نواصل...
أحداث يطول شرحها تكشف ما في الصدور من حقد أسود عام بين الكثيرين . لقد مضت قرون طويلة والمجرمون في الأرض يغرسون الأحقاد في قلوب الناشئة من شعوبهم ضد الإسلام والمسلمين . والملايين الكثيرة من هؤلاء لا يعرفون دينهم ، والملايين يعرفون القليل القليل من خلال زيارات الكنائـس فحسب ، ومعظمهم لا يعـرف عن الإسلام من مصادره الحقيقية ـ القرآن والسنة ـ شيئاً . ولو سألت صربيّاً وهو يعتدي بالقتل الوحشيّ على المسلمين المجرّدين من أي سلاح ، لو سألته لماذا تكره هؤلاء ؟! هل آذوك ؟ هل اعتدوا عليك ؟ هل درست دينهم ؟ هل دينك يأمرك بهذه الجرائم ؟ لو سألت كل هذه الأسئلة ما ظفرت بإجابة شافية إلا أنه لُقن أن هؤلاء أعداؤه .
في هذه الدول غير المسلمة يمكن أن نقسم المجتمع كله إلى ثلاث فئات :
1 ـ فئة لا تؤمن بأي دين إلا بمقدار ما تستفيد منه لتأمين مصالحها المادية ومطامعها الدنيوية ، معزولة عن كل تصور للدار الآخرة .
2 ـ فئة تدّعي التمسك بالدين ولكنها مسخرة في يد الفئة الأولى ، محجورة في الكنائس في دول يعلن نظامها الرسمي أنها دول علمانية لا دينية ، ولكنها تخرج من الكنائس لتكون أداة طيعة في يد الفئة المجرمة الأولى .
3 ـ عامة الناس الذين غُرِسَ في قلوبهم الحقد على الإسلام والمسلمين ، فأصبحوا في معظم الأحوال أَداة طيعة في يد الفئة المجرمة الأولى ، إلا من رحم الله . ولا يمنع ذلك أن يظهر في أي فئة من هذه الفئات رجل أو أكثر يبحث عن الحق ، ويحب الحق ويكره الباطل .
من خلال هذا التصور الذي نلمسه حقيقةً واقعة في التاريخ البشري نجد أن هنالك طبقتين من الناس في هذه المجتمعات بصورة عامة ، يخرج عنهما القليل من الناس . هاتان الطبقتان هما الطبقتان اللتان يصفهما القرآن الكريم وصفاً مفصلا في كثير من السور والآيات ، ويسميهما : المستكبرين والضعفاء أو المستضعفين ، أو الذين اتُّبِعُوا والذين اتَّبَعُوا ، أو الكبراء و الأتباع . ولنتدبّر بعض الآيات الكريمة التي تتحدث عن هؤلاء وهؤلاء :
{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبُّونهم كحبّ الله والذين آمنوا أشدُّ حبّاً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب () إذ تبّرأ الذين اتُّبعُوا من الذين اتّبعَـوا ورأوا العـذاب وتقطعت بهم الأسباب () وقال الذين اتَّبَعَوا لو أنّ لنا كرّة فنتبرّأ منهم كما تبرَّءُوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار {
[ البقرة : 165ـ167]
إن هذا هو الداء القاتل الأول في حياة البشرية ، حين تتكون طبقة تستأثر بحب الناس حبّاً أكثر من حبهم لله ، فيكون السادة الكبراء أو المستكبرون من ناحية والأتباع الضعفاء المستضعفون من ناحية أخرى . ويكون مصير الفريقين إلى النار .
وكذلك قوله تعالى :
{وقالوا ربنا إنا اطعنا سادتنا وكُبراءنا فأضلّونا السبيلا () ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيراً }
[الأحزاب : 67،68 ]
وكذلك قوله تعالى :
{وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استُضِعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين () قال الذين استكبروا للذين استُضعِفوا أنحن صددناكم عن الهُدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين () وقال الذين استُضعِفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يُجزون إلا ما كانوا يعملون () وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أُرسلتم به كافرون () وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذّبين }
[ سبأ : 31ـ35 ]
وكذلك قوله تعالى :
{وإذ يتحاجُّون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار () قال الذين استكبروا إنا كُلٌّ فيها إن الله قد حكم بين العباد () وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يُخفف عنا يوماً من العذاب () قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال () إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد () يوم لا ينفع الظالمين معذرتـُهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار }
[غافر:47ـ52]
هذا التصور الذي تعرضه لنا هذه الآيات الكريمة ، هو نفس التصور الذي عرضناه في الصفحات السابقة ، ليكون هذا التصور النابـع من منهـاج الله أساساً ضرورياً لفهـم كثير من أحداث الواقع اليوم ،وكثير من مجريات السياسة .
القضية الأولى التي يمكن فهمها من خلال هذا التصور هو اللقاء النصراني اليهودي في هذه الفترة من التاريخ . لقد كان النصارى أشد أعداء اليهود على مدار التاريخ . فهم الذين أداروا المجازر فيهم في إسبانيـا وروسيا وكثير من الدول الأوربية .وحمل التاريخ هذا العداء الدامي حتى هذه المرحلة . ويشير القرآن الكريم إلى ذلك في قوله سبحانه وتعالى :
{وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون }
[ البقرة : 113 ]
لقد تميّزت هذه الحقبة من التاريخ بأن الفئة المجرمة في الأرض جمعت أشتاتاً من المذاهب والأديان ، على مصالح مادية دنيوية يتفقون حيناً على تقاسيمها ، ويختلفون حينا . فالتقت الحركة الصهيونية بفكرها وفلسفتها ونشاطها مع النظام العلماني الرأسمالي ومع غيره من النظم لتكون جزءاً من عصابة المجرمين في الأرض . وإن جملة نيكسون : (( إن اكثر ما يهمنا في منطقة الشرق الأوسط البترول وإسرائيل )) ، إنه تعبير دقيق عن تلاقي المصالح المادية .
ومن هذا التصور ندرك أن قيام دولة إسرائيل يمثل جزءاً من سياسة هذه العصابة المجرمة في الأرض في صراعها مع الإسلام ، ومن أجل تأمين مصالحها المادية .
ومن هذا التصور ندرك أن العلاقة بين الصهيونية وهذه الدول المجمعة على دعمها مهما كان بينهم من خلاف هي علاقة مصالح مادية ، وليست علاقة دين يؤمن بالله واليوم الآخر . ولكن لا يتردد هذا الفريق أو ذاك ، بالرغم من ادعائه الواضح الصريح بعلمانيّته اللادينية ، من أن يستغل الدين ، أيّ دين ، ليسخره في خدمة هذه المصالح المادية .
ربما شاع بين بعض الناس أن اليهود يوجهون بنفوذهم السياسة الأمريكية ، أو الإنكليزية أو الفرنسية . ويتحمس عدد من الناس لهذا الرأي ، والذي نراه أقرب للصواب هو أن الدين نفسه مستغل بصورة فاسدة مجرمة ، وأن الفرقاء لا يخضعون بمواقفهم السياسية لهذا الدين أو ذاك ، وأن كلاًّ منهم يتعاون مع الآخر من خلال مساومات طويلة تستقرّ في مرحلة من المراحل على بعض الثوابت فترة من الزمن . ذلك لأنه في دنيا المصالح والمطامع لا يوجد ثوابت لا من أخلاق ولا من دين ولا عهود .
لا بد من فهم الواقع من خلال منهاج الله ، حتى نستطيع أن ندرس كيفية التعامل مع الواقع من خلال الانتماء الصادق إلى الإسلام ، لا من خلال الانتماء الاسمي الشكلي، ولا من خلال الأهواء . إن أي تزييف في فهم الواقع ، أو فهمه من خلال غير منهاج الله ، وإن أي تحريف لحقائق منهاج الله وآياته ، سيقودنا إلى نتائج مدمرة .
لا يستطيع المؤمنون أن يضعوا خطة إيمانية صادقة للتعامل مع أي واقع إلا إذا صدق الإيمان والتوحيد ، وصدق العلم بمنهاج الله ، ثم دُرِس الواقع بعد ردّه إلى منهاج الله .
إن المجتمعات غير المسلمة تظنّ أن الإسلام عدوُّ لهم . هكذا صوّر قادة أوروبا الإسلام لشعوبهم ، وعلى هذا الأساس تحرّك عدد من الكتّاب والشعراء بالإضافة إلى نشاط البابا والقادة السياسيين ورجال الكنيسة . وهكذا صوّر (( فوكوياما )) الإسلام في كتابه (( نهاية التاريخ والرجل الواحد )) . وهكذا صوّره نيكسون للشعب الأمريكي وللعالم ، إلا أنه تدارك بعض هذه الافتـراءات في كتابيه الأخيرين ، ليرسم سياسة جديدة لتحقيق أهداف قديمة لم تتغيّر .
ولم تكن هذه الصورة التي نشرها هؤلاء عن الإسلام ناتجة عن دراسة تبحث عن الحق وعن مصلحة الإنسان على الأرض . إنها صورة ناتجة ، كما ذكرنا سابقاً ، من عبادتهم المطلقة لمصالحهم المادية ، ومن قناعتهم أن الإسلام ، كما جاء من عند الله ، يدعو إلى الحق والخير والصلاح للإنسان عامة وللبشرية كافة ، وأنه يحارب الظلم في الأرض بكل أنواعه ، ويحارب العدوان والفتنة والفجـور والفساد كله . لذلك السبب الرئيس اعتبروا الإسلام عدوّاً لهم ، فكانوا ظالمين لأنفسهم وللبشرية كلها .
إنهم لو أحبّوا الحق والخير لوجدوا الإسلام نعمة من عند الله على الناس كافة ، ولأسرعوا للتمسك به والدعوة إليه وإقامة أحكامه في الأرض .
ولابد أن نشير هنا إلى أنه مما ساعد الدعاية الكاذبة عن الإسلام والافتراء الظالم تقصير المسلمين في الدعوة إلى الله ورسوله ، وانصرافهم إلى الدنيا ، وربما غرق بعض المسلمين فيما غرق فيه غيرهم من ظلم وطمع وفتنة وفساد . إن تقصير المسلمين في الدعوة وتقصيرهم في إقامة أحكام الإسلام ، واضطراب الواقع الإسلامي اضطراباً أبعده عن الصورة المشرقة للإسلام ، واتباع المسلمين الغرب في الفكر والأدب والقانون والنظريات الاجتماعية والفلسفية وغير ذلك ، هذا كله ساهم مساهمة كبيرة في نجاح الدعاية ضد الإسلام .
و نواصل في المقالة التالية بإذن الله تعالى
المفضلات