سيرة ذاتية
ولد أبو القاسم الشابي في 24 فيفري 1909 الشابية، قرب توزر، في أسرة موسرة [...] وقد زاول والده محمد الشابي دراسته بجامع الأزهر بالقاهرة حيث كان تلميذا نابها من تلامذة الشيخ محمد عبدة (ت 1905)، وعاد إلى تونس محرزا على الإجازة المصريّة، وعيّن قاضيا أوّل أمره بسليانة (22 مارس 1910).
وكان ذلك بداية سلسلة من التنقّلات مكّنت أبا القاسم من معرفة البلاد التونسيّة كلّها تقريبا، فقد كان يرافق اباه طول الوقت غلى أن بلغ سنّ الدراسة [بالزيتونة] بتونس العاصمة، فاقتصرت مرافقته إيّاه على العطل (...).
وكانت دراسة أبي القاسم الابتدائيّة باللّغة العربيّة دون غيرها، ثمّ أرسله أبوه، وهو لم يبلغ الثّانية عشرة إلى تونس لمتابعة الدّراسة الثانوية بجامع الزيتونة. ويضبط ملفّه الجامعي أنذه رسم بهذا الجامع يوم 11 أكتوبر 1920,
أخذ أبو القاسم يحضر الدّروس التي كانت تلقي بجامع الزّيتونة، وكان موضوعها الأساسيّ الفقه والعربيّة، إلاّ أنّه كان يختلف غلى المكتبة ويكثر من المطالعة إلى جانب تلك الدّروس التي لم يكن ليكتفي بها.
فقد كانت - غير بعيد عن جامع الزّيتونة - مكتبتان على درجة من الأهميّة كان أبو القاسم الشّابي يختلف إليهما بانتظام، وهما مكتبة قدماء الصّادقيّة والمكتبة الخلدونيّة. ويمكننا - اعتمادا على مختلف المعلومات المكتوبة الشّفويّة التي توصّلنا غلى جمعها أن نصنّف مطالعاته غلى ثلاث مجموعات :
الأدب العربيّ القديم، وخاصة الشعراء (المشهورين أو المغمورين) مع ميل واضح إلى الآثار الصّوفيّة.
الأدب العربيّ الحديث من خلال مدرستي المهجر والمنشورات المصريّة.
الأدب الأوروبيّ من خلال التّرجمات العربيّة والمؤلّفات المعرّبة، وتتكرّر ثلاثة أسماء [في تلك المعلومات] بإجلال كبير وهي : "غوته" (Goethe) و"لامرتين" (La martine) و"أوسيان (Ossian).
وما أن تترك له كتبه بعض الفراغ حتّى يختلف بنفس الشّغف غلى المجالس الأدبيّة والحلقات الدّراسيّة والمنتديات الفكريّة [...].
ويبدو أنّ الشّابّي أقبل في شهر أكتوبر 1927 على السّنة الدّراسيّة التي أعدّ فيها شهادة التّطويع، وهي شهادة ختم الدّروس الثانويّة (...) ثمّ انخرط في مدرسة الحقوق التونسيّة وبدأ سنته الدّراسيّة الجديدة (1928-1929).
وفي غرّة فيفري 1929 القى محاضرة مشهورة في قاعة الخلدونيّة بتونس عن "الخيال الشّعري عند العرب" (...) وقد عمل فيها على استعراض كلّ ما أنتجه العرب من الشّعر، في مختلف الأزمنة وفي كلّ البلدان، من القرن الخامس إلى القرن العشرين ومن الجزيرة إلى الأندلس واتّضح، من خلال سعيه إلى تحديد تصوّره الشّعر وإلى بلورة رؤية شعريّة، أنّه ناقد على ثقة بنفسه وإن لقي صعوبة في إقناع سامعيه الذين صدمهم أكثر ممّا استمالهم.
وقد فاجأت هذه المحاضرة التي ألقاها طالب في العشرين من عمره لم يكن يعرف لغة أجنبية ولا غادر بلاده بما في أحكامها من جرأة، وبما في الآراء الواردة فيها من طرافة، وبما في ذوق صاحبها من جدّة، فأثارت في تونس أوّلا ثمّ بالمشرق العربيّ بعد ذلك سلسلة من ردود الفعل العنيفة ضدّ مؤلّفها [...].
وأقبل عليه صيف ذلك العام بهموم جديدة : فقد غادر ابوه الذي اشتدّ به المرض زغوان (جويلية / أوت 1929) غلى مسقط رأسه، [...] ولم يكن بوسع الشابي إلاّ أن يشهد احتضار ابيه، فثار حينا وأحسّ بنفسه على شفا الهاوية حينا آخر [...] وتوفّي أبوه - رحمه الله - يوم 8 سبتمبر [...].
وبدأ الشابي يوم غرة جانفي 1930 كتابة "مذكّراته"... ولكنّه توقّّف للأسف عن كتابة المذكّرات في شهر فيفري من السّنة نفسها. وذكر في مذكّرة 13 جانفي أنّه عليه أن يلقي محاضرة عن الأدب العربي. وذهب صحبة بعض أصدقائه إلى الموعد ولكنّه ألفى القاعة فارغة، فلم يعد أحد يرغب في الاستماع إليه بعد محاضرته السّابقة عن "الخيال" [...]. وقد أثّر فيه مشهد القاعة فارغة تأثيرا عميقا، فنظم في نفس ذلك اليوم قصيدته الشّهيرة : كالنبيّ المجهول".
وأتمّ في تلك السّنة نفسها دراسته في مدرسة الحقوق التونسية، وكان وقتها مريضا، ولسنا نعلم على وجه الدّقّة متى بدأ يحسّ بالمرض، غير أنّ أخاه الأمين ذكر أنذ عوارض المرض الأولى ظهرت عليه سنة 1929 [...] وظلّ مرضه غير معروف على وجه الدقّة [...] ولم يسع إلى الإقبال على عمل، بسبب مشاغله العائلية ومرضه أو بسبب تصوّره دور الشاعر أو لكلّ هذه الأسباب مجتمعة، فاكتفى، كسائر طلبة الحقوق، بإجراء تربّص لدى المحاكم التونسية [...].
وسهر على مصالح عائلته وواصل كتابة الشّعر، وظلّ على ما كان عليه من نشاط وحماسة في بعث المنتديات الأدبية وبثّ الرّوح فيها [...].
[وقضى صيف 1933 بالمشروحه بالتّراب الجزائري حيث رتّب ديوانه، وقد ظنّ عند عودته غلى مسقط رأسه أنّ الدّيوان قد ضاع في مصالح البريد، وتبدو الأزمة التي انتابته بسبب ذلك من خلال رسائله إلى صديقه محمّد الحليوي].
وإثر هذه الأزمة النّفسيّة انتابته أزمات أخرى جسديّة أعادته إلى صراعه المرهق مع المرض. ونكاد لا نعرف شيءا عن حياته طوال شتاء 1934، وقد ظلّ بتوزر، غير أنّ أزمة شديدة الخطر (جانفي 1934) أجبرته على ملازمة الفراش طوال بضعة أشهر، وأضحى يعاني من مرضه الغريب شديد المعاناة، وأضحى يعاني خاصّة من عجزه عن الخروج والاستمتاع بالطّبيعة [...].
وواصلت مجلّة "أبولو" المصرية نشر أشعاره بانتظام، فكان ذلك بداية الشّهرة.
وانتقل مع بداية الرّبيع غلى بلدة الحامّة التي تبعد عن توزر تسعة كيلومترات ولكنّه كان متعبا، عاجزا عن الحركة، خائر القوى، وهو الذي كان قبلا لا تهدأ حركته، فصار يحسّ بأنّه منهك فصار قلقا وازدادت حاله سوءا، وتوالت عليه الأزمات فأجبرته على مغادرة الجنوب للمعالجة بشمال البلاد [...].
ووصل إلى تونس العاصمة يوم 26 أوت 1934... ودخل يوم 3 أكتوبر 1934 المستشفى الإيطالي بتونس [مستشفى الحبيب ثامر]، وفيه توفّي بعد بضعة أيّام، يوم الثلاثاء 9 أكتوبر 1934 ساعة الفجر.
المصدر:
http://www.nadiadab.edunet.tn
قصائد :
إذا الشعب يوما أراد الحياة
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة
تبخر في جوها واندثر
كذلك قالت لي الكائنات
وحدثني روحها المستتر
ودمدمت الريح بين الفجاج
وفوق الجبال وتحت الشجر:
إذا ما طمحت إلى غاية
ركبت المنى ونسيت الحذر
ومن لا يحب صعود الجبال
يعش ابد الدهر بين الحفر
فعجت بقلبي دماء الشباب
وضجت بصدري رياح أخر
وأطرقت أصغى لقصف الرعود
وعزف الرياح ووقع المطر
وقالت لي الأرض لما سالت:
يا أم هل تكرهين البشر ؟:
أبارك في الناس أهل الطموح
ومن يستلذ ركوب الخطر
وألعن من لا يماشي الزمان
ويقنع بالعيش ، عيش الحجر
هو الكون حي يحب الحياة
ويحتقر الميت مهما كبر
وقال لي الغاب في رقة
محببة مثل خفق الوتر
يجيء الشتاء شتاء الضباب
شتاء الثلوج شتاء المطر
فينطفئ السحر سحر الغصون
وسحر الزهور وسحر الثمر
وسحر السماء الشجي الوديع
وسحر المروج الشهي العطر
وتهوي الغصون وأوراقها
وأزهار عهد حبيب نضر
ويفنى الجميع كحلم بديع
تألق في مهجة واندثر
وتبقى الغصون التي حملت
ذخيرة عمر جميل عبر
معانقة وهي تحت الضباب
وتحت الثلوج وتحت المدر
لطيف الحياة الذي لا يمل
وقلب الربيع الشذي النضر
وحالمة بأغاني الطيور
وعطر الزهور وطعم المطر
صلوات في هيكل الحب
عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كاللحن كالصبح الجديد
كالسماء الضحوك كالليلة القمراء كالورد كابتسام الوليد
يالها من وداعة وجمال وشباب منعم أملود
يالها من طهارة تبعث التقديس
في مهجة الشقي العنيد
يالها من رقة تكاد يرف الورد
منها في الصخرة الجلمود
أي شيء تراك ؟ هل أنت فينيس
تهادت بين الورى من جديد
لتعيد الشباب والفرح المعسول للعالم التعيس العميد
أم ملاك الفردوس جاء إلى الأرض ليحيي روح السلام العهيد
أنت .. ما أنت رسم جميل عبقري من فن هذا الوجود
فيه ما فيه من غموض وعمق
وجمال مقدس معبود
أنت .ما أنت .. أنت فجر من السحر
تجلى لقلبي المعمود
فأراه الحياة في مونق الحسن
وجلى له خفايا الخلود
أنت روح الربيع تختال في الدنيا فتهتز رائعات الورود
تهب الحياة سكرى من العطر ويدوي الوجود بالتغريد
كلما أبصرتك عيناي تمشين
بخطو موقع كالنشيد
خفق القلب للحياة ورف الزهر
في حقل عمري المجرود
وانتشت روحي الكئيبة بالحب
وغنت كالبلبل الغريد
أنت تحيين في فؤادي ما قد
مات في أمسي السعيد الفقيد
وتشيدين في خزائب روحي
ما تلاشى في عهدي المجدود
من طموح إلى الجمال إلى الفن
إلى ذلك الفضاء البعيد
وتبثين رقة الأشواق والأحلام والشدو والهوى في نشيدي
بعد أن عانقت كآبة أيامي فؤادي وألجمت تغريدي
أنت أنشودة الأناشيد غناك
إله الغناء رب القصيد
فيك شب الشباب وشحه السحر
وشدو الهوى وعطر الوجود
وتهادت في أفق روحك أوزان الأغاني ورقة التغريد
فتمايلت في الوجود كلحن عبقري الخيال حلو النشيد
خطوات سكرانة بالأناشيد
وصوت كرجع ناي بعيد
وقوام يكاد ينطق بالألحان
في كل وقفة وقعود
أنت .. أنت الحياة في قدسها السامي وفي سحرها الشجي الفريد
أنت .. أنت الحياة في رقة الفجر
في رونق الربيع الوليد
أنت .. أنت الحياة كل أوان
في رواء من الشباب جديد
أنت .. أنت الحياة فيك وفي عينيك
آيات سحرها الممدود
أنت دنيا من الأناشيد والأحلام والسحر والخيال المديد
أنت فوق الخيال والشعر والفن
وفوق النهى وفوق الحدود
أنت قدسي ومعبدي وصباحي وربيعي ونشوتي وخلودي
يا ابنة النور إنني أنا وحدي
من رأى فيك روعك المعبود
فدعيني أعيش في ظلك العذب
وفي قرب حسنك المشهود
عيشة للجمال والفن والإلهام والطهر والسنى والسجود
عيشة الناسك البتول يناجي الرب
في نشوة الذهول الشديد
وامنحيني السلام والفرح الروحي
يا ضوء فجري المنشود
وارحميني فقد تهدمت في كون
من اليأس والظلام مشيد
أنقذيني من الأسى فلقد أمسيت
لا أستطيع حمل وجودي
في شعب الزمان والموت أمشي
تحب عبء الحياة جم القيود
وأماشي الورى وفسي كالقبر
وقلبي كالعالم المهدود
ظلمة مالها ختام وهول
شائع في سكونها الممدود
وإذا ما استخفى عبث الناس تبسمت في أسى وجمود
بسمة مرة كأني أستل
من الشوك دابلات الورود
وانفخي في مشاعري مرح الدنيا
وشدي من عزمي المجهود
وابعثي في دمي الحرارة علي
أتغنى مع المنى من جديد
وأبت الوجود أنغام قلب بلبلي مكبل بالحديد
فالصباح الجميل ينعش بالدفء
حياة المحطم المكدود
أنقذيني فقد سئمت ظلامي أنقذيني فقد مللت ركودي
آه يا زهرتي الجميلة لو تدرين
ما جد في فؤادي الموحود
في فؤادي الغريب تخلق أكوان
من السحر ذات حسن فريد
وشموس وضاءة ونجوم
تنثر النور في فضاء مديد
وربيع كأنه حلم الشاعر
في سكرة الشباب السعيد
ورياض لا تعرف الحلك الداجي
ولا ثورة الخريف العتيد
وطيور سحرية تتناغى بأناشيد حلوة التغريد
وقصور كأنها الشفق المخضوب
أو طلعة الصباح الوليد
وغيوم رقيقة تتهادى كأباديد من نثار الورود
وحياة شعرية هي عندي
صورة من حياة أهل الخلود
كل هذا يشيده سحر عينيك وإلهام حسنك المعبود
وحرام عليك أن تهدمي ما
شاده الحسن في الفؤاد العميد
وحرام عليك أن تسحقي آمال
نفس تصبو لعيش رغيد
منك ترجو سعادة لم تجدها
في حياة الورى وسحر الوجود
فالإله العظيم لا يرجم العبد
إذا كان في جلال السجود
المفضلات