الساعة الآن السابعة مساءاً بتوقيت الإمارات، سارت الهوينى تتأمل نجوم السماء حيناً وتصدُّ للأرض حيناً آخر كي لا تتعثر في مشيتها...
الدنيا في هذا الوقت أمان، تسمع أصوات الأطفال الفارين من ذويهم ليلعبوا لعبتهم المفضلة "الصيدة" ومن أجمل من المساء ليتخذوه غطاءاً!!
وصلت للمزرعة، حينها أسرعت في سيرها، هناك كانت أول ذكرى لقاءها به، محفورة في ذاكرتها، ويا لها من ذكرى!!
دقت باب الجرس، انتظرت كثيراً، أخذت تتطلع إلى الأوراق الشاغرة، فاتها الكثير في الأيام الماضية...
فُتح الباب، أطلّ بوجهه، حولت وجهها للجانب الآخر، لم تلاحقك الكوابيس أينما كنت؟!
- أمل موجودة..
- تفضلي.
كان واقفاً بتردد، همّ بالكلام، بقولِ شئٍ آخر ربما لكنهُ أحجم، لا زال ملتصقاً بالباب، وفرجة الباب ضيقة لا تسمح لها بالولوج بالرغم من نحافتها.
تطلعت إليه بضيق وهي تتأفف لعلهُ يبتعد، مرت دقيقتان بطيئتان ثم ابتعد.
أشار لها بأن تدخل غرفة الجلوس كي ينادي أخته، جلست وهي تُعيد ترتيب أوراقها، تضع علامات على الدروس الناقصة، لم تشعر بألم في معدتها ودقات كدقّ المسمار في صدرها، قلبها يدق بقوة كطبول مجنونة...
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، تلت سورة الفاتحة في سرها"
ثم أخذت شهيقاً بطيئاً وطويلاً، ألهذه الدرجة رؤيته توترها، ولم تأخرت هذه الأمل أيضاً؟!!
وانفتح الباب، لم تأتِ هي بل أطلّ هو، قال بصوت هادئ:
"- أمل" ليست هنا، لقد ذهبوا جميعهم إلى "أبو ظبي" لخطبة ابنة عمي لأخي راشد...
لم تعلق، لم لم تخبرني!! نهضت من مكانها وهي تلمُّ أوراقها، وتوجهت إلى الباب.
- لا زال الوقت مبكراً على الخروج..
فتحت عينيها بدهشة وهي تحاول أن تتمالك نفسها:
- لو سمحت أريد أن أخرج.
- طلبك مرفوض.
- كنت تعلم بعدم وجود أحد وتركتني أدخل؟!! صاحت فيه بغضب.
عبس في وجهها ولم يجب، أغلق باب الغرفة خلفه وتقدم ناحيتها، تراجعت إلى الوراء وهي تصرخ:
- لاتتقدم، إذا اقتربت مني سأصرخ.
ضحك بجفاء دون أن يتراجع، ردّ بتشدق:
- اصرخي كما يحلو لكِ، فلا يوجد أحد هنا إلا الخدم وهم فوق ينظفون الشقة للعروس الجديدة.
تساءلت بخوف..بصوتٍ متقطع كأنفاسها:
- ماذا تريد؟
- أريدكِ أنتِ..
وتوقف حينها عن الضحك وهو يتأملها ببطء من رأسها إلى أخمص قدميها، ارتجفت من نظرته:
- أنا..أنا لا أفهم شيئاً.
ردّ بجدية:
- بل تفهمين.
طفرت الدموع من عينيها، وهي تشعر بزلزال يهزُّ كيانها من الأعماق، راقبها بصمت وهي تضم الأوراق إلى صدرها بقوة حتى تجعدت، وفمها يرتعش وقد احتقن وجهها فبات لونهُ أحمراً قانياً كالدم...
خاطبها بقسوة من فوق كتفيه:
- لا تنظري إليَّ هكذا كأني مجرم مغتصب، حددي لي السعر وسأنقدك إياه فوراً..
فغرت فاهها طويلاً وهي تحملق فيه دون تصديق، تلاشت كل الألوان من وجهها وعجزت عن النطق، ماذا يقول هذا الرجل؟!!!
50000 -درهم تكفي؟!
عادت من ذهولها، تساقطت الأوراق من يديها ولم تشعر بنفسها إلاّ وهي تنقض عليه، تضربه على صدره بكل ما أوتيت من قوة وهي تصيح:
- أيها الحقير، الحيوان، الدنئ، أيها النذل الجبان...أتحسبني عاهرة..
لم يتحرك، ولم يصد هجماتها عليه، كان واقفاً كالصخر يتلقى ضرباتها ولعناتها الأبدية وهي تلهث من شدة التعب:
- هل هدأتي الآن؟!
لازالت شحنات الغضب تتصاعد في جوفها، تكاد تخنقنها، كيف تجرأ وقال لي هذا الكلام!!!! ماذا يخالني هذا الحقير..
صدرها يعلو و يهبط وصدى كلماته تكتمُ أنفاسها، تمنعها حتى من الصراخ، أطلقت دموعها قبل أن تنفجر، حولت وجهها عنه وراحت تلم أوراقها بيد مرتجفة وبعينين لا تريان:
- ماذا تفعلين، لم ننهي اتفاقنا بعد!!!
شهقت من بين دموعها وألقت بنفسها على الأوراق تبللها وتنشج بصوتٍ متقطع كنشيج الميازيب في مواسم المطر، أيُّ ذلٍ أعيشهُ أنا!!!
سألها وبكل وقاحة الدنيا:
- لم كل هذا الصياح..ماذا تتوقعين أن يحدث لفتاة مثلك؟!
رنت كلمة "مثلك" في ذهنها بوقعٍ غريب لم تستسغه أذناها، رفعت رأسها من على الأوراق، تنظرُ إليه وهو لا يكاد يبين، سألتهُ بصوتٍ متكسر لا تتضح حروفه:
- م...ث..ل..ي!! مثلي...كيف؟! ل..لا..أفهم.
جثا بجانبها، لم تجفل، كان همها أن تفهم، أن يجيب على سؤالها، ردّ بثبات دون أن يبعد ناظريه:
- مثلك في وضعها أبٌ متوفٍ، أخ مدمن يستخدم الحقن في الشوارع بالقرب من النفايات كما تعيش الكلاب الضالة، وأخت ساقطة تبيعُ نفسها في شقق العزاب!!!
"ساقطة، ساقطة، ساقطة" صفعته على وجهه بقوة وبكل الكره والغضب الذي أعمى عينيها، صاحت فيه:
- ما الساقط إلا أنت..
أمسكها من معصمها بقوة حتى كاد أن يسحقه، أكمل وبكل دناءة:
- أجل، ساقطة..البارحة كنتُ في شقة صديقٍ لي، باعت نفسها عليه، ثم أتت تعرض نفسها علي بكل وقاحة لا تتقنها إلا الساقطات..
حاولت أن تسحب يدها لتصفعه مرةً أخرى، لكنهُ كان أسرع منها، صرخت من بين دموعها:
- أنت تكذب..تكذب، أختي لا تفعل هكذا، أنت تكذب..أنت حيوان، نذل، حقير...
وانتابتها نوبة من البكاء الهستيري، لم يرحمها ولم يرحم دموعها، هزها من يدها لتنظر إليه من جديد:
- لا تصدقيني؟!! إذا شئتِ أخذتك إلى شقة صديقي الآن، لا بد أنها هناك..
………….-
- أتعرفين لم نبذتها، لأنني لا أحب الأشياء المستعملة، الأشياء الجديدة هي دوماً من تستهويني، مثلك تماماً..
………….-
- ثم أعتقد أنّ الجمع بين الأختين حرام أيضاً!!!!!!!
كفّت عن الصياح وقلبها يكاد أن ينخلع، أخذتُ تأن بصوتٍ منخفض، تخاف أن تحجب دموعها عيناها فلا ترى ما يودُّ فعله، لا زال ممسكاً بيدها المسحوقة، برقت عيناه واشتدَّ سوادهما، كانت يتنفس بسرعة، جفلت من شكله المتوفز..
وضعت يدها الأخرى على فمها لتمنع صرختها، توسلت إليه برجاء، بصوتٍ مبحوح من كثرة الصياح:
- أرجوك دعني أذهب..أرجوك.
ترك يدها، وقام من جلسته وهو يدير وجهه بعيداً عنها:
- آسف، أنا لا أملك الخيار.
أنهضت نفسها بتثاقل، كانت تشعر بالإعياء، بالجهد...الضغط الإنفعالي الذي تعرضت له يفوق طاقتها، يفوق احتمالها، يفوق كل الآلام التي تعرضت لها منذُ ولادتها!!!
رفقاً بالقوارير..هكذا وصى نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وانظروا ماذا فعلوا بوصية رسولهم....
يريدون تحطيم تلك القوارير، تهشيمها، تفتيتها، لكأنها خُلقت من أجلهم، من أجل إرضاء غرائزهم..بئساً لهم وتعساً لنا.....
نظرت إليه بتحدي، بشموخ لا قرار له، وهي تمسح وجهها المبلل:
- أو تظن أني سأسلّم نفسي لك، أو أجبن عن الدفاع عنها، كم أنت واثق من نفسك كثيراً، تعتقد أنّ كلامك سيثبطني، سيردع مبادئي، سيزعزع إيماني أو ثوابت ديني، لا تعرف كم زادني قوة لأواجه الحقيرين كلهم وأولهم أنت..
تطلع إليها بسخرية وابتسامة قاسية ترتسمُ على شفتيه:
- وبماذا ستدافعين عن نفسك؟! بجسدكِ النحيل هذا!!!
كم كرهته تلك اللحظة، كرهت كلامه، صوته، كل شئ فيه....
المفضلات