إجازة .. !

ينظر في عينيها .. ويقتطف ركام من الهم فيهما ، فينكمش داخل ضيق هائل .. يُلقي – على أثره – بكل ثقله إلى الوراء ليطلق زفرة بحجم الويلات .. !
مرت عشر سنوات .. كأنها حلم .. أو هي طيف من أرض المستحيل ، عشر سنوات .. نسي خلالها الهموم الراكدة على أرصفة عمره .. نسي الآلام المتجذرة في طفولته .. في شبابه .. وحتى في هنيهات عجزه ..
كانت " سلمى " في ليلة زفافهما ، مجرد طير يحوم في أجواء الفرح .. كانت الحلم الذي أغدق على عمره بفيض من الأمل ، ومنحه العزيمة ليتحدى الأهوال ..
لكنها تتبدل وتتحول إلى مخلوق آخر ، اليوم تذبل .. وتذوي في صمت مرير بات يقتله كل يوم مائة مرة .. قالت له في حوارهما الأخير :
" لقد منحتك كل شيء .. فلم أعد أملك لك شيئاً " ..
يقفز من مكانه ويجوب الحجرة كمسافات بلا حدود ، بينما قابعة هي في مكانها لم تحرك ساكناً .. يسألها :
- ماذا تريدين أن أفعل ؟! ..
تحدق به ببرود ، وكأن سؤاله لا يعنيها ، ثم تعود إلى الثوب الذي تخيطه صامتة ، فيصرخ :
- أجيبيني ..
ترفع رأسها دون أن تنظر إليه ، وتبقى صامتة تحملق في الفراغ ..
يكرر سؤاله :
- ماذا تريدين .. ؟
يشعر برغبة ملَّحة في البكاء لصمتها .. يريد أن يفعل أي شيء .. أن يصفعها .. أن يركل كل شيء أمامه ، لكنه يتماسك ويلوذ إلى حيرة يسحقه الذهول فيها إلى أشلاء ، يتساءل في سريرته .. ماذا يفعل ، وكيف يستجلي أحزانها ، فجأة يأتيه قرارها متعباً .. واهناً ، ليقطع حبل أفكاره :
- أنا بحاجة ماسة إلى إجازة أستعيد بها حيويتي .. !
يلتفت إليها مندهشاً ، فتردف :
- مرت سنوات عديدة ، وأنا أمنحك أنت والأولاد كل جهدي ووقتي .. سنوات أفقدتني نفسي .. وشخصيتي .. فمن حقي أن تمنحني إجازة قصيرة .. !
يطلق ضحكة مدوية .. لا يصدق ما يسمع ، فيسألها بمرارة :
- هل مللتني يا سلمى ؟!
تجيبه وهي تنهض بارتباك :
- لا .. ولكن نظام الحياة على وتيرة واحدة ، وكذلك غيابك عنّا طيلة اليوم في عملك ، يجعلني أحياناً أفقد صوابي .. !
يقاطعها باندفاع :
- لكنه عملي .. إنه من أجلك .. وأجل الصغار !
تتابع .. كأنها لم تسمعه :
- تذكر أنه لا صديقات لدي .. ولست من النوع الذي يحبذ العلاقات الاجتماعية ..
يقاطعها من جديد :
- أعلم ذلك ..
- ومنذ تزوجنا لم نسافر ولو لمرة واحدة .. حتى أهلي في الجنوب ، لم أقم بزيارتهم منذ سنوات عديدة ..
تلتقط أنفاسها .. ثم تلتفت إليه لتسأله باستعطاف :
- ألا تريدني بعد ذلك أن أشعر بالاختناق ؟!
- ولكن الأولاد ..
- ماذا بهم ؟
- سيكونون معك بالطبع .. !
تجيب بحزم :
- بل سأرحل وحدي ..
- ومن سيرعاهم في غيابك .. ؟!
- لقد تحدثت مع والدتك بالأمر .. وأبدت استعداداً كاملاً لرعاية الأطفال ..
لم يقتنع :
- لا أحد يعتني بأطفالك مثلك ..
- أدرك هذا .. ولكنها مجرد فترة قصيرة سأزور بها أهلي .. وألوذ إلى نفسي كي أجددها ..
يتنهد ويضرب على ساقه بحنق :
- إذن .. لقد رتبت كل شيء ..
- ولم يتبقَ سوى موافقتك ..
يحاول أن يتأقلم مع قرارها .. فيقول بتشكك :
- وهل تضمنين النتائج ؟
- الأيام شواهد .. وستلاحظ الفرق عندما أعود ..
ينهض ويقترب منها ، ثم يهمس بحنان :
- وأنا .. ألم تفكري بي ؟
تقول له باسمة :
- إنها إجازة قصيرة .. وسأعود إليك مرة أخرى ..
يتردد وهو يستوعب قرارها .. لكنه يقول باستسلام :
- سأخوض معك غمار هذه التجربة حتى النهاية ..
ثم رويداً .. رويداً تنبسط أساريره .. ويقول بسعادة :
- من أجلك فقط .. ومن أجل سعادة هذا البيت ، سأبدأ بإجراءات السفر منذ الآن !
ويتركها وهي تتنهد بارتياح ..