.
قبيل الغروب ، كان ماهر واقفاً على إحدى صخرات الرصيف البحري ، يتأمل منظر الشمس وقد بدأت حافتها السفلية تلامس الخط الفاصل بين البحر والسماء ، ويتأمل منظر الأمواج وهي ترتطم بالصخور المبللة التي بدأت تكسوها طبقة خضراء من الأعشاب الطفيلية ...
انحنى قليلاً والتقط حصاة كانت بالقرب منه ... وألقى بها بعيداً جهة البحر ..
وقعت تلك الحصاة في الماء ونتجت عنها دوائر كثيرة بدأت تتسع شيئاً فشيئاً قبل أن تتلاشى ، وفاجأه أن حصاة أخرى انطلقت من مكان ما خلفه ، ووقعت في مكان أبعد من حصاته لتغطس هي أيضاً وسط دوائر تتوسع حتى التلاشي .. التفت منتبهاً ، فإذا به يجد الأستاذ أيمن واقفاً خلفه ، يحدق فيه بعينين غامضتين ...
تحولت ملامح ماهر إلى الدهشة ...
.
وما هي إلا لحظات ، حتى كان الاثنان جالسين على حافة الرصيف ، وفي يد كل واحد منهما علبة عصير ...
- يجب أن تكون جميلاً حتى ترى كل شيء جميلاً ، وإذا رأيت كل شيء جميلاً عندها فقط سوف تشعر بالسعادة ^_^ .. لا يوجد في الحياة فقط حقد وكره وضغينة وجشع .. في الحياة أيضاً حب وإخاء وصفاء وتعاون ، وبين الناس يوجد أشخاص طيبون وفضلاء جداً .. يجب فقط أن نبحث عنهم لنتقاسم معهم لحظات السعادة ... ..
قال هذه الكلمات الأستاذ أيمن ، وهو ينظر إلى ماهر بعينين عطوفتين ، وماهر يجلس أمامه حزيناً ينظر إلى الأسفل ، وهبّات الريح المسائية تحرك ببطء خصلاته الصفراء الجنونية بشكل انسيابي بطيء ... أجاب ماهر دون أن يزحزح بصره عن الأرض : مررت بتجارب قاسية في حياتي .... .. كنت أرى جميع الناس أعدائي ، ولم أومن يوماً بما يسمونه رابطة الصداقة ... .. لقد أهدرت الكثير من أيامي الثمينة يا أستاذ ! كم سيتطلب مني إصلاح كل ما أفسدَته يداي الآثمتان من وقت وجهد ؟
.
كان الأستاذ أيمن يحس بما يحس به ماهر ، خاصة وأنه عرف معلومات كثيرة عنه من خلال الأستاذ نبيل ، لسبب ما شاء القدر أن يغيب الأستاذ نبيل في أكثر أوقات ماهر حلكة ، ويحل محله الأستاذ أيمن ، الشاب الطيب الطموح المقبل على الحياة بكل إصرار وعزيمة ..
أجابه وقد كساهما لون الغروب لوناً ذهبياً جميلاً : يجب أن تتصالح مع نفسك أولاً قبل أن تتصالح مع الآخرين .. وإلا فسوف تعيش على أكاذيب أنت اخترعتها بنفسك ثم صدقتها بسذاجة ...
أعاد ماهر الجملة الأولى بنبرة بطيئة وكأنه يديرها في رأسه : أتصالح .. مع نفسي ....
أكمل الأستاذ : أجل .. .. أن تتصالح مع نفسك يعني أن تعرفها جيداً وتفهمها أكثر من أي شخص آخر .. وذلك بأن لا تعطيها أكثر من حقها فتكون مغروراً .. ولا أقل من قدرها فتكون محبطاً ومحطّم الهمة ، يجب أن تعرف قدر نفسك جيداً دون أن يتعارض ذلك مع طموحاتك العالية لتحقيق الكثير ، ودون أن تنقصك الشجاعة للاعتراف بخطئك إن أنت أخطأت ومحاولة تصحيحه بكل ما أوتيت من عزيمة .. هل تفهم كلامي يا ماهر ؟
.
رفع ماهر رأسه ببطء بعد أن كانت عيناه مثبتان على علبة العصير بين أصابعه .. رفع رأسه والتفت ببطء نحو الأستاذ ، بملامح يبدو عليه بعض الاندهاش ، وربما الانبهار بكلام وقع من نفسه موقعاً كبيراً ....
.
كان منظرهما يبدو جميلاً جداً ... وهما جالسان على تلك الصخرة قرب البحر .. يتأملان الأفق الذي لونته حمرة الشفق بألوان تنفذ إلى أعماق النفس وتداعبها ...
.
*******
.
افترقا تحت جنح الظلام ، وها هو ماهر يمشي ببطء في أحد الشوارع الخالية عائداً إلى بيته مطأطأ الرأس .. حاسر النظرات ، وقد أثر فيه كلام الأستاذ كثيراً .. كلماته كانت لا تزال تتردد في مسامعه :
- أفهم قصدك جيداً يا ماهر ، إن الأمر أشبه بالمشي على حبل دقيق دون الوقوع إلى الأسفل ، أن تكون واقعياً وإيجابياً في نفس الوقت ! هذه هي المعادلة الأصعب التي تعتبر أكبر تحدّ يمكن أن نواجهه في حياتنا .. إذا كسبت رهان هذا التحدي يا ماهر فأنت شخص ناجح في حياته .. أذكر هذا جيداً ..
.
********
- المياه تنسكب بغزارة ونستطيع رؤية ساقين وقدمين واقفين قرب بالوعة الحمّام ...
- تمتد اليدان نحو الشعر الأشقر المبتل تماماً وقد غزته رغوة الشامبو ، وتواصل فركه أثناء انسكاب الماء الساخن من الرشاش الموضوع فوق الرأس تماماً ...
- انفتح الباب وخرج ماهر يلف جسمه بمعطف الحمام ، وعلى رأسه منشفة تغطي شعره وجزءً من وجهه ...
- وصل إلى السطح ، ورفع بصره نحو السماء الزرقاء الصافية ، واتجه نحو الصندوق الذي يربي فيه الحمامتين .. انحنى على ركبتيه وأطلّ ينظر ما بداخل الصندوق ..
.
- ومرتدياً زيّه المدرسي الجديد الذي بدا وكأنه يلبسه لأول مرة .. كان ماهر - ذات صباح جديد - .. يقف قرب ممر للراجلين منتظراً إشارة الضوء الأحمر .. حاملاً محفظته الدراسية .. وعيناه ترمشان بكثرة وهو يجول بهما في أرجاء المدينة التي وُلدت من جديد في داخله ...
تسريحته الجديدة مختلفة تماماً .. وشكل ملامحه يبدو أكثر وداعة ومسالمة .. وها هو ذا الضوء الأحمر أخيراً .. وها هي ذي السيارات تتوقف عن المسير فاسحة الطريق للراجلين .. وها هو ماهر .. ينزل قدمه عن الرصيف ، ويتقدم أول خطوة ....
إنه اليوم الأول .. من ميلاده الجديد ....
.
.
.
داخل قاعة الأنشطة المسرحية ، تجمع عدد من طلاب الفصل الدراسي يستمتعون بوقتهم هناك ، كلّ حسب اهتمامه ، كانوا متفرقين أفراداً وجماعات صغيرة ...
فرح كانت تتصفح جزءً من رواية رامي الذي كان يقف أمامها مرتبكاً وهي تمطره بوابل من الانتقادات اللاذعة : رامي رامي رامي لماذا أصبحت قصة الحب بينهما باهتة بهذا الشكل الأجزاء الأولى كانت أفضل بكثيييييير ..
يجيب رامي وقطرة عرق كبيرة معلقة قرب جبينه : لكن أخبرتك مراراً أن كتابة القصص الرومانسية ليس من تخصصي .. .. لقد استهلكت كل أفكاري ولم يعد لدي ما أكتبه صدقيني ..
تجيب فرح بنفس الحدة : عذرك غير مقبول .. أنت تجيد ذلك لكنك كسوووووول اسمع اسمع أريد للجزء القادم أن يحبس أنفاسي هل تفهم ؟ ...
التفت سامي نحو ماهر ، وكان جالساً بالقرب منهما إلى حاسوب يلعب بملل إحدى لعبه البسيطة ، وقال له بلهجة ساخرة : رامي منذ متى وأنت تكتب القصص الرومانسية ؟ >_> ..
أجابه رامي بنفس الارتباك : منذ أجبرتني هذه الفتاة على كتابتها ..
عندها نبت قرنان صغيران أحمران فوق رأس فرح وبرزت أنيابها وهي تصرخ مقتربة من رامي : رامييييي !
أما سامي فقد تنهد تنهيدة ملل وعاد إلى لعبته الساذجة ...
.
سوسن تقترب بوجل من جهاز البيانو الكبير وتمد سبابتها بحذر وتنقر نقرة سريعة خائفة .. ثم تبعد سبابتها وهي تقول بصوت طفولي : أووه .. انه مخييف ..
.
وفي ناحية أخرى من القاعة كان يوجد إياد ، وقد تجمعت حوله - كالعادة - مجموعة من فتيات الفصل وهن منتبهات كل الانتباه لما يقول ، وهو منشغل بالحكي ومنسجم مع قصص بطولاته التي لا تنتهي .. : وبعدها صعدنا عااااااالياً في ذلك الجبل المثلج !! .. إلا أن حالة عمي وكلابه كانت قد تدهورت كثيراً ... ... وكاد يغمى علينا بسبب البرد الشديد والعاصفة الثلجية التي هاجمتنا فجأة ..
-- أوووووووه مساكييييين .. .. اهئ اهئ وماذا حدث بعدهااا ؟
.
وفي جهة أخرى ، تكونت حلقة مميزة من الطلاب .. ما ميزها فعلاً وجود ماهر بينها !! وكان شخصاً آخر فعلاً ، إنه يحاول جاهداً استعادة ملامح شخصيته الأولى التي دخل بها الثانوية أول مرة ...
كان يمازح المتحلقين حوله قائلاً : حقااااا هذا رائع !! .. تسريحتي هذه أجمل بكثير أليس كذلك ؟
أجابت رنا مبتسمة : أنت تبدو مختلفاً هكذا لكن مظهرك الجديد أفضل ^_^
ويقول حسان : لا تنس موعد مباراة الغد يا ماهر .. .. سوف نفوز عليهم لا محالة ..
يرد ماهر : بالتأكييييد .. كم اشتقت للعب كرة القدم فلم ألعبها منذ مدة .. .. كانت هواية مفضلة لي في السابق ..
.
وفجأة قاطعه صوت طالبة قائلاً : احم احم ...
انتبه ماهر ، والتفت الجميع نحو مصدر الصوت .. وكان الطالبة لجين ، فتحولت ملامح الجميع إلى الابتسام المشوب بشيء من المكر ، وكأن شيئاً ما كان مدبراً بين الجميع منذ وقت سابق .. وإذا بلجين تقول مخاطبة ماهر : ماهر ... .. أرجو أن تقبل منا هدية بسيطة .. ^_^
اندهش ماهر : هاااه .. هدية ؟
وإذا بلجين تتجه بخطوات رشيقة نحو خزانة في زاوية القاعة ، تفتحها ، وتخرج منها شيئاً ضخم الحجم قليلاً ، ومغلفاً بغلاف جلدي أسود أنيق ..
واتسعت عينا ماهر من شدة الدهشة ، وهو يرى لجين تمد إليه شكل قيثارة ملفوف بذلك الغلاف الجلدي ، وهي تبتسم بعذوبة ، وحولها يقف جمع من طلاب الفصل مبتسمين وهم يحدقون في ملامح ماهر المندهشة ...
صمت ماهر وتسمر في مكانه ، ولم يمد حتى يديه ليتسلم القيثارة الممدودة نحوه ، بادرت لجين مكملة كلامها : هذه هدية متواضعة نهديها لك باسم جميع زملاء فصلنا الدراسي .. .. نعرف ولعك بالموسيقى ، وواثقون من قدرتك على تطوير موهبتك الموسيقية ^_^ ، تــفضل ماهر .. ^_^
.
ما لفت انتباه ماهر شكل القيثارة ، كان شكلها مختلفاً تماماً عن القيثارة الكهربائية التي حطّمها قبل أيام ، كانت من النوع الهادئ من القيثارات ، ذلك النوع الخشبي البسيط الذي تُعزف به الألحان الهادئة ، بعيداً عن الصخب الذي تصدره القيثارات الكهربائية بضوضائها المزعجة وأشكالها الغريبة الملتوية وألوانها الفاقعة التي تأخذ في الغالب تصاميم نارية !!
ظل ماهر يتأمل القيثارة بعينين ذاهلتين بعض الوقت ، لم تكن تعرف لجين - ولا غيرها - أن ماهر حطم قيثارته الأولى وحولها إلى أشلاء ، لكن القدر ساق إليه فجأة هذه الهدية الغريبة التي جاءت لتحل محل سابقتها ، لكن بشكل مختلف تماماً ...
.
اغرورقت عينا ماهر بالدموع ، حاول مكابراً إخفاءها ودفعها عن الظهور في عينيه حبات بلورية كبيرة ، وتسلم القيثارة من لجين وهو يقول بصوت واضح التأثر : شـ .. شكراً ... .. أشكرك يا لجين ... ... أشكرك من كل قلبي .....
وابتسم الجميع ، وترقرقت عيون الفتيات تأثراً بهذا المشهد المتميز وهن مبتسمات بسعادة ... في حين أجابت لجين وهي تحدق في عيني ماهر بثقة متناهية : لا تشكرني أنا .. بل اشكر صاحب الاقتراح ..
.
وتحول وجه ماهر إلى التساؤل : هاه !
فأجابت لجين : شخص يدعي بأنه غير مهتم بالموسيقى ...
وابتسم الجميع ابتسامة عريضة .. في اللحظة التي عطس فيها سامي وهو منهمك في لعبته الحاسوبية غير مبال بما يحصل من حوله : هااااااااااتشوووووووو >_< ...
!!
.
المفضلات