البيئة كما خلقها البارئ
يقول المولى سبحانه وتعالى ( والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون* وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ) الحجر "19-20"، هذه هي الأرض كما خلقها البارئ سبحانه وتعالى وما يحيط بها من غلاف جوي وهو ما نطلق عليه اليوم وفق التعريف المستحدث: البيئة أو المحيط، أو الوسط الذي يعيش فيه الإنسان والحيوان المستأنس منه، والمتوحش والكاسر والزاحف والذي يسير على قدمين أو أكثر، واللسان الناطق، جلت قدرته ميز الإنسان عن بقية المخلوقات بنعمتي العقل، واللسان الناطق، وشاءت إرادته أن يهبط الإنسان إلي الأرض بما قدمت يدا آدم عليه السلام وأن يكون فيها معاشه ومماته إلي يوم البعث العظيم... بعد أن استخلفه فيها في قوله جل جلاله ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون )البقرة"30". ولا شك في أن الإنسان منذ بدء الخليقة التصق بالأرض وارتبط بها عصوراً طويلة، ومنذ عهود جد قديمة، وبتنامي قدراته الذهنية، وتوسع مداركه العقلية، وتعدد مصادره المعرفية، وتطوره العلمي، عبر مسيرة تدرجه الحضاري، توسعت دائرة اهتمامه لتخرج من إطار الأرض لتشمل الفضاء المحيط به، وتواصلت دراساته وأبحاثه لتشمل ما بعد الفضاء المحيط به إلي أن تمكن من بلوغ الكواكب الأخرى معتمداً في ذلك على سلطان العلم، وسلاح المعرفة إعمالاً لقول البارئ المصور ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) الرحمن"33".
ويقول المفسرون أن السلطان المقصود في هذه الآية الكريمة هو( العلم )*في كل مجالاته، هكذا نشأت وتنامت وتوسعت مجالات معرفة الإنسان بالأرض وما حولها وما نطلق عليه اليوم البيئة أو المحيط الذي عرفت به الرسالات السماوية التي اختتمت بالرسالة المحمدية ففتحت أما البشرية آفاق الكون بأسره، بل وحددت من خلال نصوص الآيات الكريمة التي سبق ذكرها وتلك التي سنتعرض لذكرها لاحقاً، حددت كيفية التعامل مع البيئة، بل وأمرت المسلمين بالحفاظ عليها، من ذلك قول المولى جل وعلا ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) الملك"15"كما جاء في آية أخرى قوله جل من قائل ( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا فيها معايش قليلاً ما تشكرون ) الأعراف"10"ومما تقدم يتضح بجلاء أن الله سبحانه وتعالى قد مهد وهيأ الأرض وطوعها للإنسان ليكسب منها عيشه، وليعمرها، وليحافظ عليها، ولكن البشر منهم من حافظ على هذه النعم وأحسن التصرف فيها وإزاءها، ومنهم من أساء إليها إساءات متفاوتة وصلت إلي حد الإخلال بالتوازن الطبيعي، وإلحاق ضرر بالغ بالبيئة والمحيط بشكل يعرض الحياة على وجه البسيطة إلي مخاطر لا يعلم إلا الله سبحانه مدى خطورتها، وأبعاد نتائجها الخيمة خاصة بعد اكتشاف ثقب الأوزون الذي سنعرض له لا حقاً بشيء من التفصيل. والذين أساءوا هذه الإساءات البالغة لا شك في أنهم يجهلون أو يتجاهلون قول الله العزيز الحكيم (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم * الذي جعل لكم الأرض مهاداً وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون * والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون )الزخرف"9-11"وقوله سبحانه وتعالى ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ) يس"33-35"وهنا لا بد من التوقف عند نقطتين جوهريتين هما :-
أولا ً :-( وما عملته أيديهم ) أي مما قاموا بغرسه وزرعه من نخيل، وزيتون، وأعناب. وتين، ورمان، وغير ذلك من الفواكه والخضروات ويفهم من هذا ضمنا مسؤولية الخلق عن إعمار هذه الأرض بعمل أيديهم.
ثانياً:- ( أفلا تشكرون) أفلا يقومون بواجب الشكر على هذه النعم وغيرها، والشكر هنا وفق إجماع المفسرين لا يكون باللسان فقط، بل يمتد إلي الفعل أيضاً من خلال الحرص على المحافظة على هذه النعم، ورعايتها، والتوسع في غرسها وزرعها. وعدم الإسراف واستنزاف نتائجها، ولا شك في أن دواعي المحافظة عليها تلزمنا جميعاً بالمحافظة على نظافة محيطها من كل ما قد يتسبب في إلحاق الضرر بها، أو يؤدي إلي فسادها.
وفي هذا المعنى، أن الشكر يكون بالفعل لا بالقول فحسب لقول رب العزة ( اعملوا آل داوود شكراً )سبأ"13" كما روي عن النبي محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام أنه صلّى إلى أن تورمت قدماه فقيل له يا رسول الله أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ وهذه إحدى أجل صور الشكر بالفعل.
الإسلام والنظافة
تميز الدين الإسلامي الحنيف عن بقية الأديان السماوية الأخرى بحرصه الشديد على النظافة والطهارة الدائمة والتي رفعها إلى مرتبة الأيمان كما جاء (النظافة من الإيمان) وذلك نلاحظه جليا في الركن الثاني من أركان الإسلام وهو (الصلاة) لتبين أنها تقوم على نظافة الجسم والملبس والمحيط الذي يؤدى فيه المسلم الفريضة وهذا الحرص يمتدد إلى نظافة البيئة وفي محكم التنزيل نجد الكثير من الآيات تحض على النظافة والطهارة سواء على المستوى الفردي في قوله تعالى ( يا أيها المدثر* قم فأنذر* وربك فكبر* وثيابك فطهر ) المدثر "1-4". أو على مستوى المحيط في قوله تعالى ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلي إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة "125". وقوله تعالى ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج "26". أما عن السنة النبوية الشريفة فهناك عدة أحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم تحث على إماطة الأذى عن الطريق وعدم إلقاء القاذورات بالشوارع أو قرب المناطق السكنية وضرورة ردم جثث الحيوانات النافقة ، وإذا ما عرفت مشاكل البيئة خلال العقود القريبة فان رسولنا الكريم كان سباقا حيث أوصى بأعمار الأرض أو ما عرف حديثا بالتنمية المستدامة في قوله عليه أفضل الصلاة والسلام (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها) وهنك قصة من التراث تروى عن شاب رأى شيخ مسنا يغرس فسائل نخل وكان الشاب على يقين بأن الشيخ لن يعيش حتى يأكل من ثمارها فصارحه بما يدور في خلده فرد الشيخ (غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون ) وهذه القصة مدلول على الوعي البيئي المتأصل و اهتمام السابقين بالبيئة وأعمار الكون و تؤكد أيضا أن أعمار الأرض مسؤولية الأجيال المتعاقبة والمسلمين الأوائل كان حرصهم على سلامة البيئة في السلم والحرب وهم أول من سن لهذا أمرا عسكريا لجيوش الفتح يقول ( لا تقتلوا امرأة ولا صغيرا ولا بصيرا فانيا ولا تقطعوا شجرة ولا تهدموا بناء ) وأصبح هذا الأمر نافذا منذ غزوة مؤتة وجاء في الحديث الشريف قول رسولنا الكريم عليه أفضل الصلوات والسلام ( ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه إنسان أو حيوان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة ) وفسره المفسرين بأنها صدقة جارية يتجدد أجرها.
يتبع
المفضلات