الداعية بهلول
وربما جاء على رأس هؤلاء الدعاة المجانين بهلول -وهو بهلول بن عمرو بن المغيرة الصيرفي، توفي في بغداد نحو سنة 190هـ- فقد اشتهرت عنه مواقف تدل على بصيرة نافذة، وقلب حي، وحرص على إرشاد الناس وهدايتهم ودعوتهم للخير، لا يفرق في ذلك بين ما إذا كان المدعو خليفة المسلمين أو رجلا عاديا من عامتهم.
يروَى أنه قال للرشيد واعظا: "يا أمير المؤمنين، كيف لو أقامك الله بين يديه فسألك عن النقير والفتيل والقطمير؟". فخنقت العبرة الرشيد، فقال الحاجب: "حسبك يا بهلول، قد أوجعت أمير المؤمنين". فقال الرشيد: "دعه". فقال بهلول: "إنما أفسده أنت وأضرابك". فقال الرشيد: "أريد أن أصلك بصلة". فقال بهلول: "ردها على من أُخذت منه". فقال الرشيد: "فحاجة". قال: "ألا تراني ولا أراك".
وقد كان بهلول يتفنن في تعليم ووعظ غيره، حتى لو كان ذلك الغير عالما، فقد لقي عبد الرحمن الكوفي، فقال له: "أسألك؟". فقال: "اسأل". قال: "أي شيء السخاء؟". فقال الكوفي: "البذل والعطاء". قال: "هذا السخاء في الدنيا، فما السخاء في الدين؟". فقال: "المسارعة إلى طاعة الله". قال: "أفيريدون منه الجزاء؟". فقال: "نعم، بالواحد عشرة". قال: "ليس هذا سخاء، هذه متاجرة ومرابحة". فقال الكوفي: "فما هو عندك يا بهلول؟". قال: "لا يطّلع على قلبك وأنت تريد منه شيئا بشيء".
وكان بهلول يحرص على عدم أذية الآخرين، ولو كان في ذلك أذية جسمه، ويرجو أن يدعو له الآخرون بسبب ذلك بعد موته، قال عمر بن جابر الكوفي: "مر بهلول بصبيان كِبار، فجعلوا يضربونه، فدنوت منه فقلت: لم لا تشكوهم لآبائهم؟ فقال لي: اسكت، فلعلي إذا متّ يذكرون هذا الفرح فيقولون: رحم الله ذلك المجنون".
انتظروا الجزء الثاني
المفضلات