السلام عليكم ورحمة الله
مرحبا بالأعضاء الكرام .
قد تنحني في كتابة قصة قصيرة لأزيد من أسبوع دون أن تكون لك الفكرة الصحيحة التي تبغي طرحها ، وقد تنهل من معجم القصاصين والروائين الكثير ، لكن دون أن تصل بفهمك إلى المعنى الحقيقي للقصة ، لكن ماذا إذا جربت أن تعيش أحداث قصة أنتَ أحد شخصياتها وفي واقعك مثلا في موقف سيارة أو شارع أو أمام مستشفى فتتصادفون أصدقائي الأعضاء مع مشهد تتشكل فيه أحداث تُكونُ قصة .
توقف خالي أمام مؤسسة بنكية وطلب مني المكوث في السيارة لحظات قضاء أغراضه .
وبينما أنا شارد مع الموسيقى الصامتة المنبعثة من مذياع السيارة إذا بطيف خفيف يلفت انتباهي من الجهة اليمنى . لقد كان طفلا لا يتعدى عمره 3 سنوات . وكانت البراءة المعهودة في الطفولة قد ارتمست عليه كلية .
قصر قامته حال دون حال دون انتباهي إلى يده الممدودة باحتشام نحو باب السيارة وهنيهة ، بعد اعتدالي فوق أريكة السيارة ، فطنت لمقصوده ، إنه يريد نقودا . ورغم أن زجاج باب السيارة كان نازلا ، إلا أنني فضلتُ قصدا فتح الباب لأمنحه ذلك الدرهم اليتيم في جيبي .
لقد زلزل كياني ذلك المشهد الدرامي : طفولة مبكرة منكسرة وحياء رجولي فطري ، وماقصدي بفتح باب السيارة إلا تعبيرا بانحناء لرجولة الحياء في الطفل .
لقد تمنيتُ لو كان هذا الطفل أحد أقربائي أو جيراني حتى تكون عملية الأخذ والعطاء بيننا منطقية بحكم زوال الكلفة في مثل هذه المواقف ، ولكن ـ للأسف الشديد ـ منطق آخر حكم هذا المشهد وسيطر على عقلية زمن التشتت الإجتماعي المريب . إنه منطق " اليد العليا واليد السفلى " ورغم أن هذا المنطق يبرر الموقف الطفولي هذا ، إلا أنه يكسب ذلا ما بعد الطفولة .
أمسك الطفل الصغير بالدرهم دون أن يرسل إشارة شكر ، وحتى غبطة السرور بالهبة اليتيمة لم تنبعث من محياه . وكأن لسان حاله يقول " ليتك لم تفعلها " . ثم أدبر مهرولا نحو امرأة مازال الشباب لم يبرحها ، وعليها ثياب دون العادية بكثير وتحمل تقاسيما ذابلة توحي بتقاسيم نساء زمن الجفاف ذلك الزمن الذي " لا ماء في فرعه ولا حليب في ضرعه " كما كان يحكي أحد الأجداد .
ألقى البرعم بالدرهم على حجر المرأة التي جعلت أحد أعمدة المؤسسة البنكية متكئا لها ، ووقف أمامها وكأنه ينتظر شيئا . رفعت المرأة بنظراتها الممزوجة ببريق لا أعرف معناه ، وتمتمتْ بشفتيها بصوت غير مسموع ، فهمت من خلاله أنها تشكرني أو تدعوا لي بالنيابة . بينما كان الصغير لا يزال ينتظر الشيء الذي انتظرته أنا كذلك معه .
أدخلت المرأة يدها في كيس بلاستيكي أسود وأخرجت منه قطعة خبز أبيض ، تناول الولد تلك القطعة وأخذ مكانا له في زاوية مجاورة قبالة المرأة التي في الغالب هي أمه ثم بدأت أسنانه الفتية تصارع لقم هذا النوع من الخبز التي تنهك حتى أسنان الناضجين .
لقد كان الخطاب المسكوت في مشهد الدرهم وقطعة الخبز يُعبّرُ عن وصية غير مكتوبة ولكنها مدوية بين المرأة الأم وولدها " أي بني ، لقمتك مرهونة بمد يدك نحو الأسفل " .
لم تقل المرأة هذا الكلام ولا الطفل استقبل ذبذبات من هذا النوع ، و لكن حضارة الأزمة قررتْ كل شيء .
أنهى الصغير معركته مع قطعة الخبز ، ثم استأنف سعيه وراء يده الممدودة ، لتستقبل هذه المرة قطعة نقدية صفراء من أحد زبناء المؤسسة البنكية .. لقد كانت تلك القطعة الصفراء دون الدرهم بقليل ، لكن أبت إلا أن تستصحب معها رسالة صوتية من الزبون : " كان الأجدر بك أن تذهب إلى المدرسة يا ولد ، لا أن تتسول " .
ولأول مرة يحظر الخطاب المنطوق في ذهني " مازلتُ صغيرا سيدي " أجابت المرأة بانكسار .
نحن لا نريد أن نقرأ لأننا لا نريد أن نكون مسؤولين من الدرجة العليا ، لقد تركنا لكم السياسة والديمقراطية والحقوق لأننا لا نريد إلا الإنسان فقط . إننا نريد أن نأكل فقط لنستأنف الدبيب على أرض هذا الوجود " أنا آكل إذن أنا موجود " لذلك منا من قضى نحبه ما بين أسنان القرش وأمواج البحر ومنا من ينتظر في طوابير الإنحناء وأنتم ما تبدلتم تبديلا . نعم لقد تركنا لكم كل شيء ..
لقد تمنينا أن تكون لنا أسنان بيضاء تأكل خبزا أبيض ، ولكنها الأسنان أبت وأبى معها الخبز إلا أن يكونا دون ذلك .
هكذا تحركت مشاعري مع ذلك التعبير في صمت من المرأة الأم لتتحرك معها سيارة خالي نحو غد غريب .
المفضلات