمة ترضيه. وإلا فواكبدي للنذير الرهيب الذي يصرع اللب: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.


  2. ...

  3. #2
    تتمة
    ويوم يفقد المحب الصادق نعمة هذا الإيمان، ثم يضرب الموت بينه وبين حبيبه بسوره الرهيب الذي لا مرد له، فإن جميع مبهجات الدنيا لا تبلغ أن تكون عزاء له. بل لا بد أن ينتهي إلى إحدى نتيجتين: جنون مطبق، أو انتحار مريع!...
    غير أن الحقيقة مهما كانت واضحة، فإنها لا تحطم شيئا من رهبة الموت في نفوس الأحياء.
    أمّا أنا، فإن شيئا واحدا حطم هذه الرهبة في نفسي ومحاها من كياني.
    ألا وهو الأنس الذي شاع في حقيقة الموت، بعد أن حَلَلْتِ في عالمه الغريب.
    لقد كان الموت في عيني شبحا رهيبا، فإذا هو اليوم واحة رائعة غناء.
    لقد غدوت من بعدكِ ملاحا غريبا تائها، تتقاذفني أمواج حياة دَكْناء، أرقبُ اللحظة التي تلوح لعينيَّ فيها بارقة نور يهديني إلى شاطئ الموت.
    كل ما أخشاه، أن تزلّ بي قدم إلى ما لا يرضى مالكي العظيم جل جلاله، فأتنَكَّبَ بذلك عن سبيل السعادة، ثم أقبل على الموت بخاتمة تقصيني عن رحمة، وتضرب بيني وبينك حجابا لا أملك اختراقه، وتلك هي الشِقوة التي تذيقيني غصَّة الموت والحياة.
    إنني لشديد الخوف من هذه العاقبة ! ..
    ولست أملك ضمانةً تحفظني منها، إلا الأمل برحمة الله.
    إنني لا أتصور أن يقسو عليّ مولاي إلى هذا الحد، مهما كنت شارِداً عن سبيله، مقصرا في القيام بواجباته.
    إنّ ظني به أنه سيحوطني برعايته وإن لم أكن لها أهلا، وإني لمتعلق بعد ذلك بقوله: أنا عند ظن عبدي بي.
    أملٌ آخر، لا يغيب عني نوره، وأزال أستنشق الأنس في بريقه، وأعيش في طمأنينة من روحه.
    إنه بعض كلماتك النورانية في رسائلك الباقية الخالدة لي من بعدك. إنه هذه الشذرات:
    (( يا منية النفس.. وتوأم الوح.. وأنشودة القلب.. ياسعيد..جعلك الله سعيداً في الدنيا والآخرة، سعيداً في حبك، سعيداً في حياتك، وجعلني سرَّ سعادتك الدنيوية والأخروية، بل النبع الذي تُروِي به ظمأك، والدوح الذي ترتاح إليه نفسك، والمنارة التي تضيء لك الطريق .. الطريق إلى الله .. طريق الحب الربانيّ.
    لنسر معا. لنصل إلى شاطئ الأمان، شاطئ السلامة .. سر المعرفة الربانية، ولنرتشف معا الحب الإلهي الخالص.
    سعيد يا أسعد أيامي بقربك، إنني أَنْظُر إلى المستقبل، وألمح بارقاتِ الأمل تتراءى مُبْتسمةً من بعيد، لأن الله جل وعلا هو الذي ربط بين قلبينا بأوثق ما يكون الرباط، وكلّله برحيق المحبة والهناء، ورزقنا المودة الأبدية في الدنيا والآخرة ..)).
    إنني لأظن – يا حبيبتي – أن روحك الوادعة الجميلة، لا تفتأ تدعوا لي بهذا الدعاء:
    (( جعلك الله سعيدا في الدنيا والآخرة، وجعلني سر سعادتك ... ))
    وأنت في مقام القرب من مولاك، في مقعد صدق عند مليكك الكريم الوهاب.
    وإن هذا لبعض حق الوداد فيما بيننا.
    وإنني على يقين أنّ ما كنت تلمحينه من بارقات الأمل إنما هو المستقرُّ الأبديّ السعيد الذي هيأه الله تعالى لنا في أكناف رحمته وتحت ظل غفرانه ولطفه، كشف الله عن سريرتك سبيلا لشهوده ورؤيته.
    ولكنك تجاوزت مخاطر هذه الدنيا وأهوالها، بخاتمة يغبطك عليها الصديقون ( 2)،وبقيت من بعدك أتقلب في طيّاتها، وأجدّف عني أخطارها، في دروب حالكة لا عاصم فيها إلا رحمة الله.
    فيا نور السموات والأرض، يا من يجير ولا يجار عليه، يا من أنقذ خليله من نار نمرود، أنقذ عبدك من سعير هذه الدنيا، ويسر له في أكنافها سبيلا إلى خاتمة ترضيك. املأ بقية أيامي في هذه الحياة رضا بل سعادة بحكمك، وسخرني في كل لحظة منها لخدمة دينك. ثم اختم حياتي بأحب الأعمال إليك حتى ألقاك وأنت راض عني يا أرحم رحيم ويا أكرم مسؤول.
    * * *
    أميرة:
    قيل لي: لقد ماتت، فروض فكرك بعد اليوم على نسيانها. فإن تعلق الحي بالميت سعي باطل لا حصيلة له ! ..
    لا والله، ما طرقت سمعي كلمة – مما قيل لي في باب التعزية والسلوى – أشد من هذه الكلمة ولا أوحش.
    معاذ الله أن أكون قد شربت من محبتك كأسا بلغت بها الثمالة عند الموت ! .. ومعاذ الله أن يكون الموت عندي إلا تصعيدا لهذا الحب وتكريرا لرحيقه.
    ما أحببت فيك مجرد قد معتدل وشكل جميل، ولقد منحك الله منها الشيء الكثير.
    وما فتنت منك بمجرد أنوثة مما يهفو إليه الرجال على أن كنت تقبلين إليّ من ذلك بفن وتدبيرين بفنّ.
    ولكن الذي علقني بك فوق ذلك كله، إنما هو صفاء روحك، سموّ إحساسك، إشراقة قلبك.
    أحببت فيك حب الرائع لمولاك العظيم جل جلاله.
    أحببت فيك الليالي التي كنت تساهرينني فيها بأنوثة عارمة، وحب موله لا مزيد عليه، حتى إذا اعتدل الليل ليمضي، ورنّق النعاس في العين، وهفا الجنب إلى مضجعه – جافيت جنبك عن المهاد، وتسللت إلى الغرفة المجاورة، وقمت تناجين محبوبك الأعظم بعيون ملؤها الدمع، ثم ركعت فأطلت بين يديه الركوع، وسجدت فأطلت على أعتابه السجود.
    أحببت فيك حنينك إلى الله.
    أحببت فيك أشواق قلبك ورقة شعورك.
    أحببت فيك الذكر النابض بين كل عشية وضحاها على لسانك.
    أحببت فيك القلب الذي كنت أسمعه يخفق في هدأة النوم فأرى لسانك يتجاوب معه بذكر الله.
    ألا سلمت يد تلك الصديقة التي غرست في فؤادك وفؤاد أترابك هذا السر الإلهي العظيم.
    أحببت فيك النهاية .. تلك النهاية التي توّجت فيها عمر شبابك الغضّ بلحظة قدسية أخيرة اهتز لها سمع الزمان والمكان، عندما قلت بملء فمك الجميل: الله.
    مثل هذا الحب، يولد ميلاداً جديداً بالموت.
    ومثل هذا الحب يتلظى سعيره من جديد إذا دخله تاريخ الموت.
    يا رفيقة الدرب في حياتي وموتي.
    يا أنيسة العمر، شبحا وروحا في عالم الأحياء، وسرا روحانيا في عالم الأموات: أما إنّ موتك زادني حبا على حب ولسوف يبقى حبي لك في ازدياد، حتى يتمم الله فضله، وتحين ساعة اللقاء.
    وبعد ...
    هل تذكرين يا أميرة، يوم كنت تسألينني أن أكتب إليك فصلا أشرح فيه مكنون حبي لك، وأصور فيه عواطفي نحوك، وكيف كنت تتلطفين لي بعرض هذا الرجاء بأسلوبك العذب الرقيق؟
    يا للنّدامة !..
    لقد تثاقلت يومها عن النهوض بتحقيق هذا الرجاء، معتذرا بأن الرسائل إنما تكتب في حال البعاد. وما دام اللقاء موفورا فإن حديث اللسان أعذب وأقوى في البيان مما تخطه الأقلام.
    واكبدي !..
    لقد أورثتني هذه القسوة أمام ما كنت تتلطيفن في رجائه، نارا في اليوم لا تنفك تفري فريها الشديد في أحشائي.
    لقد كان في قضاء الله أن تتأخر استجابتي لسؤالك إلى هذا اليوم.
    فاقبلي يا حبيبتي رسالتي هذه إليك وإن جاءت متأخرة. ولكن شفيعي أنما أنفقت مع كتابتها من دموع، تعدل ما استهلكته عليها من مداد.
    استلميها مني بطريقتك الجديدة، في عالمك الجديد. بعد أن كتبتها بطريقتي القديمة في عالمي البلقع المهجور.
    وموعدنا في شرح غوامضه والتعليق على أسراره يوم اللقاء.


    * * *



    ( 1) هي زوجتي التي نكبت بفقدها في غصون 1975، وتغشاني من ذلك كرب عظيم.
    ثم إن الله عز وجل مسح بيمين لطفه مصاب قلبي، ولطف بي لطفا يتيه القلم عن وصفه وعوضني عن مصابي خيرا، وغمر
    حياتي وقلبي بكل معاني السعادة والسرور. وإني لمدين بشكر عظيم لإلهي الجليل الذي كان ابتلاؤه حكمة وعطاؤه رحمة،
    وهو مع هذا وذاك مالك الأمر كله.
    ولعل من الخير – تحدثا ببعض النعمة – أن أكشف النقاب عن بعض مظاهر اللطف العجيب بي، إبان نزول تلك المصيبة:
    كنت خلال مرض زوجتي كثير الالتجاء إلى الله، وما ليلة إلا وأسهر كلها أو جلها في بكاء وتضرع ودعاء.
    وذات ليلة، سمعت في الرؤيا هاتفا يقول لي: ماتت أميرة !... واستيقظت مذعورا، وتفلت – كما في السنة- على الجانب
    الأيسر، وتحولت إلى الجانب الأخر. فلما إن أخذ عيني الرقاد، حتى رأيتني في المكان ذاته. ورأيت فتاة تقف أمامي خلف
    النافذة، مكشوفة الشعر والوجه واضحة الشكل والمعالم، وسمعت الصوت نفسه: هذه زوجتك، مذيعة!..
    وتوفيت زوجتي بعد ذلك بثلاثة أيام. وبعد مرور أشهر على وفتها، كان في قضاء الله عز وجل أن تعرض عليّ فتاة أخرى..
    ولما رأيتها، إذا بي أنظر إلى الوجه ذاته الذي أبصرته في الرؤيا بمعالمه وملامحه وشكله !!..
    وكما تقبلت قضاء الله بوفاة الأولى، قبلت شاكرا إكرامه لي بهذه الثانية. وقلت لها من بعد – وقد أخبرتها بالرؤيا العجيبة:
    أما الزواج فقد رأيت مصداقه، فما معنى: مذيعة؟ قالت: لعل الله يكتبني من الداعيات إليه-.
    ألا فليزداد المؤمنون بربهم إيمانا، وليتحرر أولو الوعي السديد من بقايا تبعيتهم الذليلة، وليؤوبوا من رحلة الضياع إلى رشد
    معرفة الذات والاصطلاح مع خالقهم ومولاهم عز وجل ولي كل نعمة ومصدر كل رحمة.
    * * *
    أما هذه الكلمة التي أخرجها اليوم بعد أكثر من عشر سنوات من ملف أوراق الخاصة، والتي لم يطلع عليها إلا ثلة من أخلص
    الأصدقاء والأحباب، فإنما يحفزني إلى نشرها ووضعها بين أيدي القراء، غيرة بالغة على قطعة من النثر أودعتها أعز مشاعري
    وخلجات قلبي، وصقلتها بأغلى ما أملكه من صلة ما بين جناني ولساني، وهو صدق الشعور وعفوية التعبير، أن تذوي مع
    الزمن ثم تضيع في داخل الأدراج. أما الحادثة فقد طويت: وأما المصائب فقد أبدلني الله عز وجل عنه خيرا، وأما هذه الكلمة:
    فقيمة فنية باقية، لمن شاء أن يرى لها هذه القيمة، وتخليد لوفاء جميل عمره الدهر كله. ثم إنها عبرة كبرى لكل من أراد أن
    يعتبر.
    (2 ) كانت آخر كلمة قالتها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة: الله

    آملا أن تعجبكم

    وبانتظار ردودكم وآرائكم!!!!

  4. #3
    اهلا بك بيننا اخ adil84
    وارجو ان يعجبك المنتدى ..........
    و مشاركة طويله فعلا !!!!!!!!!
    3b9b064e5b5c4c3f20cf3d05efa18fa0

    إلى اللقاء ....!!

  5. #4
    مشكور اخوي odil84 على الموضوع


    الررررررررررررررررررررائع جداً





    ولا تقاطعنا من جديدك والى الامام









    اخوك

    عشيق الحب

بيانات عن الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

عدد زوار الموضوع الآن 1 . (0 عضو و 1 ضيف)

المفضلات

collapse_40b قوانين المشاركة

  • غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
  • غير مصرّح بالرد على المواضيع
  • غير مصرّح لك بإرفاق ملفات
  • غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك
  •  

مكسات على ايفون  مكسات على اندرويد  Rss  Facebook  Twitter