في صحوي ومنامي يطاردني.. في غدوي ورواحي.. في غفوتي ويقظتي
.. وحتى في أحلامي يطاردني ذلك الكابوس البغيض.. الذي لا يفتأ أن
ينغص علي حياتي ويملأ أيامي بقسوة الترقب وعذاب الانتظار..
وهل ذلك سيحدث؟.. سؤال يفزعني ويهزني حتى النخاع.. خوف مبهم
يجتاحني، ويحيل حياتي إلى لعبة في كف الأقدار..
صرخت جزعة ذات ليلة.. هرعت أمي إلى فراشي مرتاعة.. دموع كثيرة
كست وجهي ولكنني لم أفه بحرف.. ولم أخبر أمي بالكابوس الذي يسكنني..!
تكرر الكابوس.. وتكرر الصراخ.. وتعبت أمي منى وتعبت منها.. سألتني
ذات يوم وحنان الأمومة يرتج في صدرها:-
- أمل.. مابك؟
لأهرب من الإجابة.. رددت على السؤال بسؤال آخر
- لماذا؟
إخترقتني عيناها الخبيرتان لتكشف أعماقي و هي تقول بقلق:
- إن ما يحدث لك عجيب.. صراخ معظم الليالي.. هل أنت مريضة؟
هززت برأسي علامة النفي، ونهضت هاربة من المواجهة.. والصوت
يدوي في رأسي.. والعذاب يلهث في صدري من جديد.. وماذا أقول لأمي
:.. بل ماذا أقول لنفسي؟
اختارتني المعلمة في الفصل لأقوم بحل السؤال على السبورة لم أستطع
الجواب.. ولم أستطع حتى أن أحرك يدي.. انهالت على باللوم والتقريع
وقالت لي ضمن ما قالته:
- أما أن تكوني مريضة أو غبية..؟!
صدمتني الكلمات رغم الضحك المتواصل من زميلاتي.. فهل أنا مريضة
فعلاً كما تقول أمي والمعلمة.. ولكنني لا أعرف سبباً واحداً لمرضي و لا حتى
عرضاً له.. كل ما أعرفه هو هذا الكابوس الذي يأبى أن يفارقني..
قررت أن أحكي لصديقتي (سارة) فهي الوحيدة القادرة على فهمي..
اجتذبتها من يدها إلى حجرتي.. أغلقت الأبواب والنوافذ بإحكام.. قالت لي
وسط ذهولها
- ماذا تفعلين؟!
أجبتها بأنني سأحكي لها عن حلم
ضحكت بشدة وهى تقول:
- أنت يا أمل إما مجنونة أو مريضة..؟!
كانت تهزل بلا شك.. ولكن كلمتها الأخيرة إخترقتني كسهم قاتل،
وأضاعت بهجتي في الاعتراف.. إلتمعت الدموع في عيني والعالم يزداد
ظلاماً ووحشة.. وذلك الكابوس الرهيب يجتاحني بقوة لم أستطيع لها دفعاً..
حتى صرخت بها:
- سارة.. أرجوك أخرجي..
بهتت.. سألتني:
- أمل.. مابك.. لقد كنت أهزل معك..
همست ودموعي تهطل بغزارة:
- أرجوك أخرجي بسرعة..
نظرت إلى بفزع.. ثم مضت مترددة نحو الباب.. دفعتها بعنف وأغلقت
الباب.. ألقيت بنفسي فوق السرير واستسلمت تماماً للكابوس الذي حطمني..
حلم غريب أو كابوس مريع فيه أرى أختي الصغيرة تقتلني.. تقترب مني
بخطى حثيثة وفي يدها خنجر يلتمع نصله الحاد في ظلام الحجرة ثم تهوي
به على جسدي في طعنات سريعة متوالية.. وأصرخ.. وأصرخ..
وأصرخ..
فتحت عيناي بيأس وأنا أتساءل بمرارة:
لم يتكرر هذا الكابوس المفزع كل ليلة؟.. بل كل يوم..
أنظر إلى أختي الصغرى ذات الأثنى عشر ربيعاً.. إنها هادئة وجميلة وبراءة
الأطفال تسكن عينيها..
إذن هل هي أضغاث أحلام؟.. أم ماذا؟..
قررت أن أصارح أمي بالحقيقة لتحمل عني ولو جزءاً من تبعات هذا الحلم
العجيب..
قلت لها بصوت متهدج:
- أماه.. إني أرى حلماً غريباً يتكرر دائماً في صحوي ومنامي.. نظرت
إلي في دهشة وهي تسأل:
- كنت أشعر بذلك.. خيراً إن شاء الله ما هو لأفسره لك؟..
أجبتها باضطراب فشلت في إخفاءه:
- لا أدري.. كل ما أراه هو أن شقيقتي الصغرى خلود تقتلني في الحلم..
تطعنني بخنجر دون هوادة أو رحمة..
إنني أتعذب يا أماه ولا أدري ماذا أفعل؟
رفعت رأسي لأفاجأ بوجه أمي الممتقع وبعينيها الغارقتين بالدموع.. سألتها
بوجل:
- أمي مابك؟.. ماذا حدث؟
جففت دموعها بسرعة وهي تنهض قائلة:
- لا شئ.. أبداً لا شئ..
أسرعت خلفها أعدو وأنا أقول:
- والحلم يا أمي.. ماذا بشأنه..؟!
لكن كانت قد أغلقت باب حجرتها بإحكام..
ذلك الحوار مع أمي كان البذرة الأولى للعذاب الذي نمى داخلي وترعرع في
صدري وضربت جذوره أعماقي.. ما السر الذي تحاول أمي أن
تخفيه عني؟..
لم تغير وجهها وبكت حين أخبرتها بأمر حلمي؟..
ما العلاقة بين حلمي وبكاء أمي؟..
أسئلة كثيرة تطرق رأسي بدون جواب.. وتمر الأيام وأنا ممزقة حائرة
تغتالني أحلامي وتعذبني براءة شقيقتي وطفولتها العذبة..
وقررت فجأة أن أتجه إلى أحد العرافات أبثها شكواي و أتلقى النصيحة منها.
حصلت من إحدى صديقاتي على عنوان إحداهن ورقم هاتفها.. ذهبت إليها
مترددة يسبقني خوفي.. استقبلتني بفتور أذاب كل حيائي..
رمشت عيناها فجأة وهي نقول:
- أنت مريضة.. أليس كذلك؟
حدقت فيها بذهول.. مريضة!!.. ما معنى كلمة مريضة؟.. ولماذا يصر
الكل على أنني مريضة؟.. هل أنا مريضة فعلاً..؟ وهل يبدو على ذلك
بوضوح؟.. تابعت كلامها وقد أسعدها صمتي المطبق:
- مم تشتكين؟.. أستطع أن أخمن هذا الأمر..
لذت بالصمت لتشجيعها على الكلام.. استطردت بصوت واثق:
- أنت طالبة.. وتعانين من الأرق والصداع و.. قاطعتها قائلة:
- بالضبط،. ولكن الأمر أخطر من ذلك بكثير..
منذ أشهر خلت يطاردني حلم مفزع أرى فيه شقيقتي الصغرى تقتلني في
الحلم.. ثم أفيق وأنا أصرخ في رعب مميت..
أطرقت برأسها صامته وجهها المليء بالتجاعيد يتلون بصورة أفزعتني.. ثم
صرخت فجأة وهى تقول:
- أخرجي.. هيا أخرجي..
وقفت الملم أشلائي بارتباك وأنا أسأل:
- لماذا.. والحلم؟
إخترقتني صرختها الآمرة:
- أخرجي بسرعة. ولن يعود إليك الحلم مرة أخرى..
قبل أن يبتلعني الباب الخارجي.. قلت لها بتساؤل:
- وأختي؟
أشاحت بوجهها قائلة:
- الحلم سيعاودك عندما تكبر شقيقتك هذه.. سألتها:
- ما معنى هذا؟
نهضت لتختفي بالداخل وصرختها لا تزال ترن في أذني:
أرجوك أخرجي بسرعة..!
خرجت وأنا أشد شحوباً وألما.. لم تزدني كلماتها إلا تخبطا وضياعا.. إلى
من ألجأ ولمن أحكي وقد ضاقت بي الدنيا على رحبها وأوصدت الأبواب كلها
في وجهي.. ولدهشتي الشديدة اختفى الحلم.. ذاب الكابوس من حياتي..
لم أعد أرى شيئا في أحلامي..
انتهى الكابوس والى الأبد..
سألتني أمي بقلق:
- حبيبتي ماذا حدث؟.. لم تعودي تصرخين كل ليلة..؟
قلت لها بمرح:
- نعم لقد انتهى ذلك الكابوس يا أمي.. انتهى إلى غير رجعة
هتفت وعلى وجهها سيماء تفكير عميق:
- حمداً لله.. حمداً لله..
ومع مرور الشهور والسنوات نسيت أمر ذلك الحلم العجيب، استغرقتني دوامة
الحياة ومشاكلها.. فلم أعد أذكره ثانية خصوصا مع اقتراب موعد زواجي
من الشاب الذي أحببته من كل قلبي وروحي وعقلي..
كان موعد الزواج يواكب يوم تخرجي من الكلية.. فمضيت بكل جهد
واجتهاد أعكف على كتبي ومذكراتي ألتهمها التهاماً.. تظهر لي بين كل
صفحة وأخرى صورة حبيبي وزوجي القادم وهو يبتسم لي بحب وتشجيع.
حتى كان يوم.. عدت فيه من كليتي متعبة.. ألقيت بنفسي على السرير
لأنهض بعد دقيقتين وأنا ألهث والعرق الغزير يتصبب من جسدي..
رباه.. إنه الكابوس مرة أخرى.. الحلم المريع الذي مزقني منذ ستة سنوات
مضت.. إنه نفس الحلم.. بنفس التفاصيل.. !!.. بنفس الشخوص !!..
ما معنى هذا؟.. والى أين يأخذني؟..
سكن الخوف قلبي.. وشلت الحيرة حركاتي.. فالأمر لم يعد مجرد حلم
بسيط.. أو أضغاث أحلام. إن السنوات التي مرت بي ونضجي النفسي
والمعنوي يقولان لي هذا.. فالحلم الطبيعي لا يكون بهذا الشكل المفزع
المرعب ولا بهذا التكرار العجيب..
لابد أن الأمر كبير وخطير؟..
أسرعت إلى أقرب مكتبة.. اشتريت جميع ما وجدته من كتب تفسير
الأحلام عكفت عليها لمدة ساعتين..
خرجت بعدها شاحبة الوجه.. ممزقة الفؤاد.. منهكة القوى.، لم أجد في هذه
الكتب ما يروي غليلي أو يفسر ولو جزءا بسيطاً من الأسئلة التي تفتت عقلي..
أسرعت إلى الهاتف ومعي قائمة بأسماء وأرقام الشيوخ و مفسري الأحلام..
وبدأت في الاتصالات الواحد تلو الآخر.. ولا شئ.. أحدهم فقط قال لي
بتردد:
- ربما هو ظلم يقع عليك والله أعلم.. !!
انقبض قلبي بشدة وأنا أرد عليه:
- ولكنها شقيقتي الوحيدة بين خمسة أولاد.. وأنا أحبها بشدة.. رد الشيخ بفتور:
- الله أعلم..!
هطلت دموعي بغزارة وأنا أشعر باليأس.. اليأس يحوطني من كل جهة..
هل ألجأ إلى أمي.. إنها لا تملك شيئاً تفعله لي سوى الدموع.. أحكي الحلم
لأختي.. إنها البطلة المتوجة لهذا الكابوس المرعب.. ولكن ماذا سيكون رد
فعلها.. أتبكى؟ أم تعجب؟.. أم تضحك بسخرية كعادتها
وتقول لي بمرح:
- لابد أنك مريضة..
مريضة.. إنها الكلمة الشبح التي أصبحت تمثل لي عدواً لابد من التصدي
له.. هل أنا مريضة فعلاً وما هو مرضي.. وما منبعه؟..
قادني التعب إلى سريري.. وأغمض الإنهاك عيني رغماً عني.. لتتوالى
صرخاتي بعد برهة وتشق السكون من حولي.. فتحت عيني بجهد لأسمع
صوت أختي خلود تهتف قائلة:
- ما بها؟.. لابد أنها تحلم..
أواجه نظرات أمي المتسائلة.. ألمح فيها عذاب صامت وحزن دفين..
تكلمنا في نفس اللحظة:
- لابد من الذهاب إلى طبيب..
وقبل أن تدق الساعة الثامنة صباحا كنت وأمي في عيادة الطبيب النفساني
الشهير د/ محمد الخالد
حدجني الطبيب بنظرة فاحصة قبل أن يقول:
- اكتئاب!!؟
هززت رأسي بالنفي.. وصمتت أمي بوجل.. اغتصب الطبيب ضحكة
قصيرة وهو يقول:
- الاكتئاب منتشر هذه الأيام بين صفوف الفتيات.. المتعلمات خصوصاً...
التكملة في الرد التالي ...
المفضلات