فيلم المرآة:محاولة لفك رموز تاركوفسكي المعقدة:
تاركوفسكي....المخرج الروسي العظيم، الذي ينعت بالأوساط السينمائية بالمتأمل الثاني(على أن المتأمل الأول هو بيرغمان) وهو أهم مخرج في روسيا بعد إيزينشتاين.
هذا المخرج الذي تتميز أفلامه بالتأمل الشديد إلى درجة الروحية، كان قد صنع فيلما عام 1975 يدعى بالمرآة يتحدث فيه عن حياته وسيرته الذاتية بطريقة كانت مغرقة جدا بالرمزية والذاتية الشديدة إلى درجة نعت الفيلم(بالفرويدية) كما أن الفيلم كما تحدث عنه النقاد غير قابل للفهم أو التفسير والإنسان الوحيد القادر على تفسيره هو تاركوفسكي نفسه، وليس من السابق القول أن هذا الفيلم قوبل بالرفض من الجمهور والنقاد معا ولم يحترم أو يقدر كبقية أفلامه إلا متأخرا في عام(79-80)....
قبل محاولة تحليل هذا الفيلم أود أن أنبه القارئ أن هذا الفيلم تنقص كل مشاهده الوحدة الموضوعية رغم وجود الوحدة العضوية لأن كل شخصياته تتكرر بعشوائية وبشكل غير متسلسل في الزمن وعلى طول زمن الفيلم لذلك فلا يستغرب القارئ من عدم وجود أي ارتباط بين المشهد والمشهد الذي يليه.....
في بداية الفيلم، محاولة من أحد المعلمات لتخليص شاب ما من عقدة التأتأه، هذا الشاب يعرف نفسه ب(يوري جاري) ونستطيع أن نستشف بأنها تستخدم أسلوب التنويم المغناطيسي كطريقة للعلاج، ثم ننتقل إلى لقطة لامرأة تجلس على سور خشبي تطل على المدى الأخضر الواسع هذه المرأة ستبقى معنا حتى نهاية الفيلم والتي ستلعب دورا مزدوجا كأم لتاركوفسكي وكزوجته السابقة في نفس الوقت والتي تلعب دورها الممثلة(مارجريت يتركوفا) ويأتي شخص ما مجهول الهوية ويسألها عن قرية تومشينو....
يطلب منها سيجارة، ثم تنظر إلى الخلف لنرى طفلين معلقين في (أرجوحة) على أحد الأشجار، يجلس بجانبها فينهار السور الخشبي ويدخل هذا الرجل الغريب في نوبة الضحك، وسرعان ما يكشف عن هويته بأن طبيب، ويكشف أيضا بأن جزءا كبيرا من الحوار الذي دار بينها وبينه هو من إبداع الكاتب الروسي (تيشخوف) في دلالة على تؤثر تاركوفسكي بالأدب الروسي وهو الأمر الواضح في كثير من أفلامه....وبعد رحيله يظهر صوت ويبدأ بتلاوة الأشعار....أشعار توحي بأن هذا اللقاء أصبح من الذكريات:
أننا احتفلنا بكل لحظة للقائنا
كأنها لحظة عيد ظهور الرب
وتظل الأشعار تتلى على مشاهد الطفلين الشاحبين الذي يبدو بوضوح بأنهما شديدي القرب لهذه المرأة.....ثم تجلس هذه المرأة بجانب النافذة، ويلاحظ المشاهد بأنها على وشك البكاء، ثم تتابع أصوات سرد الأشعار من قبل راوي مجهول الهوية في مشهد صامت حتى من الخلفية الموسيقية(بدون أي مؤثرات صوتية) سوى من صوت هذا الشخص وهو يتلو الأشعار، وصورة المرأة وهي تبكي وحزن شديد واضح على وجهها...ولا ضير من الذكر أن الأشعار المستخدمة كخلفية لهذه اللقطات هي للارسيني تاركوفسكي والد تاركوفسكي نفسه....
تتحرك المرأة من مكانها، من قرب النافذة صوب الطفلين وتقول لهما:
إنه حريق.... ولكن لا تصرخوا
بينما يذهب الطفلين إلى الشرفة للتأمل بمنظر الحريق، هناك شخص ما من الخارج لا نراه(يبدو أن له علاقة بالحريق) أو ربما كان يصرخ من مكان ما قرب الحريق، يصرخ باسم كلا فكا
فيظهر طفل آخر من مكان لا نعرف من أين ويقول(ماذا تريد؟)
ويتحرك هذا الطفل إلى الخارج لنرى صورة امرأة ورجل ما أمامها يقفان بهدوء(ويديرون وجههم للمشاهد) ويتأملون كوخا ما يحترق؟!
يستخدم تاركوفسكي حتى الآن اللقطات الملونة، ولكننا ننتقل إلى مكان آخر ومشهد آخر بالأبيض والأسود هذه المرة إشارة إلى تغير الزمن الذي يحدث فيه المشهد عن المشهد الذي يليه أو الذي يسبقه وهو أمر يستخدمه تاركوفسكي بكثرة وهو تطور ثابت في الفيلم يشير به إلى تغير الزمن الذي تجرى فيه الأحداث....هذا المشهد يفتتح على صورة طفل(من الواضح إنه أحد الطفلين) يستيقظ على حلم متعلق بمشهد طبيعي(أشجار ونباتات كثيفة تحركها الرياح بقسوة، ويصرخ الطفل بشكل هادئ....أبتاه؟!
يتحرك الطفل من سريره، لنرى مشهدا لشاب يقوم بصب المياه على شعر امرأة ما تستحم(شعرها يغطي الوجه ولا يظهر من وجهها أي ملامح) كل هذا و اللقطة تتلون بالونين الأبيض والأسود فقط....لا يزال الشعر يغطي الوجه، تتحول الموسيقى المرافقة للتصوير من موسيقى هادئة إلى موسيقى متوترة تحاول أن تنبأ بأنه هناك حدثا رهيبا قادما.....
تبدأ أركان المنزل بالتهدم والسقوط على أرضية مغمورة بالمياه......في مشهد يشير بشكل واضح إلى انهيار العلاقة بين الوالد والأم؟!
لأن هذه الأم التي تدعى بالفيلم بماروسيا حتى الآن هي (أم تاركوفسكي) التي نتحدث عنها منذ بداية الفيلم....؟!
تنظر هذه المرأة إلى وجهها في المرآة لنرى وجه امرأة عجوز لا بد أن تكون هي نفسها ولكن بعد أن تتقدم في السن وهذا يثبته تاركوفسكي أيضا مع تقدم أحداث الفيلم.....
كل هذا يحدث في مشاهد رمزية شديدة التعقيد، بحاجة إلى جهد ذهني كبير للتوصل إلى أي نتيجة أو فكرة من خلالها....
إلى مكان آخر وبالألوان هذه المرة....صوت الهاتف يرد عليه شخص ما يدعى ألكسي، في منزل معلق على جدرانه ملصق لأحد أهم أفلام تاركوفسكي(أندريه رابلوف)
من هو هذا الشخص الذي يتكلم...لا نعرف؟!
مع من يتكلم....أيضا لا نعرف؟!....يقول للمرآة التي يتحدث معها على الهاتف:
إنني شاهدتك في حلم النوم.....ويبدأ بالتساؤل عن السنة التي غادرهم فيها والده،-كمحاولة لفهم الفيلم نستشف أن هذا الشخص هو تاركوفسكي-.....فتجيبه:
عام 1935، وكان الحريق حدث في نفس هذا العام....
إنه الولد يتحدث مع أمه التي تخبره أن ليزا التي كانت تعمل معها في المطبعة قد توفيت(القارئ لسيرة حياة تاركوفسكي يعرف أن والدته قد عملت مصححة في أحد المطابع بعد انفصالها عن والده). من الواضح أن هذه المحادثة تحدث في الوقت الحالي لسببين اثنين:
صوت المرأة التي من الواضح أنها متقدمة في السن، بالإضافة إلى الدلالة اللونية، حيث يستخدم المخرج في هذا المشهد الألوان.....يظهر هذا المشهد عدم التفاهم بين الابن ووالدته، بل أن طفولته هي محاولة للتواصل مع هذه الأم المشوشة....
نرحل إلى زمن آخر،إلى مشاهد بالأبيض والأسود،والأم تركض نحو مكان ما تحت المطر ....
(هناك حالة من القلق الدائم التي تشعر بها هذه المرأة بالإضافة إلى حزن واكتئاب شديد يسيطران بشدة على ملامحها......) ثم هناك مشهد استرجاعي نتعرف من خلاله على شخصية اليزا(اليزا فيتا بافلوفنا) وعن مدى حدتها في التعامل مع الأم(ماروسيا) بعد أن ارتكبت خطأ ما في المطبعة التي تعمل بها
يتحدث تاركوفسكي عن شخصية هذه المرأة في الفيلم في حوار له مع الشاعر والكاتب الروائي والسيناريست الإيطالي الشهير تونينو غوييرا:*
في فيلم " المرآة " الشخصية الرئيسية تقدم على أنها شخصية ضعيفة وتأملية إلى أبعد الحدود. إنها مثل رجل مريض يتذكر حياته خلال أزمة مرضه، دون أن يعرف هل هو سيخرج سالماً من مرضه أملا.
لنعود إلى أحداث الفيلم:
الأم وحيدة، تمشي في ممر طويل يظهر صوت الشخص الذي كان يتلو الشعر في المشهد السابق، ويبدأ بتلاوة الشعر مرة أخرى:
كنت أنتظرك أمس منذ الصباح
فأنهم قد ظنوا أنك لن تأتي.
ثم نرى شخصا ما يقوم باللحاق بماروسيا...أنها ليزا
ومشهد استرجاعي تقوم فيه ليزا بمعاتبة ماروسيا -المنحدرة جدا نحو الكآبة-بل توبيخها والوصول إلى درجة الاستغراب عن كيفية تحمل زوجها لها طوال هذه المدة؟
وننتقل مباشرة إلى مشهد آخر في مكان ما (بالألوان) صوب الأب وهو يقول للأم:
كنت أقول لك دائما بأنك تشبهين أمك....
فترد عليه:ربما لهذا السبب افترقنا....
الآن الأم أصبحت زوجة تاركوفسكي السابقة، وتتحول الهموم من التواصل مع الأم المشوشة إلى التواصل مع الابن، ويبدأ التداخل بين أحداث الفيلم يأخذ مجرى أكثر تعقيدا، ومما يزيد الأمر تعقيدا استخدام تاركوفسكي لممثلة واحدة(مارجريت يتركوفا) لتلعب دور أمه ودور زوجته السابقة.
المشهد يدل على الاضطراب الحاصل بين الأب و الأم ولمحة عن سبب الارتباط بينهما بأن الأم(هي نتاليا الآن) تملك ملامحا من والدة الأب، كما أن هناك (ايغنات ) الولد الناشئ كثمرة لهذه العلاقة، والذي يطالب الأب الأم بالزواج وإعطائه ايغنات، كما أن هناك حالة خصام بين الوالد(الذي لا يظهر في هذه اللقطة بل نسمع صوته فقط) وبين أمه .
هناك أشخاص في المنزل لا نعرف من هم، أحدهم واضح انه أسباني مولع بمصارعة الثيران، ومجموعة من الأشخاص القريبين لهذا الشخص بشكل أو بآخر، وما نستطيع استشفافه أن هؤلاء الأشخاص ذو صلة ما بالأم نتاليا.....
يستخدم تاركوفسكي أسلوب إدماج فيلمه ببعض اللقطات الإخبارية والذي سنتحدث عن سببه لاحقا في هذا المقال، حيث يقوم بإظهار لقطات إخبارية عن مصارعة الثيران وأيضا لقطات تبدو كأنها عن الحرب الأهلية في أسبانيا، وسيستخدم تاركوفسكي هذا الأسلوب في لقطة قادمة عندما يقوم الوالد باسترجاع ذكرياته.....
يكتشف ايغنات أن هناك تيارا كهربائيا يسري في عروقه ويؤكد أن هذا ليس صدفة لأنه حدث معه من قبل أن شعر بمثل هذا التيار....يبقى ايغنات وحيدا في المنزل ولا يلبث أن يدير وجهه حتى نرى امرأتين, احدهما امرأة عجوز من الواضح أنها تعمل خادمة عند المرأة الأخرى التي تملك سيطرة واضحة على ايغنات من خلال صيغة مخاطبتها له ونكتشف أنها معلمة لايغنات، وتطلب منه قراءة مقتطفات من رسالة لبوشكين إلى تشاعدايف مؤرخة في 19/10/1836، وهذه الرسالة بالإضافة إلى اللقطات التي سيدمج بها تاركوفسكي فيلمه بشريط إخباري يضم جنودا حقيقيين-عندما يقوم الوالد باسترجاع ذكرياته هو الآخر-لن تكن لقطات عبثية، بل هي متعمدة، فماذا كان يقصد تاركوفسكي منها؟!
يتحدث تاركوفسكي في كتابه(النحت في الزمن):
{في فيلمي"المرآة" أردت أن اجعل الناس يشعرون بأن باخ وبرجوليسي ورسالة بوشكين والجنود المرغمين على عبور بحيرة سيفاش، وأيضا الأحداث المحلية والعائلية الحميمة، أن يشعروا بأن كل هذه الأشياء هي، من بعض النواحي، هامة بصورة متساوية مثلما هي التجربة الإنسانية.فيما يتصل بتجربة الفرد الروحية فإن ما حدث له بالأمس قد يكون له الدرجة نفسها من الدلالة والأهمية تماما مثلما حدث للبشرية قبل مئة سنة.}نهاية الاقتباس....
المفضلات