يعد الأدب لوناً من ألوان الفنون الجميلة التي لم يستغن الإنسان عنها أبداً ،
فهو يعبّر عمن يحب الجمال ويستمتع به ،
ويعبّر عمن يذكر الماضي ويحلم بالمستقبل ،
فهو متعة جدية وجمالية للصغار والكبار ، الرجال والنساء ،
وجديته تتصل بعمق نظرته ،
وتضمنه صوراً من صور المعرفة النسبية التي تبقى على مر العصور ،
كما أن جدية الأدب ومنفعته تتصل بالمثل العليا في الأخلاق والسلوك البشري والتجربة الإنسانية،
وتتصل كذلك بما يبعثه من السرور النفسي والراحة والاطمئنان في النفس ،
لأنه ينفس عن نفس الإنسان وعن عواطفه وعن رغباته المكبوتة ،
أما عن جماليته ، فعي تتعلق بجمال الفكرة وروعتها ،
وبجمال العرض والأسلوب ،
وبروعة الخيال ، وبتدفق العواطف ، وبموسيقى اللغة والإيقاع ،
فما أروع الأدب!
وما أجمل من يستلذ به!
إلا أنه وللأسف الشديد ، انصرف الكثير من الناس عن الأدب في هذا الزمن ،
ففي هذا الزمن ، أصبحوا الناس مهتمون بالمال والتكنولوجيا وطغيان المادة والآلة ،
وكما قال الشيخ علي الطنطاوي في كتابه فكر ومباحث : (( لنأخذ المواصلات مثلاً ... لا شك أن العلم قد سهلها وهوَّنها وقرب البعيد ، وأراح المسافر ووفر عليه صحته ووقته ،
فقد كان الحاج إلى بيت الله ينفق شهرين من عمره في الطريق يحمل آلاماً وتعرض له مخاوف ،
ولكنه يحس بمئات العواطف ، وتنطبع في نفسه آلاف من الصور ، ويتغلغل في أعماق الحياة ،
ثم يعود إلى بلده يروي حديثها ، فتكون له مادة لا تفنى ، ويأخذ منها دروسا لا تنسى ،
أما الآن فليس يحتاج إلا الصعود إلى الطائرة ، والنزول منها بعد ساعات ، فهو قد ربح الوقت لكنه خسر الشعور ...))
ومع ذلك فلا بد من القول إن العالم المعاصر ـ وإن تغير نمط سلوكه وتبدلت منطلقاته بطغيان الآلة والانفتاح على العالم ـ
قد أدرك أن هناك حاجة ملحة إلى إحداث التوازن بين ماديات العصر وآلاته ونمطه السريع وطبيعته المختلفة من جهة ،
وبين الجانب الروحي والإنساني المتمثل في الأدب من جهة أخرى ،
فسعى الأدب إلى توظيف كل هذه المستجدات العلمية والتقنية ،
وبالأخص وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ،
وسخّر العلوم والتقنية في خدمة الأدب ، واتجه بالأدب من منطلقاته القديمة إلى منطلقات من الاحتراف وصناعة الأدب ،
كما خرج العالم بالأدب من نطاقه المحلي الضيق إلى الإقليمية والعالمية .
والأدب وفق منطلقاته القديمة أو الحديثة ، يظل مرآة للأمم المتحضرة ، تنعكس فيه همومها وثقافتها وأحلامها ،
وتحافظ من خلاله على هويتها وتراثها ،
لذلك يعتبر الأدب وسيلة مهمة للتعريف بالأمة ، وإشهارها وبث قيمها وأفكارها في ظل عصر تتسابق فيه الأمم على إثبات الجدارة والتميز في شتى مناحي الحياة ،
ولذلك تجد الأمة المتحضرة تحرص على دراسة آدابها والعناية بها ،
ويقوم بتنشئة الأجيال منذ الصغر في البيوت والمدارس والملتقيات الاجتماعية على دراسة نصوصها الأدبية ،
وحفظ روائعها ، والافتخار بها ، والعناية بما تحمله من قيم ومبادئ ،
فكل هذا ، يشكل جزءاً كبيراً من قيم الأمة الاجتماعية والثقافية ،
كما تحرص الدول على نشر الأدب وتشجيعه ، و إقامة المراكز الثقافية والأندية الأدبية ،
وتؤسس لذلك الكليات والمعاهد التي تعتني بدراسة الأدب دراسة متقدمة ،
كما أنها تخصص للآداب الجوائز الدولية والمحلية .
هذه مقدمة تمهيدية بسيطة للإبحار في بحر الأدب ،
لكن قبل أن نبحر في بحر الأدب ، يجب أولاً معرفة ما هو الأدب ،
فكلمة (( أدب )) تدل لغوياً على معان متعددة ،
فمن هذه المعاني ، دعوة الناس إلى مأدبة ، ومنها تهذيب النفس وتعليمها السلوك الحسن ،
ومنها الكلام الحكيم الذي ينطوي على حكمة وعلى قول صائب ،
أما المعنى الاصطلاحي للأدب ، فهو الكلام البليغ الصادر عن عاطفة ، والمؤثر في النفس.
الأدب لا يمكن اكتسابه أو تعلمه من الغير ، فالأدب يصدر عن موهبة راسخة في نفس الإنسان ،
وهذه الموهبة تحتاج إلى التنمية والرعاية ، وطبعاً هذه الرعاية لن تتم إلا عن طريق مخالطة أهل اللسان ،
ومحاورتهم ، والحديث معهم ، والاستماع إلى كلامهم.
والآن هيا بنا نبحر في بحر الأدب.
يتبع...
الرجاء عدم الرد
المفضلات