فقه النفرة في سبيل الله
مـع الآيـة الكـريـمـة
(( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِينفرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيِتَفَقَّهُوا فِي الدّيِنِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِليْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحذَرُونَ )) [ التوبة : 122 ]
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
هذه الآية الكريمة من سورة التوبة نراها مليئة بالتوجيه الممتد مع الزمن مهما كانت أسباب النزول . فقد تنزل الآية الكريمة مع حادثة ولكن حكمها وحكمتها لا تنحصر في الحادثة فقط . وإنما تمثل قاعدة من الحق المطلق الماضي مع الزمن كله .
وعند العودة إلى كتب التفسير نجد أن المفسرين اختلفوا في المعنى المقصود من هذه الآية . فقال بعضهم : إنها نزلت لتبين أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعذر أولئك الذين بعثهم رسوله صلى الله عليه وسلم إلى البادية ، فلما سمعوا قوله سبحانه وتعالى : ((ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ... )) ، انصرفوا عن البادية إلى المدينة خشية أن يكونوا ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : كان يكفي أن ينفر من كل حي أو قبيلة طائفة منهم للجهاد ، وتبقى طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ليتفقهوا بصحبتهم لرسول الله ، ويعلموا ما نزل من القرآن ، ثم يبلغوا الذين نفروا للجهاد عند عودتهم بما نزل من القرآن الكريم . و هذا التأويل ينطبق في حالة السرايا التي يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم عصابة من كل حي من العرب يسألونه عما يريدونه من دينهم . فيفقههم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهم ويعلمهم ، فيعودون إلى قومهم ينذرونهم بعذاب الله إن كفروا ويبشرونهم بالجنة إن آمنوا .
وقال بعضهم : إن هذه الآية تكذيب للمنافقين الذين أزْرَوا بأعراب المسلمين وعابوا عليهم تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كان للمنافقين أن يفعلوا ذلك ، لأن هؤلاء الأعراب كانوا ممن عذرهم الله .
وقال آخرون : إن معنى هذه الآية أن تنفر طائفة لتتفقه في الدين من خلال نفرتهم وجهادهم العدو ، حتى إذا عادوا أنذروا قومهم بخطر العدو حتى يستعدوا لهم ويحذروهم . ويكون الفقه بما يرون من آيات الله في الجهاد والنصر الذي ينزل على عباده المؤمنين .
وحين مراجعة مختلف أقوال المفسّرين نجد أن معظمهم يربط التفسير بحادثة أو واقع معين أو مرحلة معينة .
ونعتقد أن تفسير أي آية يجب أن يرتبط بالخط العام للسورة التي هي فيها ، والآيات التي قبلها والتي بعدها ، ويستفاد من الأحداث والوقائع المرتبطة بها ، لنخرج من ذلك كله بصورة واضحة من التفسير والمعنى الذي نحتاجه في واقعنا اليوم وفي كل واقع آخر ، في ممارسة إيمانية وتطبيق إيماني .
نؤمن أن الآيات تمثل ما نسميه " الحق المطلق " الذي يحتاجه كل زمان ومكان ، إنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إنه تنزيل من حكيم حميد :
(( إنَّ الذين كفرُوا بالذّكْرِ لمَّا جاءهُم وإِنَّهُ لكتابٌ عزِيزٌ . لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِنْ خلْفِهِ تنزيلٌ مِنْ حكيمٍ حميدٍ )) [ فصلت : 42،41 ]
وكذلك :
(( قل يا أيها النَّاس قد جاءكم الحق من ربكم فمنِ اهتدى فإِنما يهتدي لنفسه ومن ضلَّ فإِنَّما يضلُّ عليها وما أنا عليكم بوكيل )) [ يونس : 108 ]
سورة التوبة ، ولها أسماء متعددة . فتسمى "براءة " ، وتسمى "الفاضحة " ، وتسمى " الحافرة " (1) .
وسورة التوبة من أواخر ما نزل على رسول صلى الله عليه وسلم . ولقد نزل أول هذه السورة لما رجع من غزوة تبوك وهمَّ بالحج .
تتحدث السورة من أولها عن العلاقة والموقف من المشركين ، وتحدد ذلك تحديداً حاسماً ، ينهى المسلمين عن أن يُخدعوا بأفواه المشركين ، فهم المعتدون الظالمون المجرمون أبداً ما داموا على شركهم .
وتضع السورة قواعد فاصلة في الفكر وفي العلاقات وفي أسس الإيمان والتوحيد ، الأسس التي يبنى عليها الفكر والرأي والفقه والموقف ، فتشرق من خلال ذلك معاني الآيات :
(( أم حسبتُم أن تُتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتَّخذوا من دُون الله ولا رسوله ولا المُؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون )) [ التوبة : 16 ]
هو الابتلاء والتمحيص في تحديد المواقف والعمل ، مع مشركين ظالمين أبداً :
(( لا يرقُبُون في مُؤمنٍ إِلا ولا ذمَّةً وأولئك هُمُ المعتدون )) [ التوبة : 10 ]
وكذلك :
(( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين . الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون . يبشرهم ربهم برحمةٍ منه ورضوانٍ وجناتٍ لهم فيها نعيم مقيم . خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم )) [ التوبة : 19ـ 22 ]
و نواصل في المقالة التالية إن شاء الله تعالى
المفضلات