جلس على حافة البحر ....... كعادته كل مساء منذ كان طفلا........ نظر إلى الشمس التي
بدأت في
الغروب ...... طالما تخيل حين كان طفلا صغيرا أنها تختفي هابطة إلى البحر ...
هههههه ضحك
لنفسه من ذلك الفكر العجيب الذي حمله وهو طفل .....
كان تفكيره حينها بريئا مشوبا من أي أوساخ الدنيا...... قال لنفسه ...... لم تمسسه براثين
الأشباح
المحيطة به الآن...... آه كم أتمنى أن أعود طفلا.......... أنام على الهدهدات وأستيقظ
على
الابتسامات ...... ربما تمنى هذا لأمله في الهروب من الواقع....... من الحقيقة كما
تسميه أخته
الصغرى ......... هي ليست صغرى أبدا .... هي أعقل مني بسنين ......... قال مؤنبا
نفسه على ما
أسرفت ......
نظر إلى الغيوم .... تذكر كيف أن والده كان يقول له "هناك بين الغيوم وبين كل شيء
حولك.......
الله موجود....... حاول معرفته يا بني"
ذُرفت دمعة حينها .......... الله ....... كم أحتاجه.....
عادت به
الذاكرة إلى ذلك اليوم الذي سُمي فيه بحراً ........ كم كره هذا الاسم أيام المدرسة .... فما
توقف
الجميع عن الاستهزاء منه، كانوا ينادونه مرات عديدة "ماء" ويمضون هاربين
فرحين........
فيبكي
قلبه ...... ويحس بجوارحه تتمزق....... كره المدرسة ..... وكره الدنيا ........ طالما
سأل والده
"لم أسميتني بحر... هل انقرضت الأسماء في الدنيا .... ولم تجد غير هذا الاسم؟”
كان
والده يحاول أن
يخفف من روعه ...... "لا تجعل الاسم عائقا لك في الحياة ......" فيجيب باكيا " أنا؟ أنا
يا أبتي
لست أنا بل الناس ....... كل الناس ..... هم من أوقفوني عن الدنيا ..... وأنت السبب
وأنت السبب"
تذكر صراخه الشديد في أبيه ....... وكان يظل والده مبتسما أمام صرخاته...... وقتها
كان يحس أن
والده مسرور لفشله!!!! عجبا كيف سمحت لذلك الشعور أن يحس بهذا؟؟!! قال لنفسه ندما.....
حتى
في لحظات والده الأخيرة ....... كان سؤاله الدائم له في أيام مرضه "أبي أرجوك..... لم
أسميتني
بحرا ......لم لم؟؟!! ....."
فتلقي عليه أخته العتب "هل هذا كل ما يشغل بالك؟؟ "
فيهرب من عيونها الدامعة ،
راكضا إلى
البحر!!!! يخاطبه بأسى : حملت أسمك ...... شئتُ هذا أم أبيتُ ....... لم يكن اختياري
فلم أستحملك
فهل ستحتملني؟؟!!!"
و يغوص في أعماقه سابحاً.....
يوم جنازة والده .... وقف يستقبل التعازي .. فهو الابن الوحيد لتاجر عُرفت عنه الأمانة
والصدق
والحكمة...... كان المعزون كثر ....... تساءل إن كان واحد منهم..... حزينا فعلا!!!!
غادر المعزون ..... لم يبق إلا عجوز طاعن في السن .... كان يلمحه مرات في محل
أبيه ......
نظر إليه العجوز و في عينيه لمح جوابا لما يعتمر في قلبه..... فركض نحوه
“عماه.......أجبني بالله
عليك؟"
"اتبعني" قالها آمراً ......
مشى خلفه إلى البحر!!!!!
"أنا من أسميتك بحراً ......" قال الشيخ.......
"أنت!!! ......... لم؟!!!"
"يوم مولدك .... جاء والدك إلي مهلهلا مسرورا بك ....... وقال لي سمه أنت ........
حيث أنني قد
رأيتك في منامي ........ ولدا في بداية حمل والدتك لك ..... فقال لي والدك لو كان كما
ذكرت....
فلك تسميته...... حين قررت أن أسميك بحرا ...... كنت أريدك أن تكون بحرا بكل ما
تحمل هذه
الكلمة من مفردات... غضب، ثورة ، عطاء، سعة ، جمال، طلبت من الله القدير أن
تكون غضبا
على الظلم ... وثورة ضد الفساد ... وعطاء للبشرية .... وسعة في عقلك للإدراك
والمعرفة ....وسعة
في قلبك للحب والتسامح والمودة ..... وسعة في صدرك للرحمة والصبر على البلاء
وأردتك
جمالا للوجود الذي حباك الجمال ولم يبخل عليك يوما بالرحمة....."
تذكر ذلك الموقف وكأنه حدث البارحة .....
الأن فقط ....... فهم فلسفة العجوز......
أعاد نظره إلى البحر ...... أتمنى أن أكون مثلك ذات يوم...... مضى إلى قبر أبيه وقبر
ذلك الشيخ
قرأ الفاتحة وياسين ...... وتطلع إلى السماء ....... وهناك وسط الغيوم الداكنة.....
رأى شبح
ابتسامة خالها لوالده ...... لوح لها مبتسما..... أعدك أني سأكون منذ اليوم كالبحر .....
وتعم الظلمة
مع غياب الشمس ...... لتعود الكائنات إلى سباتها الأبدي .... وليبدأ هو ..... رحلة جديدة
يبحر فيها لوحده .....
عزائي الى المفقود مروان الهويدي رحمه الله المتوفي يوم 21/9/2006
المفضلات