لقد دشن الانسان حياته على الأرض موحداً مؤمناً بالله، انطلاقاً من فطرته، ومن الوحي الإلهي الذي اقترن مع وجود الانسان فوق هذا الكوكب، إلا أن احتكاكه مع قوى الطبيعة ومع أسرارها المغلقة آنذاك، وابتعاده عن هدي الأنبياء، دفعه إلى اتخاذ آلهة إلى جانب الاعتقاد بالله، أو مع الكفر به سبحانه في بعض الأحيان. وهكذا برزت في حياة الانسان ظاهرة ألوهية الأشياء (الشمس، القمر، الأصنام) إلى جانب ظاهرة التوحيد.
ولا نستطيع ـ في ضوء المعلومات المستكشفة من الآثار التاريخية ـ أن نحدد بدقة أول شريك عبده الانسان.. فهل كان شيئاً واحداً، كالشمس أو القمر، أو النار، أو الصنم، أم أن ظاهرة الشرك ولدت ـ من حين ولادتها ـ متعددة الآلهة؟
ويميل الباحث هنا إلى الرأي الثاني، وذلك للأسباب التالية:
إن بواعث الشرك متنوعة، فمن الطبيعي أن تؤدي إلى تعدد الآلهة.
إن المجتمع الانساني في فجر تاريخه، عاش في جماعات متفرقة، فلابد أن يستقل كل منها بإله، أو بآلهة مختلفة عن آلهة الجماعات الأخرى.. كما أشارت إلى ذلك بعض الدراسات الأثرية، حيث ترى أن آلهة الشمال ـ في العراق ـ انتقلت إلى الجنوب مع الغزاة وغيرهم.
إن القرآن الكريم سجل ظاهرة تعدد الآلهة والأرباب في عصر إبراهيم (ع) وهذا النمط ظل ثابتاً في عصر إبراهيم (ع) وهذا النمط ظل ثابتاً إلى عصر موسيى-ع-، كما ورد في القرآن الكريم، فمن الطبيعي أن يكون هذا اللون من الشرك ثابتاً قبل عصر إبراهيم (ع)، وأيضاً إلى ما بعد عصر موسى (ع)، نظراً إلى بطء حركة تطور العقائد في المجتمعات الانسانية.. فاليونانيون القدماء "جعلوا السماء هي الإله (أورانوس) والقمر هو الإله (بوزيدن) وأما الإله (پان) ففي كل أرجاء الغابات في وقت واحد"، "وأشهر الكواكب المعبودة بعد القمر كوكب الزهرة (عشتار) وكوكب المريخ (مردوخ)، وينسبون إلى الزهرة أنها ربة الحب لتألقها وزهوها وتقلب أحوالها، وينسبون إلى المريخ انه رب الحرب لاحمرار لونه كلون الدماء، على انهم عبدوا الشمس قديماً باسم (شماس)، وإن لم تكن عبادتها عامة بينهم كعموم عبادة القمر"، "ومنها أيضاً (ميروداخ) إله الآلهة و(أي) إله القانون والعدل، والإله (زاماما) والإلهة (اشتار) إلهة للحرب و(شاماش) الإله القاضي في السماء والأرض و(سين) إله السماوات و(حاداد) إله الخصب و(نيرغال) إله النصر و(پل) إله القدر والإلهة (بيلتيس) والإلهة (نينو) والإله (ساجيلا) وغيرها"، "وكان للفينقيين آلهة كثيرة، فكان لكل مدينة إلهها الخاص".
وفي الواقع، من العسير إحصاء الآلهة التي عبدتها الأمم القديمة بسبب قلة المعلومات في هذا الميدان، ولكن ـ بشكل عام ـ إن تلك المجتمعات ألّهت مختلف القوى المنظورة وغير المنظورة.
إن بعض الآلهة تفقد اعتبارها مع مرور الزمن، وتطور وعي الانسان، كألوهية الجن والكواكب بعد ظهور الاسلام، إلا أن ثمة آلهة لم تتزحزح عن موقعها الألوهي لفترات طويلة، وهي الأصنام والأوثان، حيث نجد القرآن قد أكد وجودها في عصر نوح (ع)، وربما قبله، مروراً بعصر إبراهيم (ع)، وانتهاءً بعصر رسول الله (ص)، وهي فترة تناهز الـ(ثلاثة آلاف) عام.. بل إلى هذا اليوم، حيث نجد في شعوب الصين والهند مَن يعبد الأصنام، ويتقرب إليها بالشعائر والقرابين.
إن ظاهرة الثبات في ألوهية الأصنام، رغم التطورات العقائدية في المجتمعات، تستدعي التأمل والبحث عن أسباب بقاء الأصنام آلهةً على امتداد تلك الأزمنة الطويلة، وفي الواقع يمكن الإجابة بما يلي:
إن الصنم الحجري يمكن وضعه في مكان معيّن ـ في هيكل العبادة ـ وترتيب الطقوس العبادية من خلال فئة كهنوتية تشرف على هذه الآلهة، وتدير مراسيم الطقوس المرتبطة بها، مما يخلق نمطاً عبادياً في المجتمع، يوظفه الكاهن لتأمين مصالحه.
إن الصنم أقرب لإشباع هوى الانسان من خلال صنعه، فالإله الذي يصنعه الانسان، أقرب فهماً من إله يسبح في عمق السماء لا يعرف عنه إلا قرصه المدور، وأشعته الحارقة.
كانت الأصنام تتحمل الرموز التي يخلعها الانسان عليها، كجعلها رموزاً لأبطال ماتوا، لهم وجود مؤثر في قبائلهم، ثم مع مرور الزمن، صارت آلهة تقام لها الشعائر والمراسيم العبادية.
وقد يحمل الصنم رمزاً لمعانٍ محددة، ذات صلة مع أعمال القبيلة التجارية أو الزراعية أو الحربية.
إن الأصنام المتخذة للعبادة، إنما كانت مثالاً للكواكب التي يعتقد المشركون بألوهيتها، ولكنها حيثكانت تختفي في النهار بسبب ضوء الشمس، وفي بعض أوقات الليل، أوهم بعض حكمائهم أن يجعلوا لها أصناماً وتماثيل على صورها وأشكالها.
إن الحيوانات والكواكب المتخذة كآلهة تسقط عن اعتبارها الألوهي عند اكتشاف سر قوتها، أو ضعفها، إزاء ظواهر الطبيعة، بخلاف الحال مع الأصنام، التي منشأ اعتبارعها هو الانسان نفسه، فليست ثمة اكتشافات تطيح بألوهيتها، فالانسان هو الذي يسبغ عليها طابع القداسة، وهو الذي يصونها من السقوط.
ورغم شيوع ظاهرة تأليه الأصنام، إلا أن تأليه سائر الأشياء لم يزل تماماً، حيث ظلت بعض الشعوب تعبد الكواكب، وبعض الأحياء إلى جانب الأصنام.
- بواعث الشرك:
إن جوهر حركة الانسان الحضارية يكمن في جوانبه المعنوية، وبشكل أدق في الجانب العقائدي والغيبي، والذي تقع على رأسه مسألة الإيمان بالله. إن بعض المؤرخين لمسألة الإلهة يثير كل التفاصيل المرتبطة بتأليه الانسان للكواكب والحيوانات، والنباتات، وحتى للأعضاء الجنسية للانسان، ولكنه لا يهتم ـ بشكل كاف ـ بالجانب المتعلق بفكرة التوحيد ودور الأنبياء (ع) في نشره، رغم تأثيرها البارز في المسار الحضاري للانسان، ورغم ان عظماء التاريخ حملوا راية الإيمان بالإله الواحد على امتداد التاريخ.
المفضلات