بسم الله الرحمن الرحيم و جئ بالفتى الذي جرى بينه و بين الملك حوار بدأه الملك بنبرة ودودة :
ترام
الجزء الأول......
كنت أعبر الميدان حين شاهدت شابة ترتدي تايير أزرق قصير ... تتطلع حولها في حيرة بالغة ثم تستوقف شاب فوضوي وسيم المظهر بدا أنها تسأله عن عنوان معين ، بدا هذا العنوان خلف التمثال.
أوشكت على أن أتقدم عارضا المساعدة لكنه أصطحبها ومضيا معا ، غير أن التمثال أخذ انتباهي ، خمسون عاما من المرور به حتى إنني لم أكن اشعر بأنه موجود.
لم يكن مثل تماثيل الميادين الصغيرة ، تمثال نصفي لزعيم مشهور أو كتلة من الجرانيت غامضة المعالم ، بل كان نحتا مصبوبا لفتى نحيل في قميص و بنطال ، بيده حزمة من الورد أقيم على قاعدة صغيرة.
أتذكر في طفولتي هذه الحديقة الواسعة المترامية كانت مليئة بالأشجار العتيقة و الدكك و فوانيس الغاز الأثرية.
و قبل أن تقطع مساحة منها تلو المساحة لشق الشوارع و أقامة الابنية و بحيث لم يبق منها سوى المربع ، و في وسطه هذا التمــثال.
أزيلت نافورة المياه التي بنيت من الرخام الأبيض محفور بالنقوش و كانت تطلق المياه من رؤوس سبع سباع ضخمة و صار مكانها كشك لبيع الوجبات السريعة ، اما في خلف التمثال فكانت توجد برجولا دائرية ضخمة كنا نطلع لها بسلالم خشب ، ولها سقف مخروطي مغطى بالنباتات ، يصطف عازفو فرقة الموسيقى البلدية بأدواتهم النحاسية اللامعة يعزفون لرواد الحديقة. لم يعد البرجولا موجودا و أقيم بدل منه مرحاض عمومي للرجال يجلس على عتبة مدخله رجل كبير السن رث الثياب يسأل الداخلين قرش من أجل الخديوي.
لم يكن لي أن أفوت فرصة لاستمع إليه – و قد كان رئيس الحديقة فيما مضى- لأعرف منه حكاية ذلك التمثال العجيب. تدفق الرجل في أسى بالغ : " لهذا التمثال لعنة و الله لعنة كل حاكم جديد – رئيس البلدية – يبدأ عهده بمحاولة لهدم التمثال أو استبداله بتمثال لأحد الرؤساء أو لشخصية سياسية بالغة الشهرة و يبدأ العمال حتى تحدث الكارثة فيتوقف العمال ... اللعنة تسكن هنا في أسفله أنظر أنها صرة بها عظام أدمية "
و انطلق العجوز يحكى و هو يصب الشاي ، عن قصة ذلك القصر الذي كان مقاماً هنا.
جرت فيه أحداث ذلك التمثال. لم يعد القصر موجود ، و كان يسكنه ملك باطش. يفتك بمن يشك في ولائه أو يتوجس منه طمعا في أمواله أو مملكته . و كان قد اتخذ أعوانا لنفسه لإنزال العقاب بخصومه ، أعوان من بينهم أصحاب علم أو أصحاب قوة أو أصحاب مكر ودهاء. و كان يجاء بالمذنب وما إن يدخلوه سراديب هذا المكان حتى تسمع صراخا خارج القصر ، كل ذلك كي يبقى الملك على حكمه.
و يظل أبناء العامة على خوفهم منه . بل لم يتورع على التخلص من زوجته الجميلة حين ذكرته بأن العدل و الرحمة يضمنان له حكما و خلود فماذا فعل بها ؟؟ قال : " إجلالا لك كملكة لن تموتن كما يموت الناس . إنما بطريقة لم يحظ بها أحد قبلك و لن استخدمها إلا معك. ميته ليس فيها صراخ ولا الم....
و سممها ، من أنجبت له قدرا من الجمال و الرقة في هيئة فتاه تدعى ترام . و كانت هي نقطة ضعفه لا يملك أمامها شئ حتى لو طلبت منه ألا يقتل أمها لفعل لكن هيهات فقد كانت صغيرة لا تعي ما يفعله أبوها.
أما نقطة ضعفها فهي حبها الطاغي للناس و الشوارع و الأسواق لذلك طلبت ترام من أبيها بعد ان كبرت قليلا وطرق خراط الصبايا بابها ان يسمح لها بأن تتجول في المدينة فأذن لها على ان تكون في عربة تجرها الجياد. بالطبع يعرفها الناس فيحونها كلما مرت بهم بل يهدونها من أشائهم المتواضعة فيروق لها ذلك و تقول لنفسها " أـنهم طيبون و كرماء" .
سارت أمور ترام على هذا النحو من تجوال كل يوم و تلقى المزيد من الهدايا حتى فاضت غرفتها فكانت الرباط الذي لا يذوب بين الملك و شعبه. إلى ان اثر انتباهها شاب وسيم كانت تراه كل يوم كأنما ينتظر مرورها.
فكانت تطلب من السائق ان يبطئ قليلا.
و في يوم من الأيام اتصلت بينهم لغة من البسمات وإشارة التحية . مما شجع الفتى ان يناولها خطابا ما و ما ان خلت بنفسها و فضت الرسالة حتى وجدتها فارغة الا من بقعة حمراء و يوم فيوم لم تعد تحار في فهم مغزى الرسالة ، ثم قامت فحفظتها في صندوق خاص من البونسيان بحديقة القصر. كان الملك كلما اطلع على هدايا العامة قال لها: " إن شئت أمر الصناع يصنعوا لك مثلها ذهبا.
إلا ان علم بقصة صندوق البونسيان تحت الشجرة فأمر الرجال بأن يأتوه بهذا الشاب قائلاً : " لا تعذبوه ما هكذا يمكن إبعاد هذا الطامع في أموال ابنتي.
- أنا أعرف انك شاب متعلم وطيب الخلق و تحب الأميرة. هل بوسع بابني ان تدفع لي مهرها ؟
- أمرني يا سيدي الملك.
كان جلالته يعرف بالطبع كم هو فقير ذلك المسكين الذي تكسب رزقه بعرق جبينه صحيح انه نال كثير من العلم لأنه ابن الحداد يعمل بالكور و المنفاخ و السندان و يتقاضى أجره أحيانا بعض من الطعام حتى وليس مال.
البقية في الأسبوع القادم
المفضلات