فريضة طلب العلم
ومسؤولية المسلم الذاتية
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
الحمـد الله الذي علّم الإِنسان ما لم يعلم ، وميّز بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، والصلاة والسلام على النبي الأمين الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى أله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين :
( ... قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكّر أولوا الألباب )[ الزمر : 9]
الحمد الله الذي جعل العلم فريضة على كلّ مسلم . ففي الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم يرويه عدد من الصحابة رضي الله عنهم :
( طلب العلم فريضة على كل مسلم )
صحيح الجامع الصغير وزيادته /3913
الحمد الله الذي أَنْزَلَ الكِتابَ على عَبْدِه محمد صلى الله عليه وسلم ، وجعل أساس العلم كله كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأمر عبده صلى الله عليه وسلم أن يذكّر بالقرآن ، فهـو النور والهداية في الدنيا ، وهو أساس الحساب والنجاة في الآخرة :
( ... فذكِّـرْ بالقرآن من يخاف وعيـد ) [ ق : 45 ]
أخي المسلم ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
إليك يا أخي المسلم أسوق هذه الكلمات , لأُذكِّرك وأُذكِّر نفسي قبل أن نغادر هذه الدنيا ونلقى الله سبحانه وتعالى . نذكر أنفسنا اليوم , فقد سبقت كلمة الله لتكون الحياة الدنيا هي الفرصة الوحيدة أمام الإنسان ليفكر ويصلح من أمره , ويتوب ويستغفر , ثم يمضي على الصراط المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه .
هل سألت نفسك : أتؤثر الحياة الآخرة على الحياة الدنيا , فتجعل حياتك الدنيا وفاء بأمانة وعبادة , وعمارة للأرض بالإيمان , كما يأمرك الله ؟!
هل تؤمن أن الموت حقٌّ وأن الساعـة لا ريب فيها , وأن البعث حق والحساب حق , وأن الجـنَّـة حق والنَّـار حق , وهل هذه حقيقة مستقرة في نفسك تضبط مسيرتك ؟!
هل تعرف الأمانة التي خلقـك الله للوفاء بها , وهل تعرف على ضوء ذلك مسؤولياتك الفردية التي سيحاسبك الله عليها؟!
هل تحب حقاً أن تنصر الله ورسوله , وأن تنصر دينه ؟! فإن كنت حقا تحب ذلك فماذا فعلت وقدمت ؟!
اعلم يا أخي المسلم أن الله الذي فرض علينا التكاليف الربانية وفَّـر لنا سبيل الوفاء بها , ويسَّر لنا ذلك بأن جعلها صراطاً مستقيما واحداً حتى لا يختلف عليه الناس ولا يضلَّ عنه أحد . وجعله منهجاً متكاملاً ميسَّـراً للفهم والتدبر والتطبيق .
1 ـ واقع المسلمين اليوم :
في هذه اللحظات الحرجة التي يمر بها المسلمون اليوم أحداث مروعة وفواجع كبيرة , يكاد المسلم يقف أمامها حائراً . وإذا عاد إلى نفسه ليحاسبها , وردَّ الأمور إلى منهاج الله , وجد أن كلَّ ما يجري في هذا الكون من أمر صغير أو كبير لا يجري إلا بقضاء الله وقدره :
( إنا كل شيء خلقناه بقدر . وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر .) [ القمر : 50, 49 ]
ويجد كذلك أن قضاء الله وقدره حقٌّ عادل لا يظلم أبداً :
( والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله سميع بصير ) [ غافر :20 ]
( إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) [ يونس : 44]
فمن هنا نستنتج بيسر أن الخلل هو في واقع المسامين اليوم , وأن ما ينزل بنا من بلاء هو بما كسبت أيدينا , فالله حق عادل لا يظلم !
( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) [الشورى :30]
فلا بد أن نعود إلى أنفسنا , ونبحث عن نواحي الخلل , ونبدأ بمعالجة أخطائنا وتقصيرنا , حتى نكون أقرب إلى طاعة الله وأقرب إلى النجاة والنصر من عند الله .
ولا بد أن تكون دراسة الخلل منهجية تخضع لمنهج محدَّد واضح وميزان أمين ثابت , وأن يكون العلاج أيضا يخضع إلى منهج واضح , بعيدا عن الارتجال وردود الفعل الآنية , منهج نابع من الكتاب والسنة , متَّـبعين النهج الذي أمرنا الله أن نعضَّ عليه بالنواجذ .
لا نستطيع هنا أن نستعرض التكاليف الربانية كلها , ولا مظاهر الخلل كلها , ولا وسائل العلاج كلها , ولكننا نشير إشارات سريعة لمعظم ذلك , ونتناول في هذه الكلمة قضية واحدة من هذا النهج .
أن من أبرز مظاهر الخلل في واقع المسلمين اليوم هجر الملايين من المسلمين كتاب الله وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم , حتى غلب الجهل عليهم . وامتد الجهل بالملايين من المسلمين إلى الجهل باللغة العربية , واستبدل الملايين من المنتـسبيـن إلى الإسلام بها لغات أخرى , فزاد ذلك من هجرهم للكتاب والسنة وجهلهم بهما . فوقع الانحراف عند الكثيرين , وأخذت المعاصي والآثام تزداد , وتسلل الأعداء إلى واقع المسلمين وإلى ديارهم ودلفوا بأفكارهم ومذاهبهم ولغاتهم , وبفجورهم وانحلالهم , وجيوشهم وعدَّتهم , فتفرقت الأمة أقطاراً ودياراً , وشيعاً وأحزاباً . وأخذت مذاهبهم تتسلل بين المسلمين , حتى ألف بعضهم تلك المذاهب ثم اتبعوها , ثم أصبحوا دعاتها . ولم ينتبه المسلمون ليواجهوا ذلك في حينه بنهج وخطة , وصف واحد , حتى زاد انتشار مذاهبهم ومبادئهم , وأخذت تتزايد أمراض الواقع ويزداد الخلل .
ونعتبر أن أخطر قضية من بين هذه القضايا هي قضية الإيمان والتوحيد , وقضية العلم الذي أمرنا الله بطلبه والسعي إليه . وأساس العلم كله منهاج الله : قرآناً وسنةً ولغة عربية . ولمعالجة هذا الخلل , هجر منهاج الله , وما يترتب على ذلك من خلل واضطراب في الإيمان والتوحيد , فلا بد أن تخضع المعالجة إلى منهج عمليٍّ نابع من الكتاب والسنة وقواعد الإيمان والتوحيد , ومدرسة النبوة الخاتمة الخالدة .
2 ـ التكاليف الربانيّـة : ـ
وكان من رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الكتاب والسنّة منهجـاً ربّانيّـاً متكاملاً مترابطـاً , لغته العربية التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون لغة الوحي والنبوة و القرآن ، ولغة الذكر ولغة الإسلام . فكان المنهاج الربّاني ـ قرآناً وسنّةً ولغة وعربيّة ـ معجزاً لا يقوى أحد من الجن والإنس على أن يأتي بمثله أو بعشر سور مفتريات أو بسورة واحدة . وكان من إعجازه أن جعله الله ميسَّراً للذكر على قلب كلِّ من آمن وعرف اللغة العربية . فالإيمان واللغة العربية مفتاحا تدبر كتاب الله وفهمه , وأساس اليسر فيه :
( ولقد يسْرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) [ القمر 17، 22، 32 ، 40 ]
وكان من رحمة الله سبحانه وتعالى أن فصّل في المنهاج الربّاني التكاليف التي وضعها في عنق كلّ مسلم ، والتي سيحاسَبُ عليها يوم القيامة . وجعل هذه التكاليف مترابطة متماسكة متكاملة ، تمضي كلها على صراط مستقيم واحد ، وجعله الله مستقيماً وواحداً حتى لا يضلَّ عنه مؤمن ولا يُخْتلَفَ عليه ، ليمضي المؤمنون صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص ، كما يحبّ الله أن يكون عليه المؤمنون الذين يحملون رسالة الله ويجاهدون في سبيله :
( وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) [ الأنعام : 153 ]
( إِنّ الله يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنهم بنيان مرصوص )[ الصف : 4 ]
وكان من رحمته سبحانه وتعالى أن بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ليبلّغ رسالة الله ، ولتكون سيرته تطبيقاً عمليَّاً لمنهاج الله ، وليكون النبيّ الخاتم أُسوةً حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر:
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيراً ) [ الأحزاب : 21 ]
ومن هنا جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه العرباض بن سارية رضي الله عنه :
( ... فعليكم بسنَّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضُّوا عليها بالنواجذ ) [ أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة ]
وفي الحديث الصحيح يرويه أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم :
( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي , ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض . ) [ صحيح الجامع الصغير وزيادته : 2938 ]
وكلمة السنّة هنا تعني : الطريق والنهج . فلقد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه نهجاً يتّبعونه ومنهاجاً يسيرون عليه ، في صورته المترابطة المتكاملة , وليس مجرّد قواعد متناثرة أو أحداث متفرّقة .
إِلى هذا النهج أو المنهاج ، إِلى هذه السنّة النبويّة الشريفة ، ندعو أنفسنا وندعو كلّ مسلم ليتعلّمهـا وليَعضَّ عليها بنواجذه ، لِنَنْجُوَ من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة ، ولنُوفيَ بالأَمانَةَ التي خُلِقْنا لها ، والعهـد الذي أخذه الله من بني آدم ، ولتصدُقَ منا العبادة لله وحده والخلافة في الأرض التي أَمَرَنا بها , عسى الله أن يُنزل نصره ويرفع بلاءه .
ولنجمع قواعد هذا النهج وهذه السنة النبوية في أسلوب ميسَّـر يلبي حاجة واقعنا اليوم , فإننا نقدم ما نسمِّـه " المنهاج الفردي " أو " الذاتي " , لكل مسلم , ولكل أسرة , ولكل جماعة وحركة .
ولو رجعنا إِلى مدرسة النبوّة الخاتمة ، مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ، وإلى الكتاب والسنّة بصفة عامة ، لوجدنا أن هذا المنهاج الفرديّ خاضع لذلك كله مرَّتب على ضوء واقعنا اليوم معتمد على أسس ربانية .
فالتلاوة والتدبر والحفظ والمراجعة ، والسنّة ، واللغة العربيّة ، ووعي الواقع ، وممارسة منهاج الله في الواقع ، كلّ ذلك مقرّر في الكتاب والسنّة ، وممارس في مدرسة النبوة الخاتمة بالأسلوب الذي كان يتطلبه ذلك الواقع ، حين لم يكن هنالك مصاحف بين أيدي الصحابة رضي الله عنهم ، وإنما كان ذلك في صدورهم . وكانوا يلتقون ويتفقّهون بالكتاب والسنَّة في المساجد والبيوت وسائر الميادين .
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله في كم أقرأ القرآن ؟ قال : اقرأه في كل شهر . قال قلت : إني أقوى على أكثر من ذلك . قال : " اقرأه في خمس وعشرين " . قلت : إني أقوى على أكثر من ذلك . قال :" اقرأه في عشرين " . قلت : إني أقوى على أكثر من ذلك . قال " اقرأه في خمس عشر " . قلت : إني أقوى على أكثر مـن ذلك . قال : " اقرأه في سبع " . قلت : إني أقوى على أكثر من ذلك . قال : لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث . [ أحمد : الفتح الرباني : 18/18/19 ]
تدريب على العمل المنهجي ، وعلى التلاوة والتدبر والتفقه ، وعلى المتابعة والاستمرار صحبة عمر وحياة .
والأدلة من الكتاب والسنة كثيرة على كل ما أوردناه ، نجد معظمها متوافرة في كتاب : " حتى نتدبر منهاج الله " .
إننا نؤمن أنّ هذه القضية ملازمة للقضية الأولى ، القضيّة الأخطر في حياة الإنسان ، والحقيقـة الكبرى في الكون والحياة ، قضيّة الإِيمان والتوحيد قضيّتان متلازمتان ، تدفع كلٌّ منهما المسلم إِلى القضيّـة الأُخرى ، حتى يظلّ التأثير بينهما متبادلاً ، ينمو الإيمان بذلك بفضل الله ، وينمو العلم ، وتزكو حياة المسلم ، ويلتقي المؤمنون .
إِن المسلم الذي هجر كتاب الله زمناً ، حين يعود إليه يجد مع اللحظات الأولى بعض الصعوبة . فإن ثابر وعزم ومضى يتفتح الخير أمامه ، ويزداد النور وينشرح الصـدر . فمثله في ذلك مثل رجل دخل باب دار ظنّها مظلمة ، فوجد أمامه شمعة تضيء . فإذا تابع المسيرة وجد مصباحاً ، فإذا تابع وجد مصباحين ، فإذا تابع وجد المصابيح تتزايد والنور أمامه يموج ، فيخرج بإذن ربه من الظلمات إلى النور .
و نواصل في المقالة التالية إن شاء الله تعالى
المفضلات