الصفحة رقم 4 من 4 البدايةالبداية ... 234
مشاهدة النتائج 61 الى 80 من 80
  1. #61

    تاااااااااااابع

    الساعة الآن السابعة مساءاً بتوقيت الإمارات، سارت الهوينى تتأمل نجوم السماء حيناً وتصدُّ للأرض حيناً آخر كي لا تتعثر في مشيتها...

    الدنيا في هذا الوقت أمان، تسمع أصوات الأطفال الفارين من ذويهم ليلعبوا لعبتهم المفضلة "الصيدة" ومن أجمل من المساء ليتخذوه غطاءاً!!

    وصلت للمزرعة، حينها أسرعت في سيرها، هناك كانت أول ذكرى لقاءها به، محفورة في ذاكرتها، ويا لها من ذكرى!!

    دقت باب الجرس، انتظرت كثيراً، أخذت تتطلع إلى الأوراق الشاغرة، فاتها الكثير في الأيام الماضية...

    فُتح الباب، أطلّ بوجهه، حولت وجهها للجانب الآخر، لم تلاحقك الكوابيس أينما كنت؟!

    - أمل موجودة..
    - تفضلي.

    كان واقفاً بتردد، همّ بالكلام، بقولِ شئٍ آخر ربما لكنهُ أحجم، لا زال ملتصقاً بالباب، وفرجة الباب ضيقة لا تسمح لها بالولوج بالرغم من نحافتها.

    تطلعت إليه بضيق وهي تتأفف لعلهُ يبتعد، مرت دقيقتان بطيئتان ثم ابتعد.

    أشار لها بأن تدخل غرفة الجلوس كي ينادي أخته، جلست وهي تُعيد ترتيب أوراقها، تضع علامات على الدروس الناقصة، لم تشعر بألم في معدتها ودقات كدقّ المسمار في صدرها، قلبها يدق بقوة كطبول مجنونة...

    "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، تلت سورة الفاتحة في سرها"

    ثم أخذت شهيقاً بطيئاً وطويلاً، ألهذه الدرجة رؤيته توترها، ولم تأخرت هذه الأمل أيضاً؟!!

    وانفتح الباب، لم تأتِ هي بل أطلّ هو، قال بصوت هادئ:
    "- أمل" ليست هنا، لقد ذهبوا جميعهم إلى "أبو ظبي" لخطبة ابنة عمي لأخي راشد...

    لم تعلق، لم لم تخبرني!! نهضت من مكانها وهي تلمُّ أوراقها، وتوجهت إلى الباب.
    - لا زال الوقت مبكراً على الخروج..

    فتحت عينيها بدهشة وهي تحاول أن تتمالك نفسها:
    - لو سمحت أريد أن أخرج.
    - طلبك مرفوض.
    - كنت تعلم بعدم وجود أحد وتركتني أدخل؟!! صاحت فيه بغضب.

    عبس في وجهها ولم يجب، أغلق باب الغرفة خلفه وتقدم ناحيتها، تراجعت إلى الوراء وهي تصرخ:
    - لاتتقدم، إذا اقتربت مني سأصرخ.

    ضحك بجفاء دون أن يتراجع، ردّ بتشدق:
    - اصرخي كما يحلو لكِ، فلا يوجد أحد هنا إلا الخدم وهم فوق ينظفون الشقة للعروس الجديدة.

    تساءلت بخوف..بصوتٍ متقطع كأنفاسها:
    - ماذا تريد؟
    - أريدكِ أنتِ..

    وتوقف حينها عن الضحك وهو يتأملها ببطء من رأسها إلى أخمص قدميها، ارتجفت من نظرته:
    - أنا..أنا لا أفهم شيئاً.

    ردّ بجدية:
    - بل تفهمين.

    طفرت الدموع من عينيها، وهي تشعر بزلزال يهزُّ كيانها من الأعماق، راقبها بصمت وهي تضم الأوراق إلى صدرها بقوة حتى تجعدت، وفمها يرتعش وقد احتقن وجهها فبات لونهُ أحمراً قانياً كالدم...

    خاطبها بقسوة من فوق كتفيه:
    - لا تنظري إليَّ هكذا كأني مجرم مغتصب، حددي لي السعر وسأنقدك إياه فوراً..

    فغرت فاهها طويلاً وهي تحملق فيه دون تصديق، تلاشت كل الألوان من وجهها وعجزت عن النطق، ماذا يقول هذا الرجل؟!!!

    50000 -درهم تكفي؟!

    عادت من ذهولها، تساقطت الأوراق من يديها ولم تشعر بنفسها إلاّ وهي تنقض عليه، تضربه على صدره بكل ما أوتيت من قوة وهي تصيح:
    - أيها الحقير، الحيوان، الدنئ، أيها النذل الجبان...أتحسبني عاهرة..

    لم يتحرك، ولم يصد هجماتها عليه، كان واقفاً كالصخر يتلقى ضرباتها ولعناتها الأبدية وهي تلهث من شدة التعب:
    - هل هدأتي الآن؟!

    لازالت شحنات الغضب تتصاعد في جوفها، تكاد تخنقنها، كيف تجرأ وقال لي هذا الكلام!!!! ماذا يخالني هذا الحقير..

    صدرها يعلو و يهبط وصدى كلماته تكتمُ أنفاسها، تمنعها حتى من الصراخ، أطلقت دموعها قبل أن تنفجر، حولت وجهها عنه وراحت تلم أوراقها بيد مرتجفة وبعينين لا تريان:

    - ماذا تفعلين، لم ننهي اتفاقنا بعد!!!

    شهقت من بين دموعها وألقت بنفسها على الأوراق تبللها وتنشج بصوتٍ متقطع كنشيج الميازيب في مواسم المطر، أيُّ ذلٍ أعيشهُ أنا!!!

    سألها وبكل وقاحة الدنيا:
    - لم كل هذا الصياح..ماذا تتوقعين أن يحدث لفتاة مثلك؟!

    رنت كلمة "مثلك" في ذهنها بوقعٍ غريب لم تستسغه أذناها، رفعت رأسها من على الأوراق، تنظرُ إليه وهو لا يكاد يبين، سألتهُ بصوتٍ متكسر لا تتضح حروفه:
    - م...ث..ل..ي!! مثلي...كيف؟! ل..لا..أفهم.

    جثا بجانبها، لم تجفل، كان همها أن تفهم، أن يجيب على سؤالها، ردّ بثبات دون أن يبعد ناظريه:
    - مثلك في وضعها أبٌ متوفٍ، أخ مدمن يستخدم الحقن في الشوارع بالقرب من النفايات كما تعيش الكلاب الضالة، وأخت ساقطة تبيعُ نفسها في شقق العزاب!!!

    "ساقطة، ساقطة، ساقطة" صفعته على وجهه بقوة وبكل الكره والغضب الذي أعمى عينيها، صاحت فيه:
    - ما الساقط إلا أنت..

    أمسكها من معصمها بقوة حتى كاد أن يسحقه، أكمل وبكل دناءة:
    - أجل، ساقطة..البارحة كنتُ في شقة صديقٍ لي، باعت نفسها عليه، ثم أتت تعرض نفسها علي بكل وقاحة لا تتقنها إلا الساقطات..

    حاولت أن تسحب يدها لتصفعه مرةً أخرى، لكنهُ كان أسرع منها، صرخت من بين دموعها:
    - أنت تكذب..تكذب، أختي لا تفعل هكذا، أنت تكذب..أنت حيوان، نذل، حقير...

    وانتابتها نوبة من البكاء الهستيري، لم يرحمها ولم يرحم دموعها، هزها من يدها لتنظر إليه من جديد:
    - لا تصدقيني؟!! إذا شئتِ أخذتك إلى شقة صديقي الآن، لا بد أنها هناك..
    ………….-
    - أتعرفين لم نبذتها، لأنني لا أحب الأشياء المستعملة، الأشياء الجديدة هي دوماً من تستهويني، مثلك تماماً..
    ………….-
    - ثم أعتقد أنّ الجمع بين الأختين حرام أيضاً!!!!!!!

    كفّت عن الصياح وقلبها يكاد أن ينخلع، أخذتُ تأن بصوتٍ منخفض، تخاف أن تحجب دموعها عيناها فلا ترى ما يودُّ فعله، لا زال ممسكاً بيدها المسحوقة، برقت عيناه واشتدَّ سوادهما، كانت يتنفس بسرعة، جفلت من شكله المتوفز..

    وضعت يدها الأخرى على فمها لتمنع صرختها، توسلت إليه برجاء، بصوتٍ مبحوح من كثرة الصياح:
    - أرجوك دعني أذهب..أرجوك.

    ترك يدها، وقام من جلسته وهو يدير وجهه بعيداً عنها:
    - آسف، أنا لا أملك الخيار.

    أنهضت نفسها بتثاقل، كانت تشعر بالإعياء، بالجهد...الضغط الإنفعالي الذي تعرضت له يفوق طاقتها، يفوق احتمالها، يفوق كل الآلام التي تعرضت لها منذُ ولادتها!!!

    رفقاً بالقوارير..هكذا وصى نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وانظروا ماذا فعلوا بوصية رسولهم....

    يريدون تحطيم تلك القوارير، تهشيمها، تفتيتها، لكأنها خُلقت من أجلهم، من أجل إرضاء غرائزهم..بئساً لهم وتعساً لنا.....

    نظرت إليه بتحدي، بشموخ لا قرار له، وهي تمسح وجهها المبلل:
    - أو تظن أني سأسلّم نفسي لك، أو أجبن عن الدفاع عنها، كم أنت واثق من نفسك كثيراً، تعتقد أنّ كلامك سيثبطني، سيردع مبادئي، سيزعزع إيماني أو ثوابت ديني، لا تعرف كم زادني قوة لأواجه الحقيرين كلهم وأولهم أنت..

    تطلع إليها بسخرية وابتسامة قاسية ترتسمُ على شفتيه:
    - وبماذا ستدافعين عن نفسك؟! بجسدكِ النحيل هذا!!!

    كم كرهته تلك اللحظة، كرهت كلامه، صوته، كل شئ فيه....
    دمتم سالمين

    [
    url=http://www.up4ksa.com]67172fe757[/url]


  2. ...

  3. #62

    تااااابع

    سارت خطوتين، لكنهُ أمسكها، حاولت أن تتملص منه، سحب حجابها، هالتها هذه الخطوة وجمدت في مكانها..

    شعرها لازال رطباً، كان قصيراً فاحم السواد، التصق بعنقها وتناثرت خصلاته المبللة على جبينها...

    هذه هي المرة الأولى التي يراها أجنبي دون حجاب، يراها حاسرة، القوارير انتهكت حُرمتها، ماذا يبقى بعد ذلك؟؟!

    مشوار الجسد يبدأ بخطوة!!

    نظرت إلى حجابها الذي كان ممسكاً به، تبكي عليه، تبكي على هتك سترها..

    "يا رب أنا لم أقصد أن أُظهر شعري يوماً لغريب..كلُّ شعرةٍ شيطانة وكلُّ شيطانٍ في النار، يا رب لم أقصد ذلك، فاغفر لي....."

    دمعت عيناها بحرارة كما لم تدمع يوماً في حياتها......

    ألن ينتهي هذا اليوم أبداً؟!!

    اقترب منها، تراجعت إلى الوراء بضعف، استندت على الجدار ترتجف كورقة خريفية توشك على السقوط، عن الخروج عن جذعها الذي طالما انتمت إليه...

    أغمضت عينيها بقوة، تعصرهما عصراً، لم تعد تراه وسيماً، تجسدت فيه كل قباحة الدنيا، كلها دون استثناء...

    أمسك خصرها، يداه كالنار تحرقُ جسدها، وضعت باطن كفها على فمها لتمنع لوعةً فتت كبدها تلك اللحظة، أرسل جسدها اهتزازات عنيفة تستنكر..

    - أرجوك.. (كررت بصوتها المبحوح) أرجوك.

    قرب وجهه منها، أنفاسه الساخنة تلفحُ وجهها، همس في أذنها بصوتٍ أجش:
    - أرجوك ماذا؟! أرجوك أكمل؟!!!

    وضعت يديها على أذنيها وهي تصرخ:
    - ابتعد عنيييييييييي.
    - آسف يا صغيرتي.

    هزت رأسها وقربه يقطعها، يحيلها إلى هشيم، صاحت بين شهقاتها:
    - أريد أن أعود للبيت..أرجوك لالالالالالالالالالا....
    - دموعك لن توقفني هذه المرة..أتسمعين؟!
    - أمي..أنا..قالت...و .... (كانت تهذي دون أن تعي شيئاً).

    هزها من كتفيها لتنتبه إليه:
    - ماذا تقولين؟!

    أخذت تأن دون أن تجيب، تنظر بعجز إلى يديه اللتين استقرتا على كتفيها، كطوق، كقيد يجرها لا تدري إلى أين..

    فهم نظرتها، صاح فيها بغضب وكأنهُ يخاطب نفسه، يُريد أن يحسم الصراع بداخله:
    - من الأحمق الذي يترك فرصةً كهذه؟! أخبريني!!!

    عادت لتضع أصبعها المرتجف بجنون على شفتيها كما هي عادتها في القسم، رددت بصوت مبحوح:
    - أقسم..أقسم لك..والله..والله العظيم لن أعود إلى هنا..لن أُريك وجهي..فقط دعني أذهب.

    أبعد يديه ببطء، احتواها بعينيه وهو يقول بتشفٍ وبرود:
    - تذكرين ذلك اليوم، أعطيتك خياراً آخر لكنكِ رفضته.
    …………………..-

    صاح بجفاف:
    - أنا مريض..ألم تقولي ذلك؟! والمثل يقول: داوي نفسك بالتي هي الداءُ!!!

    حركت يديها المنكمشتين في الهواء بذعر وهي تنفي:
    - أنا لم أقصد..لم أقصد شيئاً، سامحني..
    - تأخرتِ كثيراً...

    ترى صورتها المنعكسة في عينيه، تهتز كذُبالة شموع الأمس، حين تمر عليها هبات النسيم، ويخفت الضوء شيئاً فشيئاً ولا يتبقى إلا الظلام، الظلام الأعمى فقط...

    لفت وجهها للجدار تماماً وأجهشت بالبكاء من جديد، تطلع لها بشفقة وهو يراقب اهتزازها...

    " أنا لا أملك الخيار، لا بد أن أمسح صورتك من ذهني، يجب...هذا هو الحل الأخير وبعدها ينتهي كل شئ!!!!"

    قالت من بين شهقاتها، بإستعطاف، بذلٍ مرير:
    - تريدني أن أبتعد عن أختك، سأفعل، فقط..أنا..أتوسل إليك..
    - أنتِ لا تفهمين شيئاً..لا تفهمين.

    وضرب بقبضته على الحائط بقوة، أجفلت و هوت عند قدميه وهي تنتفض...

    كان يريد أن يُطلق كل انفعالاته الهوجاء، يترك لها العنان، صرخ بقوة ليُغطي على الصوت الصغير بداخله، ذلك الذي لا يفتأ أن يحتج على كل شئ وهو يحاول إخراسه للأبد:
    - كفي عن البكااء!!

    تطلعت إليه من علو، عيناها الدامعتان تتوسلانه، ترجوانه بصمت، تطلبان منه الرحمة، الرحمة فقط....

    أدار وجهه ناحية الغرب، يلمُّ قبضته بتوتر..

    "لا فائدة..لا فائدة!!"

    نكست رأسها، دموعها تتساقط على قدميه بيأس بائسٍ مثلها...

    دموعها الحارة أيقظته من سرحانه، تطلع لها وآلاف المشاعر تتقاذف في صدره، لا يستطيع أن يحللها، عاجز عن فهمها تلك اللحظة...

    السكون بينهما قد خيم وكأنّ على رؤوسهم الطير، لازال يتأملها وهي مطرقة، لو كان بيدها لدفنت نفسها الآن في الأرض، أسفل سافلين!!!

    قالت له بصوتٍ خافت، كأنهُ قادم من بعيد:
    - أحمد..أحمد أخي..
    - ماذا به؟
    - من سيبقى له؟!
    - أنتِ..
    - كلا....

    وعادت لصراخها الهستيري و هي تهزُّ رأسها:
    - أنا حين أخرج من هنا لن أعود إلى هناك أبداً..أبداً..
    - ماذا تعنين؟! سألها بخوف.

    نظرت إلى الجانب الآخر وهي تضمُّ يديها بقوة إلى صدرها وفمها يتجعد من جديد:
    - أريدهُ أن يربى نظيفاً، لا أريده أن يعيش مع القذارة بعد اليوم...

    نظر لها بصدمة يحاول أن يستشف مغزى كلامها!!!

    صدرها يعلو ويهبط في حركات متتالية، نكست رأسها أكثر وهي ترتعش، تنتظر مصيرها، ومصيرها بيد جلادها!!

    تذكرت الدجاجة التي اصطادتها مع أخيها "أحمد" ذلك اليوم البعيد القريب كالأمس، وجاء اليوم فغدت هي تلك الدجاجة، تلتفت يميناً وشمالاً، تحاول أن تجد لها مفراً ولكن هيهات...

    رفعت رأسها لجلادها تلك اللحظة، أتُراه سيقضي على حياتها؟!!

    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    "باقي من الزمن ساعة، أليس كذلك؟!"

  4. #63

    تاااااااااااابع

    تحرك بعيداً، بعيداً بما يسمح لها أن تتنفس بحرية، دون وجود جزيئات أخرى تشاركها الغلاف الجوي....

    فتح الباب دون أن يلتفت، مرّ وقت طويل قبل أن يقول:
    - اخرجي بسرعة قبل أن أغير رأيي...

    وانصرف من غرفة الجلوس وهو يصفق الباب خلفة بقوة!!

    أما هي فقد تهاوت كلياً على الأرض، انزلقت ببطء تُريح أطرافها الممزقة، تستمدُّ منها الأمان، تحضن نفسها غير مصدقة نجاتها...

    تنفست ببطء وعيناها مغمضتان، تلهج بالحمد بلسانها مراراً وتكراراً...

    وكأنها ارتاعت من جلستها في هذا المكان المشؤوم، قفزت من مكانها وكأن أفعى لسعتها، وبالرغم من الثقل الذي برجلها إلا أنها انطلقت كالمجنونة وهي تلهث، تلتفت خلفها كل حين وكأنّ شبحاً يجري خلفها!!!!!!!!!

    ==============

    مريم يا دمعةً في الخد...سيري...
    برعاية الرب سيري....

    لم أشأ ولم تشأ حروفي....
    لكنها قسوة الأيام..قسوة الزمن الغادر...

    زمن حين لا أم ولا أب و لا أحد.....
    زمن حين تتراقص الفراشات حول فوهة البركان دون هُدى....

    آه، ما أقسى الزمن!!!

    أعلم أنّ اعتذاري لن يكفيك ولكن كلي أمل أن تسامحيني يوماً.....

    في السماء نجوم تهوي...
    وفي الأرض زهور تتفتح!!!!

    ولاندري ماذا يُخفي الليل في جلبابه...

    مداد حبري قارب على النفاد....
    وضلالات الحب كادت تصل....
    وللقصة بقية فانتظروها......

    كان ما شئناهُ وانتهينا....
    فهل أرحنا خافقاً وعينا؟!

  5. #64

    الفصل التاسع

    قدماها لازالتا تتراقصان من الخوف، تنفست بقوة وهي تستند بضعف على الباب، غطت وجهها بيدها اليسرى لعلها تُبعد صورته، لمسته، همسته التي لا تفتأ تدوي في أذنيها بطنين مجنون..

    أكملت وهي تجر نفسها لعلها تصل إلى غرفتها، توقفت هنيهة وغصة في الداخل تمزقها تمزيقاً، أحنت رأسها وهي تمسك بعنقها وتعود لتقبض على صدغها ورغبة بالغثيان تعتريها كل حين....

    رنت ضحكة ماجنة في الغرفة المقابلة، اعتدلت في وقفتها تصيغ السمع، كل ما تراه يبدو هلامياً، غير حقيقي، هل أنا أنا وهل نحنُ نحن؟!!

    "في أي عالمٍ نعيش..أخبروني؟!!"

    فتحت الباب دون أن تطرقه، كانت مستلقية وهي تعبث بخصلةٍ ناشزة من شعرها ويدها الأخرى ممسكة بالجوال..

    رفعت "ليلى" وجهها للقادمة وكأنها آتية من سفرٍ بعيد، تراتيل الرحيل أزفت، رسمت سطورها في حنايا الوجه النحيل، في العينين ذبول وعتاب، عتاب طويل بطول الليل، بطول أروقة العذاب ومتاهات الزمن....

    أخ ما أقسى الزمن.....

    أغلقت "ليلى" هاتفها، وهي تنظر بخوف وقلق لأختها، لازالت تنظر إليها بألم، أما تراه الآن دموع تهطل من عينيها السوداوين؟!!!

    اقتربت منها والأخيرة تصارع لتقف بإعتدال وقدميها تخوناها، لا تفتأ أن تنثني والرغبة بالتقيؤ تتزايد كألسنة اللهب، لتحرق كل شئ، كل شئ.....

    لمست "ليلى" كتفها فأجفلت، رفعت رأسها وهي تنظر لها بشزر، أبعدت يدها عنها وهي تصرخ بصوتٍ مبحوح عُيّل من كثرة الصراخ:
    - لا تلمسيني..

    رفعت "ليلى" حاجبيها دهشةً، أكملت ويدها تقبض على عنقها من جديد:
    - قذرة مثلك تصيبني بالنجاسة.
    !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!-

    ارتفع صدرها بقوة مرةً واحدة وتوقف، آلاف الكلمات تتصاعد في جوفها، لاتعرف ما تختار والأخيرة تنظر لها دون أن تستوعب شيئاً.

    - لم أتوقعك بهذه الحقارة أبداً، أيتها...أيتها ال...

    واحتقن وجهها من جديد، شدت حجابها بعنف وألقته، صدت لأختها التي كانت تتراجع إلى الوراء.....

    كان وجهها ممتقعاً هي الأخرى، قالت بإنكسار وأطياف الحزن تتجمع من جديد لتخدش ما بقى في الصورة من لمعان:
    - لماذا؟! لماذا؟! لماذا قولي لي...أجيبيني لماذا؟! أنتِ أنت يا بنت أمي أنتِ!!

    ولطمت وجهها لعلها تفيق من هذا الكابوس، لعلها كانت تحلم وكل ما حدث هو من وحي الخيال فقط، فقط يا ليت.

    بدأت حبات العقد تنفرط، تدحرجت إلى آخر بقعة، هناك في الزاوية....

    تطلعت "ليلى" حولها بعين زائغة وقلبٍ راجف...أتراها عرفت؟! كيف؟!!

    - ساقطة...ساقطة.. قال ساقطة...

    هزت رأسها وهي تردد بهمس ذاهل وتُحرك أصابعها النحيلة في الهواء، وضعتهم على فمها المرتعش وهي تكررها بهمس دون تصديق، نظرت "للساقطة" وكأن مرآها أفاقها من ذهولها، تغضن وجهها وهي تنظر لها بقرف:
    - كل شئ توقعته منكِ إلا هذا إلا هذا، لم لا تتكلمين ها؟! أم أن السفالة عقدت لسانك أيتها الفاسدة الحقيرة، أنت عار، كومة عار...
    ……………………-
    - منذُ متى أجيبي؟! منذُ متى؟! لم تحترمي حتى أبي في قبره، لا سامحكِ الله لا سامحكِ لا سامحكِ الله.

    ونشجت دون توقف كسيلٍ فوار ولكن في بركةٍ آسنة لا قرار لها...

    ……………………..-
    - ماذا فعلتِ بنا أنا وأحمد..سودتِ وجوهنا، ألم يكفنا "محمد" لتكملي أنتِ؟؟!

    الأظافر تخربش ذلك الجيد دون شعور، تسللت خطوط وردية بان سناها على صفحة الجلد الأبيض، تقدمت منها "ليلى" بوجل لتوقف عويلها، وما أن أمسكت يدها حتى أتحفتها بصفعة قوية على وجهها أودعت فيها تلك اللحظات، تلك الكلمات، ذلك الذل الذي عاشته بسببه وسببها..

    تردد صدى الصفعة في أرجاء الحجرة الخالية من عروشها، وضعت باطن كفها على خدها وهي منكسة رأسها وعضلة صغيرة أسفل فمها تنبض بوضوح....

    تطلعت "مريم" إلى يدها التي تهتز بتعجب وكأنها انتبهت أنها الصغرى وتلك أختها الكبرى، صدت لليلى، كانت تشهق بصوتٍ كتوم، لكن قلبها أقسى من أن يتأثر بدموعها..

    ماذا بعد ذلك؟! لاشئ يهم..لاشئ...

    - تبكين؟! الآن تبكين بعد فعلتك السوداء، مثلك لا يبكي، مثلكِ إن كان فيه ذرة دم، ذرة حياء باقية، يدفن نفسه..

    تصاعدت شهقاتها هذه المرة بقوة، بصوتٍ مسموع، لم تبالي بها، لو بيدها لقتلتها، لاقتلعت وجودها للأبد، ألم تكن قاب قوسين أو أدنى من الهلاك بسببها، كان سيدمرها وتضيع في زمن لا يرحم، في زمن يوصد بابه للأبرياء ويفتح ذراعيه للقذرين أمثال تلك ال...

    وعادت لها الذكرى المشؤومة، الصور لاتلبث أن تتراقص أمام عينيها، وطيفه الكريه يحيط بها، يُضيق الخناق عليها، لا تصدق أنهُ تركها، حياتها كانت ستنقلب على عقبيها، ستتدمر، كيف أحبته يوماً، ذلك الحقير..ّذلك القذر وهذه القذرة يناسبان بعضهما تماماً!!!!

    تطلعت لها بإشمئزاز وكأنها تقيم بعوضة، لا أكثر أو أقل....

    رفعت رأسها وهي تجهش بالبكاء، تنظر إليها بذنب، كتلميذة صغيرة تنتظر الرأفة بالحكم عليها، الرأفة فقط لا إلغاء القضاء..

    :- مريم" أنا...
    - اخرسي، لاتنطقي اسمي على لسانك القذر أبداً.
    - أسمعيني أرجوكِ.
    - أسمعُ ماذا؟ أسمع دناءتك؟
    - أنا كنتُ متزوجة و....

    وتوقفت "مريم" عن الحركة، جمدت في مكانها وقد أخرستها المفاجأة.

    - تزوجتِ؟!!
    - أجل من "أبو محمد".
    - تزوجته؟!! تساءلت بذهول.
    - أجل تزوجته..ع..عرفياً.
    - عرفياً؟! منذُ متى؟
    - منذُ...لا يهم.
    …………………-
    - مريم هو ......

    قاطعتها وكأنها تخاطب نفسها:
    - متزوجة وساقطة!! كيف!! ؟!

    انتحبت "ليلى" وهي تصرخ:
    - أرجوكِ لا تقوليها، لا تقوليها، أقبلها من الكل إلا منكِ.
    - ساقطة ساقطة ساقطة.

    كررتها وهي تصرخ بلارحمة، كانت تتقرح من الداخل، وخزات تنشبُ في صدرها، تدمي ذلك القلب الذي توسّد بين الضلوع...

    تهاوت "ليلى" وهي تضرب على ركبتيها، وقد فرشت لها من الأرض دثاراً تنوح عليه، تنوح على ما آلت إليه حياتها، في السر نحنُ أفضل بكثير، لكن الأيام لا تخبئ أحداً، لا تخبئ أحداً أبداً....

    - ماذا كان ينقصك حتى تسلكي هذا الطريق، أفهميني يا بنت أمي أفهميني؟!

    قالت قليلاً وبكت كثيراً، تصمت لتمسح وجهها الذي أغرقه الدموع، وتلك الواقفة تسمع ولا تسمع....

    الوحدة، الفقر، والحب..ثلاثي البؤس!!!

    كانت تردد اسم "ٍسلمان" بذهول السكران، وكأنهُ السبب في كل ما حدث!! وتلك تحدجها بنظرات تتماوج بين الرثاء والكره!! والأخيرة تتمسح بأقدامها تطلب منها أن تفهمها، أن تقدر أسبابها، و"مريم" جامدة كصخرة..

    لا تنحتي، ما عاد يُجدي النحت....

    - كل هذا لا يشفع لكِ أبداً، أبداً، أتعرفين لماذا؟؟

    نشجت "ليلى" من جديد وهي تتكور على نفسها.

    - أسأليني لماذا؟! صرخت بحشرجة.
    ……………………-
    - لأنكِ ساقطة منذُ الأساس...

    وارتفع صوت صياحها ليقطع سكون الفضاء، تأملتها "مريم" لدقائق ثم سحبت حقيبتها المُلقاة، ودثارها وشرعت لتخرج، انتهبت "ليلى" لحركتها، رفعت رأسها بذل وبعينين ذاويتين سألت:
    - أين ستذهبين؟
    - إلى جهنم، في أي مكان لا يحوي القذرين مثلك.

    وصفقت الباب خلفها، ارتمت وجسدها يهتز بعنف، يرتج مع شهقاتها التي تلجم أنفاسها....

    الليل طويل، وقد مدّ دثاره ليغطي على الجميع، ليُغلف خفايا الأنفس، يحجبها عن الآخرين، يحجب سوءاتهم، ولكن الأيام تأبى ذلك، لأنها ببساطة ترفض أن تخبئ أحداً، وقد حان الوقت لإقصاء كل شئ، كل شئ ما عدا الحقيقة!!!!!

  6. #65

    تابع

    يمشي ببطء ويتوقف ليمسك سياج المزرعة بقوة لكأنهُ يودّ تحطيمه، أبعد ذراعيه وضمهما إلى صدره، ذهنه شارد بالراحلة منذُ قليل، حين تركها توارى في المزرعة، راقبها وهي تتلفت خلفها برعب كل حين، أدمتهُ تلك الحركة، وحين سقطت على الأرض هوى قلبه إلى الأعماق، كاد أن يهرع لها لينهضها لكنهُ أمسك نفسه..

    بقت على هذه الحالة لفترة طويلة خالها دهراً، كانت تلم نفسها بعجز وهي تغطي وجهها بكفيها وتبكي...

    ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟!

    نهضت، ارتحلت مع جُنة الليل، تلاشى خيالها النحيل بين عينيه، بدا كنقطة بعيدة تنبضُ من بعيد....

    نظر إلى السماء وهو يتنهد....

    كانت قريبة منك يا "خالد" قريبة إلى حد الجنون!! أمسكتها بيديك هاتين، كادت تتحطم عظامها الرقيقة بقبضتك، شممت رائحة شعرها، شعرها كان النقطة القاضية، كاد يقصمك، وتضيع هي إلى الأبد، إلى الأبد..

    ماذا كنت ستفعل يا "خالد"، ماذا كنت ستفعل؟!

    تأمل يديه، لازال يشعر بجسدها بين راحتيه، كانت ترتجف وهي تحاول أن تتملص منك، بكت وتوسلت لكن ذلك لم يزدك إلا إصراراً، نشوة الصياد في أن يرى فريسته تتعذب أمام عينيه...

    لم تركتها إذن؟! أجب نفسك بصدق....

    ربما لأنها ذكرت اسم أخيها "أحمد"، لا تنكر أنك تحبه، أليس يحمل من روحها الشئ الكثير، يحمل براءتها وشقاوتها، في عينيه الصغيرتين تتجسد صورتها، صورتها التي باتت لا تفارق مخيلتك يا "خالد" كيف ستنتزعها الآن، كيف؟!!

    كلا كلا ليس هذا فقط، بل لأنها قالت شيئاً آخر، قالت أنها لن تعود، يا تُرى ماذا كانت تقصد؟! لم أفهمها تلك اللحظة، لكنني شعرت بخوفٍ فظيع، خفتُ أن أفقدها، خفت أن تضيع، وأنت ماذا كنت ستفعل بها غير ذلك؟!

    كل هذا بسببك يا "فيصل" أنت ومفاتيحك اللعينة، أنت من أدخلت أفكارك القذرة في ذهني، جعلتني أخالها لقمة سائغة مثل أختها ربما..

    ولكن هل يرقى الثرى مع الثُريا؟!!

    لا أبداً....

    يا تُرى ماذا تفعل الآن..كيف هي حالتها؟!!

    عاد ليتأمل يديه من جديد، ضمها إلى صدره بقوة وصورتها تتجمع بين عينيه من جديد....

    أأنت نادم يا "خالد" على ما فعلتهُ بها؟!
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .
    .

    لم أسمع، فقد همس للنجوم بالإجابة!! وأين نحنُ وأين النجوم....

    ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه ودلف للبيت، مرّ على غرفة الجلوس، توقف أمام الباب برهة لكأنه خشى أن يفتحه فيلوح له طيفها الذي عذبه، حينها لن يتركها أبداً، لن يتركها!!!!

    أكمل طريقه لغرفته لعله يجد في عينيه طريقاً إلى النوم...

    ماذا كنت ستفعل يا "خالد" ماذا كنت ستفعل؟!!

    =============
    قلوبٌ تتلوى، والعين تأبى أن يفارقها السُهاد.....
    بين الضلوع أُمنية وفي المحجرين دمعة....
    آهات متقطعة، متكسرة، تجتاح أروقة أبطالنا...
    تنثر الشوك والورود في كل مكان....
    مريم..خالد...ليلى... والبقية تأتي.....

    يا ربُّ أنت الراحم الغفورُ
    وما جرى في جبعتي محفورُ
    كان الفراقُ عاصفاً وخافقي
    مولاي في عصف النوى عصفورُ
    فاجعل جميل الصبر لي مرافقاً
    كي لا يضل خطوتي النفورُ

  7. #66

    الفصل العاشر

    - أرجوك ابتعد عني، اتركني، أتوسل إليك، لالالالالالالالالالالالالا.

    فزت من رقادها، وعرقٌ يتصفد بجبينها، كانت تتنفس بسرعة، وجهها مبلل، ودموعٌ مالحة تجد سبيلاً إلى فمها المرتعش..

    أخذت تنتفض، وحرارة مشبوبة تلفُ جسدها، ضمت ركبتيها إلى صدرها وهي تأن بصوت متقطع...

    نامت البارحة على الأرض، في حجرة والدها التي أحتلها "أحمد"، والأخير لازال في سباتٍ عميق، لم يسمع أناتها، دموعها، شهقاتها التي لم تتوقف طيلة المساء...

    غرزت أصابعها في ثنايا شعرها بقوة، لعلها توقف الطبول المجنونة التي لا تلبث أن تدق رأسها......

    صداع، صداع قوي يطفحُ بخلاياها، لا يترك لها المجال لتلتقط أنفاسها، يدوي كل حين....

    انسابت الدموع برقة على جيدها، أثارت ملوحتها تلك الجروح التي خدشت بها نفسها، مسحتها بيدها، رفعت رأسها لأعلى قليلاً، تطالع المكان بعينيها المتقرحتين....

    لاحت لها صورته بين غلالة دموعها، يتهادى في وقفته بوجهه الأسمر، أغمضت عينيها بقوة لعلها تجعل من جفنيها ستاراً يحجب صورته، عادت لتفحتهما ببطء وتردد، كان قد اختفى لحظتها.....

    ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟!

    ارتكزت بكفيها على الأرض، تحاول أن تدفع نفسها لعلها تنهض، ترنحت في وقفتها، أحست بطيفه يضمها، يمسكها من كتفيها بقوة ويعود ليهمس في أذنيها بتلك الكلمات....

    ارتاعت وهي تنكمش، ارتمت على حافة السرير وهي تحمي نفسها من سطوته بإرتجاف....

    لكن لا أحد، كانت تتخيل من جديد، ضمت نفسها، وصدرها يعلو ويهبط بفزع كلما تذكرت تلك الليلة التي غاب عنها القمر....

    لفّت لأحمد وعيناها مغرورقتان بالدموع....

    يداه الصغيرتان توسدتا رأسه، بدا في نومه كالملائكة، دثرته جيداً بما أستطاعت به قوتها المعطلة....

    انتبهت لصوت هاتفها الجوال، وهو يُصدر نغمة الرسائل، فتحت حقيبتها وانتشلته...

    10 رسائل!!! وكلها من من؟!!

    من "أمل"!!!!

  8. #67

    تابع

    "مريم، أعتذر لكِ لن أكون موجودة هذا المساء، أتذكرين المفاجأة التي أخبرتك عنها، عن راشد!! تصوري سيقترن بابنة عمي بدلاً من "خالد"، كم أنا سعيدة، باي، وأكرر اعتذاري".

    "مريووووم، هل أنتِ غاضبة، ردي عليّ برسالة".

    "لا تقلقي سنعود غداً إلى البيت، سأنتظرك مساء الغد"..

    ألقت "مريم" هاتفها دون أن تكمل قراءة بقية الرسائل...

    أعود!! تريدني أن أعود بعد كل ما حدث؟! كنتُ سأضيع بسببك..لمَ لم تخبريني من قبل لم؟!!

    وعادت لتنتحب من جديد بصمت، تقلب "أحمد" في فراشه، فقامت بهدوء....

    توجهت إلى الحمام، والدوار يرنحها كل حين....

    "إذا كنتُ سأعيش فمن أجلك يا "أحمد"، أما أنت يا "خالد" فلن أسامحك أبداً، أبداً"

    وسالت دمعة جديدة على الوجه المتعب، هزت رأسها بقوة لتغتسل من الأدران، أدران الحياة كلها، لعل حرارتها تخفت وتخفت النار التي تلسع صدرها.....

    ===============

    كانت قابعة على مائدة الإفطار، تكونت طبقة متماهية على الشاي، أصبح بارداً لا طعم له كحياتها ربما....

    ترفع رأسها لأدنى حركة، لأقل نسمة تجولُ المكان، صوبت ناظريها إلى غرفة والدها، تنتظر أن تخرج...

    تُريد أن تراها، لم تنم البارحة أبداً، سمعت صرير الباب، أطلت "مريم" بعينيها الحمراوتين، رمقتها من علو، ثم جرّت يد "أحمد" الذي كان يكابد النوم.

    "لم تُلقي حتى التحية!!"

    ترك "أحمد" يدها ليتناول الطعام مع أخته، صرخت فيه بقوة أخافته:
    - لا تلمس شيئاً، سأصنع لك فطوراً آخر، لا تدري أي يدٍ قذرة صنعته!!

    تطلع لها "أحمد" بتساؤل دون أن يفهم شيئاً، أما "ليلى" فنكست رأسها ودموع تأبى التوقف تملأ وجهها، أرادت "مريم" أن تضيف شيئاً آخر لكنها أمتنعت، نظرت لها ببرود واستحقار ودلفت إلى المطبخ..

    وما أن وصلت إلى الباب حتى أغلقته خلفها وأجهشت بالبكاء، تهاوت كما تتهاوى الورقة قُبيل الخريف، وتظل الرياح تعبث بها لكأنها لا تدري في أي بقعة تُلقيها، وتدور وتدور في كل مكان، وحين تقع، تتفتت، تتفتت هكذا إلى ذرات، فلا تعرف من أي شئٍ تكونت أو ما هي ما هيتها بالضبط، أكانت ورقة أم ذرات غبار!!!!

    لم تدري كم بقت على هذه الحالة، قامت عندما سمعت صوت "أحمد" يناديها، مسحت وجهها بسرعة، واتجهت للموقد، خاطبها "أحمد" من خلف:
    "- مريوووم" أنا جائع...تأخرت عن المدرسة.
    - انتظر دقائق.
    - ليلى ذهبت وهي تبكي..
    - أحسن.
    - لماذا كانت تبكي؟!
    - اسألها.. " إذا كانت تقدر أن تُجيبك".
    - طيب سآكل شطيرة من تلك التي أعدتها.
    - قلتُ لك لا... "كل ما تمسكه بيديها يتلوث!!".
    - لماذا؟!
    - لا تكثر من الأسئلة.

    وأخذت تسكب الشاي الساخن في "الدلة" وهي تحاول أن تركز.
    - لماذا؟!

    طالعته بغضب وهي تصرُّ على أسنانها بغيظ:
    - أصمت.
    - دائماً تصرخون علي. قالها بتباكٍ.

    …………………-
    - أنا لا أحبكم لا أحبكم.
    …………………..-
    - لو كان والدي هنا لما...

    ولم يكمل، فقد ندت من فمها صرخة ....

    كانت مياه الشاي قد انسكبت على يدها دون رحمة، اتحدت مع الجلد، عضت على شفتيها وهي تتلوى على الأرض التي فاض منها الدخان.....

    دفنت جبهتها بأرضية المطبخ، اقترب منها "أحمد" بخوف وبكاءه يرتفع، هزّ كتفيها لكنها لم تستجب:
    "- مريووم" قومي..آنا آسف.
    …………………-
    - لن أتكلم مرة أخرى والكعبة الشريفة.
    …………………-
    - لالا، والله العظيم....مريوووم....لا تموتي...مريووووووم.

    وركض كالمجنون إلى "ليلى" تسبقه دموعه وإحساس بالذنب يعتصر روحه، لا يريد أن يفقدها، لا يريد، يكفي أمه، يكفي أبوه، إلا هي، كلهم إلا هي..إلا هي..إلا هي...

    - ل..ي..ل..ى، مريووم..مريووم.

    أنفاسه تتقطع وغصة تمنع حروفه من الخروج بوضوح، شدّ ثوب "ليلى" التي كانت ذاهلة، غائبة في عالم آخر.
    - ق..ومي، مريوم..مريوم..ستموووت.

    أفاقت "ليلى" من استغراقها اللامرئي.."ستموت"، تطلعت إليه وكأنها انتبهت إلى وجوده هنا للمرة الأولى.
    - ها، ماذا تقول؟!
    - قومييييييي.

    شدها وهي تسير خلفه كالمسحورة حيثُ المطبخ...

    لازال رأسها يلامس الأرض، وقد انتثر شعرها ليخفي معالم وجهها، كانت ساكنة ما خلا من حركة تنفسها الضعيفة....

    - ماتت...ماتت. ردد "أحمد" بذهول وهو ينقل بصره بينها وبين "ليلى".

    لم تحر "ليلى" جواباً، لازالت فاقدة الحس بكل ما حولها، لكأنها في حالة تأمل صوفية لكل شئ إلا هي!! تطلع لها بفزع لكأن صمتها يؤكد ما كان يردده.

    ارتجف فكه بقوة، اقترب من "مريم" جثا بجانبها، لازالت ساكنة في وضعيتها.

    - قومي..مريوم.
    …………………-
    - لالالالالالالا. صرخ بهستيرية.

    تعفر على الأرض، ركل بقدميه كل شئ ولا شئ، أخذ يضرب الهواء بيديه وهو ينشج بإختناق......

    انتبهت "ليلى" لما يدور حولها، فزت من وقفتها وهي تهرع لأخيها الذي يبدو وكأنّ مسّاً أصابه...

    في تلك اللحظة رفعت "مريم" رأسها بضعف وقد أبيضّ وجهها من الألم، بدت عيناها صغيرتان، صغيرتان جداً..

    تطلعت "ليلى" إلى حيث تعتصر يدها اليمنى وقد طفح الإحمرار بجلدها، تلاقت عيناهما، أشاحت "مريم" ودوار ساخن يعصف بها...

    أستلقت ببطء على الأرض من جديد، لكأنّ أرضيته تخدرها، تحسسها بالأمان، ودت أن تغفو، منذُ زمن لم يداعب النوم جفنيها، وهي متعبة، متعبة وتريد أن تنام، أن تنام فقط.....

    لكنّ صراخ "أحمد" أفسد عليها هذا الحلم..ومنذُ متى تتحقق الأحلام؟!!

    نادتهُ بصوتٍ ضعيف، تكابد الألم، تكابد الحريق الذي بيدها وتلك المستعرّة بقلبها...

    - أ..حمد.

    لم يكن يسمع، صوتها أضعف من أن يصل إليه في هذه المعمعة، عادت لتغفو من جديد، جفناها ثقيلان، يتكاسلان حين تهم بفتحهما..

    جثت "ليلى" بجانبها بوجل، وهي تشير لأحمد بأن يصمت، سكت وهو يرى تحرك رأس أخته لكأنها تجاهد النهوض..

    "لم تمت!!".

    - أحمد أسرع وأحضر ضمادة لف ومرهم الحروق بسرعة..هيا.

    ركض "أحمد" وكأن الحياة عادت إليه من جديد وقد أقسم مع نفسه ألا يُغضب أخته مرة أخرى، سيطيعها ولن يرفض لها أمراً قط، كلهم إلا هي، إلا هي!!!

    عاد بكل شئ، ترددت "ليلى" بإمساك يدها، قالت "لا تلمسيني..يدي قذرة وأنا أصيبها بالنجاسة!!!".

    ارتجفت يدها حتى قبل أن تمسكها، كانت الأخيرة تهذي بصوتٍ خافت، لم تكن تحس بشئ من حولها في تلك اللحظة، ما خلا اسماً لا يفتأ أن يلهج به لسانها كل حين....

    وكان خالداً!!!!!

  9. #68

    تابع

    البيت هادئ هدوء الأموات، ذهب الأحباب من غير عودة، ذهب والدي و فرّت "ليلى" !!!!

    أجل، لا تنظروا لي بغرابة، ارتحلت مع جنة الليل، إلى أين؟! لا تسألوني لأني لا أعلم...

    تركت رسالة صغيرة بجانب المرآة كتبت فيها:
    "لن أعود، لا تبحثوا عني!!".

    ذهبت هي الأخرى، ذهبت مع الريح!!!

    كان هذا منذُ شهر تقريباً على مرور الحادثة....

    لم يتبق إلا أنا و صغيري ومحمد، الذي يعتقد أن بيتنا فندق يأوي إليه متى يشاء دون أن يدرك بأننا بحاجة لرجل يحمينا...

    أنام الآن مع "أحمد"، نغلق الأبواب والنوافذ حين يحل الغروب، نلتصق، ونرتجف عند أقل نسمة تدقُّ بابنا..

    أن تعيش لوحدك عذاب، الوحدة كريهة، قاتلة، تُصيبك بالجنون، لا تجد من يخاطبك، يفهمك أو يسمعك، بإختصار أنا تائهة، تائهة في حنايا الزمن المر....

    أُرسل "أحمد" إلى المدرسة في الصباح الباكر، وأبقى لوحدي في البيت، أصادف "محمد" أحياناً، بات نحيلاً وقد دكن لونه، عيناه تأفلان بسرعة، كجحوظ الشمس في لحظة الغروب....

    لم يتبق شئ في البيت إلا أخذه ليشتري لنفسه سماً...

    الشئ الوحيد الذي قاتلت من أجله هو تلفاز غرفة الجلوس التي بتُ أقضي فيها جلّ وقتي، خفت أن يسرقه فلا يتبق لي غير الجدران أخاطبها!!!!

    اعتزلت الآخرين وهم أعتزلوني، أصبحنا كالعيب، الكل يخجل منا، لم تعد تؤثر فيّ نظراتهم أو كلماتهم التي يلقونها بقصد أو دون قصد...

    كل همي هو "أحمد"، أجل "أحمد" أخاف أن يجرحه أحدهم بكلمة، وأنا لا أحتمل نظرة ألم في عينيه، تقتلني، تصيرني إلى هشيم..

    الأيام تمضي بطيئة، مملة تُكرر نفسها، لم أعتد على سيمفونيتها بعد، اشتقتُ للجامعة، لكتبي، لبحوثي على الأقل كنتُ أسلي نفسي بها....

    أما صديقاتي..هه صديقات؟!! كلهن تلاشين، لم يعد أحد يتصل بي منهن الآن، كلهن كذابات، غشاشات، زائفات كفقاعات الصابون..

    صديقي الوحيد هو كتابي، ما أوفاه!!! لازلت أُعيد قراءة رواية "بداية ونهاية"، نهايتها تعجبني وتخنقني!!! ما أروعك يا محفوظ.....

    أرقب الآن عودة "أحمد" بفارغ الصبر، ليحدثني عن مدرسته، لأساعده في حل واجباته، لأفعل له أي شئ، أي شئ قبل أن يصيبني الجنون...

    قد تتساءلون كيف نعيش دون مورد مالي!!

    الفضل كلّه لله الذي لا ينسى عباده ثم لجارتنا "أم محمود" التي لا تفتأ تُحضر لنا ما نحتاجه كما لو كنا...كنا فقراء!!!!!

    تطلعت إلى يدها التي ترك الحرق أثراً بسيطاً عليها وهمست:
    "رحمك الله يا والدي، تركتنا للفقر والذل ومنِّ الناس".......

    =================
    -
    قلتُ لكِ لا..
    - ما ذنبها إن كان أخوتها هكذا، هي شئ آخر..
    - التفاحة الفاسدة تُفسد ما في الصندوق..
    - هذا حكمٌ جائر، الإنسان يُقاس بأفعاله، لا بأفعال الآخرين.

    صمت "خالد" ولم ينبس ببنت شفه، لمست كتفه وهي تنظر له بتوسل:
    - أرجوك يا "خالد"، لقد تركت الجامعة، لم أعد أراها، لم تتوانى قط عن مساعدتي يوماً، والآن أخذلها؟!!
    - تركت الجامعة!! منذُ متى؟!

    ردت بإنفعال وكأنها وجدت بصيص أمل:
    - منذُ..منذُ، تذكر ليلة خطبنا "فرح"، كان ذلك آخر عهدها بالجامعة.

    أخرج علبة السجائر من جيب بنطاله، أشعل واحدةً وهو شارد الذهن..
    - ها ماذا قلت؟!
    - هي نصف ساعة فقط لتزوريها وتعودي فوراً.

    ودون حتى أن تسمع نهاية عبارته، هرعت تخطف عباءتها وحجابها، وأنطلقت مع السائق إلى هناك.

  10. #69

    تاااااااااااااابع

    - لا تذهب، لاتذهب، لاتتركني لوحدي.
    - ماذا تريدين أن أفعل؟

    قالها بملل وهو يحك ما بين أنفه.
    - أبقى معي، لا أحد هنا وأنا أخاف.
    - آسف، لدي موعد مع أصدقاء.
    - أنا أختك، أختك، حرااام...

    وانتحبت بمرارة وهي تُمسك بتلابيب قميصه لتمنعه من الخروج، أبعد يديها بعنف وهو يشرع بإكمال طريقه.
    "- محمد"، لاتذهب، سأعطيك ما تُريد فقط أبقى معي، أبقى معي...

    وتوقف وقد انتقلت الحكة إلى صدره، نظر لها بلؤم وهو يسأل:
    - ماذا ستعطيني؟

    وكأنها وجدت في سؤاله بصيص أمل، بلعت ريقها بإزدراد وهي تردف:
    - لدي 30 درهم، هذا ما تبقى عندي. قالتها بإستعطاف.
    - أجلبيهم.
    - حسناً..حسناً. انتظرني لثوانٍ فقط، لا تذهب.

    وجرت لغرفتها بسرعة وهي تتلفت خلفها كي لا يغيب عن مرمى عينيها، فتشت درج خزانتها بجنون، عادت إليه وهي تمسك الأوراق النقدية.

    تناولها وهو يعدها، حك أنفه من جديد، ووضع الأوراق في جيبه، تأملها لثوانٍ، أشار لعنقها وهو يردف:
    - أعطني هذه أيضاً.

    نظرت إلى حيثُ أشار، قبضت على قلادتها الفضية بيأس ويدها ترتجف:
    - لا إلا هذه، إنها هدية من أمي، من أمنا في عيد ميلادي. قالت بإستعطاف.
    - أعطنيها وإلا خرجت.

    فتحت فمها لتقول شيئاً ما لكنها أحجمت، تأملت قلادتها، كانت على هيئة قلب صغير، في داخله آية "الكرسي"، تطلعت لأخيها وهي تهز رأسها بتوسل، بإستعطاف، بذل لكن أنى للصخر أن يتحرك!!!

    مدت يديها خلف شعرها، فكت عقدة القلادة، وكأنها تفك خيوط حياتها، جذورها، حيثُ نفحة الغالية، حيثُ ذكرى والدتها في عيد ميلادها السادس عشر، في آخر عام كانت معهم فيه....

    اهتزت يدها، لكأنها تستنكر هذا الفعل المشين، انساب العقد بين أصابعها، فتحت القلب، واستخرجت الآية المقدسة، ضمتها بيدها اليمنى، وناولتهُ قلادتها بيدها الأخرى التي لا تكف عن الاهتزاز......

    توسلته بعينيها الدامعتين للمرة الأخيرة، وضعها في جيبه هي الأخرى دون أن يبالي بحديث عينيها....

    وسار!!!!!!!!

    فتحت عينيها على أشدهما، وهي تعض على شفتها اليسرى، أفلتتها و صرخت بقهر، بألم، بلوعة و بأعلى صوتها:
    - محمدددددددددددددد..

    لكنهُ كان قد ارتحل، تركها وهي تتأوه، تنشج على الأرض كنشيج الميازيب في مواسم المطر.....

    خذلها، أخوها خذلها، من سيبقى لها الآن؟!!

    لا يوجد أحد، لا أحد...

    نظرت إلى السقف وشهقاتها تتصاعد، ويدها تعبث حيثُ انتُشلت القلادة، ودت أن تخترقه، أن تصل إلى فوق، إلى أبعد نقطة، لعلها تلحق بأمها وأبيها، حيثُ الكرامة، حيثُ لا ذل، حيثُ الأحد!!!!

    عادت لتتلمس جيدها الذي بات خالياً، وخزات متلاحقة تصيبها في الأعماق كسهام عمياء، نكست رأسها تبكي على حالها بصمت كما أعتادت دوماً....

    تناهى إلى مسمعها دق الباب، أرتاعت في جلستها وهي تلتفت حولها بذعر، الدقات ترتفع وهي تتراجع إلى الوراء بخوف، كانت تريد أن تعدو لغرفتها وتوصدها عليها بالمفتاح لكن الخوف شل من حركتها، لم يسمح لها بما تُريد...

    من القادم الآن في عزّ الظهيرة؟!

    انفتح الباب، وولجت إلى الداخل بتردد.....

    تطلعت إلى الوالجة بذهول، ترمقها بتعجب، لكأنها آخر شخص تتوقع أن تراه...

    اقتربت منها "أمل"، ارتمت في حضنها وهي واقفة دون استجابة، تأملت حنايا وجهها الوله، يسبقها الشوق، يرفُل بأعذب آيات المحبة.....

    لحظة هذه أخته، أختُ ذلك القاسي، ذلك المجرم، ذلك ال.....

    أخفضت من بصرها، عينيها باتتا أصغر حجماً من كثرة النياح، بدت لها رفيقتها ضبابية.....

    - لماذا جأتِ الآن؟! قالت وكأنها تخاطب شخصاً من بعيد.
    - مريم أنا...
    - أنتِ السبب، أنتِ السبب...

    لفت وجهها إلى الجانب الآخر، لم تفهم "أمل" شيئاً، وكيف لها أن تفهم؟! مستحيل أن يتفوه ذلك الحقير بشئ..

    صدت لها، تنظر إليها بعينين غشتهما دموع أزلية:
    - جأتِ لتشمتي بي..لتخبري الفتيات بحالتي، أليس كذلك؟
    - مريم ماذا تقولين؟!
    - قولي للجميع أني بخير، بأفضل حال من دونهم.
    - أنا جأتُ من أجلك، لأنكِ صديقتي، أروع صديقة أكتسبتها في حياتي.
    ………………………-
    - وإن كنتُ قد تأخرت لزيارتك فلظروف..ظروف خاصة.
    - لا يريدونك أن تزوري واحدة مثلي، أخوها مدمن مخدرات وأختها.....

    لم تكمل، خنقتها الغصة، ألجمت كلماتها، أجهشت بالبكاء، دموعها باتت رفيقتها اللجوجة، لاتفتأ أن تصاحبها كل حين...

    - أنا أمقتكم جميعاً، أخرجوا جميعاً ومن حياتي إلى الأبد..
    - مريم أرجوكِ....
    - انسي أنكِ تعرفين واحدة بهذا الإسم، انسها ووفري عليّ وعلى نفسك المشقة.
    - هذا غير ممكن، غير ممكن البتة، لا ترمي بصداقتنا عرض الحائط.

    "صداقتنا ماتت بسببه، ألستِ أخته، ألستِ تشبهينه، دماءه تسري في جسدك، كلكم متشابهون، كلكم".

    أبعدتها عنها وهي توقف سيل دموعها:
    - لا تعودي إلى هنا مرةً أخرى، وبلغيهم أنّ مريم لن تذل نفسها لأحد بعد اليوم، أبداً، أبداً...

    هزت "أمل" رأسها بأسى، دارت لتواري دمعةً تسللت في الخفاء وتراجعت خطوة....

    مدت "مريم" لها يدها بجزع، لكنها انتبهت لنفسها ولمت ذراعها.

    - انتبهي لنفسك، وتأكدي إن أحتجتِ يوماً لأحد، فأنا موجودة دوماً....

    وشرعت بالتحرك، ستذهب هي أيضاً، كلهم يذهبون و..يتركوني!!!

    "- أمل" انتظري...

    وهرعت إليها لتحتضنها بقوة، لعلها تمدها بالأمان، بالدفئ والحنان في أيام تبدو قاسية جداً....

    بكت كلتاهما على كل شئ ولا شئ، على الأيام، على الفراق، على الزمن...

    أخ ما أقسى الزمن!!!!

    - سلمي لي على سلمى ومنى وك...وكل البنات.
    - إن شاء الله.
    - وكلما أنهيتي كتاباً أحضريه لي لأسلي به نفسي، وإذا لم تستطيعي القدوم أبعثيه مع السائق.
    - ألن تعودي إلى الجامعة؟!
    - لاأقدر، لا أقدر، ليس بمقدوري، لاأدري، لا أدري..ليس الآن.
    - لاتبكي يا عزيزتي، كوني قوية كما عهدتك.
    - سأحاول..أتمنى ذلك. رددت بيأس.

    وما نيلُ المطالب بالتمني
    ولكن تؤخذُ الدنيا غلابا......

    - مع السلامة.
    - ستذهبين الآن؟! سألت بألم.

    هزت رأسها بإيجاب وهي تؤكد:
    - لا تقلقي سأزورك بين الحين والآخر.
    ………………………….-
    - مريم لن أنساكِ أبداً..أبداً.

    حضنتها من جديد وهي لاتود إفلاتها، نزعت نفسها غصباً وهي تودعها:
    - هيا أذهبي، لقد تأخرتِ عن العودة.
    - أعتبر نفسي مطرودة.
    - نعم. ابتسمت مريم ابتسامة باهتة.
    - مع السلامة.
    - مع السلامة.

    انصرفت وروحها متعلقة بالواقفة هناك، لحقتها مريم حتى الباب، تحركت السيارة، تابعتها ورأسها يشرأب كل حين..

    توارت مع غبار السيارة، التحمت مع حافة الباب، أغمضت عينيها وهي تشهق، عضت على نواجذها وهي تأخذ شهيقاً بطيئاً...

    لابد أن تمسح دموعها، فبعد قليل سيصل "أحمد" وهي لا تريده أن يرى دموعها، لا تريد أن تزيد من آلامه، يكفيها سؤاله الدائم عن "ليلى".....

    "ليلى، يا ترى أين أنتِ أين؟!"...

    وكأنها ارتاعت من وقفتها بالخارج، فدخلت وأغلقت الباب خلفها تنتظر دقات القادم بعد قليل...

  11. #70

    تابع

    كان ينتظرها بفارغ الصبر، قتلهُ الانتظار، وعصفت به خواطره، أفكاره وظنونه كأمواج البحر، تطفو حيناً وتغزر حيناً آخر، لا قرار لها....

    لاحت سيارة العائلة السوداء، تنحى عن الباب وهو يوسع الخطى إلى هناك، فتح باب السيارة قبل أن تفتحه، عاجلها بالسؤال:
    - ها كيف حالها؟! سأل بلهفة.

    لم تجبه فوراً، ترجلت من مقعدها، وجهها يرفُل بآيات الحزن، العينان منطفئتان والوجه ساهم وقد علقت بقايا دموع في حناياه.

    - كيف حالها؟! كرر بدون صبر.
    - بخير. ردت بإختناق.

    تنهد بإرتياح وإن كان صوتها لم يرحه، تطلع لها بتساؤل وهو يرى الدموع تنساب من المحجرين، أمسك يدها بقوة وهو يقول:
    - أنتِ تخفين شيئاً، قولي ماذا بها؟! أجيبي...
    - إنها..إنها...
    - إنها ماذا؟! أجيبي.. سأل بخوف.
    - لا أدري، لا أدري.

    وأجهشت بالبكاء، أدخلها للداخل، وقلبه يدق بقوة كطبول مجنونة، أجلسها على الكرسي لتهدأ، أخذ نفساً عميقاً وهو يكمل سيل أسئلته:
    - ماذا تقصدين بكلامك، أفصحي..
    - لو رأيت حالتها، كيف تعيش، لاشئ في البيت، البيت خالي إلا من الجدران، أتصدق كانت لوحدها، لوحدها في البيت.

    شهقت وقد منعتها الغصة من أن تكمل، أما هو فتقطع قطعاً صغيرة، انقبضت عروقه وبدا كل شئ ضبابياً بالنسبة إليه..

    - كيف لوحدها؟! وأخوها!!
    - حين وصلت هناك، كان قد خرج، خرج ذلك المجرم وتركها لوحدها..

    "مجرم!! ليس هو فقط، لو تدرين ماذا فعلتُ بها!!".

    أطرق برهة، ومئات الخواطر تتقاذف بذهنه، تعتصره عصراً، تقذف به إلى القاع، أكون أو لا أكون..تلك هي المشكلة!!!

    تطلع لأخته، لازالت تبكي، أحس بالشفقة لها ولنفسه ولتلك القابعة ليس ببعيدٍ عن هنا....

    جفل من نغمة هاتفه، قطع عليه تأملاته السرمدية ورثاءه لنفسه...

    نظر للرقم الذي يتوسط الشاشة، كان غريباً، ضغط الزر وأنساب الصوت:
    - آلو.
    - السلام عليكم.
    - وعليكم السلام.
    - السيد خالد ال...؟!
    - نعم.
    - معاك مستشفى (....) قسم الحوادث.
    …………………..-
    - أنت معي؟!
    - ن..عم. ردّ بتقطع وقد جفّ حلقه.
    "- فيصل ال..." سعودي الجنسية، تعرفه؟!
    - أجل. هوى قلبه للأعماق.
    - لقد أصيب بحادث سيارة، أرجو أن تحضر فوراً.

    أغلق السماعة، لم يسمع كل ما قاله الرجل، بدأت الدنيا تدور وتدور كداومة مجنونة، والصفعات لا تتوقف، أينما استدرت انهالت عليك، وتستمر الدوامة في الدوران...

    ===============

    الساعة الآن الواحدة والنصف، و "أحمد" لم يعد بعد، دارت حول الصالة بتوتر، تتطلع إلى الساعة كل حين وتهرع إلى الباب حين تسمع بوق سيارة، أو خطوات إنسان أو حتى دبيب نملة!!!

    الساعة قاربت الثانية، أين هو يا ترى؟!

    ارتعدت فرائصها..أحدث له مكروه؟!!

    شعرت بالجزع، وضعت أصابعها بين شفتيها المرتجفتين، ماذا تفعل الآن..أجيبوني؟!

    أبوها ليس هنا...."ليلى" ليست هنا...."محمد" ليس هنا...لا أحد هنا، فقط هي وهذه الجدران التي تخاطبها بجنون...

    من سيساعدها، من سيبحث عن "أحمد"...لا أحد، أقول لكم لا أحد...

    لا بل يوجد أحد.

    يوجد الله ثم .......

    هرعت إلى الشماعة، سحبت عباءتها، وانطلقت خارجاً، كادت تتعثر، وصلت لبيت "أم محمود"، جارتها، دقت الجرس بقوة دون أن تتركه ثانية واحدة، أطلّ "محمود" بوجهه، سألته بلهفة:
    - أمك موجودة؟!
    - أجل، هنا..تفضلي.
    - لا، قل لها أريدها فوراً.

    حضرت المرأة مسرعةً وهي تعدل من وضع وشاحها:
    - ماذا بكِ يا ابنتي؟!
    "- أحمد" أخي، لم يعد بعد من المدرسة و...
    - اهدأي، اهدأي ربما يلعب مع الأطفال والآن سيعود.
    - كلا كلا، إنه لا يتأخر أبداً. "لا يريد أن يتركني لوحدي، يفهمني هذا الصغير".
    - طيب، ارتاحي أنتِ وسنبحث عنه.

    تطلعت إلى ابنها الذي ناهز الثلاثين من عمره، فهم نظرتها:
    - سأذبحث للبحث عنه، لا تقلقي سنجده إن شاء الله.
    - سآتي معك.
    - لا يوجد داعٍ، سأجده.
    - لا سآتي، سأبحث معك، ماذا لو أصابه مكروه، سيكون بحاجة لي. قالتها وهي توشك على البكاء.

    هزّ كتفيه بيأس، فسارت خلفه ومعهم "أم محمود" طبعاً...

    بحثوا بالقرب من مدرسته، وبالدكاكين والمحلات المجاورة، لكن لا أحد، لم يجدوه، وكلما زادت الدقائق زادت دقات قلبها الجزعة، كانت تستند بضعف في كل ركن، تمسكها "أم محمود" وهي تترنح، ترفع رأسها بسرعة كلما لاح لها طيف طفل، تفتش في الوجوه، وتدعو الله باللطف، اللطف فقط...

    الساعة الآن الثالثة، خانتها قدماها، لا بد أن شيئاً جرى له، لا بد، اختطفوه ربما، ضاع!!!

    - أحمدددددددد...

    صرخت ونياط قلبها تتقطع، أسندتها "أم محمود"، هتفت لإبنها جزعة:
    - خذنا إلى البيت بسرعة، لقد أغمي عليها.

    عادوا إلى البيت، تفتح عينيها ببطء وتعود لإغمائها......
    تهذي بإسمه، ودموع تنساب من عينيها المغلقتين!! تنساب رغم إغماءها
    !!!!

  12. #71

    تااابع

    وصل "خالد" إلى حيثُ "فيصل"، كان مسجى على السرير، وقد أحاطت به الأجهزة والضمادات كأذرع أخطبوط!!!

    مثخنٌ بالجراحات، صدره يعلو ويهبط بضعف، ارتجفت يد "خالد" وهي تمسك بعمود السرير...

    "فيصل" فيصل!!!!
    ناداه بصوتٍ أجش، لعله يسمعه، لعله يخاطبه قبل أن يفوت الأوان وينتهي كل شئ، كل شئ!!!

    أخبره الطبيب أن فرصة نجاته ضئيلة جداً، أحس بأصابع واهنة تلمس يده، تطلع..

    كانت أصابعه تتحرك دون هدى...

    اقترب منه أكثر، دنى من وجهه، فمه المتيبس يتحرك بصعوبة، بصعوبة شديدة...

    - خا..لد..

    وبكى، بكى ولم يكمل..أغمض عيناه وأصابعه تزيد من ضغطها الواهن على يده..

    "فيصل...يبكي!! ذلك الذي يفتر ثغره دوماً عن ابتسامة..عن ضحكة تجلجل المكان..يبكي!!".

    - سأموووت..سأمووت.

    أخذ يردد بصوتٍ ضعيف، بكى "خالد" هو الآخر، بكى من الداخل، على روحه، على صديقه، على كل شئ....

    - سأموت قبل أن أودع أمي، أخوتي الصغار.
    ………………-
    - أتذكر حين اتصلت بي أمي ذلك اليوم ترجوني العودة، رفضت، أردتُ أن أمتع نفسي هنا..يا ليتني عدت، لن أراها الآن، لن أراها...

    لازالت الدمعة عصية في عينيه، حلقه جاف، يرفض أن يترطب ليخاطب ذلك الذي يعالج سكرات الموت...

    اهتزّ بدنه، وتنفسه يزداد، أمسكه "خالد"، ضغط على يده ليهدأ من نفسه، حرك "فيصل" رأسه بضعف ناحيته، ابتسم، ابتسم واهنة:
    - لا تنساني يا "خالد" لا تنساني، أنت أفضل رجل صادقتهُ بحياتي لولا غرورك...

    عادت دموعه لتنساب من جديد، سرت قشعريرة في جسد "خالد" خاطبه بهمس:
    - ما هذا الهراء يا رجل، ستقوم، ستقوم بعد قليل لتملأ أجنحة المستشفى بصوت ضحك....

    اختفى صوته، أختنق في حنجرته، كان مغمضاً عينيه و على الشفتين ابتسامة.

    هزه "خالد" ورعدة بقلبه تزلزل أطرافه، تكاد تُسقط جسده الثقيل من علو إلى الأرض، أسفل سافلين!!!

    فتح "فيصل" عينيه بصعوبة وكأنه يكابد ثقلاً، تنفس "خالد" الصعداء ولمعة تتألق في عينيه.

    - لا تنم يا "فيصل" لا تنم، أبقى مستيقظاً..قليلاً، قليلاً فقط... قالها بترجي، بتوسل.
    - سأموت يا خالد، سأموت لا فائدة.
    - كلا لا تقل هذا.
    - سأموت وأنا وأنا....

    حينها تغيرت ألوانه، تجعد وجهه وهو يردف بإختناق:
    - وأنا فاسق، زاني، لا أصلي ...

    تدحرجت الدموع بغزارة من تلك العيون العصية، لمّ جسد صديقه لعله يهدأ بين ذراعيه.

    - لا أريد أن أموت الآن، ليس قبل أن أعتمر، أن أحج..لا أريد أن أدخل النار..لا أريد أن أموت الآن لازالتُ شاباً...لالالالالالالا

    اهتزّ الجسدان معاً، كان "فيصل" يمسكه بقوة، لكأن بإمساكه يمنع ملك الموت أن يأخذه، يحاول أن يتشبث به حتى الرمق الأخير، فليبتعد، ابعدوا "عزرائيل" عني أبعدوه...

    - خ..ا..لد لا..لاتنساني بدعائك أبداً...

    "والتفّت الساقُ بالساق، إلى ربك يومئذٍ المساق"

    أمواج السراب تتلاطمُ من بعيد، الصمتُ يخيم حول المكان ما خلا غصات بالقلب وجروح متقرحة بالذاكرة، أفل الجسد، وغابت الروح، عرجت إلى الملكوت، حيثُ الحساب، حيثُ إما الجنة أو النار.....

    لازال "خالد" ممسكاً بالجسد، يضمه، يشمه، يسكب عليه دموعه، يبكيه بحرقة ولأول مرة يبكي...

    بكى بقوة بكاءاً غير طبيعي البتة، كان خائفاً، خائفاً بشدة، زاد من ضمه للجسد الذاوي، عبراته تخنقه، ودّ أن يصرخ، أن يزلزل أروقة المستشفى.

    "أعيدوا فيصل أعيدوووووه".

    0
    0
    0
    0
    0
    0
    0
    0
    0

  13. #72

    تاااااااااااااااااااااابع

    أفاقت من إغماءها، تطلعت إلى العيون المحدقة بها، فتشت خلفها لعلها تجد تلك العيون الصغيرة التي تعرفها، لكن لا أحد...

    أحتقن وجهها، وبدأ فكها بالإهتزاز، تريد أن تسأل، أن تصرخ، أين هو أين؟!
    - لا تخافي يا ابنتي، لقد وجدناه، وجده "محمود".
    - أين؟! ولماذا ليس هنا؟! أنتم تكذبون..لقد حدث له مكروه، قولي الحقيقة.
    - إنهُ في..في المستشفى.
    - ماذا؟!
    - ضربه أحد الأطفال و..شجّ له رأسه.

    أنهضت نفسها بتثاقل رغم ممانعة المرأة لذلك.

    - أين ستذهبين؟!

    مسحت دموعها الملتهبة، الحمد لله وجدوه، لك الحمد والشكر يا رب.

    - سأذهب إليه، سأذهب للمستشفى.
    - أنتِ متعبة.
    - أنا بألف خير.
    - سآتي معك.

    دلفتا معاً إلى المستشفى، قسم الحوادث، كان القسم مزدحم بشتى الناس، لكأن أصابهم جنون، معظمها حوادث تصادم سيارات..والسرعة قاتلة لا ترحم....

    أخذن يبحثن بين الرؤوس، يسألن الممرضات، والكل لا يعرف عن أحد، الكل مشغول، منهم من ينتظر مصير من يحب، ومنهم من ينتظر يد الجراح لتقتصّ منه!!!!

    أشكالهم كانت منفرة ومفجعة، ورائحة المستشفي تصيبها بالدوار....

    - أجلسي هنا يا ابنتي، سأبحث أنا عنهم، لا نريد أن يُغمى عليكِ من جديد..

    هزت "مريم" رأسها إيجاباً بضعف وهي تغمض عينيها....

    باقي من الزمن ساعة، أليس كذلك؟!

    كان يستند بالجدار كل حين، يلتفت إلى تلك الغرفة التي حملت جثمان صديقه، مثواه الأخير....

    ترحّم عليه في سره مراراً وتكراراً، وشعور بالخوار يجتاح ضلوعه، يصيرهُ شفافاً، خفيفاً، لا جلَد له...

    مسح دمعته المنسابة بحياء بين حنايا وجهه المتعب، الممر يبدو طويلاً لا نهاية له، وقد أنزوى في أروقتها أجساداً متناثرة هنا وهناك، بعضها يبكي وبعضها يُعانق!!!!!

    تأمل صفحات هذه الوجوه، يرى في كل صفحة صورته، صورة "فيصل"..
    "أخ أيها الغالي"...

    لم نحس بقيمة الشيء بعد أن نفقده؟!!

    مسح وجهه، وأعين فضولية تراقب الصراع الكامن بوجهه...

    تابع سيره، والخوار يعود ليعتريه، يُشعره بالهمدان...

    مرت عليه نسوة ثاكلات، أفجعه نياحهن، فليساعدك الله يا "أم فيصل"، بل فليساعد الله كل أم مفجوعة بفلذة كبدها...

    دموعه العصية باتت هتونة، أخذت تذرف بغزارة، وهو يذكر أمه، دعا من الله أن يحرسها له...

    "يا رب أحفظ كل أمهات المسلمين"...

    لم يشعر "خالد" قط بأنهُ قريب من الله مثل هذه اللحظة، كان يدعو بحرارة نابعة من القلب، لا بل من سويداء القلب، تحت الأحشاء مباشرة...

    أجساد تتصادم به، لازالت تسرع بجنون هنا وفي الخارج!!!!

    الناس لا يتعظون أبداً...أبداً...

    أستند من جديد على الحائط وهو منكسٌ رأسه، رفعه فجأة...

    لكلُّ منا حاسة سادسة..أليس كذلك؟!

    هي، هذه هي، أقسمُ بذلك، إنها هي، هي، هي....

    رأسها مستند بالخلف بالجدار، عيناها مغمضتان، وتنفسها بطئ، بطئ جداً...

    ارتعدت فرائصه وباتت حواسه ذاهلة، معطلة...

    تلاشى صراخ الناس، نياحهم، فوضتهم، كل شئ بالنسبة إليه ما عدا هي...

    تحرك رأسها بالضيق من على الجدار، وجهها يعبس، لكأنّ شيئاً يضايقها...

    وجهها ذابل، شاحب، آآه يا قلبي...

    ورنّ في ذهنه سؤالاً فاجئه...

    ماذا تفعل هنا بالمستشفى؟!

    "أخرس يا خالد، من أنت لتسأل، يكفي ما فعلته بها"..

    لكنني لا أستطيع، صدقوني، أفهموني أرجوكم، لعلكم حينها تُفهِموني!!!

    فتحت عيناها ببطء لكأنها أحست بعيون تراقبها، تتأملها على غفلةٍ منها، خلسةً كاللصوص!!

    كان يريد أن يبتعد عن ناظريها، لا يريدها أن تراه، ليس الآن..ليس الآن، ربما في وقتٍ آخر!!!!
    لكن قدماه عاندتاه، ترفضان أن تطيعه، وأتت اللحظة الحاسمة...

    رأته، رأته بأم عينيها...

    لالالا لا يا إلهي لا...

    رآها تنثني على نفسها لكأنها تعتصر شيئاً ما، لا يا ربي لا...

    أخذت تستفرغ بقوة وهي تكاد تلامس الأرض وتنفسها يزداد بجنون...

    لم يظهر شئ، كانت تستفرغ ذلك اللاشئ!!!!

    أصبح وجهها أحمراً قانياً، الضغط كله أنصبّ على وجهها، حين أنحنى الجذع النحيل...

    هرعت إليها الممرضات المارات، أمسكنها وأصوات تنادي بنقلها لغرفة ما...

    كانت تقاوم، تشير إلى شئٍ ما....

    لم يفهمنها الممرضات أما هو فبلا...

    كانت تشير إلى المجرم..إليّ أنا...

    دار حول الجدار، ودلف لممرٍ آخر....

    ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟!

  14. #73

    الفصل العاشر

    يا رب ما لمحنتي إلاًّك
    وما بقيتُ واقفاً لولاك

    إن لم تمدني برحمةٍ فلن
    أقدر أن أقاوم الهلاك

    لي ضعفُ إنسانٍ وبي عيوبهُ
    فأنت ما خلقتني ملاكا....

    "ذكراك ما فارقت يوماً مُخيلتي وكنتُ أحسبُ أنّ الجرح مندملٌ وأني بمرور الوقت أنساك..."

    أخذ يجوب الشوارع دون هُدى، غارقاً في حلكة الليل، بدا الهلال في السماء قارباً تائه في لُجة لا متناهية من الظُلمات..

    الليل طويل، طويل، آهاته تتصاعد، تحلّق حوله، تكاد تُخنقه، تُضيق الخناق عليه....

    تقيأت!!!

    عندما رأتك تقيأت!!

    ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟!

    لم تعد رؤيتك تثير الخجل المحبب لديها، بل تُثير الغثيان...

    أهذا ما تحولت إليه يا "خالد"؟!

    شئ يُثير الغثيان!!!

    كلا كلا....

    ستنسى...ستنسى، كل ما فعلتهُ لها...

    سأنسيها لأني أحبها وهي تُحبني...

    أجل تُحبني..

    لا تنظروا إليّ هكذا..

    تُحبني مهما حاولت، مهما أنكرت...

    لم تقلها يوماً لكن آياتها كانت تلوح في وجهها كلما تلاقينا..

    أقول لكم تحبني هكذا رغماً عنها...

    تُحبني وكفى...

    لذا ستسامحني عن طيب خاطر، وإن لم تفعل أجبرتها...

    أجل سأجبرها، لن أعدم أي وسيلة...

    هي لي وأنا لها وكل ما حدث سابقاً سننساه ونفتح صفحة جديدة....

    أنا وهي وأحمد...

    وابننا "فيصل"!!!!!

    سننجب فيصل آخر..

    كفّوا عن النظر إليّ هكذا كمعتوه...

    لا تعتقدوا أنّ موت صاحبي أصابني بلوثة....

    أنا لا أهذي....

    كل ما أقوله حقيقة وأنتم سراب..سراب....

    يا ليت آمالي ليست مثلكم....

    يا ليتها كالنجوم!!!!

    "مريم"......

    بالله عليكِ أخبريني ماذا تفعلين هناك....

    بالله عليكِ سامحيني وانسي.....

    يا ليتكِ تنسين.............


    لازال الليلُ حالكاً، غارقاً بظلمته، والهلال يُبحر، والسفر طويل طويل...
    وتراتيل الرحيل أزفت......
    باقي من الزمن ساعة، أليس كذلك؟!

    الأحلام تتناثر بكل مكان كزهور الربيع....

    وهناك، بالمستشفى، على ملاءة بيضاء كانت ترقد، تغفو من عناءٍ طويل، بحقنة مُخدّر....

    أناملها الشاحبة أحتوتها أصابع صغيرة، أصابع ترتجف....

    يبكي بصمت، بهدوء كي لا يُقلق نوم أخته....

    تلك الأم، تلك الأب، تلك الأخت، تلك كانت كل شئ بحياته....

    في نبضها الضعيف تتعلق روحه، تسري دماءه، ومعها يتقاسم...

    بداياته ونهاياته وذكرى الوطن.....

    أحاط الأنامل، شدها بقوة كسياج، ورقد بجوارها....

    لن يتركها لا اليوم ولا غداً ولا بعد مائة سنة....

    وهوت نجمة، أفَلت، تقدّم للأرض زاداً آخر....

    تُقصي الليل، وتتيح المجال للصبح ليبلج...

    أليس الصبحُ بقريب!!!!

    ================

    جلست في الكافتيريا تنظر للفتيات بشرود، تطلعت لساعتها برهة ثم عادت لتتصفح الوجوه، لمحت صاحبتها قادمة وعلى الشفتين ابتسامة، بادلتها ابتسامة باهتة، جرّت لها هذه الأخيرة كرسياً وجلست مقابلها.

    - ما بالك؟!
    - لاشئ.
    - تبدين واجمة..

    تنهدت "أمل" بضيق وهي تُدّلك جبهتها..
    - إنها "مريم" لو ترينها...لو ترين ما آلت إليه....

    لم تُكمل، انتابتها غصة، أصابعها تتشابك لكأنها في حالة صراع....

    - مسكينة.. ردّت سلمى.
    - ألم تزوريها؟!
    - أنا كلا.

    ثم أردفت وهي تُخرج هاتفها وتعبث بأزراره الملساء.
    - أمي قالت لي أن أقطع صلتي بها، حتى رقمها جعلتني أمسحه من هاتفي..

    فكّت "أمل" أصابعها المتشابكة وهي تنظر لصاحبتها بإستغراب.
    - وهل فعلتها؟!

    هزت رأسها إيجاباً، خائفة من إنفعال صديقتها.

    - لماذا فعلتِ هكذا، إنها بحاجة لنا، بأمس الحاجة لوقفنا معها ونخذلها؟!
    - تريدين أن أعصي والدتي من أجلها؟!
    ………………………………-
    - ثم، ثم والدتي محقة، مالي وهي، لا أريد أن تخترب أخلاقي..

    شهقت "أمل" بقوة، جعلت الفتيات اللاتي بالقرب منهما يلتفتن حولهما بفضول، تطلعت "سلمى" بإرتباك لصديقتها لتشير لها بأن تهدأ.

    كان وجهها محتقناً من الغضب، من الغيظ بما تفوهت به صديقتها، صديقتها؟! مثلها لا تستحق كلمة صديق، مثلها بوجهين نسميها ماذا؟! منافقة..أجل منافقة..

    "- مريم" ستُخرب أخلاقك؟! "مريم" تلك النسمة الطاهرة ستُفسدك؟! ما توقعتك هكذا يا سلمى، تطعنيها في شرفها..ما توقعتكِ هكذا أبداً..أبداً....إذا أنتِ من تعرفينها تقولين هكذا ماذا سيقول الآخرون؟!

    بان الذنب على وجهها، لكأنها خجلت من نفسها، من كلماتها السوداء!!!!

    حلّ الصمتُ الآثم حول المكان، الرأس تنحني شيئاً فشيئاً، ماذا عن الروح عندما تقع، تهوي إلى أسفل سافلين!!

    أرادت "سلمى" أن تُلطف الجو المكهرب، أن تغير الموضوع، ابتسمت بتملق وهي تحكُ أنفها بتوتر:
    - لم تباركي لي..
    - بماذا؟! سألتها ببرود دون أن تتطلع حتى في وجهها والنفور منها يزداد.
    - سأتزوج قريباً.

    حينها رفعت بصرها إليها وهي تقول بلامبالاة:
    - مبروك.

    عادت "سلمى" لتبتسم من جديد ولكن بحياء:
    - لم تسأليني من هو؟!

    سألتها بلامبالاة والهوة بينهما تزداد، تمتد بطول الكذبة، بطول الزيف، بطول الضلالات!!!!
    - أنتِ تعرفينه، أعتقد ذلك.

    رفعت رأسها هذه المرة بإهتمام وهي ترفع حاجبيها بتساؤل:
    - من؟!

    أطرقت بحياء وهي تُجيب:
    - فاضل، ذلك الطالب الذي يحضر معنا المحاضرات.....

    ثم أردفت وهي تضحك بحبور:
    - لم أكن أتخيل أنهُ كان يحضرها لأجلي، كي يكون معي في نفس المكان...تخيلي كان يحبني وأنا آخر من يعلم.
    ……………………..-
    - ولأن هذه آخر سنة له، لم يصبر، بعث لي بأخته لتفاتحني بأمر الخطوبة، كم تفاجأتُ حينها....

    لم تنتبه لرفيقتها، تلك التي أمتقع وجهها فجأة، بات شاحباً، يُحاكي الأموات....

    - أتصدقين قالت لي أخته أنهُ كان يحبني منذُ عامين..منذُ عامين وهو يلاحقني أملاً في أن يعرف اسمي بالكامل وعنواني!!!!
    ……………………..-
    - كان بمقدوره أن يُريح نفسه من هذا العناء كله لو كان سألني.
    …………………….-
    - لم أكن لأمانع، كم هم جُبناء هؤلاء الرجال!!!!
    …………………….-
    - ها ما قولك؟! ألا توافقيني بالرأي؟!

    ثم أردفت دون أن تنتظر حتى جوابها، ابتسمت بحلم وهي تضع يديها أسفل ذقنها وتنظر للسقف بنظرة حالمة..
    - لايهم، لايهم، المهم أني سعيدة، سعيدة لدرجة أني أودُّ أن أحلّق الآن.

    كان العرق يتصفّد من جبينها ببطء، بدت قطراته ملساء، ناعمة، متلألأة رغم ظهيرة هذا اليوم...

    انسابت القطرات بخفة، جرت على جفونها، تلكأت على رموشها ثم.....

    سقطت!! هبطت من علو، هوت إلى أسفل، كما هوى قلبها إلى الأعماق...

    الدم يضخ بعنف في شرايينها، يرسل إشارات مجنونة إلى أطرافها، يأمرها بالصراخ، لكنها تتشبث، تتمالك نفسها، الحزام ينقطع، ينقطع، ها هو ينفلت، يتفتت، تتقاذفه الرياح، تُطيّره، أين هو أين؟!

    تنفسها يزداد، وجهها يتقلص، وشفتاها تبيضّان، تلاشت الألوان تماماً، تلاشى كل شئ، كل شئ....

    صدت لصاحبها، لازالت تبتسم بحلم، تُحلق بأجواء طالما حلّقت هي فيها....

    عادت لتنظر ليديها، كانت ترتجف، تهتز بقوة، بل تكاد تجزم بأنّ اهتزازها يخترق الطاولة الفاصلة بينهما، يصل ل"سلمى" ويفضحها!!! يفضحها ويفضح حبها الأرعن!!!

    الأرعن!!!!

    القطرات لا زالت في انسياب، وحبات العقد تنفرط، تنفرط كثعبان يتلوى في كل إتجاه....

    زفرت بقوة، بقوة وكبدها تتلظى، تتفتت مع كل نسمة، مع كل كلمة، مع كل حرف....

    - سأذهب قليلاً..ثم سأعود.

    لم تنتظر حتى الإذن، سارت، وخوار يدبُّ بأقدامها، يجعلها تترنح، تمسك بالكراسي كل حين، وتتلفتت حولها لكأنّ الجميع يُشير إليها، لكأنهم اكتشفوا أمرها، اكتشفوا غباءها، اكتشفوا حبها الأرعن!!!!

    ذهبت دون عودة، ما أسهل الكذب وما أصعب الحقيقة....

    الحقيقة علقم وأحلامنا سراب...سراب...

    الطريق إلى البيت يبدو بعيداً، طويلاً على غير العادة...

    الحرارة تنشب مخالبها في الجسد، تُقطع أوصاله وترميه للأشباح لتتقاذفه، تلتهمه، تقضي على الرمق المتبقي..

    تتخبط في طريقها إلى غرفتها، لم تعبأ براشد ولا بخطيبته، كانت تُريد أن تصل لغرفتها فقط وينتهي الأمر...

    أمنحوني ثوانٍ فقط، لأفرغ ما بداخلي، أسمحوا لي أرجوكم..أرجوكم أنا.....

    - كلالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالال الالالالا...مستحيل..هذه كذبة..مستحيل..مستحيل.

    ضربت مرآتها بقبضتها، اهتزت واهتزت أشياءها، ترتد أماماً ووراءاً، الاهتزاز يهزُّ خواطرها، بعثرت كل ما هناك، عطورها، مكياجها، صورها...وكل شئ.

    صدرها يعلو ويهبط بقوة والنار تستعر بجنون، لا تريد أن تتوقف، لا تريد أن تهدأ، ترفض إلا أن تقودها في طريقها لتحرق ما أمامها وخلفها..كلُّ شئ..كل شئ.

    الغشاش...الكاذب...ذلك الحقير...

    أوهمني..خدعني....

    كذب علي....

    نظراته..ابتسامته..حديثه لي....

    كاذب حقير حقير وهي أحقر منه، خطفتهُ مني، خطفت من أحب..

    صفعت وجهها الملبد بالدموع، كانت تلهث من الغيظ، من الألم، ألقت بنفسها على السرير، تكتمُ لوعة اجتاحت فؤادها، عضت يدها بقوة لتمنع شهقاتها، صرختها، تبكي حبيبها الغادر، وصديقتها الغشاشة....

    لماذا سلمى بالذات، كيف حصل ذلك، كان ينظر إليّ أنا ، يخاطب عيناي أنا، يسير خلفي أنا، يبتسم لي أنا، يتلكأ بخطواته لي أنا؟؟؟؟!

    أنااا وليس هي، قلتُ لكم أنا أنا أنا.....

    ألم يطلب مني الدسك بنفسه، ألم يقل عني رائعة؟!!!

    أم يا ترى كان يريده ليعرف اسمها بالكامل؟! كان يتملقني من أجلها؟!! ليصل إليها هي؟!!

    لالالالالالالالالالالالا هذه كذبة كريهة لا بد أنه أخطأ، أنا واثقة بأنه يعنيني أنا، أنا وليس هي..

    هي لم تعبأ به يوماً، لم تذكره حتى في حديثها، لم تلتفت له، أنا من كنتُ أحفظ خطواته، أعد همساته، أصيغ السمع لكلماته...

    أنا من أحببته، أنا من كنتُ أجن حين أراه، أنا من لا أنام إلا بعد أن يلوح طيفه أمام عيني....

    - كلا، كلا لابد أنه كان يعنيني........

    كيف؟! وقد بعث بأخته لها، لها هي وليس لي أنا......

    - كلالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالا

    الوسادة تغرق، تغرق بدموع لم تألفها العينين بعد، دموع مخزونة كزخات المطر قُبيل السقوط.....

    الجسد يرتج، يموج بأحزانه، يتقلب بين نيران الحقيقة، بين نيران الكذبة، نيران الحياة الزائفة.....

    تختلط القطرات، تتهادى دون قيود لتلتحم مع القلب المعذّب، لتحكي قصة، قصة حقيقية، من واقع الحياة.......

    وكانت ضلالات...ضلالاتُ الحب....

  15. #74

    تابع

    كان مستلقٍ على قدمها اليمنى بأريحية، تعبث بشعره وهي تشاهد التلفاز، أنيسها الوحيد في هذا المنزل..

    سمعا دقات بالباب، أعتدل كلاهما وهما يطالعان بعضهما بتساؤل....
    - لا تذهب، لاتفتح..
    - لماذا؟!
    - انتظر قليلاً، سيمل الطارق الدق ويذهب من تلقاء نفسه.
    - ربما كان أحداً مهماً..

    تطلعت "مريم" إلى ساعتها، الساعة الآن الثامنة مساءاً، نظرت لأخيها بتردد، هزّ رأسه بأن أطمأني...

    ابتسمت في وجهه، باتت تعتمد عليه الآن، أصبح هذا الصغير في عينيها رجلاً يُحسسها بالأمان، حتى أسلوبه معها تغير، بات وديعاً ونادراً ما يطلب شيء مستحيل منها....

    نهض من مكانه، أستوقفته قائلة:
    - لا تفتح إلا بعد أن تتأكد من هوية القادم.

    هزّ رأسه بصمت من جديد ودلف.

    راقبت طيفه الغادي، وعادت لتتابع التلفاز ولكن بقلق!!!

    أطلّت "أم محمود"، أستغربت من قدومها، فهي عادةً لا تمر إلا في أوقات الظهيرة لتتفقد أحوالها...

    رحبت بها بحرارة، لا يهم، على الأقل ستجد من تخاطبه!!

    - كيف حالكِ الآن يا ابنتي؟
    - الحمدلله، أفضل حالاً.
    - الحمدلله.

    ثم أخذت تتطلع لأحمد وكأنها تتردد في قول شئٍ ما.

    "- أحمد" أنتظرني في الغرفة سأعود بعد قليل.
    - حاضر. دلف وهو يحدج الجارة بنظرة غيظ.

    عادت لتبتسم من جديد وهي تلملم عباءتها في حضنها، ذكرتها هذه الحركة بوالدتها رحمها الله....

    - اسمعي يا ابنتي أتيتك في موضوع خاص.

    أنتابها القلق من لهجتها الجادة:
    - خير؟! تفضلي..
    - إن شاء الله خير.
    …………………………-
    - في الحقيقة، لقد جئت لأخطبك لإبني "محمود".

    تطلعت "مريم" لها بدهشة وذهول، بدت وكأنها غير مستوعبة.

    - محمود!!!!
    - أجل، لو تعلمين كم هو معجب بك و بأخلاقك و شجاعتك، لا يفتأ يذكرك يومياً أمامنا.
    ………………….-
    - ها ماذا قلتِ؟!
    - أقولُ ماذا؟!
    - موافقة بالتأكيد!!!
    - لكن أليس متزوجاً ولديه أطفال؟!
    - كان متزوجاً، هو مطلق الآن، ولديه "سعيد" و "علي" الله يحفظهم.
    - أأأأأأأ...ثم هو أكبر مني بكثير...
    - الرجل لا يُعيبه سنه، وهو الحمد لله موظف كبير في الحكومة.
    …………………………-
    - وأنتِ فتاة لا يصح أن تبقي لوحدك، الناس لن ترحمك مهما حافظتِ على نفسك، أنت بحاجة لزوج ولن تجدي أفضل من ابني ليقترن بك!!

    أطرقت "مريم" لا حياءاً وإنما كانت تشعر بشعور غريب، بالإنقباض ربما....

    - اسمعي يا ابنتي، أنا لن أضغط عليكِ الآن، سأمر عليكِ غداً أو بعد غد لآخذ جوابك، وأعلم أنكِ عاقلة ستفكرين بمصلحتك ومصلحة أخوكِ الصغير..

    وحدجتها بنظرة ما وأنصرفت مودعةً.....

    محمود!!!

    يريدني أنا؟!

    لماذا..لماذا الآن؟!

    انتظري...

    خرجت، خرجت و وضعتكِ بين خيارين أحلاهما مر....

    أتتزوجينه؟!

    هل لديكِ مجال للإختيار..

    أو الرفض...

    هي نفسها كانت تتكلم بصورة الجزم، لكأنها موقنة بأني سأقبل بابنها....

    أعذرها أنا....

    فمن أنتِ يا "مريم" لترفضي في حالتك هذه..و الفرص تمرُّ مرّ السحاب...

    إما تسوقكِ إلى النجاة أو تُلقيكِ إلى الهاوية.....

    أأتزوج؟!

    كلا...

    بلى...

    كلا..

    كلا كلا ليس هو من تخيلته...

    ليس هو بفارس أحلامي..

    ليس هو من تمنيته..

    ليس هو من حلمتُ منه...

    صه..ومن أنتِ لتحلمي...

    مثلكِ لا يحلم...

    أحلامنا هي من تغتالنا....

    هي من تضيعنا....

    أشكري ربك أنهُ طرق بابك..

    مقطوعة من شجرة...

    أخوكِ مدمن مخدرات...

    وأختك عاار!!!!

    "أين أنتِ يا ليلى أين أنتِ"؟!!!

    وهو...

    ماذا عنه؟!

    يكفي يا "مريم" مثله لا يستحق التفكير...

    دوسي على قلبك مثلما داسك بذلك اليوم....

    ذلك المجرم..ذلك القاسي...أنى لهُ أن يحس بك...

    لا يعرف إلا نفسه ولا يحب إلا هي...

    أقبلي بواقعكِ...لاتنظري أبعد من أنفك...

    هذه هي الحياة....

    والحمدلله على كل حال....

    أنهضت نفسها وهي تتنهد أسفاً، وقفت عند باب الغرفة، هزّت رأسها ثم أكملت طريقها.....

  16. #75

    فتحت عينيها باضطراب، بدت الصور في عينيها مشوشة، مقلوبة، متكسرة كغرفتها التي قلبتها على عقبيها بالأمس....

    شدّت اللحاف بتوعك، رقبتها ويداها تؤلمانها، وقد غشى الإحمرار أطرافها...

    كابوس، ما عاشتهُ بالأمس كابوس...

    كاذب وكاذبة وغبية!!!

    مخادع ومخادعة وأكبر حمقاء!!!

    سالت دمعة حارة على الخد، دفنت رأسها بالوسادة، لتنشج من جديد...

    لتنشج قصة الحب الكاذب، قصة الوهم، قصة الضلالات!!!

    حين تُعشش الأوهام على حياتنا، حين تحجب عن أعيننا نور الحقيقة...

    ونظلُّ نتخبط بجهل بين ظلماتها، تخدعُ أبصارنا كواحة الظمآن، كسراب...

    الحقيقة كريهة، كريهة، كريهة كالعلقم...

    لكنها الحقيقة وما دونها لا شئ..لاشئ...

    ضربت أعلى الوسادة بقبضتها المتورمة وهي تصيح:
    - كذاب..غشاش..حقير، خدعني، أوهمني وأضلني...


    لا زال النهار في بداياته، أشعته تتخلل كل ظلمة، تُحيط بكل مكان، كظلال الزيزفون، لينير الطريق، ويزيل تلك العصابة...

    عصابة على العينين!!!

    ابتسمي، وأخلعي تلك النظارة السوداء...

    فلم يتبقَ الكثير...

    باقي على الزمن ساعة...أليس كذلك؟
    !

  17. #76

    تابع

    قضت الليل برُّمته وشطراً من النهار وهي تفكر...

    الأفكار تتقاذفها، ترميها في دوامة...

    بها يتحدد مصيرها ومصير "أحمد" إلى الأبد....

    والفرص تمر مرّ السحاب....

    دائماً الفرص ودائماً السحاب!!!

    وهذا حد السكين...

    في أي جهةٍ يقطع....

    لابد أن تكون الشفرة حادة، والنصل النصل لابد أن يكون دقيقاً....

    من بعده إما الراحة وإما..الفناء....

    ماذا أفعل..أجيبوني....

    أقول نعم...

    أم أقول لا....

    كلا الخيارين مر، كلاهما مر...

    انساب أذان الظهر شفافاً، يصدح في الآفاق، يدغدغُ الآذان، يحلق بنا عالياً عالياً إلى النجوم....

    سارت لتتوضأ، أنكبت على الصلاة، تلاشت الأطياف، ليس تماماً، ولكن على الأقل بما يتيح لها راحة البال برهة......

    أيقظت "أحمد" ليصلي هو الآخر، بدا ملائكياً في نومته....

    من أجلك..من أجلك يا أحمد أفعل أي شئ....

    وتسللت دمعة!!!

    ===========

    منذُ ساعات نُقل الجسد إلى الوطن....

    منذُُ ساعات وقد مرت على وفاته أيام!!!

    السفارة لم ترتضي نقله، لا بد من تصاريح، أوراق رسمية، فحص، وأن تأتي العائلة بأكملها لتتعرف عليه..

    لقد تعذبت كثيراً كثيراً يا فيصل، أُهنت بموتك..

    طعنوا كرامتك، لكأنهم كانوا يتعاملون مع قطعة لحم، نسوا أنّ الحياة كانت تدبُّ يوماً في ذلك الجسد....

    كانت تملأه مرحاً، شقاوة، تمنحهُ شيئاً مميزاً...تمنحهُ....

    الإنسانية...

    ولكن إنسانية ضائعة، إنسانية بلا هوية!!!

    عبثت بها الأهواء، خدشتها وخدشت كل المعاني الجميلة التي تحويها...

    أنحنُ فعلاً من نفسد أنفسنا؟! نعبثُ بصفاء روحنا وندنسها، ندنسها بشرورنا، برغباتنا، بأهوائنا...

    "رحمك الله يا فيصل رحمك الله"...

    متّ غريباً، وأيُّ ميتة!!!

    لترحمك السماء...

    يا رب أرحمه و....

    أرحمني.....


    الوقت يمضي بسرعة، لكأنهُ في عجلة، في سباق إما غالب وإما مغلوب....

    كان يسير على قدميه، يركل ما يصادفه، يتنهد حيناً، ويطالع نجوم السماء حيناً آخر....

    في صدره عزم، تحدي، أمل و...

    إنكسار....

    قادتهُ قدماه إلى هناك، إلى البيت، ليس بيته وإنما بيتها...

    حيثُ تقبع ويقبع قلبهُ معها....

    فتح "أحمد" الباب وهو يبتسم للواقف أمامه بحب:
    - هل يوجد أحد بالبيت؟

    أجاب الصغير ببراءة وهو يعبث بشعره:
    - كلهم ذهبوا، لم يبق معي إلا "مريم".
    - أين هي؟

    واصطحبه معه إلى غرفة الجلوس، كان الباب مفتوحاً، رآها ضامة رجليها إلى صدرها، وقد وضعت يديها أسفل ذقنها وهي تشاهد التلفاز وتبتسم ببراءة..

    كانت مندمجة، لم تنتبه لقدومه، تنحنح في وقفته، فالتفتت إليه....

  18. #77

    تابع

    تعطل دماغها فجأة، رمشت عيناها مراراً وتكراراً، وحين أفاقت من دهشتها شهقت برعب:
    - ماذا تفعل هنا ؟! أخرج....

    لم يجب عليها، نزل بمحاذاة "أحمد"، أخرج من جيبه أوراقاً نقدية ونقدها إياه:
    - اشتر لي من البقالة علبة سجائر، واشتر لك بالباقي ما تشاء..
    - كلا، "أحمد" لا تستمع له، لا تذهب أبقى معي. صاحت بيأس.

    نظر "أحمد" إلى المال الموجود بيده، منذُ أن توفي والده لم تقع عيناه على نقود، صراعٌ دار في باطنه، يأخذها أم لا؟؟! نظر إلى "خالد" بتردد:
    - هل ستضرب أختي؟!

    ابتسم "خالد" وهو يجيب:
    - كلا، بل سأحرسها إلى أن تعود..

    هزّ "أحمد" رأسه بإطمئنان لكأنهُ يثق فيه!! وأخذ يركض وهو يفكر بما يشتريه، دراجة أم طيارة؟!

    لوّحت له "مريم" بإختناق أن كلا، لكنهُ كان قد ذهب....

    "حتى أنت يا "أحمد" تركتني؟! من لي في هذه الدنيا...من لي؟!!"

    والتقت عيناهما برهة، نكست رأسها وهي تزيد من ضم رجليها إلى صدرها، نزع نعليه وتقدم منها، صرخت بجزع ودفنت وجهها في الوسادة وهي تبكي بقوة.
    - أرجوكِ لا تبكي.

    انتشلت نفسها وهي تصرخ في وجهه بشراسة:
    - لماذا جأت إلى هنا؟! ألتكمل ما بدأته في بيتكم؟!!

    لم يجب، احتواها بعينيه بحنان، كانت ترتجف كعصفورة صغيرة كُسّرت أجنحتها، بدت ضعيفة، هشة، ودّ أن يحتضنها، يمتص دموعها وآلامها......

    ماذا فعلت بها يا "خالد" ماذا فعلت؟!

    أردفت وأنفاسها تتقطع:
    - تعتقد أنني لا أملك أحداً يدافع عني، سيأتي أخي "محمد"، قال لي أنهُ سيذهب ويعود بعد قليل..

    ثم هزت رأسها بسرعة نافيةً:
    - بل الآن..الآن..

    وانخرطت في بكاءٍ مرير....

    - لم آتِ لأؤذيكِ. قال بعطف.

    لكنها لم تكن تسمع، كانت حواسها غائبة، تأملته من جديد وأسنانها تصطك، ثم حولت عيناها بعجز حول المكان لكأنها تبحث شيئاً أو تنتظر شخصاً ما...

    هزت رأسها أسفاً وهي تعتصر دموعها عصراً...لا أحد..لا أحد....

    لم تملك إلا أن ترفع يديها بتهالك إلى السماء، دعت بحرارة نابعة من الأعماق، بل أعماق الأعماق:

    - يا رب أرحني، خذني إليك، لا أريد هذه الحياة، لا أريدها....

    راعهُ ما سمعه، تقدم منها بخوف وهو ينزل ذراعيها لأسفل...

    عادت لترفعهما بإصرار وخدرٌ عجيب يسري في أوصالها، يُحسسها بالأمان ربما لأول مرة منذُ زمنٍ طويل....

    أخ ما أقسى الزمن....

    - يا رب خُذ روحي، خذ روحي، خذ روحي...
    - يكفي، قلتُ لكِ لم آت لأؤذيكِ.

    صرخ وقد أخذ منهُ الخوف ألف مأخذ..

    تطلعت إليه بشك، عيناها تكذبانه، تكذبان كل حرفٍ تنطقُ به شفتاه...

    كاذب..غشاش آخر!!!!

    جثا على مقربةٍ منها، ولكن بمسافة تحسسها بالإطمئنان:
    - أتتزوجينني؟!

    نظرت إليه من بين رموشها المسبلة بالدموع، رمشتهما مراراً وتكراراً لترى وجهه بوضوح، أكان يسخر منها؟!

    - أتتزوجينني؟! كررها بتوسل.
    - أيُّ كذبةٍ سخيفةٍ هذه!!
    - أقسم لكِ بشرف أني صادق.

    أرتعش فمها الصغير، وعادت لتغطي وجهها الباكي بيديها النحيلتين:
    - لا أريد أن أتزوج عُرفياً، لا أريد، لا أريد...
    - ومن قال أني أريد زواجاً عرفياً، بل زواج إشهار، على سنة الله ورسوله..

    أبعدت يديها، لا بد أنهُ جُن أو يكذب ليخدعها، إنهُ سافل، لم ترى منهُ إلا الدناءة ليصل إلى مبتغاه.
    - أرجوك أخرج من هنا، أعصابي لا تحتمل هذه الألاعيب.

    أمسك ذراعها، صرخت فيه:
    - ابتعد عني، لا تلمسني، لا تلمسني..
    - أتخالينني كاذباً، لقد أقسمتُ لكِ بشرفي.
    - أنت لا تعرف معنى للشرف، أنت حيوان، تستغل ضعف الآخرين.
    - أتقصدين ذلك اليوم؟! أجل كنتُ حيواناً حينها أعترفُ بذلك، كنتُ أحاول أن أمسح صورتك من ذهني، طيفك كان يلاحقني أينما كنت، كان بإستطاعتي إخضاعك تلك الليلة ولكنني لم أفعل، أسأليني لمَ؟!

    وضعت يديها على أذنيها وهي تصيح:
    - أنت كريه، كريه، لا أريد أن أسمع شيئاً منك، أخرج من هنا..

    أبعد يديها وهو يضمها ليديه بقوة كي لا تفلتها، صرخ:
    - أسأليني لمَ؟!
    - لا أريد أن أعرف، أتركني....
    - لأنني أحبك، ولو نلتك تلك الليلة لكنتُ خسرتك طوال حياتي، أعرفُ هذا...

    صدرها يعلو ويهبط بقوة والحرارة تمتد لتلسع صدرها...

    سكنت برهة تنظر إليه بصمت، تُريد أن تصدقه، تعيش معه هذا الحلم الجميل الذي بدأ يتراقص أمام عينيها..

    هو وهي وأحمد في بيتٍ آخر، بيتٍ نظيف بعيد عن القذارة كلها....

    التفتت إلى الباب، إلى حيثُ خرج "أحمد"، كأنها تنظر إلى شئٍ ما:

    - تريد أن تتزوجني؟!
    - أجل.
    - أقسِم.
    - أقسم بالله.
    - أقسِم بالله بكسر الهاء!!
    - أقسم باللهِ العظيم أني صادق.
    - لماذا؟
    - لأني أحبك.
    - الحبُّ وحده لا يكفي.
    - ولأني أريد لأحمد أن يربى نظيفاً...

    عادت لتلتفت إليه، ترمقه بحزن أبى أن يفارقها في أيامها الأخيرة:

    - وأهلك، أمك وأبوك لن يقبلوا أن تقترن بواحدة مثلي..
    - صه، أنتِ أصلاً لا يوجد مثلك في هذا الكون أبداً....

  19. #78

    الجزء ( 11) الأخيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــر

    صدت للباب من جديد، أردفت وأطياف اليأس تخنقها:

    - والناس، الناس لن ترحمك، ستعيبُ عليك، لن يتركوك وشأنك حتى تطلقني.
    - لا يهمني كلام الناس، يهمني أنتِ، ومن أجلك سأحارب الكل.
    - تقول هذا الآن، ولكن صدقني لن تستطع أن تكمل بعدها..
    - انظري إلي أنا "خالد"، وأخالكِ تعرفيني جيداً، سأبيع الكل وأشتريكِ، وإن لم تسعك الأرض هنا، سنتركها ونرحل...

    لازالت تنظر إلى البعيد، إلى الحلم الذي تتكسر صورته على أمواج الحياة، أتاهُ صوتها غريباً وكأنه قادم من كوكب آخر:

    - ستطلقني ولن يرحمني الناس، سيمضغوني وسيضيع أحمد ولن يتحقق حلمه..أتعرف ما هو حلمه؟!
    - أيتها المجنونة لن أطلقك.
    - لم تسألني ما هو حلمه...

    ارتجفت كلماته على شفتيه، كان منظرها الحالم يمزقه، يفتته إلى ذرات، سألها بغصة:

    - ما هو حلمه؟

    ابتسمت وأطياف الحلم تتجمع من جديد:

    - يريد أن يصبح طياراً، لقد طلب مني أن أشتري له طائرة... سكتت وقد تلاشت ابتسامتها، أردفت وهي تبكي..... لكنني لم أملك ثمنها، بكى كثيراً ذلك اليوم..
    - لا تقلقي يا حبيبتي، سأشتري لهُ كل ما يشاء.

    وكأنها عادت إلى واقعها، أنتزعت نفسها منه انتزاعاً وهي تحاول الوقوف، قالت له بثبات:

    - أرجوك، أرحل من هنا..
    - لماذا؟!
    - ألا تفهم، أنا أريد أن أبقى نظيفة أيضاً، حين تطلقني لن يأويني أحد ما عدا الحثالة، وأنا لا أريد لأحمد أن يضيع..
    - لكن أنا أحبك بصدق.
    - وأنا أكرهك...
    - أنتِ كاذبة.
    - أنت نقطة سوداء في حياتي وقد أزلتها للأبد، للأبد أتسمع؟!
    - ليس بإمكانك نسياني، لأني مزروع هنا...بداخلك!!.
    - أنا أكرهك أكرهك أكرهك أكرهك.

    كررتها وهي تدق بقدمها على الأرض، كانت سكاكين تنشب في جسده مع كل كلمة كره تنطقها، إنها تكذب، إنها لا تكرهني مهما فعلتُ بها...

    أدارها، ضمها إلى صدره بقوة، بقسوة، ليسكت احتجاجها وكلماتها إلى الأبد، أخذت تضربه بحق تلك الأيام، تلك الليالي التي أحالتها إلى رماد.......

    ضربت وضربت بجنون، بخوف، من نفسها ومنه ومن تلك الليلة.....

    تركها تُفرغ ما بداخلها من غضب وقهر، لم تكن الضربات تؤثر فيه...

    تعبت، باتت حركتها هشة، ضعيفة، لا معنى لها، أرادت أن تضربه من جديد، لكن نظراته أحبطتها، مزقتها أضعافاً مضاعفة.....

    أبتعدت عنه خطوات إلى الوراء....

    كان يرمقها بهدوء مشوب بالحنان، بالدفء، ضمت يديها التي آلمتها إلى صدرها، تنظر له بلوم، بعتاب، وما أحلى العتاب في دار الغربة....

    - تخالني نسيت..أنت السبب..دمرت عائلتي، أختي فرّت بسببك أنت..
    - كلا أختك هربت لأنها..لأنها...
    - أخرس.
    - لا تهربي من الحقيقة.
    - أنا أكرهك أكرهك أكرهك.
    - أرجوكِ لا تقوليها.
    - لم أنسى قط إهاناتك لي، لم أنسى كيف أذليتني، لم أنسى ذلك اليوم، لم ولن أنساهُ أبداً....
    - دعينا نطوي صفحات الماضي ونبدأ صفحةً جديدة...
    - يا لبرودك!! تُريدني أن أنسى كل شئ ببساطة؟!!
    - سأُنسيكِ.
    - أنا لا أثق بك، ألا تفهم..

    شعر بالإنقباض يسري بأوصاله، يصلّب أطرافه، ويسري تيار، تيار جارف بين الضلوع، هناك حيثُ يتوسّد القلب..

    أقترب منها وتراجعت أكثر:
    - سامحيني على الأقل من أجل "أحمد"..

    أشاحت دون أن تستجيب لتوسلاته...

    أردف هامساً:
    - أحبكِ أيتها المجنونة المكابرة، أنتِ و "أحمد" بحاجة لرجل يحرسكما، لن تقوي على حمايته وحدك، لأنكِ أصلاً بحاجة لمن يحميكِ.
    - نحنُ لسنا بحاجة لأحد. (ردت دون أن تنظر إليه.(

    وكأنها تذكرت شيئاً ما، أردفت بمرارة وهي تتطلع إليه:
    - ثم أنا سأتزوج قريباً، فلا تعرض خدماتك علي!!
    - ماذا؟!
    - لم كل هذا التعجّب؟!! تظن أن مثلي لن يتقدم لها أحد؟!! لالا أعلم أيها المحترم أنّ هناك "رجال" يقترنون بالفتاة لشخصها فقط، رجل لم يأبه بكون أخي مدمن أو أختي....... ولكن أبه بي، رآني شيئاً محترماً...
    - ومن هو هذا "الرجل" المحترم؟! سألها بصوتٍ هادر.
    - هذا ليس من شأنك.
    - ليكن بمعلومك، لن تأخذي أحداً غيري، لن تتزوجيه.
    - سأتزوجه.
    - لن تتزوجيه.
    - سأتزوجه.
    - لن تتزوجيه ولو على جثتي.
    - والل....

    وصرخ بصوتٍ أفزعها، وضع أصبعه على فمه وكأنهُ أكتسب منها هذه العادة:

    - قسماً بالله إن أعدتها لن يحدث أمراً طيباً.
    - في منزلي وتهددني؟!
    - لا تختبري صبري يا مريم لا تختبريه، لستِ نداً لي، ستخسرين.. قالها بتهديد.

    صمتت تنظر لإنقلاب سحنته، دكن وجهه الأسمر، وقد تقلص جبينه فبات أكثر تغضناً، تراجعت خائفة من شكله الغاضب، حاولت أن تتمالك نفسها، ترفض أن يحس بخوفها منه...

    قالت بنفورٍ بارد:
    - ألا تملك كرامة؟! حين تقول لك فتاة أنها لاتريدك، احتفظ ببقية كرامتك وأغرب، هذا إذا كنت تملك منها شيئاً!!
    ……………….-
    - وليكن بمعلومك لو كنت آخر الرجال..ها..آخر الرجال بالعالم ما أخذتك..
    ……………….-
    "- تعتقدين أنّ مثلي يتقدم لخطبتك"!! أهذا ما قلته لي بذلك اليوم..
    ………………..-
    - مثلك مريض، مغرور، متكبر، لا يحب إلا نفسه، أسمح لي أنت تُثير فيَ الغثيان، الشفقة، ال....

    وكأن كلماتها كانت القشة التي قصمت ظهر البعير!!!!!

    تقدم منها بغضب، أجفلت وأخذت تتراجع بعينين زائغتين، لاتريد أن ترى عيناه، تبدوان مخيفتان....

    - تجرحك الحقيقة أليس كذلك؟! لا تتقدم..لاتتقدم قلتُ لك. صرخت بإرتجاف.

    غطت وجهها بكفيها، سيضربها أم ماذا؟! ظلالها تسقط عليها، تتخلل أصابعها الحاجبة وجهها، بقيا هكذا فترة دون استجابة، فرجت أصابعها قليلاً لتختلس النظر لسحنته، صدمها ما رأته....

    كان مكتفاً يديه، ينظر لها بهدوء، أين الغضب الذي كان يملأه؟! تبخر؟!!

    ابتسم:
    - لم أكن لأضربكِ أبداً.

    أبعدت أصابعها تماماً، أخذت نفساً عميقاً، ثم قالت وهي ترمقه بإشمئزاز:
    - سواء ضربتني أم لا لن يفرق عندي، لن يؤثر علي، أتدري لِمَ، لأنك بالنسبة لي لا شئ، لاشئ، لاشئ..

    أردفت وهي تصيح:
    - ذاك الشئ الذي كان بداخلي تجاهك، مات..أنت قتلته..قتلته منذُ زمن.

  20. #79

    تابع

    الطعنات تتوالى، تنفذ بلا رحمة، لتستقر هناك، في سويداء القلب، ينزف الجرح دماً عبيطاً، دماً خثرتهُ الأماني وأذابهُ اليأس، القطرات تنساب، تنساب بلزوجة ثقيلةً جداً على النفس والجسد....

    ردّ بتهالك، بحجم الدم النازف بصدره:
    - سنحاول، سنحاول من جديد.
    - ألا تفهم؟! لا تستطيع أنت تبعث الحياة لشئ ميت، أتستطيع أن تنفخ بالرماد؟!!
    - هذا هراء، هذه ترهات..هذا كلام قصص، كلام روايات لا معنى..
    - هذه هي الحقيقة، وهذا كل ما لديّ لأقوله، ما بيننا أنتهى...أنهيته أنت...

    صدره لازال يهبط ويعلو وكأنّ شيئاً بداخله يثور بهيجان، تطلعت إليه بكبرياء و......

    إنكسار!!!!

    شرعت بفتح الباب على مصراعيه أكثر، قالت حينها ودون أن تتطالعه، وبصوتٍ حاولت أن تثلجه:

    - أخرج من هنا ومن حياتي إلى الأبد.

    تأملها لوقت طويل وهي تشيح بوجهها للجانب الآخر، تحرك فاهتزت إكرة الباب بيدها، وقف قبالتها، نظراته تخترقها..

    أشاحت أكثر وتلك الخيوط التي تحاول أن تتمالك بها نفسها توشك على الإنفلات..على التقطع...

    - مريم..
    ………-
    - انظري إلي.

    لم تستجب ولم تنظر، لازالت تقاوم تلك الخيوط.

    - انتبهي لنفسك...

    وانصرف...
    .
    .
    .

  21. #80

    ودمتم سالمين

    تهاوت على الأرض، أغمضت عينيها.....


    أطياف الأمس تتراقص من جديد أمام عينيها، منذُ أن وطأت قدماها هذه الأرض، وفي أول يوم لوصولهم إلى هنا، دلفت مع "أحمد" إلى مزرعتهم لكأن القدر شاء أن تراه قبل كل أحد وقبل اللا أحد...

    وتطوفُ الذكرى بعيدة بعيدة، تحلق بين صفحات الأمس، تختلس تلك اللحظات، وتتوه في أروقة الذاكرة، كانت معه، دائماً اللحظات تجمعها معه، وقد سار الآن ربما للأبد....

    كل شئ زال، كل شئ أختفى، أحلامنا سراب والواقع مر، مر كالعلقم....

    أي حقيقةٍ تبقت؟! أيُّ نهايةٍ هي نهايتي؟!

    أأكون لمحمود، ذلك الثلاثيني الذي لا يربطني به شئ سوى حاجتي لمن يرعى "أحمد" معي...

    أأكون أماً مرةً أخرى لأطفال ليسوا بأطفالي...

    وأبقى طوال عمري أرعى وأرعى وأرعى دون أن أجد من يرعاني أنا!!

    من يخفف همي والثقل الذي أرزء به...

    من يحسسني بأني لازلتُ صغيرة...

    لازلت في الثامنة عشر ومن حقي أن أفرح كبقية الفتيات....

    أريد أن أضحك، أن تبتسم لي الحياة ولو لمرةٍ واحدة...

    يكفيني عذاب، يكفيني...

    ما عاد بي جلد، لم أقدر على المواصلة، لم تعد بي قدرة على الاحتمال....

    أريد أن أُكمل تعليمي، أن أعود للجامعة، أن أعيش كبقية الناس، كبقية العالم...

    لماذا يا زمن؟! لماذا؟!

    لماذا تأبى إلا أن تُمرغني بين أوحالك، لم كلما حاولت أن أرفع هامتي عالياً، أجبرتني على أن أطأطأها...

    ماذا أفعل أخبروني، أمدوني بحل...

    كيف سأعيش بقية حياتي....

    لا أب، لا أم، لا أخوة، لا مال، لا أحد....

    أهذه هي نهايتي فعلاً؟!

    أظل تائهة هكذا...

    الأمان كلمة لم تعد في قاموس حياتي بتاتاً....

    الخوف، الخوف من المجهول يُغلفني، يخنقني، يُحيل أيامي إلى كوابيس....

    لم أعد أحتمل كل هذا لوحدي...

    لم أعد أقدر....

    رفعت رأسها حيثُ خرج الأخير...

    لازال واقفاً في باحة المنزل لكأنه ينتظر، لازال متشبثاً بأمل أن تعود إليه....

    ماذا قُلت عن الآمال؟!! سراب!!!

    الدخان يتصاعد من عقب سجارته، لم إذن أرسل أحمد؟!!

    أشاحت وجهها من جديد، ثوانٍ و سمعت صوت الباب يُصفق...

    لقد ذهب، خرج هو الآخر....

    أرتمت حينها على الأرض بقوة، تبكي...

    تبكي ألمها، ضعفها، قلبها المحطم...

    تبكي كل شئ بحياتها....

    لالالالالالا

    لا تذهب أنت أيضاً....

    عُد إلي...

    أبقى معي..

    سأسامحك ليس من أجلي...

    وإنما لأجل أحمد و....

    لأجلي أيضاً!!!

    فقط عُد...

    أبقى معي...

    خاطبني...

    أعيدوني إلى وطني..أعيدوني..

    مللتُ الوحدة....

    مللتُ الخوف...

    مللتُ كل شئ...


    شهقاتها ترتفع بصوت مسموع، وصداها يتردد بأرجاء البيت الخاوي من عروشه، خاوي من كل شئ ما خلاها هي....

    أهذه هي النهاية فعلاً؟!

    سمعت صوت "أحمد" لم تقوى على رفع رأسها...

    ابتسم له، نظر إلى الشئ الذي في يده:
    - ما هذا؟!

    أطرق "أحمد" إلى الأرض خجلاً:
    - هذه طائرة..

    ثم تقدم من "خالد" وأعطاه علبة السجائر، تراجع إلى الخلف وأكمل بخجل:
    - لم يتبق شيئ من النقود.
    - لا عليك.

    رفعت "مريم" رأسها، كانت تحسب نفسها تتخيل في المرة الأولى، تتخيل أنهُ يحاور أخوها، ألازال هنا؟!!


    دلف لغرفة الجلوس المفتوحة، تطلع لأخته الدامعة، نقل بصره بينها وبين "خالد"، ثم خاطب هذا الأخير:
    - ماذا فعلت بأختي؟! ضربتها؟!
    - نحنُ لا نضرب من نحب..

    تلاقت عيناها به عند هذه الجملة، عيناه لازالتا تتوسلانها، تطلبان منها أن تمنحه فرصة واحدة، واحدة فقط...

    نكست رأسها، وهي تمسح دموعها، عادت لتتطلع إلى "أحمد" الذي أفترش الأرض، فتح الغطاء، كانت طائرة سوداء كبيرة...

    "- مريوووم" تعالي انظري، أبوابها تُفتح وتُغلق.

    أنهضت نفسها المتهالكة، تقدمت منه، أسرتها ابتسامته، أدخلت السعادة لقلبها المُلتاع..

    جثت بجانبه وهي تمسح على شعره الأملس بحنان:
    - ما رأيك أن نركبها...

    نظر لها مفكراً ثم انفرجت أساريره:
    - ليس لديّ مانع، سنأخذ معنا "خالد" أيضاً حتى لا نخاف، أتأتي معنا؟!

    نظر إليها، كل شئ يتوقف عليها هي، تأملتهُ لوقت طويل، ثم أدارت وجهها، نظرت لأحمد، لبقية الغالية..

    دقاتُ قلبه تتزايد وهو يتنفس بعمق، روحه معلقة بين شفتيها..

    ردّت دون أن تنظر إليه:
    - ربما يخاف الطيران!!
    - أنا لا أخاف. ردّ بصوتٍ أجش.
    - لكن في الجو مطبّات، قد تتعثر الطائرة وتنجو بنفسك..وتترك من معك.
    - أنا لستُ نذلاً، حين تسقط سنقط جميعاً، إما الكل وإما لا أحد...

    تأملته بصمت من جديد، تقتلهُ ببطء، وجهه ينضح بالعذاب، عادت لتشيح وجهها ولكن بألوان مختلفة!!!

    الثواني تمرُّ ببطء كسلحفاة كسول، في رأسها تدور آلاف الأفكار، أتجازف؟!

    هي في كلتا الحالتين تجازف، سواء بمحمود أو به!!!

    ولكن من منهما تختار؟!

    رفعت عينيها، تشابكتا مع عينيه اللتان لا تفتأن تحيطانها كسياج، كسياج أم أشواك؟!

    سألته بتردد:
    - وهل نثق بالطيّار؟!
    - ثقي به، أمنحيه فرصة ليُخرج معدنه ولن تندمي أبداً.

    أرتعش فمها وهي توشك على البكاء من جديد:
    - لكن أنا..أنا أخاف..أنا..

    واهتزّ جسدها وشهقاتها تخنقها، تُحيل أنفاسها إلى غصات، كانت تعضُّ على شفتيها بقوة لتمنع صوتها من الخروج..

    أحمد يشدُّ طرف ثوبها لتلتفت له، ليفهم سر بكاءها...

    وذاك الآخر، يرقبها بألم، بحزن، ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟!

    هذان الأثنان أتعباها، أعيياها، أحالا أيامها إلى شقاء....

    - مريم..
    ………….-
    - أنا أعدك، ثقي بي، أرجوكِ كفّي عن البكاء فقط.
    …………..-
    - بإمكاني الإنتظار، سأنتظرك حتى لو بعد مائة عام..
    ………….-
    - لن أعدم صبراً، إذا أردتِ أن أخرج الآن سأفعل، فقط أهدأي.

    مسحت وجهها بباطن كفها، سكتت وإن أفلتت منها الشهقات بين الحين والآخر..

    - مريووم، لم تبكين؟! سألها الصغير.
    - لاشئ.
    - ألن نطير؟! سألها بلهفة.

    عادت كلماتها لترتجف من جديد على الشفتين، لكأنهُ الآخر يستعجلها لتُجيب...

    أطرقت وهي تقول بتلعثم:
    - متى..متى ما أراد؟!

    ابتسم، اتسعت ابتسامته وزال عبوسه، أقترب منها، لكنها عادت لتختبأ خلف "أحمد"، قطّب جبينه وهو يلوي شفتيه:
    - الآن..
    - الآن!! سألتهُ بإستغراب.
    - بالطبع، أتريدين أن أتركك الليلة لوحدك..كلا، لا أقدر..
    ……………..-
    - هيا، أحضري معكِ بطاقتك وكل ما تحتاجينه.
    - لماذا؟! سألتهُ بغباء.

    ردّ بنفاذ صبر:
    - لنعقد...لنتزوج.

    أحمّر وجهها رغم الدموع التي أغرقته، أحست بنفسها تعود فتاة، فتاة كالأيام الخوالي...

    أحتواها بعينيه وهي تزداد إطراقاً، متى تحين تلك اللحظة التي تجمعني بكِ، أقسم أني سأنسيك كل أيام الشقاء، كل العذاب الذي سببتهُ لك، أيام الحزن ولّت، آن الأوان لزهور الربيع، ولتذهب أوراق الخريف بعيداً عنا، هناك حيثُ القمر!!!!

    - ستطير معنا أم ستتزوج؟! استفسر "أحمد" بقلق.

    التفت له "خالد" وهو يبتسم:
    - سأتزوج وأطير أيضاً.

    رفعت رأسها إليه من جديد وكأنها انتبهت لشئٍ ما:
    - وهل سنذهب لوحدنا؟!
    - لا تخافي، لقد أرسلت رسالة إلى "أمل" من هاتفي وأنا في طريقي إلى هنا، سيحضر معها "راشد".
    - أكنت واثقاً بأني سأقبلُ بك..
    - كنتُ واثقاً بأنكِ تحبيني..

    رفعت حاجباها الدقيقان ولوت شفتيها، قالت بصوتٍ خافت:
    - مغرور...
    - ماذا قلتِ؟
    - أقول "أحمد" موجود هنا، لا أريد أن تفسد عقله..
    - أحياناً أود أن أكسر رقبتك..
    - جرِّب إن أستطعت..
    - ماذا ستفعلين؟!
    - سأقطع يدك.
    - لا مانع لدي..
    - أتُجازف؟!
    - معكِ أصيرُ مجنوناً.
    - ماذا تقصد؟!
    - أنتِ مجنونة أيضاً..

    أرادت أن تضربه على كتفه، لكنها أحجمت بخجل، أخذ يضحك على منظرها، انتقلت لها العدوى فضحكت ولكن بصوتٍ كتوم..

    ضحكت!!! مر زمنٌ طويل منذُ آخر يوم ضحكت فيه، حتى الضحك بات عملةً صعبة تنافس اليورو ربما هذه الأيام!!!!!

    تأملها، تأمل ضحكتها الخافتة ووجهها الطفولي البرئ، انتبهت له، عادت لتسبل رموشها بخفر وحياء...

    - يكفيييييييييييييييييييييييييي.

    صرخ "أحمد"، التفّوا حوله وهو يكاد يتميز من الغيظ:
    - متى سنطير؟!

    ومع خيوط الفجر، كانت الطائرة تحلق بهم جميعاً إلى........

    أتعلمون أين؟!!!!
    .
    .


    إلى جزر حوار، حيثُ مرج البحرين يلتقيان، هناك في الوطن، وما أجمل العودة إلى الوطن!!!!

    ========



    Love Delusions

    ضلالات الحب أو الحب الضلالالي



    يعتقد الشخص (ضلالاً) بأنهُ محبوب من قبل شخص آخر حباً رومانسياً لدرجة الالتحام الروحي، ويكون هذا الآخر عادة من طبقة عالية أو شخصاً مشهوراً أو رئيساً في العمل، وقد يكون غريباً عن الشخص صاحب الضلال تماماً، وقد يبذل المصاب بهذا النوع من الاضطراب جهوداً كبيرة محاولاً الاتصال بهذا الآخر من خلال الهاتف أو الخطابات أو عن طريق الهدايا أو الزيارات أو الملاحقات المستمرة أو أعتراض طريقه.

    ورغم هذه الجهود فإنهُ يحفظ ضلالاته سرية ولا يبوح بها، وقد يقع تحت طائلة القانون بسبب محاولات حمقاء يبذلها المضطرب بإنقاذ الشخص موضوع الضلال من خطر وهمي...

    تـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــمت بحمد الله 000أتمنى تنال اعجابكم 00ودمتم سالمين

الصفحة رقم 4 من 4 البدايةالبداية ... 234

بيانات عن الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

عدد زوار الموضوع الآن 1 . (0 عضو و 1 ضيف)

المفضلات

collapse_40b قوانين المشاركة

  • غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
  • غير مصرّح بالرد على المواضيع
  • غير مصرّح لك بإرفاق ملفات
  • غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك
  •  

مكسات على ايفون  مكسات على اندرويد  Rss  Facebook  Twitter