السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بين آيتي الصوم
( ... وَأن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ... )
وَ ( ... يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .... )
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
(( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون . أياما معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكينٍ فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون . شهر رمضان الذي أُنزِلَ فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فَعِدَّةٌ من أيامٍ أُخر يُرِيدُ الله بكم اليسر ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّة ولِتُكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكُرُون . )) [ البقرة : 183-185 ]
لقد كتب الله صيام شهر رمضان على جميع الأمم على لسان أنبيائهم المرسلين ، منذ نوح عليه السلام ، على طريقة قد تختلف في بعض تفصيلاتها . فعن عبد الله بن عمر _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم ) . (1)
وقال الحسن البصري : (( لقد كتب الله الصيام على كل أمة قد خلت كما كتب علينا شهراً كاملاً وأياماً معدودات عدداً معلوماً )) . (2)
ولا يمنع هذا أن يكون هنالك صيام آخر نافلة مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، أو صيام أيام معينة ، أو صيام كصيام داود عليه السلام .
إلا أنه وقد نصت الآية الكريمة : (( ... كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون . أياما معدودات .... )) ، وكذلك نص الحديث الشريف على ذلك ، وجاء شرح الحسن البصري ، فيكون قد تحدد معنى الصيام المفروض وهو شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة .
وكان المسلمون يصومون ثلاثة أيام من كل شهر أول الإسلام ، وقبل نزول هذه الآيات الكريمة . وبعد نزول هذه الآيات الكريمة مرَّ الصيام بمرحلتين كما هو واضح من الآيات . ففي المرحلة الأولى كان يباح للمسلم الذي يطيق الصيام أن يصوم أو أن يفطر ويطعم كل يوم مسكيناً : (( .. وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ... )) ومعنى يطيقونه أي يقدرون على الصيام ، والصيام كله يحتاج إلى طاقة وقوة ، والذي يصوم قد يجد بعض الشدة التي لا يجدها أيام الإفطار . ولذلك جاء التعبير هنا ،: (( .. وعلى الذين يطيقونه )) وهذا ماضٍ على المقيم والمسافر والمريض . فمن أراد الصيام وكان مريضاً أو مسافراً ، فيمكنه قضاء ذلك بعد زوال العذر ، ومن أراد أن يتطوع بإطعام أكثر من مسكين عن كل يوم ، أو يزيد في كمية الطعام لكل مسكين ، فذلك خير له ينال ثوابه عند الله : (( ومن تطوع خيراً فهو خير له )) . ثم خُتِمت هذه الآية المتعلقة بهذه المرحلة من جواز الصيام أو الإفطار بقوله سبحانه تعالى : (( ... وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون )) . أي أن الصيام أفضل من الإفطار في حالة التخيير هذه . فالتفضيل هنا مرتبط بحالة التخيير التي عرضناها .
أما في المرحلة الثانية فقد رفع التخيير ولم يعد هنالك إلا حالة واحدة هي صيام شهر رمضان كله فرضا على كل مسلم :
(( ... فمن شهد منكم الشهر فليصمه .... )).
هذه هي القاعدة الجديدة في المرحلة الثانية من فريضة الصيام ، ثم تأتي الآية الكريمة لتضع حكم المسافر والمريض ، فجاء الحكم يطابق نصه النص السابق في المرحلة الأولى من ناحية ، ويختلف عنه من ناحية أخرى ، أما المطابقة فهي في قوله سبحانه وتعالى :
(( .... فمن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدة من أيام أخر ...))
وحُذِفتْ كلمة منكم التي كانت في نص المرحلة الأولى : (( ... فمن كان منكم مريضاً ....)) وذلك لأن كلمة منكم وردت في الجملة السابقة : (( ... فمن شهد منكم الشهر .... )) ، فلم تعد هنالك حاجة لتكرارها في الجملة اللاحقة ، لأنها أصبحت مفهومة ضمناً ، وكأنما النص : (( فمن كان منكم مريضاً .. ))
ثم جاءت القاعدة الثانية في هذه المرحلة الثانية وهي قوله سبحانه وتعالى: (( .... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ... ))
وهذه القاعدة هنا اختلفت عن القاعدة التي كانت في المرحلة الأولى ، مرحلة التخيير بين الصيام والإفطار ، حيث جاء قوله سبحانه وتعالى : (( ... وأن تصوموا خير لكم ... )) ، أي خير لكم من الإفطار المباح .
فحين كان المسلم مخيراً بين الصيام والإفطار نصت الآية على (( ... وأن تصوموا خير لكم .. )) ، وكلاهما جائز .
وحين فُرض الصيام ولم يعد هنالك خيار ، جاءت الآية لتنص : (( .... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ....)) بالنسبة للمسافر والمريض ، على أن يقضي المسافر والمريض صيام الأيام التي أفطرها بعد زوال سبب السفر أو المرض ، فلم يعد هنا إلا حالتان بالنسبة للمريض والمسافر : الصيام أو القضاء .
فالخلاف الذي دار بين الفقهاء حول أيهما أفضل الصيام أم الإفطار بالنسبة للمسافر، لا نرى له مسوغا . فقد رأى أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله ، أن الصوم أفضل للمسافـر إن لم يكن عليه مشقة ، فإن كان هنالك مشقة فالفطر أفضل . وقال أحمد وإسحاق وآخرون : الفطر أفضل مطلقاً . وقال آخرون الصوم والفطر سواء . وقد أخذ كل فريق بجزء من النصوص لا بِجَميعِها والخروج منها بحكم واحد .
فلقد رأينا أن تفضيل الصيام كان في مرحلة التخيير . ولما وقع التخيير جعل الله الأمر للمسلم ليرى هو نفسه الأيسر له ، فهو أعلم بواقعه وظروفه وحالة السفر والمرض . وجاءت الأحاديث الشريفة لتوضح هذه القاعدة :
فعن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال : ( يا رسول الله إني كثير الصيام أ فأصوم في السفر ؟ ) فقال : ( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر) [ رواه الشيخان ] (3)
وفي رواية مسلم قال : إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر . وفي رواية أنه قال : يا رسول الله إني أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح ؟ فقال : ( هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه ) .
وفي جميع الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفضل الصيام على الفطر ، وإنما ترك الأمر للمسلم ليفكر ويدرس واقعه ويقرر هو ويختار بين أمرين مباحين . فلا بـد أن يكون للمسلم دائرة يتحمل فيها المسؤولية فلا يكون إمعة . وعن أنس رضي الله عنه قال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم). [ رواه الشيخان والترمذي وأبي داود ]
هذا معْلَم من معالم مدرسة النبوة الخاتمة . تُعلِّم الجميع القواعد كلها ، ثم يُعْطَى كل مسلم الفرصة ليُفكِّر ويدرس واقعه ، ذلك في حدود مسؤوليته وأمانته ، وأن يرد الأمر إلى ما تعلمه من منهاج الله ، ثم يختار ويقرر . فنشأ جيل مؤمن يعرف مسؤوليته وحدودها ، فينهض لها ، حتى لا يكون الناس كلهم عالة يُعطلون عقولهم وإيمانهم وعلمهم .
ولكن قد يصدر الأمر للصائمين في السفر من القائد الذي يرعى مصلحة عامة أوسع وأهم ، فلا بد من الاستجابة الواعية لذلك :
فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كُراع الغميم فصام الناس . ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ، ثم شرب . فقيل له بعد ذلك : إنَّ بعض الناس قد صام . فقال : ( أولئك العصاة ، أولئك العصاة ) وفي لفظ : ( فقيل له إنَّ بعض الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت ، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب ) . [ رواه مسلم ]
فهنا أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وجوده بين المسلمين دفعهم إلى الاقتداء به على مشقة يجدونها وهم مقبلون على حرب . فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع القدح حتى رآه الناس .
فالقاعدة الأساسيـة في حالـة السفر والمرض هي قوله سبحانـه وتعالى : ( ..... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) . فقد يخطئ بعضهم في تقدير اليسر ويأخذ بالعسر فيؤذي نفسه . فيأتي التوجيه النبوي ليؤكد فقه القاعدة المذكورة .
فعن جابر رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلّل عليه ، فقال : (ما هذا ؟ قالوا : صائم . فقال : ليس من البر الصوم في السفر ) [ رواه الشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي ](4)
فإذا كان هنالك مشقة وضرر من الصيام في السفر ، فيكون الصيام لا يخضع لقوله سبحانه وتعالى : ( .... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .....) . فإذا وقعت هذه المخالفة كان يأتي التوجيه النبوي ليؤكد قاعدة اليسر .
وفي موقف آخر يرويه لنا أبو الدرداء ، قال : ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد ، حتى كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر ، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة ) . [ رواه الشيخان ] (5)
وفي هذا الموقف تُرِك الأمر للمسلم فاختاروا جميعا الإفطار إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة ، ولم يعط رسول الله صلى الله عليه وسلم أي توجيه جديد ، زيادة على ما تعلموه جميعهم من الكتاب والسنة .
وخلاصة ذلك أنه لا مسوغ للخلاف حول حكم الصيام للمسافر والمريض حين تؤخذ الآيات والأحاديث كلها ، فيصبح الحكم جليا واضحا . وهل يعقل أن لا يبين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الحكم الجلي للمسلمين في هذا الأمر وأمثاله مما يقع في دائرة مسؤولية كل مسلم مفروض عليه طلب العلم من الكتاب والسنة ، كما فرض عليه الصيام .
إننا لنعجب كيف أن المسلمين اليوم تخلى الكثير منهم عن مسؤولية طلب العلم الذي فرضه الله ورسوله على كل مسلم :
فعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى عليه وسلم قال : ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ، وإن طالب العلم يستغفر له كل شئ ، حتى الحيتان في البحر ) [ رواه ابن عبد البر في العلم ] (6)
وخلاصة ذلك : أن الصيام فرض لا يسقط إلا بعذر شرعي جاء به نص واضح صريح . وفي حالة المسافر والمريض عليهما القضاء إذا زال سبب الإفطار ، ويترك للمسلم أن يختـار ما هو الأيسر له حسب القاعدة التي سبق ذكرها ، فهو أعلم بواقعه وظروفه . إلا أنه إذا كان الصيام يسبب أذى وضررا ، فقد جاء التوجيه النبوي إلى أن الأيسر الذي يخضع للآيـة ( ... يريد الله بكم اليسر ...) هو الإفطار والقضاء .
المفضلات