مشاهدة النتائج 1 الى 2 من 2
  1. #1

    الحق الأول لكل إنسان على ظهر هذه الأرض

    الحق الأول والأكبر للإنسان:
    حماية الفطرة التي فطر الله الناس عليها

    بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
    تمهيد :

    لقد كثر الحديث عن حقوق الانسان وصدرت وثائق وبيانات كثيرة وذكرنا اهم مآخذنا على تلك الوثائق ، وبالنسبة للاسلام فانه هو الذي قدم البيان العالمي الاول لحقوق الانسان مرتبطة بمسؤولياته ، لترتبط الحقوق والمسؤوليات في منهاج متماسك ، ليعلن ذلك الانبياء والمرسلون في رسالة ربانية ختمت برسالة محمد r فاصبح المنهاج الرباني - قرآناً وسنة ولغة عربية - البيان الحق الكامل لحقوق الانسان ومسؤولياته.

    واذا ذكرنا صوراً ونماذج لمسؤوليات الانسان وحقوقه ، فلا نعني ان ماذكرناه كان كاملاً ، فانه يتعذر ان نورد هنا جميع حقوق الانسان ومسؤولياته كما فصلها منهاج الله ، وانما ندعوا الناس ليعودوا إلى منهاج الله ليجدوا فيه البيان الحق الكامل ، مما لايجدونه في سواه ابداً.

    ولكن الوثائق التي أعلنت والبيانات التي صدرت كانت تدعي انها كاملة توفي الانسان حقوقه ، واذا ذكرنا بعض النقائص والمآخذ على تلك البيانات والوثائق ، فإننا نشير هنا إلى اكبر مآخذنا على تلك الوثائق ، حين أهملت أهم حق للانسان ، الحق الذي تقوم عليه سائر الحقوق والمسؤوليات وتنبع منه ، إنه الحق الأول للانسان والحق الأكبر ، إنه حماية (فطرة الانسان) حماية فطرته التي فطره الله عليها ، حمايتها من أن تلوث أو تشوه أو تنحرف ثم رعايتها.

    حين نعود إلى حديث رسول الله عن الفطرة ، ندرك اهمية هذا الحق وخطورته ، وتتأكد لنا هذه الأهمية حين نجد ان الحديث الشريف ، شأنه شأن سائر الاحاديث الشريفة ، نابعة من القرآن الكريم مرتبطة به.

    الفطرة ومسؤولية الوالدين والمجتمع والأمة :

    فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله (ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه . اقرأوا .. فطرة الله التي فطر الناس عليها … الآية ) .

    ولنتدبر الآيات الكريمة التي صدرت عنها هذا الحديث الشريف.

    { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولاتكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون } الروم:30-32

    إن الله فطر الناس جميعهم على فطرة واحدة سليمة تكفل لهم الحياة الطاهرة السعيدة ، لتكون هذه الحياة الدنيا دار إبتلاء وتمحيص ، وممراً إلى الحياة الحقيقية في الدار الآخرة ، وكذلك لتكون هذه الفطرة أساساً يعين الانسان على الوفاء بمسؤولياته في الحياة الدنيا والتمتع بحقوقه ، مع ما هيأ الله لعباده من أسباب اخرى : الآيات المبثوثة في الكون وفي نفس الانسان ، الدالة على الله الذي لا إله إلا هو ، والرسل والأنبياء الذين يبلغون رسالة الله ويُذكّرون ، والسمع والبصر والفؤاد لتكون هذه أجهزة الاستقبال التي يستقبل بها الانسان آيات الله من الكون وهو يتأمل ويتدبر ، وأيات الله التي يبلغها الرسل والانبياء حتى لايكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

    وإن قدرة السمع والبصر والفؤاد على الاستقبال والادراك والوعي تعتمد على سلامة الفطرة ، ولذلك جاء الحديث الشريف ليبين مسؤولية الوالدين أولاً في حماية الفطرة ، ومسؤولية الوالدين ليست مسؤولية معزولة عن واقع الحياة ، فواقع المجتمع والأمة كله يؤثر في سلامة الفطرة أو انحرافها ، ولكن أثر المجتمع والعوامل المتوفرة فيه يصب في البيت في الاسرة ، حيث يتحمل الوالدان معاً ، الرجل والمرأة ، الزوج والزوجة ، مسؤولية حماية فطرة أبنائهم ، انها ليست مسؤولية اسرة واحدة ، إنها مسؤولية الآباء والأمهات جميعهم في المجتمع ، انها مسؤولية خطيرة سيحاسبون عليها بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة ، وانها مسؤولية شديدة التأثير في واقع الأمة في الحياة الدنيا ، وبذلك تمتد المسؤولية إلى جميع العاملين في مختلف المستويات:

    فعن ابن عمر عن النبي انه قال : ((ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل راع في أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم ، وعبدالرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) [رواه الشيخان والترمذ]

    وهكذا تمتد المسؤولية في الأمة من ادنى مستوياتها إلى اعلاها ، وجميع هذه المسؤوليات تصب آثارها في البيت ، في الأسرة ، حيث يتولى الوالدان الرعاية المباشرة هناك ، فذكر الوالدين في الحديث الشريف ومسؤولياتهما لاتنفي سائر المسؤوليات والقوى المؤثرة في الأمة من معاهد التربية ومراكز الاعلام وسائر المؤسسات.

    وحين تنحرف هذه القوى تنعكس اثارها على الزوجين ، ثم على الابناء ، لتنحرف بذلك فطرة الأبناء إلى النصرانية أو اليهودية أو المجوسية.

    وتأتي الآية الكريمة لتؤكد أهمية الفطرة الثابتة التي فطر الله الناس عليها ، انها فطرة واحدة لاتتبدل في أسسها : ( لاتبديل لخلق الله ) وكيف تتبدل هذه الفطرة وهي رحمة من الله على عباده ، رحمة واسعة ، ثم تبين لنا الآية الكريمة أهم الوسائل والركائز الضرورية لحماية الفطرة : الإنابة إلى الله ، والتقوى ، وإقامة الصلاة وسائر الشعائر التي فرضها الله ، ان هذه هي أسس الحماية ، فان ضعفت أو تخلخلت أو ذهبت أثر ذلك كله على سلامة الفطرة.

    وتبين لنا الآية الكريمة وكذلك الحديث الشريف نتائج انحراف الفطرة في الواقع : الإشراك بالله : ( ولاتكونوا من المشركين ) ، و( أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) وكذلك تفريق الدين حتى ينقسم الناس شيعاً واحزاباً يحارب بعضهم بعضاً ، ويفرح كل حزب بما لديه ، وتشتد الفتنة وتضعف الأمة ويهون أمرها في الحياة الدنيا ، وتنال غضب الله وعقابه في الدنيا والاخرة ، اذا لم تتدارك نفسها بالتوبة والانابة والتقوى وإقامة شعائر الدين وسائر قواعده ، لتكتون امة مسلمة واحدة ، صفاً واحداً كالبنيان المرصوص.

    ان انحراف الفطرة خطر كبير على الفرد والامة والمجتمع الانساني ، ومن هذا الانحراف تنطلق المفاسد في الارض ، وتمتد الفتن ، وتثور الاهواء والشهوات والمصالح المتصارعة ، وتنافس الدنيا ، تحت جميع الشعارات المحببة إلى النفوس ، المزخرفة للفتنة ، من سلام ووطنية وقومية ودين.

    إن الله سبحانه وتعالى زود الفطرة السليمة بوسائل التحكم والموازنة والتوجيه ، فاذا انحرفت الفطرة تعطلت هذه الوسائل فاختل التحكم واضطربت الموازنة وضاع التوجيه.

    لهذا كله كانت حماية الفطرة على سلامتها كما خلقها الله أكبر حق للإنسان ، وأول حق لله ، وهي مسؤوليته ان يطالب بها ولاتنازل عنها ، وان يجاهد في سبيل ذلك ، وهي كذلك مسؤولية جميع مستويات الامة ومؤسساتها ان تخطط لذلك بوسائل التربية ومناهجها ، والقوانين وتوجيهها ، ووسائل الاعلام ، وغير ذلك.

    القوى التي تعمل في الفطرة : أولها الايمان والتوحيد :

    ولندرك خطورة الامر بصورة اكثر وضوحاً ، فاننا نشبه الفطرة ونعتبرها مستودعاً اودع الله فيها مايشاء من قوى وميول وغرائز ، مما عرفنا سبحانه وتعالى ببعضها وجهلنا بعضها الاخر.

    إن اهم ماغرسه الله سبحانه وتعالى في الفطرة هو الايمان والتوحيد ، وشهادة ان لا اله الا الله ، وشهادة أن محمداً رسول الله : اما بالنسبة لشهادة أن لا إله إلا الله ، فهي جلية ثابتة في الآية من سوة الاعراف وفي الحديث الشريف :

    (( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدتهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك أباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون))

    الاعراف : 172-174

    ويأتي الحديث الشريف ليبين هذه الحقيقة الهامة أيضاً :

    فعن أنس عن النبي أنه قال : ( يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة ، أرأيت لو كان لك ما على الارض من شئ أكنت مفتدياً به ؟ فيقول : نعم ! فيقول الله : ( كذبت قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لاتشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك). رواه أحمد والشيخان.

    هذا بالنسبة لشهادة : أن لا إله إلا الله ، أما شهادة : أن محمداً رسول الله ، فنجدها في الآية الكريمة من سورة آل عمران عهداً موثقاً أخذه الله من الأنبياء والرسل جميعاً ليكون جزءاً من رسالتهم ودعوتهم :

    ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقرتم وأخذتكم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).

    آل عمران : 81

    وهكذا ثبتت الشهادتان عهداً وميثاقاً بين الله وعباده ، وبين الله ورسله ، أساساً للايمان والتوحيد ، أساساً مغروساً في الفطرة السليمة.

    إن الإيمان والتوحيد مغروسان في الفطرة تشهد عليهما الآيات المبثوثة في الكون والأيات التي يأتي بها الرسل وحياً من عند الله ، وتظل الفطرة السليمة قادرة على استقبال هذه الايات بالسمع والبصر والفؤاد ، وفي الفطرة قوى أخرى مغروسة برحمة من الله : كالحب والكره والشجاعة والجبن ، والشهوات والغرائز ، وقوة التفكير وقوة العاطفة ، وما يضع الله في عبد من عباده من مواهب وقدرات ، يتميز بها إنسان عن إنسان ، ويكون الايمان والتوحيد كالنبع الصافي ، يروي جميع مافي فطرة الانسان من ميول وغرائز وقوى رياً عادلاً متوازناً ، وكذلك يكون الايمان والتوحيد في فطرة الانسان كالمصفاة ، تنقي مايدخل إلى الفطرة من تجارب وخبرة من الواقع ، أو علوم أو زاد يكتسبه في هذه الحياة الدنيا.

    وكل عمل يقوم به الانسان ، أو فكرة يفكر بها ، أو امر يعزم عليه ، هو عمل صالح يدخل في ساحة التقوى مادام مرتبطاً بالامان مروياً به ، فاذا انعزل العمل عن الايمان أو انقطع ري الايمان أو ارتوى من غيره ، فانه يدخل ساحة الفتنة والفجور والفساد واستمع إلى آيات الله البينات توضح ذلك:

    (ونفس وماسواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها). الشمس : 7-10

    ان العمل نفسه قد يكون طاعة لله وتقوى ، وقد يكون فتنة وفجوراً وفساداً ، فاذا زكى الانسان نفسه وصدقت نيته كان عمله في ساحة التقوى ، والا كان فجوراً ، وكيف يكون ذلك؟!

    النية ودورها في الفطرة والتقوى المودعة فيها :

    انها النية . فالنية هي المفتاح الذي يفتح نبع الايمان ، لتطلق منه الري ، اذا كانت النية صادقة خالصة لله سبحانه وتعالى ، واعية لنهج الايمان والعمل الذي تقبل عليه ، اما اذا فسدت النية فانها لاتستطيع ان تفتح نبع الايمان ، أو انها تغلقه ، أو تفتح رياً فاسداً فاما ان لايرتوي العمل من نبع الايمان ، واما ان يرتوي بغيره.

    فحين تصدق النية وتتوجه خالصة لله سبحانه وتعالى ، فان الانسان يزكي نفسه : ( قد افلح من زكاها) ويفلح في مسعاه .

    وحين تفسد النية ويرجو بها الانسان غير وجه ربه ، أو يطلب الدنيا ويسعى لها ، فانه يكون قد دس نفسه ، أي اخفاها بالضلال والنية الفاسدة : ( وقد خاب من دساها).

    ويأتي حديث رسول الله يرويه عنه عمر رضي الله عنه ليبرر لنا أهمية النية وخطورتها في حياة الانسان وعمله كله ، فبها يرتبط قبول العمل عند الله أو عدم قبوله ، وصدق النية وصلاحها يستدعي ان يكون العمل خاضعاً لاحكام منهاج الله.

    فعن عمر رضي الله عنه عن الرسول انه قال : إنما الاعمال بالنية ، وانما لامرئ مانوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو أمرأة ينكحها فهجرته إلى ماهاجر اليه ) رواه الشيخان



    و نواصل في المقالة التالية بإذن الله عز و جل


  2. ...

  3. #2

    رد : الحق الأول لكل إنسان على ظهر هذه الأرض

    نواصل ....

    فالنية هي مفتاح نبع الايمان ان صدقت وصلحت ، فيروي كل قوى الفطرة وميولها وغرائزها رياً متوازناً عادلاً ، فيفلح الانسان بعمله ، ويصبح عمله براً وتقوى ، فلا تطغى قوة في الفطرة على قوة ، ولا غريزة فيها على غريزة ، ولاشهوة على حساب فضيلة ، وتتوازن بذلك القوى والغرائز والميول ، وتؤدي عندئذ كل قوة مهمتها التي خلقت لها اداءاً اميناً ، فيوفي الانسان بعهده مع الله ، ويوفي بالامانة التي حملها.

    اما اذا فسدت النية فان التوازن في الري يضطرب أو يختفي أو يتوقف الري ، وعندئذ تطغى قوى على قوة ، وغريزة على غريزة ، فواحدة تنمو واخرى تضمر فلا تعود القوى كلها أو بعضها قادرة على الوفاء بالمهمة التي خلقت لها ، فينقض الانسان عهده مع الله ، ولايوفي بالامانة التي حملها ، ويصبح عمله فجوراً وفتنة وفساداً ، ويصبح الانسان ظلوماً جهولاً.

    فالعمل ذاته قد يكون تقوى وقد يكون فجوراً فالشهوة الجنسية نفسها اذا انضبطت بضوابط الايمان واحكام منهاج الله كان خيراً وتقوى ، وادت المهمة التي خلقت لها ، واما اذا تفلتت من ضوابط الايمان واحكام منهاج الله فانها تصبح فجوراً ، وتفسد في الارض ، ولاتؤدي المهمة التي خلقت لها ولا الامانة التي حملها الانسان ، وقس على ذلك حب الوالدين حين يصبح براً وتقوى اذا ارتبط بالايمان والتوحيد بصدق النية واخلاصها ، أو عصبية جاهلة اذا انفصل عن الايمان والتوحيد.

    وكذلك حب الاهل والارحام ، وحب الوطن ، والكراهية والكرم والشجاعة وغير ذلك من القوى والميول والرغبات تكون براً وصلاحاً أو فتنة وفساداً.

    ولاينحصر اثر الفطرة وما أودع الله فيها من قوى وغرائز ورغبات ومواهب على اوجه النشاط العادي للانسان ولكنه يمتد إلى الاعمال المتميزة ، اعمال الابداع والعبقرية في مختلف ميادين الحياة من فن وادب وعلوم وصناعة وفكر وغير ذلك ، فهناك فرق كبير بين عطاء الموهبة حين ترتوي من نبع الايمان والتوحيد كما ترتوي سائر القوى ، وبين عطائها حين لاترتوي من نبع الايمان والتوحيد ، ويتبين لنا الفرق حين ندرس كيف ينطلق العطاء المتميز.
    ولادة العطاء المتميز ودور الفطرة فيه والقوى العاملة في الانسان :

    فهذا العطاء المتميز تطلقه عدة قوى تعمل في داخل الانسان ، في ذاته ، في فطرته التي هي مستودع القوى ، واهم هذه القوى التي تعمل على اطلاقة قوتان في الانسان ، طاقتان في فطرته ، هما قوة الفكر والتحليل والتدبر ولنسمها قوة (الفكر) والاخرى هي قوة الاحساس والشعور والعاطفة ، ولنسمها قوة (العاطفة) وتعمل هاتان القوتان معاً في آن واحد ، مع اختلاف في قوة هذه وقوة تلك مع هذا العطاء أو ذاك ، ولكن لايمكن ان تنعدم أي منهما في اي عطاء مبدع ، وربما كان هنالك قوى اخرى لانعلمها.

    ومع مسيرة الانسان في الحياة ينال تجارب وخبرة وزاداً من مختلف العلوم ، وتمر هذه التجارب وهذا الزاد على مصفاة الايمان والتوحيد مادامت النية تعمل خالصة لله ، ومادام الايمان والتوحيد يعمل في الفطرة السليمة ، حتى اذا صفا هذا الزاد من التجارب والعلوم ، توجه ليترك على كل قوة من القوتين ، الفكر والعاطفة شحنات تغذيهما ، ومع مسيرة الحياة يظل الواقع يمد هاتين القوتين بهذه الشحنات ، فكأن القوتين قطبان كهربائيان تتجمع عليهما الشحنات الكهربائية ، على حكمة لله غالبة ، وسنن لله ماضية ، قد نعلم بعضها ونجهل بعضها الاخر ، حتى تأتي اللحظة المناسبة على قدر غالب من الله ، وحتى تنمو الشحنات نمواً يجعلها قابلة للتفاعل ، فاذا ظلت النية تعمل عملها ، وفتحت نبع الايمان والتوحيد ومصفاتها ، واذا ظل هذا النبع الغني الطاهر يروي الفكر والعاطفة وما عليهما من شحنات ، كما يروي سائر القوى العاملة في الفطرة ، ويروي الزاد والتجارب وينقيهما ، ويروي الموهبة ، ليظل عمل جميع القوى في ساحة التقوى ، اذا حدث هذا كله ، تأتي اللحظة المناسبة على قدر غالب من الله ، فتأتي الموهبة المؤمنة المروية بالايمان ، فتطلق التفاعل بين القطبين وما عليهما من شحنات وينطلق من هذا التفاعل ومضة الابداع ، تحمل العطاء الايماني المتميز ، عطاء غنياً على قدر غنى الفكر والعاطفة ، والايمان والتوحيد ، والزاد وشحناته وعلى قدر غنى الموهبة ايضاً ، ان هذه العوامل كلها تعمل في ذات الانسان ، في داخله ، في فطرته ، ليقدم الانسان عطاءه ، ويكون الانسان مؤمناً وعطاؤه عطاءاً إيمانياً مادامت الفطرة سليمة سوية لم تنحرف.

    وقد يحدث ان تنحرف الفطرة أو يضعف الايمان ، فلا يكون الري متوازناً فتنمو بعض القوى والغرائز والميول على حساب غيرها ، فيختل الاداء ويضطرب ، ويدخل بعضه أو كله في ميدان الفجور.

    وقد نجد في واقع الحياة عملاً يبدو لنا في ظاهره طيباً مع فساد صاحبه أو انحراف أو كفره وضلاله ، اما عمل الكافر والملحد قد يبين الله ورسوله لنا أمره ، فمهما حمل من زينة وزخرف فهو مرفوض عند الله :

    (وقدمنا إلى ماعملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً ) الفرقان : 23

    وحين سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله عن عبدالله بن جدعان ، وهل يقبل الله عمله وقد كان يصل الرحم ويقري الضيف 000 ؟ فقال : ( لا إنه لم يقل يوماً قط اللهم اغفر لي يوم الدين )

    وقد يحدث ان يصدر عمل طيب في ظاهره من رجل منحرف فيتساءل الناس كيف يصدر هذا العمل من هذا الرجل.

    ومن خلال ماعرضناه عن الفطرة نرى انه من الممكن ان يصدر عمل طيب كما يبدو لنا من رجل نظن انه ليس اهلاً لهذا العمل ، فيكون هذا العمل من اثر البقية الباقية من فطرته التي انحرفت أو شوهت ، فيبقى جزء ما يعمل فيها ، فتصدر بعد ذلك بعض الاعمال التي تبدو لنا في ظاهرها طيبة ، والله أعلم بخلقه وحسابهم على الله.

    حماية الفطرة ورعايتها وسبيل الاسلام إلى ذلك :

    من هذا العرض السريع الموجز لاهمية الفطرة ولخطورة دورها في حياة الانسان ندرك اهمية حمايتها وصونها من ان تتعرض للانحراف أو التشوية ، واهمية رعايتها.

    والفطرة ليست (عضلة) في جسم الانسان ، ولا هي مادة ذات شكل وحجم ووزن وموضع في الانسان ، انها أمر من عند الله اعلمنا بها الله سبحانه وتعالى ، انها مجموعة قدرات وطاقات ، وغرائز وميول ورغبات ، أودعها الله في كيان الانسان ، تتفاعل مع اجهزة الجسم ، من قلب ودماغ وجهاز عصبي ، وغير ذلك مما لايعلمه الا الله.

    ومن هذا التصور ايضاً ندرك مدى امتداد اهميتها في كيان الانسان ، وهي تتفاعل وتؤثر وتتأثر باجهزة الانسان المختلفة على سنن لله ماضية وحكمة بالغة.

    ومهما كان التصور فانه يقودنا في النهاية إلى الاهمية البالغة للفطرة وخطورة دورها، ففيها اودع الله الحقيقة الكبرى في الكون والحياة ، قضية الايمان والتوحيد ، ومنها ينطلق عطاء الانسان مروياً بنبع الايمان غنياً به ، أو جافاً منحرفاً.

    من هذا التصور ينطلق الادب الملتزم بالاسلام بتميزه الفكري والايماني والفني على قدر الايمان والموهبة والزاد ، ومن هذا التصور يخرج العطاء المتميز كله من علم وفن وصناعة وغير ذلك.

    ولذلك كانت القوى التي اودعها الله فطرة الانسان تقرر مصيره في الدنيا والاخرة ، وهل هنالك اخطر من ذلك ؟!

    ولذلك كانت حماية الفطرة هي الحق الاول للانسان في هذه الحياة الدنيا ، فاذا لم يوف هذا الحق تعطلت سائر الحقوق أو انحرفت أو تشوهت ، فدخلها الظلم والفتنة والفساد ، وتعطلت المسؤوليات كذلك.

    واذا كانت حماية الفطرة حقاً لكل انسان ، بل هي الحق الاول والاكبر ، فانها في الوقت نفسه مسؤولية الامة بكل مستوياتها ومؤسساتها وقوانينها ، ابتداءاً من الأسرة والبيت والوالدين ، وانتهاء بالدولة ورجالها ، ومروراً بالمعاهد والجامعات وسائر المراكز.

    ستختلف القوانين كثيراً حين يحرص واضعوها على حماية الفطرة ، أو حين لايحرصون على ذلك ، لذلك جاءت الشريعة الاسلامية حريصة كل الحرص على حماية الفطرة من تلوث بالاثام والمعاصي والجرائم ، حرصت على ذلك في بناء الاسرة وروابطها ونظامها ، وحرصت على ذلك في تنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة ، ومنع الاختلاط الذي يفسد الفطرة ويدفع إلى الفجور ، وحرصت على ذلك في تربية الفتاة خلقاً وديناً وعلماً ولباساً حتى تحفظ على الفتاة سلامة فطرتها ، الا ترى الحياء مغروساً في فطرة الفتاة ، في فطرتها السليمة حتى يكاد يكون سلاحاً يحميها من الفتنة ، فاذا فسدت الفطرة فقدت الفتاة حياءها وانزلقت في الرذيلة وجاهرت بها ، وكذلك حرص الاسلام على حماية فطرة الفتى وحماية ماأودع الله فيها من قوى ، لتؤدي كل قوة ماخلقت له.

    لقد جاء الاسلام بتشريعات كاملة تهدف إلى تحقيق هذه الحماية والرعاية ، فهو يحرص على الانسان وسلامة فطرته قبل الزواج فسن للزواج تشريعاً كريماً دقيقاً ، فحرم زواج المسلم أو المسلمة من مشرك أو كافر ، وجعل الاسلام اساس علاقة الزوجين ، وأباح زواج الرجل المسلم من الكتابية مادام الرجل المسلم صادقاً في دينه عارفاً بمسؤولياته وحقوقه ، يدرك ان من اهم مسؤولياته الدعوة إلى الله ورسوله ، إلى الايمان والتوحيد ، فان كان الرجل المسلم كذلك فهو اول مايكون داعية في بيته ، ولايختار الكتابية الا عن علم وبينة ليطمئن إلى انه سيوفي بعهده مع الله في أداء واجبات الرسالة الربانية ، وانه لن يترك منفذاًا لانحراف أو فتنة ، واننا هنا نأخذ قبسات ليعود المسلم إلى الكتاب والسنة فيجد التفصيل البين المعجز :

    (ولاتنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولاتنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون) البقرة:221

    وحرم الاسلام نكاح الامهات والبنات والاخوات والعمات والخالات ، وبنات الاخ وبنات الاخت والامهات اللاتي ارضعن الرجل واخواته من الرضاعة وأمهات الزوجات والربائب اللواتي في الحجور من النساء اللاتي دخل الرجل بهن ، وحلائل الابناء الذين من الاصلاب ، كما حرم الجمع بين الاختين ، وبين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها.

    وعن عائشة عن النبي ( يحرم من الرضاعة مايحرم من الولادة ) (رواه الخمسة)

    وعن ابي هريرة عن النبي (تنكح المرأة لأربع : لمالها وحسبها ولجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك) رواه الخمسة.

    فالدين هو الابعد أثراً في حماية فطرة المولود ورعايته بعد ولادته.

    وكذلك :

    عن أبي حاتم المزني عن النبي ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن في الارض فتنة وفساد كبير) قالوا : يارسول الله : وإن كان فيه ؟ قال : ( اذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ) أعادها ثلاث مرات. رواه الترمذي .

    وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي محمد ( تخيروا لنطفكم ، فأنكحوا الأكفاء وأنكحوهم) رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي في سننه.

    والكفاءة هي الدين والخلق.

    وعن معقل بن يسار عن النبي (تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم) [ رواه أبو داود والنسائي)

    و للمزيد من التفاصيل عن هذا الموضوع و غيره فيرجى زيارة موقع لقاء المؤمنين و بناء الجيل المؤمن و ذلك بالضغط على الوصلة الآتية : موقع لقاء المؤمنين و بناء الجيل المؤمن

بيانات عن الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

عدد زوار الموضوع الآن 1 . (0 عضو و 1 ضيف)

المفضلات

collapse_40b قوانين المشاركة

  • غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
  • غير مصرّح بالرد على المواضيع
  • غير مصرّح لك بإرفاق ملفات
  • غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك
  •  

مكسات على ايفون  مكسات على اندرويد  Rss  Facebook  Twitter