بينما كانت فاين تلبس ليز معطفها، قال ماكس لإيبرل همسًا :
_ جاء مات ليزورنا منذ أيام.. وقال إنه يرى أن الفتاة تتحسن بشكل ممتاز..
لم يروادها أي كابوس منذ شهر كامل. مات مورهيد هو المصلح الاجتماعي الذي
رتب أمر تبني ليز.. وردت عليه إيبرل:
_ الشكر لك ولفاين، ماكس.. قليل من الناس يستطيعون القيام بمثل هذا العطاء
،كما فعلتما. ابتسم لها بمحبة:
_ هيا الآن.. لقد فعلت ما هو أكثر . هزت رأسها:
_لا.. أنتما من وفر لها الغذاء، وأنا لم أفدم سوى اهتمام خاص مرة في الأسبوع .
_ حسناً.. فليكن كما تشائين.. لكن العمل لم ينته بعد، فتاتنا أمامها طريق
طويل .. وهذا ما يؤرقني أغلب الليالي، ولا أستطيع الإفضاء به للمرأة
العجوز.. فتاتنا الآن في السابعة، فماذا سيحل بها حين نشبخ أكثر ولا يصبح
باستطاعتنا العناية بها.. أو حين حدوث الأسوأ.. وترك الجملة عالقة.. قالت
إيبرل بعناد:
_اسمع ..ماكس لايجب أن تقلق على هذا.. أنت تعرف أنني ومات سنعتني بها.
_ هذا ما يقلقني إيبرل.. لقد مرت طفلتنا بمآسٍ كثيرة في سنواتها السبع بما
يكفي لتحطيم رجل.. ولا أظنها ستتحمل مرة أخرى. لم يعد هناك وقت لحوار
منفرد، فقد جهزت ليز أخيراً، وأخذتها إيبرل من يدها بمرح ،ثم تبادلوا
القبلات والتوديع جميعاً وتوجهت الفتاتان نحو السيارة الصغيرة الصفراء
وسرعان ما انطلقتا . سألت إيبرل :
_ لماذا كنت تجربين كل ملابسك حبيبتي؟ هل وجدت صعوبة في إيجاد ما يناسبك؟
كانت إيبرل تتنبه دائماً لمثل هذه الأمور، فالراتب الذي يتقاضاه العجوزان من
الوكالة لأجل ليز لا يكفي أبداً لتأمين احتياجات الفتاة التي تزداد نمواً
يوماً بعد يوم.. وليس لديهما سوى دخل محدود من راتب ماكس التقاعدي ومن
الضمان الاجتماعي. ردت ليز بصوتها الواضح:
_ أوه.. لا.. كنت ألهو فقط. اغتنمت إيبرل الفرصة لتقول:
_ بما أن أن الطقس سيء اليوم.. أترغبين بالذهاب إلى منزلي بدلاً من "القلعة"
؟ نستطيع أن نلعب ما نشاء ونصنع البسكويت.. ونؤجل رحلتناإلى يوم مشمس.
وربما نأخذ معنا طعاماً أيضاً. أدارت ليز وجهها بثقة نحو إيبرل:
_ وأنا كذلك حبيبتي. حين وصلت باب الشقة و جدتا "برنس" مبللاً وجالساً أمام
الباب ، كان يلف ذنبه حول قائمتيه الأماميتين.. انحنت لبز لتحمله ودخلت به
إلى المنزل وهي تقول:
_ سأكون أنا الأم و"برنس" الطفل.. وأنت ماذا ستكونين إيبرل؟ ليست المرة
الأولى التي تلاحظ فيها إيبرل أن ليز لا تعطي أهمية لدور الأب في حياتها،
وهذا أمر مفهوم.. وفكرت أنه من الأفضل تجنب لعبة العائلة ، واقترحت تمثيل
أدوار السيرك ، الأمر الذي لاقى موافقة متحمسة من الطفلة . هاكذا اختارت
إيبرل دور المهرج.. ورسمت بأحمر الشفاه دوائر كبيرة على كل خد وعلى مقدمة
أنفها. ولونت جبينه بطلاء الأحذية السائل .. ولأنها لم تجد شيئاً ترسم به
نصف الهلال الأبيض حول فمها، استبدلته بفم ليلكي، مسخدمة أنبوباً كاملاً من
ظلال العيون.. تحولت ليز إلى بهلونية باستخدام بلوزة بيضاء ضيقة لإيبرل،
وإن كانت واسعة قليلاً وطلبت أن تضع بنفسها الماكياج.. ولم تشاهد إيبرل يوماً
بهرجة توضع على وجه بمثل هذا الإسراف. فرحت الفتاتان كثيراً بلعب دوري
المهرج والبهلون، وأخيراً جاء دور تحضير الحلوى وهذا ما كان ينتظره يرنس
الذي كان طيلة الوقت الفائت مغمض العينين، لكن الآن، الأمر بات يعنيه
كثيراً، فانتقل إلى مركزه المعروف في وسط طاولة الطعام مستمتعا بانتهاء
أوقات الجنون والانتقال إلى ماهو أكثر تسلية وإفادة، إعداد البسكويت
بالشوكولا، الحلوى المفضلة لديه.
كانت إيبرل تضع أول صينية عجين في الفرن، بينما ليز تقف فوق كرسي لتتمكن من
سكب المزيد من العجين في صوانٍ أخرى، وفجأة قرع جرس الباب. كانت إيبرل تهم
بالذهاب حين قفزت ليز من مكانها وخرجت من المطبخ وهي تركض.. ولحقتها
إيبرل.. حين وصلت غرفة الجلوس، وقفت مسمرة لرؤية غرايغ بوكستر يسد الباب
ويتحدث إلى الطفلة التي رمت برأسها إلى الوراء لتنظر إليه. همست إيبرل:
أوه.. لا.. مع إدراكها للمنظر المحرج الذي تبدو فيه، خرجت آهة خفيفة من بين
شفتيها الليلكيتين، وبوضوح مخيف،لمحت عينيه البنيتين الدافئتين تنفتحان
واسعتين وفمه يلتوي ثم تعلوه ابتسامة هادئة.. وقفت ليز تنقل نظراتها من
أحدهما إلى الآخر، ثم ركضت لتلف ذراعيها حول ساقي إيبرل، ونظرت إليها
بتقطيبة صغيرة على وجهها.. وهمست..
_من هذا الرجل إيبرل؟ انحنت إيبرل تلف ذراعها حول الفتاة وتطمئنها:
_ لابأس عزيزتي.. إنه رجل أعرفه. لماذا لا تعودين لإكمال وضع البسكويت في
الصينية ؟ لاتفتحي الفرن بنفسك.. أتسمعين؟ بهزة رأس صغيرة ونظرة شك للغريب
الضخم، عادت ليز راكضة إلى المطبخ. في رغبة منها لأن تصرف النظر عن مظهرها
السخيف جمعت إيبرل كل شجاعتها، وقالت بلهجة باردة مهذبة:
_ لدي انطباع بأن مامن شيء آخر نقوله لبعضنا.. كان يجدر بك أن تتصل هاتفياً
لترى ما إذا كانت زيارتك مناسبة.. لكن من الواضح أن مشاعر الناس ليست في
لائحة أولوياتك، أليس كذلك؟ أخفض عينيه وكأنه أخرج من هجومها:_ أنا آسف
آنسة ساوندرز، إنني مدين لك باعتذار آخر.. لكن الواقع أنني اتصلت، وتركت
رسالة على آلة الرد الهاتفية.
_ أوه.. ونظرت نحو الهاتف مقطبة، وكأنه تآمر ضدها.. فأكمل: _ هل أسمعك
الرسالة الآن؟ أم تفضلين سماعها بنفسك لتتأكدي من قولي الحقيقة.. أعرف أنك
لا تثقين بصدقي. اعترفت إيبرل بصوت محبط:
_ لاتكن سخيفا.. أنا لم أتهمك بالكذب .. كنت أنوي الاستماع إلى الرسائل في
المساء.. بعد أن أعيد ليز إلى منزلها.
قال باهتمام: _ أوه.. الصغيرة إذن ليست لك؟ صاحت: بالطبع لا.. رفع باستغراب
حاجباً أسوداً ناعماً وتسأءل:_ ولماذا.."بالطبع لا "؟ يخيل لي بأنك ستكونين
أماً رائعة. لا أذكر متى رأيت صورة حقيقة للحياة البيتية السعيدة كالتي
أريتني إياها اليوم.. لعب أدوار السيرك ، تحضير البسكويت، منزل دافىء حميم
في يوم بارد ممطر.. امتلأت بالغضب لإحساسها بأنه يسخر منها ، فهزت
كتفيها وقاطعته بصوت متعالٍ:
_ أنا لم أراك شيئاً سيد بوكستر.. لقد تطفلت على بيت لم تدع إليه .. أرجوك
قل ما جئت لأجله ثم ارحل. استطاعت أن تدرك من خلال النظرة التي استقرت في
عينيه وتعابير وجهه المتجهمة أن كلماتها
اصابته في الصميم وأنها حققت انتقاماً لعدم اكتراثه بمشاعر الآخرين. حين
تكلم ، كان صوته بارداً كالصوت ذاته الذي يكلم فيه السيدة أغريبا.
_ جئت أسألك إذا كان بإمكانك إعادة التفكير والقبول بالعمل كرئيسة
للجنائنيين في أملاكي .. لكنني أرى الآن أنك لن تفعلي .. لذلك سأغير طلبي و
ماإذا كنت مستعدة فقط للعناية بالورود.. لقد أعطيتني الانطباع بأنها تحتاج
إلى العناية فوراً.. على أي حال لقد بدأت بهذا.. أليس كذلك؟ نظرت إليه بتفرس
لترى إن كان يسخر منها مجدداً.. لكنها لم تجد ملامح السخرية بادية على وجهه
ولا أثراً للدفء في عينيه السوداوين..
فقالت بتصلب : _ لا سيد بوكستر..أنا لا أهتم أبداً بالعمل لديك سواءً أكان
الأمر دائماً أم مؤقتاً. هز كتفيه العرضين دون اكتراث ، وهز رأسه وكأنه كان
يتوقع ردها .. استدار نحو الباب رافعاً معطفه الواقي من المطر إلى عنقه ،
ولاحظت إيبرل أنه أفسد تسريحة بضع خصلات من شعره الأسود.. قال بابتسامة
ساخرة: _ رد أنثوي مثالي.. لكنه غريب إن صدر عن لسان جنائنية تنظر إلى
عملها بجدية.
_ مذا تعني بهذا بالضبط؟ _ قال : تميل النساء دائماً إلى ردات فعل هيستيرية
حول أمور تافهة إنهن يفكرن بعاطفتهن بدلاً من عقولهن! كم من الرجال برإيك
يمكن أن يغضبوا لأمر تافه مثل.. سوء التفاهم البسيط الذي حدث بيننا يوم أمس
؟ لعنت إيبرل نفسها بغضب لظنها أنها كانت فظة معه أكثر من اللزوم.. تصوروا
الجرأة والواقحة! حاولت أن تفتح فمها لترد عليه ولكنها أحست أنه ينتظر
متربصاً بها، وكأن في الأمر تسلية له، فقالت لنفسها : مهلك.. لقد استغفلت
نفسك بما يكفي .. ولن أسمح بإظهار نوع آخر من الهيستيريا حول أمر تافه كما
يدعي .. فابتسمت بخفة :
_ لا أعتقد أنك محق سيد بوكستر .. أنا واثقة أن قليلً من الرجال سيتصرفون
مثلك.. ففي البداية "سوء التفاهم" حول هويتك الصحيحة ما كان ليحدث، لأنك لو
أبديت تلك الملاحظة "الظريفة" حول.. وقفتي.. لرجل، لتكفل بإبقائك أسبوعاً
كاملاً دون وعي. بسرعة كبيرة ، انقلبت تعابير وجهه إلى المتعة والمرح..
المفضلات