البداية
حينما يقلق هدوء الليل صوت صفارات الإنذار تدوي بذاك المبنى القديم الذي يعود تاريخه إلى ما يقارب المائة سنة من الآن، وبالرغم من تلك السنوات إلا أنه حافظ على هيئته التي تشبه قصور الأمراء والنبلاء بالعصور الوسطى، لم يكن ذاك المكان إلا ملجأ أو مدرسة خصصت للأيتام الذين قسا عليهم الزمن بجوره وحرمهم من متعة العيش كالآخرين.
ما هي إلا لحظات قليلة من ذاك الإنذار...
تجمهرت الفتيات بمختلف أعمارهن بملابس النوم و الراهبات اللاتي وهبن أنفسهن لتربيتهن وإنشائهن بالطريقة المثلى ؛ كي يستطعن إكمال حياتهن بنزاهة وصفاء نية... لقد بث الإنذار الفزع والخوف بقلوبهن، إذ لم يعتدن على هذا الصوت إلا في حالة هرب إحدى اليتامى، فسيطر الهم والقلق بينهن، وتعالت الهمسات بين الجمع...
" روسين هربت "
" إنها كارثة على العالم "
" لقد أعادت الكرة "
" لن تستسلم إلا إذا غادرت سجنها "
" لن تحل الرحمة على العالم إلا بموتها "
" الحمد الله بأن لا علاقة لنا بها "
" إنها فتاة بائسة متمردة ضالة "
عندئذ...
يتعالى صوت امرأة حاد النبرة يصدر من الميكروفون وقد بدا على الصوت الجد والأسى:
_حاولت جاهدة الحفاظ عليها بسجنها بغرفتها، إلا أنها عزمت هذه المرة على الهرب ولن أمنعها فقد باتت تشكل عبئا ثقيلا علينا... ثم صمت الصوت قليلا ليعود للحديث... لقد بلغت سن الثامنة عشر ولها الحق بعيش حياتها بعيدا عن هنا وهذا سيريحنا من الخوف ولعنة العذاب التي وقعت علينا مع نوبات القلق المستمرة التي انتابتنا لحظة دخولها الملجأ... ثم صمت الصوت مرة أخرى وعاد لينهي حديثه بحزن شديد... فلتعدن للنوم وتدعـين الرب أن يسلم أرواح العالم من شؤمها.
في الطرف الأخر والبعيد عن الملجأ...
تسمع خطوات تسير بلا انتظام تارة تتسارع وتارة أخرى تتباطأ عندئذ استدار صاحبها للوراء ومعها يعلو صوت تنفس... شهيق وزفير صاحبها المرعوب الخائف من السير بشارع مظلم يعمه الهدوء المقيت الذي يوتر أعصاب الكثير من الناس. لم يكن هناك أي كائن يسير أو أي صوت يهدئ روع صاحب تلك الخطوات أو يدعوه لإراحة أعصابه وتوتره و صوت تنفسه الهائج يتعالى بينما تتعثر خطاه كلما استدار خلفه محدقا في الظلام يحاول اختراقه بنظراته وكأنه يبحث عن شبح يلاحقه بطريقة مجنونة.
ما هي إلا دقائق حتى عاد شيء من الهدوء لصاحب تلك الخطوات حينما سمع صوت بعض المخمورين يتجولون بذاك الشارع ويطربون أنفسهم بصوت أغانيهم الغير مفهومة، أيقن لحظتها بأنه عاد لبر الأمان ونزع القليل من التوتر الذي سيطر عليه منذ دقائق ،فسار بهدوء متناسيا الخوف الذي تملكه وأختبأ داخل ساحة سيارات بالية ومتآكلة، خلف سيارة قديمة مغبرة بمكان قريب من الشارع فتكلم وبان من صوته الدافئ والحزين أنها فتاة في ريعان الشباب:
_يبدو أني سأقضي ليلتي بهذا المكان المقيت الذي يجلب الشؤم للغربان ذاتها فما بال البشر. و اتخذت لها مكانا بالقرب من الباب الخلفي لسيارة محطمة ثم تقوقعت على نفسها متأمله المكان... سيارات بالية محطمة متجمعة بعضها فوق بعض وقد خيل لها لحظة رؤيتها إياها أنها جبل شامخ ووعر لولا معرفتها بطبيعة المكان الذي نزلت فيه... حاملات ورافعات... قارورات الجعة والبيرة ملقاة وتحركها قليلا نسمات الهواء مرة للأمام ومرة أخرى للخلف مخلفة أصوات تدعو للكآبة وتتداخل معها أصواتا الحيوانات التي كانت تقضي ليلتها بذلك المكان من قطط... كلاب... جرذان، وكأنه وكر للكلاب والقطط الضالة... تكلمت بحزن شديد عندما وصلت أفكارها إلى هذا الحد وقد عضت على شفتها السفلى... وماذا عني؟... أنني ضالة أيضا ولا مأوى لي. ثم صمتت قليلا وقد شعرت بخوف شديد عند سماعها حركة سريعة بين تلك السيارات متنقلة بين محركاتها مصدرة صوتا وكأن السيارات المتجمعة ستتساقط معا مرة واحدة، فنهضت قائلة وهي تضم يديها لجيبي البنطلون بسرعة كبيرة:
_ تبا إن حيوانات هذا المكان بدأت ترعبني. ثم انطلقت خارجة من ذاك المكان تكمل سيرها بالشارع المظلم الذي لم تكن إضاءة القمر فيه كافية لرؤية ما يحويه من معالم فشرعت تحدث نفسها بألم وحنق شديدين كما فعلت لساعات طويلة:
لقد قتلت طبيبتي يوم أمس والمتهم الوحيد بقتلها هي أنا... إنني فتاة تجلب الشؤم لكل من يكن لها العاطفة والحنان... لقد كنت سعيدة ذات مرة بالعيش مع عائلة مكونة من والدي إلا أنه منذ ولادة أخي الصغير مايك بدأت حياتي بالتغير لشعوري بالغيرة من تعلق العائلة به واهتمامهم الشديد به وكأنه شخصية مهمة، في ذلك الوقت وحينما بلغ ثلاثة أشهر من العمر تغير مجرى حياتي كلها في لحظة، فوفاته المبكرة حولت نظرات الاتهام والشبهات نحوي بسبب غيرتي العمياء منه وعدم قدرتي على تقبل وجوده حيث كان يسرق اهتمام والدي مني، وأعلنت كرهي له عدة مرات وأن الحرب ستستمر ضده منذ بلوغه الشهر الأول إلى نهاية حياته، وحينما حانت لحظة وفاته،كرهته أكثر فلقد كانت التساؤلات والتحقيقات تدور حول حلقة مفرغة هي أنا إلى أن بانت الحقيقة حينما أوضحت التقارير بأن الطفل قد وقع من ذاته وبلحظتها شعر والداي بالندم على اتهامهما لي وخلق أجواء الغضب دون دليل قاطع يدينني، فتعلقا بي وتعهدا على الاعتناء بي ومحبتي للأبد وبهذا شعرت بأني عدت لسابق عهدي وأيقنت أن وفاة أخي كانت لمصلحتي فعزمت على نزع ما بداخلي من مشاعر حقد نحوه... كنت ملكة زماني بذاك الوقت فرغباتي مجابة ولي مصروف لا يحلم به الأطفال الذين كانوا بمثل سني ورحلات أسبوعية لأجمل أماكن التسلية بالمدنية، إلا أن القدر لم يشأ أن أغرق بالسعادة الكاملة وقرر سلفا أن يسرق مني والدي فتعرضا لحادث سير بشع مرعب أدى لوفاة والدي مباشرة بينما نقلت والدتي للمستشفى لسوء حالتها الصحية... لم أنس تلك الأيام...
في تلك اللحظة...
قطعت خلوتها وتسامرها مع نفسها قطة سوداء اللون ذات عينين براقتين مخيفة الشكل فقال لنفسها بشيء من الذعر وهي تبتعد بأكبر قدر ممكن عنها...
تبا لها فلقد كان مواؤها مخيفا وهيئتها بشعة... ثم صمتت للحظات وعادت لتذكر ماضيها المؤلم... كان ذاك الفجر مؤلما لي... جلست بالمستشفى أمام غرفة والدتي منتظرة الأطباء يخرجون من غرفة العمليات ويقولون لي أن والدتي بخير وبعد مرور الساعات الخمس الأولى من صباح ذاك اليوم خرج الطبيب وقد أرهقته العملية وبدأ يمسح عرقه وينزع الكمامة ثم قال للخال اريك:
" ستعيش ولكن حالتها الآن حرجة وبحاجة لأن تستقر"
عندها حملني الخال أريك وقال بابتسامة حزينة وهو ينظر لي:
"ستعيش والدتك... إن هذا مفرح"
فسألته عن والدي... تغيرت ملامحه السعيدة وبراءة ضحكته الهادئة إلى كآبة ونظرات أغرقتها الدموع وقال لي حينذاك:
" أن والدك بالفردوس الأعلى وحتما سيكون سعيدا بوجوده قرب الرب "
لم أكن قد تجاوزت سن السادسة من عمري حينما توفي والدي ولهذا كنت أعتقد بأن والدي رحل لمكان ما وسيعود في القريب العاجل، وبينما كانت عائلة والدتي سعيدة بعض الشيء كان الحزن يغرق عائلة والدي الفاقدة لعزيزها الراحل.
وإن هي إلا ساعات قليلة من السعادة المنتهية...
حتى وصلنا خبر وفاة والدتي فقد نزعت كمامة الأوكسجين عن فيها لسبب مجهول فاعتقد الأطباء أنها نزعتها ولكن التحقيق لم يجد أي دلائل أو بصمات عليها وأشارت الأدلة بعد ذلك أنها لم تكن مثبتة بطريقة جيدة وهذا الذي أدى إلى انزلاق الكمامة ووفاتها على الفور. وعاشت العائلتان بحزن عميق في تلك الأيام العصيبة بينما كنت حينذاك ألعب بالدمى اللاتي أهداني إياها الخال أريك وبداخلي يقين أن والداي سيعودان بعد القليل من الوقت من الفردوس وسيكونان أكثر شبابا كما عرف عن الفردوس وليس هناك داع للبكاء، ومن ثم قررت عائلة والدتي وبرئاسة الخال أريك بأن أكون تحت حضانتهم... عشت سعادة لا توصف بالقرب من جدي والخال العزيز الذي كان يعاملني كابنة له ويدللني بشكل ملحوظ وقد بان عليه التعلق الشديد بي حينما أهداني دمى أثرية تعود للقرن الخامس عشر إذ إن وظيفته التنقيب عن الأثار، فقد وجد تلك الدمى في صندوق خشبي قديم مدفون بقرية فرنسية قديمة مهجورة حينما كان يدرس طبيعة تلك القرية والآثار التي خلفتها وراءها، وبعد طول وقت وعناء استطعنا اختيار أسماء لها والتي كانت ( اندي الدمية الفوضوية لما بان على هيئته الرثة وشعره المجعد وملابسه المعتقة، وبينما أطلقت اسم ماري الخبيثة على الدمية ذات الشعر الأسود الطويل والتبرج الغريب وملابسها الشفافة بعض الشيء وأما كيفن فأطلقته على الدمية الضخمة والبشعة قليلا وأخير اسم جوني على أحلى الدمى من ناحية هيئتها الأرستقراطية وأناقة لباسها)... لقد أحببتها كثيرا فتلك الدمى كانت أصدقاء طفولتي ووحدتي ورفيقة حزني وألمي ورثائي على نفسي في تلك الأيام الخوالي التي كان الكل ينجذب فيها ناحية أخي مايك... إن أكثر الدمى محبة لقلبي هو جوني فشعوري به يلغي كل شعور... ثم توقفت عن التفكير لبرهة وهي تنظر للشارع الذي انتهى بمفرقين أحدهما لليمين والأخر لليسار فعادت لتحدث نفسها وعلامات الأسى مازلت تعلو وجهها الذي أجهدته تلك الأحداث... أي التفرعين أسلك؟... منزل والدي من ناحية التفرع الأيمن بينما التفرع الأيسر يوصلني لمنزل جدي لأبي... وبعد طول حيرة وانتظار الاختيار، انعطفت نحو التفرع الأيمن ومازال الشحوب والحزن يعلوان وجهها الطويل، وبالرغم من ذلك فقد كانت ذات جاذبية أخاذة من ناحية تقاطيعها المرسومة، كانت بيضاء البشرة بعينين خضراوين حادتين وشفتين صغيرتين بينما أنفها طويل متناسق مع تقاطيع وجهها. أما شعرها فكان كستنائي اللون تسترسل أطرافه الناعمة على كتفيها ومنتصف ظهرها ولها جسد مثير للأغراء متناسق وقد ارتدت بلوزة تظهر ذراعيها النحيلتين وبنطلون أسود اللون ضيق يلف قوامها الممشوق... أخذت تسير بلا مبالاة ومازالت تحدث نفسها بحزن شديد وكأنها أصرت في تلك اللحظة على الاعتزال والعيش في عالمها الحزين من الذكريات المرة المؤلمة وهي تحاول أن تسرد الأحداث بالتسلل الذي عاشته في تلك السنين الماضية...
انتهى هذا الجزء من الرواية...
المفضلات