مجمع البحرين "الجن والإنس"
الشيخ صالح بن عواد المغامسي
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مظل له ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشداً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إعترافاً بفضله وإذعاناً لأمره وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح لهفي برياته فجزاه الله بأفضل ما جزا به نبياً عن أمته اللهم صلي وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره و اتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
عادة ما يدرس الناس الجني من خلال دخوله في الإنسي وقد أشبع هذا الموضوع بحثاً عبر قراءات و مطويات وكتب كثيرة ولهذا سنضرب عنه الذكر صفحاً في لقاءنا هذا وإنما سنتكلم عن الإنس والجن من خلال الأمور التالية :
أولا : بدء خلقهما :
يقول الله تعالى في سورة الحجر " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ "
فهذا نص قرآني يدل على أن الجان خلقت قبل أن يخلق الله الإنس
على هذا يتحرر على أن الجن خلقوا قبل الإنس .
لكن هل عمروا الأرض أو لا ..؟
هذا سؤال عائم لا نستطيع أن نجيب عليه ، لكن هناك شواهد و قرائن ليست منطوقة لكنها مفهومه في أن الجن عمروا الأرض ، ومنها :
قول الله تعالى في سورة البقرة على لسان ملائكته لما أخبرهم سبحانه وتعالى أنه سيخلق بشرا قالوا " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ "
وقد
كثرت أقوال علماء التفسير حول هذه الآية و ثمة قول لهم : أن ذلك القول من الملائكة ناجم عن أن
الجن كانت تفسد في الأرض وتسفك الدماء قبل خلق آدم عليه السلام ،
وهذا هو مفهوم الآية لا منطوقها وشتان ما بين الإستدلال بالمنطوق و الإستدلال بالمفهوم .
ثانيا : المادة التي خلق منها الجن والإنس ..؟
من ناحية المادة التي خلق منها كل من الجن والإنس ،
فمن المعلوم أن الجن كما نص الله تعالى خلقهم من نار ،
والإنس خلقهم من طين لأنهما يرجعون إلى أبيهم آدم عليه السلام خلق من طين خلق من تراب وإبليس خلق من نار ، هذا من ناحية الإجمال ,
قال الله على لسان إبليس في سورة الأعراف " قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ "
وفي آية أخرى في سورة الإسراء " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً " .
ثالثا : ما هي الهيئة التي خلق عليها كل من الإنس والجن .؟
أما الهيئة التي خلق الله تعالى عليها الإنس فهي جميلة ، يقول الله تعالى في سورة التين " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ "
فالإنسان مكرم في خلقه وهو داخل في عموم قول الله تعالى في سورة الإسراء " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ " .
أما الجني فإنا لم نراهم قطعاً كما قال الله تعالى في سورة الأعراف " إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ "
لكن الجني مستقر في أذهان البشر جميعا أنه قبيح الخِلقة ،
وهذا يؤيده ظاهر القرآن ،
قال الله تعالى عن شجرة الزقوم في سورة الصافات " طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ "
وهذا من أساليب العرب في كلامها ،
فالعرب لم تر الشياطين حتى تُشبَه لهم شجرة الزقوم بأن طلعها كأنه رؤوس الشياطين ،
لكن استقر في الأذهان وفي الطباع و في الأنفس عند الناس جميعا أن الجن والشياطين منهم على وجه الخصوص قبيحي الخلقة ،
فعاملهم الله تعالى بنفس أساليب كلامهم ، والقرآن الكريم نزل عربيا ،
فالجن في الأظهر أنهم غيرُ حسنِ الخلقة ، وقد يُقال أن هذا منصرفٌ لشياطينهم فقط وهذا قول جيد ، لكن لا نستطيع أن نجزم به .
رابعا : القدرة التي منحوا إياها ..!
أعطى الله تعالى الجن القدرة على التشكل وهذا لم يعطه الله لبني آدم عليه السلام .
هذه الزاوية من الحديث تجعلنا نستدعي الحديث عن الملائكة ،
فالملائكة يتفقون مع الجن في قضية ألا وهي أننا لا نراهم ،
في حين أن الجن والإنس يتفقان في قضية وهي أن كلاهما مكلف ،
كذلك الصورة المأخوذة عن الملائكة التي في أذهان الناس أنهم قوم حِسان ولذلك الناس يقولون فلان ملك من الملائكة ،
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض أصحابه وهو جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه يقول في شأنه : " عليه مسحةُ ملك " ،
وهذا دلالة على وسامته وقَسامته ،
وكذلك صواحب يوسف عليه السلام النسوة قلن لما رأينه انبهرن بجماله " قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ "
لذلك استقرّ في الأذهان أن الملائكة رمز للجمال ،
كما أن الجن رمز للقبح ،
ولهذا مما استطرف في هذا المجال أن الجاحظ الأديب العباسي المعروف جاءته مرة امرأة وهو في السوق ، فقالت إني أريدك في أمر ما ،
قال لها أنا بين يديك , قالت اتبعني ، فتبعها حتى وصلا إلى صائغ يبيع الذهب ، فوقفا أمام الصائغ ، فقالت المرأة للصائغ وهي تشير بيدها إلى الجاحظ :
مثلُ هذا ؟
ثم انصرفت ، فوقف الجاحظ حائرا لا يدري ما الأمر !! فسأل الصائغ ما الأمر ؟ قال : إن هذه المرأة أتتني قبلك وطلبت مني أن أصنع لها خاتماً فُصُه على هيئة عفريت ، فقلت لها : إنني لم أرى العفريت قط ، فاستدعتك وأخبرتك بما سمعت ، وكان الجاحظ قبيح الخلقة .
هذا كله من التراث والقران والسنة شواهد تعيننا على أن نرسم صورة قبيحة للشياطين على أن خالق الإثنين واحد سبحانه جل وعلا .
خامسا: أيهما أقوى وأقدر .. الجن أم الإنس ..؟
من حيث القدرة على العمل والصناعة الجن أقوى من الإنس ،
فهم يفْضلون الإنس من هذه الناحية ، ولهذا نجد أن القرآن الكريم في أسلوبه يفرّق إذا تكلم عن الجن والإنس في أي حديث يتحدث عنهما ،
يقول الله جل وعلا في سورة الإسراء " قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً "
ويقول جل وعلا في سورة الرحمن " يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ "
فنرى أن الله تعالى قدم الإنس في سورة الإسراء وقدم الجن في آية الرحمن والسبب في هذا :
أن آية الإسراء تتحدث عن القدرة البيانية البلاغية وهي أن يؤتى بمثل هذا القرآن ،
فقدم لله تعالى الإنس لأنهم أفصح بيانا من الجن ،
في حين أن آية الرحمن تتحدث عن القدرة القوية البدنية وهي النفوذ من سلطان السماوات والأرض فقدم الجن على الإنس لأنهم أقدر على ذلك منهم ،
ونظير هذا أيضا في القرآن أن الله تعالى لما ذكر سليمان عليه السلام في سورة النمل قال " وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ "
فقدم الجن على الإنس في هذه الآية لأن القدرة العسكرية الحربية القتالية لديهم أقوى من الإنس ،
ولهذا العرب استقر في طباعها قبل الإسلام أن الجن أقوياء فكانوا يهابونهم ،
ومنه قول الله تعالى في سورة الجن على لسان الجن " وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ "
يلجأون إليهم خوفاً لعلمهم بقدرة الجن قال الله إكمالاً للآية " فَزَادُوهُمْ رَهَقاً " ومن لجأ إلى الله جل وعلا أوكل الله إليه فلا يصيبه الخوف ولا الضياع ولا الشتات نعوذ بالله من الحرمان والخذلان .
نعود للجن لذلك حتى في التراث العربي تجد أن الفرزدق يقول وهو يفتخر على جرير :
أحلامنا تزن الجبالَ رزانة *** و تخالُنا جناً إذا ما نجهلُ
إنا لنضربُ رأسَ كلِ قبيلةٍ *** وأبوك خلف أتانه يتقمّلُ
فالفرزدق يفتخر على جرير عندما يحاربون ويظلمون أنهم يصبحون كالجن في القوة والشدة والبطش .
المفضلات