حكاية الفتى الأشقر
" عندما يكره شخص شخصا آخر ، فإن العينين التي يستخدمها للنظر إليه تبدو مخيفة "
- السادة ركاب الطائرة الكرام نرجوا منكم ربط أحزمة المقاعد والامتناع عن التدخين استعدادا للإقلاع سنصل إلى المدينة المنورة في تمام الساعة السابعة بإذن الله.... التوقيت المحلي في اسطنبول هو ........
قلت لأمي في ضجر :
- ألن نعود أبدا ؟
- لا
قلت محاولا الهروب من نظرات المضيفة الإندنوسية لحزامي الذي لم أربطه بعد :
- لكننا سنعود من حين لآخر في الإجازات ... أليس كذلك ؟
- لا
تبا ... لا أحب هذا الأسلوب المقتضب الذي يشعرك أنك تتكلم مع موظف شباك التذاكر ...
- بليس هيزام هيزام ....
كانت هذه هي المضيفة تحاول تذكيري بأنني نسيت ربط الحزام ..... إنهم يشعروننا أننا سنركب قطار الرعب في الملاهي ..... ربطت الحزام مضطرا وسرحت قليلا بالنظر إلى النافذة ..... فلأملأ عيني من اسطنبول الآن .... لأنه قد يمضي وقت طويل قبل زيارتها ثانية ..... ذكريات هشام ونورهان .... وتلك الساحرة بتول .... فطائر ( اللهميجون ) الرائعة التي كانت تستنزف كل مصروفنا اليومي .... وذلك المعتوه مظفر .... ترى مالذي سيحصل له بعد أن أتركه ؟ ........ لقد ولت أيام تركيا إلى الأبد .... وأنا الآن في الطريق إلى حياة جديدة ..... إلى المدينة المنورة .
مر الآن أسبوع كامل على ذهابنا للمدينة .... إن للمدينة خاصية فريدة .... من يدخلها ولو يوما واحدا فقط لابد أن يعود إليها ..... وإلا مات حزينا شاعرا أنه محروم ...... إن تركيا بكل سحرها لا تساوي حفنة من تراب هذا المكان الطاهر .... كنا نعيش فيها في مكان يدعى ( الحماد ) .... أربعة مباني بنية عالية بينها فناء رخامي واسع .... وفي كل مبنى ما يقرب من 24 شقة ..... والحماد مشهور بكثرة الأطفال فيه إلى حد يشعرك أنك في حضانة وأن جرس نهاية الفسحة سوف يدق في أية لحظة ..... أولاد وبنات صغار في الفناء يجرون هنا وهناك ... لماذا يجرون ؟ لن تعرف أبدا ... ولا هم يعرفون .... كنت جالسا في هذا الفناء أتحدث مع شخص ما لا يهمكم معرفة من هو ..... ومن حين لآخر أنظر لهذه المهزلة في فتور .... وهنا سمعت شيئا غريبا جدا ....
- زومبي ..... زومبي ..... زومبي ..... زومبي .... زومبي .....
كان هذا صوت هتاف الأطفال الذين رأيتهم قد تجمعوا حول شخص ما وهم يصفقون وينظرون له في شماتة ..... ترى من هو ذلك التعس ؟ .... أراه من ظهره .... فتى عادي ... لكنه هزيل جدا ..... وشعره أصفر خفيف جدا يكاد يكون غير ظاهر .... استطعت أن أتبين أخي وسط الأطفال وهو يصفق سعيدا كأنه وجد ضفدعا برأسين.
قلت لمن كان بجانبي :
- من هذا الفتى ؟ ..
قال ضاحكا :
- هذا هو الزومبي .....
وأخذ يضحك كأنه سمع دعابة طريفة لأول مرة ..... حاولت أن أشرئب بعنقي لأرى الفتى أفضل لكنني لم أستطع .... كان الفتى يحاول الدخول إلى مبنى من المباني – واضح أنه يسكن هنا إذن – لكن الأطفال الأشرار كانوا له بالمرصاد يحاولون إخباره بأنه زومبي .... لم يصرخ فيهم ولم ينهرهم .... فقط كان ينظر إلى الأرض في ذل ويحاول التملص من اليمين تارة ومن اليسار تارة .... ثم قرر العودة إلى الخلف .... إلى ناحيتي .... هنا استدار الفتى .... وهنا فهمت كل شيء .
اتسعت عيناي في خوف ...... فما رأيته غريب جدا جدا ...... دعوني أحاول أن أصف لكم الفتى بالكلمات رغم ثقتي التامة بأن هذا مستحيل ..... هزيل جدا .... أحمر البشرة والجسم يشوبه البياض .... وليس أبيضا يشوبه الحمرة .... هناك شبح شعر أصفر خفيف جدا على رأسه ... كل هذا جميل .... لكن وجهه كان هو المشكلة ... هل منكم من لعب ريزدنت إيفل الجزء الأول ؟ ..... هل تذكرون أول زومبي في اللعبة ؟ ... ذلك الذي نراه يأكل جثة ما ثم يستدير لنا برأسه فنرى وجهه المقيت ..... كان وجه الفتى مشابها تماما لوجه ذلك الزومبي .... فقط ضع للزومبي شعرا أصفر خفيفا جدا ..... و حول لونه إلى الأحمر المبيض .... ثم صغر جسده ليناسب جسد صبي في الخامسة عشر من عمره ...... عندئذ ستحصل على الفتى تماما ..... تماما بدون أي اختلاف يذكر .
ماذا نقول عندما نرى شخصا قد ابتلاه الله بالتشوه الخلقي لحكمة يعلمها وحده ؟. ... الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرا من الناس .... أو اللهم عافه ولا تبتلينا ..... رددت هذه الكلمات بسرعة وأنا أنظر لهذا الفتى لأول مرة .... كان الأطفال يلاحقونه في غل وكأنه هو نفسه جعفر الشرير .
إنني الوحيد في ذلك ( الحماد) الذي يمكنه فهم نفسية الأطفال وتحملهم .... لذا كانوا يحبونني .... بل يعشقونني .... إن الطفل يعتبر أن الإنسان الوسيم هو دائما شخص طيب تابع لفريق الخير ..... أما الشخص البشع الخلقة فهو دائما شرير .... ولا يمكنك أن تغير هذا الرأي أبدا .... وهذا طبعا بتأثير أفلام الأنمي التي يدمنون مشاهدتها .... دائما علاء الدين وهرقل و ميكي ماوس و زورو و سنووايت.... كل هؤلاء شديدي الوسامة ..... بينما جعفر ودنقل و زورج – في حكاية لعبة وليس أنا بالطبع – و الساحرة الشريرة في فيلم سنووايت .... كلهم بشعين جدا لاتطيق النظر في وجوههم ..... هاهو الفتى المسكين يحاول التملص ...... لكنه لا يستطيع ..... فجأة يقفز عليه واحد من الأطفال ويمسك بملابسه ... ثم يتبعه أخي المعتوه ويشده من فانلته ..... وهنا انفجر الفتى ..... ليتك تشاهد وجهه الغاضب حينذاك .... لقد تراجعت أنا إلى الوراء متفاديا عدوا وهميا من الخوف ..... طار أخي المسكين ووقع على الأرض ..... اتجه إليه الفتى وضربه على وجهه ..... وهنا كان يجب أن أتدخل ...... كان يجب أواجهه .... فليرحمني الله ...
قمت غاضبا – أو أمثل أنني غاضب – لأواجه هذا الفتى وأعلمه درسا في التعامل مع الصغار ...... قلت له بصوت عال وأنا آت ناحيته :
- ألا تفهم يا هذا ....هؤلاء أطفال لا يحاسبون على أفعالهم .... وهذا الذي ضربته هو أخي .....
نظر لي الفتى نظرة خاوية .... عيناه غائرتين تماما حتى أنك تشك أنهما هناك فعلا .... لم أكن أحب أن أؤذيه .... كنت أشعر به وبألمه الداخلي تجاه هذا الذي ابتلي به دونا عن جميع الناس .... كنت أعرف أن أخي شرير ... لذا اكتفيت بهذه الكلمات .... التقت عينانا للمرة الأخيرة ..... فنظر الفتى للأرض واستدار عائدا إلى بيته .... ولم ينس أن ينحني ليلتقط ذلك الكيس الذي كان يمسك به عندما جاء ، والذي تبعثرت محتوياته على الأرض .. أخذ يلملم بقايا كرامته قبل أن يلملم محتويات الكيس ..... ثم مشى وغاب عن عيوننا .... هذا الفتى يتألم .... يتألم بعنف .
الآن أنا أمشي مع صديقي مأمون في الفسحة في المدرسة الجديدة تماما علي والتي كانت تختلف تماما عن مدارس تركيا طبعا ...... كنا نتكلم في أمر ما لا أدري ما هو ..... مأمون هو مصري مثلي – فأنا مصري بالمناسبة – لكن مأمون كان من الطراز الذي تشعر أنه صديق لكل الناس .... لا نمر بشلة ما إلا ووقف يتحدث معهم عن أي شيء ..... ومع الأساتذة كذلك .... كان اجتماعيا بعنف .... كنت أنا شاردا أنظر إلى بقالة المدرسة والتي يسمونها هنا ( المقصف ) وهناك رأيتت أحد الطلاب قد شمر ثوبه وربطه في خصره ... ثم قفز فوق مجموعة من الطلاب التلاحمين على هذا المقصف .... كل يريد أن يشتري شيئا ما قبل أن يرن الجرس ولا ينوبه من الفسحة إلا الشعر الشبيه بشعر ميدوسا والوجه المكفهر والثوب الذي امتلأ من بقع الشاي الذي يسقط دائما من خمسة يصطدمون بك على الأقل خلال هذه الرحلة الشاقة .. كنت سارحا في كل هذا حين سمعت مأمون يهزني قائلا :
- أحمد .... فيم سرحت .... دعني أعرفك على مصطفى ... من الصف الثالث المتوسط ...
نظرت لمن سأعرف بعد قليل أنه يدعى – مصطفى - ..... وهنا رجعت إلى الوراء ... وسقط منى العصير على الأرض ..... لقد كان هو نفسه ...... لقد كان هو الفتى الأشقرالمخيف نفسه .
تابع
المفضلات