الصفحة رقم 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
مشاهدة النتائج 1 الى 20 من 33

المواضيع: Zurba

  1. #1

    Zurba

    attachment

    رواية زوربا

    نيكوس كازنتزاكس


    لم يكن بجديد الحديث عن رواية زوربا، وأظنُ أن بعضكم إن لم يكن معظمكم قرأ الرواية أو على الأقل سمع عنها وعن شخصية زوربا اليوناني.

    ذلك الرجل المجنون الذي يرقص ألمًا، وينطق حِكمًا، وهو الرجل البسيط، الذي آمن على إمكانية الجمع بين متعة الروح، والجسد.
    زوربا الإنسان البدائي المرتبط بالطبيعة الأم، زوربا، ودهشة طفلٍ في عينيه المستديرتان -كما يوصفهم صديقه "كزنتزاكي"-، اللتان ترى الأشياء من حولهما وكأنه يراها لأول مرةٍ.

    هوو ليس بفيلسوفٍ، وإنما حكيمًا يشرح أعقد الأمور والأفكار الفلسفية بكلمات بسيطة، يحدثك عن الجنون والعقل والحرية والعبودية وكل ما يفكر به الإنسان ويسعى إليه.

    * * *

    الرواية رائعة، بكل المقاييس، وهي التي حاربتها كثير من الدول العربية، مُنع نشرها في كثير من الدول الخليجية، ومصر، ولكن تبقى الرواية حيّة في قلوب القرَّاء، ربما أُنقص من ثراءها اللغوي عند ترجمتها وأحسبها كذلك، إلا أننا قرأناها وتذوقناها.
    اخر تعديل كان بواسطة » FRIEND في يوم » 26-05-2006 عند الساعة » 18:07


  2. ...

  3. #2

    Thumbs up بَعضٌ من حِكمته


    قبل الدخول في فصول الرواية والغرق بها، هيا نذهب إلى هذا الجمل المقتطف من ذاتها.

    attachment

    الطريقة الوحيدة لإنقاذ نفسك هي أن تناضل لإنقاذ الآخرين.

    *

    كنت أنا أصغي إليه غير مبال، و كأن الألم لم يكن إلا حلماً و الحياة مأساة آسرة، يثبت فيها من يسرع إلى المسرح و يأخذ حصته من العمل، غلظته و سذاجته.

    *

    سكينة، اطمئنان، و على الوجه قناع مبتسم لا يتحرك. أما ما يجري وراء القناع، فهذا من شأننا.

    *

    لقد قررت أن أبدل طريقة حياتي، و قلت لنفسي:
    حتى اليوم يا نفس، لم تكوني لتري سوى الظل، و كنت تكتفين به، أما الآن فسأقودك إلى الجسد.

    *

    هذا ما يجعلك إنسانا: الحرية!


    *
    هذه هي الحرية :أن تهوى شيئاً ما، و أن تجمع قطع الذهب، و فجأة تتغلب على هواك و تلقي بكنزك في الهواء أن تتحرر من هوى لتخضع لهوى آخر أكثر نبلاًُ منه، لكن أليس هذا شكلاً آخر من العبودية.

    *

    إن الشباب حيوان مفترس، لا إنساني، لا يفهم.
    *

    الإنسان بهيمة، بهيمة كبيرة. إن سيادتك لا تعرف ذلك، و كل شيء على ما يبدو كان سهلا بالنسبة لك، لكن أسألني أنا. بهيمة أقول لك:
    إذا كنت سيئاً معه احترمك و خافك، و إذا كنت طيباً فقأ عينيك.

    *

    حافظ على المسافات أيها الرئيس، لا تشجع البشر كثيراً، و لا تقل لهم أننا جميعاُ متساوون و أن لنا جميعاً الحقوق نفسها. و إلا فإنهم سيدوسون حقك أنت، و يسرقون خبزك و يدعونك تفطس من الجوع. حافظ على المسافات، أيها الرئيس، من أجل الخير الذي أريده لك.

    *

    دع الناس مطمئنين أيها الرئيس لا تفتح أعينهم و إذا فتحت أعينهم، فما الذي سيرونه؟ بؤسهم!
    دعهم إذن مستمرين في أحلامهم!
    إلا إذا كان لديك عندما يفتحون أعينهم، عالم أفضل من عالم الظلمات الذي يعيشون فيه الآن.ألديك هذا العالم؟

    *

    إن قلب الإنسان يتألم عندما تمطر، و يجب ألا نلومه على ذلك!

    *
    لو كنا نعرف ما تقوله الحجارة و الأزهار و المطر !
    لعلها تنادي، تنادينا و نحن لا نسمع، متى ستنفتح آذان الناس ؟
    متى ستنفتح أعيننا لنرى ؟ متى ستنفتح الأذرع لنعانق الجميع، الحجارة و الأزهار و المطر و البشر ؟
    *
    إن الحياة إزعاج. أما الموت، فلا.
    أن تعيش، أتعرف ماذا يعني هذا؟
    أن تفك حزامك و تبحث عن قتال.
    *
    هناك أسوأ ممن هو أصم، و هو الذي لا يريد أن يسمع!

    *

    إلهية هي القوة التي لا تفنى، و التي تحول المادة إلى روح.
    إن في كل إنسان جزءاً من هذه الدوامة الإلهية، و لهذا فهو ينجح في تحويل الخبز و الماء و اللحم إلى فكر و عمل.إن زوربا على حق : قل لي ماذا تفعل بما تأكله أقل لك من أنت!

    *

    تلك هي السعادة الحقيقية : ألا يكون لي أي مطمح، و أن اشتغل كعبد، وكأن لي كل المطامح.أن أعيش
    بعيداً عن البشر، ألا احتاج إليهم و أحبهم.

    *

    تقول الأسطورة القديمة : أن قلب الإنسان عبارة عن حفرة مليئة بالدم، و على أطراف هذه الحفرة يرتمي الأموات الأحباء على بطنهم ليلعقوا الدم و تعود الحياة إليهم، و كلما كانوا عزيزين عليك أكثر، شربوا من الدم أكثر.

    *

    إن العالم القديم متيم، ملموس، ونحن نعيش و نناضل معه كل لحظة، إنه موجود.
    و عالم المستقبل لم يولد بعد، و هو غير قابل للمس، مائع، مصنوع من النور الذي نسجت منه الأحلام، إنه غيمة تتضاربها رياح عنيفة : الحب و الحقد و الخيال و الصدفة و الله.

    *

    عندما نعيش سعادة ما، فنادراً ما نحس بذلك. و إنما عندما تمضي و ننظر إلى الوراء، نحس فجأة و أحياناً بدهشة كم كنا سعداء.

    *

    سأملأ روحي بالجسد، و أملأ جسدي بالروح. سأوفق أخيراً في نفسي، بين هذين العدوين الأبديين.

    *

    أحياناً يعزف لحناً وحشياً، فتحس بأنك تختنق، لأنك تفهم فجأة أن الحياة تافهة و بائسة، و غير لائقة بالإنسان.
    و أحياناً يعزف لحناً مؤلماً، فتحس بأن الحياة تمر و تنساب كما ينساب الرمل من بين الأصابع، و بأن الطمأنينة لا وجود لها.

    *

    يقول كونفو شيوس : كثيرون يبحثون عن السعادة فيما هو أعلى من الإنسان، و آخرون فيما هو أوطى منه. لكن السعادة بطول قامة الإنسان.

    *

    أسمى الأفكار، لو بقرت بطونها، لتبينا أنها، هي أيضاً، دمى محشوة بالنخالة، ثم نجد، نابضاً من التنك مخفياً في النخالة.

    *

    إننا ننسى بسهولة ما لا يلائمنا.

    *
    إن الإنسان يتحرر هكذا، بأن يشبع من كل شيء يخطر له، لا بأن يزهد فيه.
    كيف تستطيع يا صديقي، أن تتخلص من الشيطان، إذا لم تصبح أنت بنفسك شيطان و نصف؟

    *
    زوربا كان من المستحيل عليه أن يسمع امرأة تخاطبه بصوت ممزق، دون أن يتبدل تماماً.إن دمعة امرأة يمكن أن تغرقه.

    *

    إن جميع الذين يعيشون الأسرار، كما ترى، ليس لديهم وقت للكتابة، و جميع الذين عندهم وقت، لا يعيشون الأسرار، أتفهم؟

    *

    العمل هو الطمأنينة الوحيدة.

    *
    إن دجاجة تسبح في الماء أفضل من دوري في قفص.

    *
    إنني أخاف الشيخوخة، أيها الرئيس، فلتقنا السماء منها ! إن الموت لا شيء، مجرد بف ! و تنطفىء الشمعة لكن الشيخوخة عار.

    *

    إن لكل إنسان حماقاته، لكن الحماقة الكبرى في رأيي هي ألا يكون للإنسان حماقات.

    *

    إن حياة الإنسان طريق لها مرتفعاتها و وهادها و ذوو العقول يتقدمون و أيديهم على العنان. أما أنا أيها الرئيس و هنا تكمن قيمتي، فلقد ألقيت بالعنان منذ زمن بعيد، لأن الصدمات لا تخيفني.

    *

    عندما يكون للإنسان قلب، فقد تكون عنده كل العيون و كل الأنوف التي تريد. لكنه يلقي بها جميعاً أدراج الرياح

    *

    لا يهم ألا يكون للإنسان رأس، يكفي أن تكون عنده قبعة.
    *

    إن الإنسان لا يستطيع أن يعبر إلا عن نصف أفكاره فقط، لأنه لا يعمل إلا نصف عمله فقط.
    إن العالم موجود في هذه الحالة اليائسة. لأن الإنسان نصف فاضل، أو نصف شرير،
    اذهب حتى النهاية، ارم بعيداً، ولا تخف، عندئذ تنتصر.

    *
    حط نورسان على الأمواج الصغيرة و أخذا يتأرجحان، و قد أمالا عتقيهما مستسلمين بلذة لإيقاع البحر.
    و كنت أفكر و أنا أنظر إلى النورسين:
    ذلك هو الطريق الواجب إتباعه، أن تجد الإيقاع الأكبر و أن تستلم له بثقة.

    *

    قلت في نفسي، و أنا أحسد زوربا على ألمه : هذا هو الإنسان الحقيقي.
    إنسان حارة دماؤه، متينة عظامه، يترك دموعاً كبيرة حقيقية تنساب حين يتألم، ولا يضيع فرحه بامراره في غربال، الميتافيزيك الدقيق، حين يكون سعيداً.

    *

    إن الأحزان كلها تشطر قلبي إلى قطعتين. لكنه هذا المليء بالندوب، المثخن بالجراح، سرعان ما يلتصق على
    نفسه، و لا يعود للجرح وجود. إنني مليء بالجراح التي تحولت إلى مجرد ندوب، و لهذا فإنني أستطيع تحمل الضربات.

    *

    أصغ إلى يا بني :
    إن الإله الرحيم، كما ترى، لا تستطيع طبقات السماء السبع و طبقات الأرض السبع أن تسعه.
    لكن قلب الإنسان يسعه. إذن احذر يا بني من أن تجرح ذات يوم قلب الإنسان !

    *
    كنت أزن في رأسي كلمات زوربا الغنية بالمعنى و الفائحة منها رائحة أرض حارة، و كأنها تصعد من أعمق أحشائه، و هي لا تزال محتفظة بالحرارة الإنسانية.
    أما كلماتي، أنا، فكانت من ورق.
    إنها تنزل من رأسي، لا تكاد تلطخها نقطة دم واحدة.
    لو كانت لها قيمة ما، فإنما هي مدينة بها لنقطة الدم هذه بالذات.

    *

    إنني حر!
    فهز زوربا رأسه، و قال :
    كلا، لست حراً.
    إن الحبل الذي ربطت به نفسك أطول قليلاً من حبل الآخرين. هذا كل شيء.
    إن لديك،أيها الرئيس، حبلاً طويلاً، فأنت تذهب و تأتي، و تعتقد أنك حر، لكنك لا تقطع الحبل.
    و عندما يقطع الإنسان الحبل.........
    فقلت بتحد، لأن كلمات زوربا قد لمست في جرحاً فتوحاً, فتوجعت :
    سأقطعه ذات يوم !
    - هذا صعب، أيها الرئيس، صعب جداً.لا بد لذلك من شيء من الجنون. الجنون، أتسمعني ؟
    أن تجازف بكل شيء ! لكن لك، أنت، عقلا متينا، و سوف يتغلب عليك.

    *

    إن العقل عطار، لديه سجلات : دفعت كذا، ووفرت كذا، و هي ذي أرباحي، هي ذي خسائري !
    إنه صاحب دكان صغير حذر.
    إنه لا يقامر بكل شيء، بل يحتفظ دوماً باحتياطي. إنه لا يقطع الخيط كلا ! إنه يمسكه بقوة في يده.
    و إذا ما أفلت منه، فقد هلك، هلك المسكين !
    لكن إذا لم تقطع الخيط، قل لي، أية لذة يمكن أن تكون للحياة ؟
    ستكون كطعم البابونج، البابونج الذابل !

    *

    أنت تفهم ! أنت تفهم و هذا ما سيضيعك !
    لو كنت لا تفهم، لكنت سعيداً. ما الذي ينقصك ؟ أنت شاب، ذكي، عندك مال، صحة جيدة، و أنت فتى شجاع، لا ينقصك شيء، لا ينقصك إلا شيء واحد : الجنون.
    و عندما يكون هذا ناقصاً،......و هز رأسه و صمت من جديد.

    *

    عندما كنت طفلاً، كنت كلي اندفاعات مجنونة رغبات تتجاوز الإنسان، و كان العالم لا يستطيع أن يحتويني.
    و شيئاً فشيئاً مع مر الزمن، أزدت حكمة فكنت أضع حدوداً، و أفصل الممكن عن المستحيل، و الإنساني عن الإلهي، أمسك بطيارتي بقوة حتى لا تفلت مني.

    *

    إن العقل ذاك العطار، يسخر من الروح كما نسخر نحن من البصارات العجائز و الساحرات.

    *

    إلى إبليس بالجمال، هتفت بذلك لأن الجمال بلا قلب، لا يبالي بالألم البشري.


    *

    ما هو إذن هذا السر الفظ : الحياة ؟
    إن البشر يتلاقون و يفترقون كأوراق الأشجار التي تطردها الريح., و عبثاً يحاول النظر أن يحتفظ بوجه المخلوق الحبيب، و جسده و حركاته.
    فبعد عدة سنوات لن يذكر أبداً ما إذا كانت عيناه زرقاوين أو سوداوين.

    *
    طوال أيام ظل طعم الموت على شفتي.
    لكن قلبي قد اطمأن، فقد دخل الموت إلى حياتي بوجه معروف حبيب، كصديق جاء ليأخذنا، ينتظر في زاوية أن ننهي عملنا، دون أن نفقد الصبر.

    *

    إن الحب أقوى من الموت.
    اخر تعديل كان بواسطة » FRIEND في يوم » 26-05-2006 عند الساعة » 18:07

  4. #3

  5. #4

    الفصــل الأول

    التقيته بها في مرفأ " بيريه " عندما كنت متوجها لأخذ القارب إلى " كريت " ، كانت أول مرة كان الصباح على وشك أن ينبلج ، و السماء تمطر ، و كان رذاذ الموج يصل إلى زجاج المقهى الصغير الذي كانت أبوابه الزجاجية مغلقة ، و كان الطقس باردا في الخارج ، و قد عبق الجو داخل المقهى بأنفاس رواده .
    و كان هناك خمسة أو ستة يجلسون في المقهى منذ الليل الفائت ، و قد التفوا لباسهم القاتم المصنوع من وبر الماعز يشربون القهوة و يدخنون و ينظرون إلى زجاج المقهى العابق و إلى البحر الهائج الهادر في الخارج ، و كانت الأسماك في البحر قد التجأت إلى الأعماق بانتظار هدوء العاصفة عند سطح الماء ، كما كان البحارة و الصيادون ينتظرون بدورهم أيضا هدوء العاصفة ، حتى تصعد
    الأسماك إلى سطح الماء لتأكل الطعم .
    و فتح باب المقهى الزجاجي و ولد منه عامل قصير القامة ، أسمر اللون ، عاري الرأس ، حافي القدمين و قد صبغ بالأوساخ من قمة رأسه إلى أخمص قدميه .
    - هاي ! كوستاندي ! كيف هي الأمور معك ؟
    هتف بحار عجوز يرتدي سترة زرقاء ، و أجابه المدعو كوستاندي بعد أن بصق على الأرض :
    - ماذا تعتقد ؟ في الصباح إلى البار و في المساء إلى البيت ، صباح الخير أيها البار و مساء الخير أيها المنزل ! هذه هي حياتي التي أعيشها الآن ، فليس لدي من عمل أعمله .
    و ضحك بعض الحضور بينما شتم البعض الآخر ، و هم يهزون برؤوسهم :
    - هذا العالم هو سجنٌ مؤبد ، نعم إنه سجنٌ مؤبد ، عليه اللعنة .
    و دلف عبر زجاج المقهى الوسخ شعاعٌ أزرق ، و تعلق بالأيدي و الأنوف و جباه الحاضرين ، ثم تسلل إلى البار و أضاء الزجاجات الفارغة ، و خفت الضوء الكهربائي ، و تمطأ صاحب المقهى الذي كان نصف نائم ، و مسد يديه بحركة متكاسلة كأنه يستقبل ضوء النهار الجديد ، و بعد فترة من الصمت قال البحار العجوز متنهداً :
    - ترى ماذا جرى للكابتن ليموني ؟ كان الله في عونه !
    و نظر بغضب إلى البحر ثم صاح :
    - لعنك الله من بحر أثيم مخرب للبيوت !
    ثم عض على شاربه الرمادي .
    كنت جالسا في زاوية المقهى من شدة البرد ، و طلبت كأسا ثانيا من الشراب ، و شعرت بالنعاس لكني قاومت الرغبة في النوم و التعب ، و جلست أنظر من خلال الزجاج إلى المرفأ الذي بدأ يضج بالحركة و بصفارات البواخر ، و بصياح سائقي العربات .
    كانت عيناي عالقتين في مقدمة باخرة سوداء كبيرة ، كانت لا تزال مغمورة بظلام الليل القاتم ، و كانت السماء تمطر ، و باستطاعتي مشاهدة خيوط الماء المنهمر تربط السماء بالوحل .
    نظرت إلى الباخرة السوداء ، و تجسدت كآبة الذكريات الماضية ، و دفعت الأمطار بصورة وجه صديقي الكبير ، هل كانت السنة الماضية ؟ في عالم آخر ؟ البارحة ؟ متى كانت حين نزلت إلى هذا المرفأ بالذات لأقول له وداعاً ؟ لقد كانت السماء ممطرة ذلك الصباح ، أيضا ، و في تلك المرة كان قلبي مثقلا تماما شأنه اليوم .
    كم هي مؤلمة ساعة الفراق البطيئة ، خاصة فراق الأصدقاء العظام ! ، فالأفضل الانقطاع دفعة واحدة ، و العودة إلى الوحدة – الجو الطبيعي للرجل ، و لكن ، في ذلك الصباح الممطر لم يكن باستطاعتي ترك صديقي ( و قد علمت لماذا ، فيما بعد ، و لكن للأسف كان ذلك بعد فوات الأوان ) ، لقد صعدت معه إلى ظهر المركب و دخلتُ إلى مقصورته الملأى بالحقائب المبعثرة ، كأنني كنت راغبا في أن أدون ملامحه في مخيلتي ، عينيه المضيئتين بالأزرق ، وجهه الفني ، و ملامحه الذكية ، و فوق كل ذلك يديه الارتسقراطيتين و أصابعهما الطويلة النحيلة .
    و حين فاجأني و أنا أحدق به بشوق ، و نظر إلي و قد ارتسمت على وجهه تلك الابتسامة الساخرة التي يلجأ إليها حين يريد أن يخفي انفعاله ، و فهم ! ، سألني مبتسما ساخراً :
    - إلى متى ؟
    - ماذا تعني بإلى متى ؟
    - إلى متى ستبقى على عادة مضغ الورق و التلوث بالحبر ؟ لماذا لا تأتِ معي بعيدا في القوقاز هناك الألوف من أبناء جلدتنا في خطر عظيم ، تعال لننقذهم .
    ثم راح يضحك كأنه يهزأ من نبله ، قال :
    - ربما ، لن نقدر على مساعدتهم ، و لكن ألم تكن تعظ " إن الطريقة الوحيدة في تخليص نفسك هي في مساعدة الآخرين " ؟ حسنا ، أيها المعلم ، إلى الأمام ، و أنت ممتاز إلقاء المواعظ ، لماذا لا تأتِ معي ؟!
    و لم أجبه ، و فكرت بأراضي الشرق الساحرة ، و أم الآلهة العجوز ، و صراخ بروميثيوس المسمر إلى الصخور ، و هناك على هذه الصخور نفسها كان عِرقنا مسمراً ، لقد كان ينادي و يصرخ !! لقد كان ينادي طالبا المعونة من أبنائه ، و كنت أسمع النداء كأن الألم هو حلم و الحياة هي مأساة محيقة ، يثبت فيها من يأخذ حصته من العمل في مسرح الحياة .
    و بدون أن ينتظر جوابا مني ، نهض صديقي ، و صفرت الباخرة معلنة عن الإقلاع للمرة الثالثة و مدّ يده إليّ ، محاولا إخفاء انفعاله بابتسامته الساخرة ، ثم قال :
    - إلى الملتقى ، يا عثّ الكتب !
    و ارتجف صوته ، و قد شعر بالخجل لأنه لم يتمكن من السيطرة على عواطفه ، فقد كانت الكلمات الرقيقة ، و الحركات المضطربة ، تبدو له ضعفا لا يجوز للرجل أن يأخذ بها ، نحن ، الذين كنا مولعين ببعضنا أشد الولع ، لم نتبادل أية كلمة من كلمات العطف و المحبة ، لقد مثلنا و خدشنا بعضنا بعضا كأننا قطط متوحشة .
    هو : الذكي ، الساخر ، المتمدن ، و أنا : الهمجي ! ، لقد تمرن على ضبط النفس و إخفاء كل العواطف تحت ستار السخرية ، بينما كنت أنا أنفجر بضحكتي الوحشية البلهاء .
    لقد كنت أحاول دوما أن أخفي انفعالي و عواطفي بكلمة قاسية ، لكني شعرت بالخجل ، لا ، ليس الخجل بالذات ، و لكن سوء التصرف ، و أمسكت بيده و لم أقو على تركها ، فنظر إليّ مندهشا :
    - هل أنت منفعلٌ لهذا الحد ؟!
    و أجبته بهدوء :
    - نعم .
    لماذا ؟ و لكن ماذا قلنا الآن ؟ ألم نتفق على ذلك منذ سنين ؟ ماذا يقول الأحباء اليابانيون " فودوشين " ! ، الوجه قناعٌ يبتسم ، و لكن ما يدور هذا القناع ليس من شأننا !
    - نعم .
    أجبته محاولا جاهدا أن لا أورط نفسي بعبارات طويلة ، و لم أكن واثقا من أنني قادر على ضبط صوتي .
    و دوى صوت صفارة الباخرة ، معلنا طرد الزوار من غرف المسافرين ، كان المطر ينهمر خفيفا ، و كان الهواء عابقا بكلمات الوداع الرقيقة ، القبلات الطويلة ، التأوهات و التوصيات اللاهثة الخاطفة ، و تهافت الأمهات على الأبناء ، و الزوجات على الأزواج ، و الأصدقاء على الأصدقاء ، كأنهم سيفارقونهم إلى الأبد ، كأن هذا الفرق يعني " الفراق الكبير " ، و انطلقت الصفارة من جديد كأنها أجراس الجنائز ، فارتعدت !
    - اسمع ، هل أنت متشائم ؟
    - نعم .
    - هل تؤمن بهذه الهواجس ؟
    و أجبته بالتأكيد :
    - كلا .
    - إذن ؟
    و لم يكن هناك من " إذن " فلم أكن أؤمن بها ، و لكن كنت خائفا ..
    و رمش صديقي بجفونه مرتين أو ثلاثاً ، و حدّق بي مرة أخرى ، لقد فهم أني منفعل و حزين ، فتردد في إخفاء اضطرابه بالسخرية و الضحك ، و قال :
    - حسناً ! أعطني يدك ، إذا قدر لأحدنا أن يجد نفسه في خطر الموت .. و توقف ، كأنه شعر بالخجل ، نحن الذين كنا نهزأ من هذه النزوات الميتافيزيقية لسنواتٍ خلت !! ، و سألته محاولا أن أحذر :
    - حسنا ؟!
    - لننظر إليها كأنها لعبة ، إذا قدر لأحدنا خطر الموت ، فليفكر في الآخر بشدة لدرجة أن ينبهه حيثما كان .. هل اتفقنا ؟!
    قال ذلك محاولا أن يضحك لكن الابتسامة جمدت على شفتيه .
    - اتفقنا .
    و أضاف صديقي مسرعا ، خوفا من أن يكون قد أفصح عن عواطفه :
    - مع العلم ، أني لا أؤمن إطلاقا بعلم قراءة الأفكار ، و ما شابه ..
    طمأنته متمتماً :
    - لا بأس ، و ليكن ..
    - حسنٌ جداً ، و الآن لندع الموضوع عند هذا الحد ، اتفقنا ؟
    - اتفقنا .
    كانت هذه كلماتنا الأخيرة ، و تصافحنا بحرارة ، و مشيت مسرعا دون أن أنظر إلى الخلف ، كأنني كنتُ مطارداً ، و شعرتُ برغبة في إلقاء نظرةٍ أخيرةٍ على صديقي ، لكني تمالكتُ نفسي و قلت " لا تنظر إلى الخلف ! تقدّم ! " .

    يتبــع

  6. #5

    كان الضوء ينتشر رويدا رويداً ، و الصباحان يبدوان متداخلان ، و ظهر لي وجه صديقي واضحا الآن ، الذي بقي لمدة طويلة تحت المطر ، و يبدو حزينا ساكناً .. و انفتح الباب و دخل رجلٌ قصير القامة ، مقوّس الساقين ، ذو شاربٍ متدلٍ ، و تعالت أصواتٌ فرِحة :
    - أهلاً ، كابتن ليموني !
    و انتشر الضوء ، و أخذ الكابت مسبحته و راح يطقطق بها بعصبية ، بينما انزويتُ أنا في مقعدي محاولا أن أستعيد تلك الصورة التي كانت تذوب مبتعدةً عني ، لو أتمكن من أن أعيش مرة أخرى هذه اللحظة من الغضب الذي تملكني حين قال صديقي " عث الكتب " ! ، و تذكرت أن كل القرف من الحياة التي كنت أحياها قد تجسد في هذه الكلمات ، كيف تمكّنتُ أنا ، الذي كنت أحب الحياة ، أن أدفن رأسي بين أكداس الكتب و الأوراق الملطخة بالحبر ! لقد ساعدني صديقي في ذلك اليوم ، يوم الفراق ، على الرؤيا بوضوحٍ أكبر ، و شعرت بالاطمئنان ، و الآن بعد أن علمت اسم حزني مصدر شقائي فباستطاعتي التغلب عليه بسهولة ، و لم تعد أحزاني متفرقة ، فقد تجسدت و أصبحت تحمل اسما ، لذلك أصبح بإمكاني مقارعتها بسهولةٍ أكبر .
    لقد أثر هذا التعبير علي و دخل في أعماق نفسي ، و قد حاولتُ البحث عن حجة لأترك الورق و الكتابة و أحيا حياة أكثر مغامرة و حركة ، لقد أصبحت مستاءً من حمل هذه الحشرة البائسة مضافة إلى اسمي ، و قد سنحت لي الفرصة منذ شهر ، فقد استأجرت منجما في جزيرة كريت مواجها لبحر ليبيا ، و سأذهب اليوم إلى هذا المنجم القديم لأعيش مع رجال بسطاء ، عمال ، فلاحين ، بعيدا عن جنس " عث الكتب " .
    و أعددتُ العدة للسفر ، كأن هذه الرحلة تخفي وراءها معانٍ كثيرة ، فقد عزمت على تغيير منهجي في الحياة ، و قلت لنفسي " لغاية اليوم ، لقد شاهدت الظل و كنت مكتفية به ، و الآن سأقودك إلى الجسم " .
    و عندما انتهيت أخيرا ، و في ليلة سفري بينما كنت أقلب أوراقي ، عثرت على مخطوطة لم تنته بعد ، و أخذتها بيدٍ مشدودة ، منذ سنتين كانت الرغبة كامنة في أعماق نفسي ، رغبة قوية جامحة ، رغبة أشعر بها تتآكل في أحشائي كل لحظة ، لقد كانت تنمو و تنضج و ترفسني في صدري تطلب أن تخرج إلى الوجود ، و الآن لم يعد بإمكاني أن أطرحها ، لم أعد أجرؤ على ذلك ، لقد فات الوقت لهذا الإجهاض النفسي .
    و بينما كنت ممسكا بالمخطوطات تلك ، ظهر أمامي وجه صديقي الساخر فقلت بصوتٍ مرتفع بعد أن شعرت بألم السخرية : " سآخذها معي ، سآخذها ، لا تضحك !! " ، و لففتُ المخطوطة بعناية و حملتها .
    و عاد إلى مسمعي صوت الكابتن ليموني ، وقورا قاسيا ، و أصغيت إلى حديثه الذي كان عن العفاريت التي تسلقت صاري مركبه أثناء العاصفة و راحت تلحسه :
    - لقد كانت لزجة ، و كان الإنسان حين يلمسها يشعر بالنار تحرق يديه ، لقد ملست شاربي و نظرت إليها في الظلام و أنا أشع كالعفريت ، و كما قلت ، لقد طغى البحر على مركبي و أغرق شحنتي من الفحم و بدأ مركبي يميل في هذه اللحظة ، ترفق الله العظيم و رأف بي و أرسل صاعقة حطمت أخشاب الأبواب و انزلق الفحم إلى البحر ، و خف وزن المركب من حمولته و عاد إلى وضعه السابق ، و بذلك أنقذتُ نفسي .
    و بينما كنت أصغي باهتمام لما كان يقوله البحار العجوز ، شعرتُ بالانزعاج فجأة فرفعتُ رأسي ، لست أعلم كيف ، لكني شعرت أن عينين اثنتين تحدقان بجمجمة رأسي من الخلف ، و التفتّ مسرعاً باتجاه الباب الزجاجي ، و قد ومضت في رأسي فكرة مجنونة : سأرى صديقي مرة ثانية ! لقد كنتُ مهيأ لاستقبال المعجزة ، لكنها لم تحصل ، فقد رأيتُ رجلا غريبا يبلغ من العمر ستين عاما ، طويل القامة ، نحيف الجسم ، عيناه جاحظتان ، و قد ألصق بأنفه على زجاج الباب و هو ينظر إليّ ، و كان يحمل صرّة صغيرة تحت ذراعه .
    و قد أثارني فيه نظرته المتشوقة ، و عيناه الحادتان المتوقدتان ، أو هكذا بدتا لي على كل حال ، و ما إن تقابلت نظراتنا ، و تأكد أنني الشخص الذي يبحث عنه ، حتى فتح الباب بقوة و اندفع إلى الداخل ماراً بين الطاولات بخطى سريعة ، و تقدم نحوي ووقف قرب طاولتي ثم قال :
    - هل أنت مسافر ؟ و إلى أين ؟
    - مسافر إلى كريت ، و لكن لماذا تسأل ؟
    - هل تأخذني معك ؟
    و نظرت إليه باهتمام ، كانت خدوده مجوفة ، و فكه صلبٌ قاسٍ ، و وجنتاه ناتئتان ، و شعره الرمادي مجعد و عيناه متوقدتان .
    - لماذا ؟ و ماذا أفعل بك ؟
    و هز بكتفيه و قال :
    - لماذا ، لماذا ؟ ألا يستطيع المرء أن يفعل شيئا دون لماذا ؟ للاشيء ، لأن المرء يريد ذلك ! خذني معك كطباخ مثلا ، إن باستطاعتي أن أطبخ حساءً لم تذق مثله في حياتك .
    و رحتُ أحدق به و أنا أضحك ، فقد أعجبني هذا المخلوق كما أعجبني الحساء ، فقلت في نفسي إنه ليس ثمة ضرر في أن آخذه معي ، فيبدو أنه قد جاب البحار طويلاً ، فهو أشبه بالسندباد البحري .. و قد أعجبني !
    قال لي و هو يهز برأسه الضخم :
    - و بماذا تفكر ؟ هل توازي الأمر بنفسك ؟ هيا أيها الصديق اعتمد و قرر لنفسك ..
    - اجلس الآن و خذ قدحا من الشراب .
    - حسناً ، و لكن كأسا من " الروم " ينفعني أكثر .
    و سألته بعد أن تناول كأس الروم و راح يتذوقه بهدوء :
    - ما نوع العمل الذي تتقنه ؟
    - كل الأنواع ، بالأرجل و الأيدي و الرأس ، جميعهم !
    - أين كنت تعمل في السابق ؟
    - في منجم ، فأنا خبيرٌ في عمل المناجم ، كما أنني خبير في المعادن ، أنا أعرف كيف أجد العروق ، أحفر الأنفاق ، و أهبط إلى الحفر العميقة دون أن أخاف ، لقد كنت أعمل جيدا فقد كنت رئيسا على العمال ، و كنت لا أشكو من شيء ، و لكن الشيطان تدخل في عملي ، فيوم السبت الماضي جاء صاحب المنجم ليفتش بين العمال ، فأمسكت به و أوسعته ضربا .. هكذا ، دون أن أكون سكراناً .
    - و لكن لماذا ؟ و ماذا فعل لك ؟
    - لي ؟ لا شيء على الإطلاق ، فقد كانت المرة الأولى التي أراه فيها ، فالمسكين قد وزع علينا السجائر أيضاً .
    - حسنا ؟
    - أوه ، مالك تجلس هكذا و تطرح الأسئلة ؟ لقد خطر لي ذلك ، هذا كل ما في الأمر ، تعلم قصة زوجة الطحان ؟ حسنا ، فلا يمكنك تعلم الإملاء من مؤخرتها ، مؤخرة زوجة الطحان ، فهذا هو المنطق الإنساني .

  7. #6
    السلام عليكم

    رائع ان اجد في مخيلتي من ينافس jhon donne الذي كان موضوع بحثي العام السابق

    اتمنى ان اعرف عن زوربا المزيد

    ررائع من يعبر عن كلام سجين في قلبك........بلسان بليغ

    والذي يعطيك كل الكلمات في كلمة

    لم يكن بجديد الحديث عن رواية زوربا، وأظنُ أن بعضكم إن لم يكن معظمكم قرأ الرواية أو على الأقل سمع عنها وعن شخصية زوربا اليوناني.
    للأسف لم أسمع عنه على الاطلاق الا منك

    يرقص ألمًا
    ~_~

    لا يمكنني الاقتباس من حكمه...........والا اقتبست الموضوع كله

    إخفاء كل العواطف تحت ستار السخرية
    اكرة ذلك......ولكني افعله وأجيده........محير

    شعرتُ برغبة في إلقاء نظرةٍ أخيرةٍ على صديقي ، لكني تمالكتُ نفسي و قلت " لا تنظر إلى الخلف ! تقدّم ! "
    لا استطيع.........ألا انظر الى الخلف
    الآن بعد أن علمت اسم حزني مصدر شقائي فباستطاعتي التغلب عليه بسهولة ، و لم تعد أحزاني متفرقة ، فقد تجسدت و أصبحت تحمل اسما ، لذلك أصبح بإمكاني مقارعتها بسهولةٍ أكبر
    ..........

    لماذا ، لماذا ؟ ألا يستطيع المرء أن يفعل شيئا دون لماذا ؟ للاشيء ، لأن المرء يريد ذلك

    سلمت يداك اخي .....وننتظر باقي القصة....26gooood اعانك ربي اخي

    شكرا يا فرندsmile......وجزاك الله خيرا

    سلامي

    اخر تعديل كان بواسطة » اليمامة في يوم » 17-07-2006 عند الساعة » 22:30
    attachment

    [SHADOW]أختي لون التوت ...جزائكِ من الله على التوقيع الرائع....أشكرك[/SHADOW]


    [GLOW]سنبقا سويا مهما فصلت بيننا المسافات[/GLOW]

  8. #7
    يمـــامـة

    أهلاً بكِ أختي ، أسعدني حقاً تواجدك ..

    الرواية فعلاً لم تأخذ حقها بالعالم العربي ، بـِ صعوبة إستطعت أن أحصل عليها من صديق مصري

    رائع ان اجد في مخيلتي من ينافس jhon donne الذي كان موضوع بحثي العام السابق
    لـِ علمك ، الكاتب هو نيكوس كازنتزاكس ، صديق زوربـا الوحيـد

    ستجدي الكثير من الغرابة في شخصية زوربا ، لا أدري هل أسميه غموض ام ماذا

    لكنكِ حقاً ستندهشين بـِ زوربا ، وربما تقرأيها مرة ثانيـة smile

    // .. //

    Zorba1

    ترى هل هناك أسعد ؟!
    اخر تعديل كان بواسطة » FRIEND في يوم » 18-07-2006 عند الساعة » 04:39

  9. #8
    zorba

    الفصــل الثانـي



    البحر، و طراوة الخريف، و الجزر السابحة في النور، و المطر الناعم الذي أضفى حجابا شفافا على العري الأبدي لجزر اليونان، كم هو سعيد الرجل الذي يمخر عباب بحر إيجه قبل وفاته.
    كم هي عديدة مسرات هذا العالم، نساء، و فواكه، و آراء، و لكن أن تشق عباب هذا البحر الهادئ و في فصل الخريف لهي السعادة التي تملأ قلب الإنسان في نعيم الفردوس، فهذا هو المكان الوحيد الذي يمكن للإنسان أن ينتقل فيه من مكان إلى مكان بهدوء و سهولة، من الواقع إلى الخيال.. إنها المعجزة بالذات!
    وعند الظهر انقطع المطر، و بددت الشمس حجب الغيوم، و أطلت علينا ناعمة لتداعب بأشعتها صفحات الماء الحبيبة، و تركت نفسي تستوعب هذه المعجزة الخالدة التي انقشعت على مدى الأفق البعيد.
    وعلى ظهر المركب، كاليونانيين، الشياطين الأذكياء، ذوو العيون المشعة و العقول التي تتقن فن المساومة الطويل على البضائع التافهة، و في بعض الأحيان تأخذ بك الرغبة في أن تمسك بهذا المركب من طرفيه و تغرقه في البحر، ثم تهزه جيدا لتغسل عنه كل هذه الحيوانات التي أوسخته، رجال، فئران، و قمل. ثم تعومه من جديد بعد أن يصبح نظيفاً فارغاً.
    ولكن في بعض الأحيان كانت العاطفة تمنعني، عاطفة بوذية، باردة كالاستنتاجات الميتافيزيقية، عاطفة ليست نحو الرجال فقط، بل نحو الحياة كلها بجهادها، و صراخها، و نواحها، و آمالها التي لا ترى أن كل شيء ليس إلا محاولة لإظهار الأشباح من العدم، عاطفة نحو اليونانيين، و نحو المنجم الفحمي، و نحو مخطوطتي الناقصة عن بوذا، و عن ذلك الخليط من النور و الظلال الذي يزعج صفاء الجو.
    وكنت أختلس النظر إلى زوربا المنهك، الشاحب الوجه، و قد قبع في مجلسه على ظهر المركب على كومة من الحبال عند مقدمة المركب، كان يشم ليمونة و يصغي إلى صراخ الركاب و شجارهم بأذنيه الكبيرتين ثم يهز برأسه الضخم و يبصق و يتمتم قائلا:
    - هؤلاء الحطام، ألا يخجلون من أنفسهم؟
    - ماذا تعني بكلمة ( حطام ) يا زوربا؟
    - كل هؤلاء الملوك، الديموقراطيات، النواب، المرائين!
    إن الحوادث لم تكون لزوربا سوى أمور قديمة، فهو بنفسه قد ابتعد عنها، و بالتأكيد كان التلغراف، و البواخر، و المراكب، الأخلاق السائدة، و الدين، لا بد أن تكون كالبنادق القديمة الصدئة، فتفكيره قد تقدم بسرعة تجاوزت تقدم العالم.
    كانت الحبال تتشقق على الصواري، و الشواطئ كانت تتراقص، و النساء المسافرات أصبحت وجوههن أكثر اصفرارا من الليمونة، لقد ألقين بأسلحتهن، المساحيق و المشدات و دبابيس الشعر و الأمشاط، و شحبت شفاههن و أظافرهن بدأت تتحول ألوانها إلى الأزرق، و بدأت تتساقط الريش المستعار و الشرائط الحريرية و الجفون الاصطناعية، فقد كان الناظر إليهن بالإجمال يشعر بالقرف و الرغبة بالتقيؤ.
    وشحب وجه زوربا بدوره و اصفر لونه ثم اخضر، و خفتت عيناه المتقدتان و لم يعد إلى تألقه الأول إلا في المساء، حين أشار إليّ ليريني درفيلين كانا يتقافزان و يسابقان المركب، و صاح:
    - درافيل!
    واحظت لأول مرة أن نصف إبهام يده اليسرى مقطوع، فارتعدتُ و سألته:
    - ماذا جرى لإصبعك يا زوربا؟
    وأجابني و قد بدا عليه الاستياء لأنني لم أنظر إلى الدرافيل:
    - لا شيء!
    - هل قطعته بآلة حادة؟
    - و ما شأن الآلة بالموضوع؟ كلا فقد قطعته بنفسي.
    - بنفسك، و لماذا؟
    - أنت لا يمكنك الفهم، أيها الرئيس، لقد سبق و أخبرتك أنني قمت بأعمال عديدة، و في إحدى المرات عملت في صناعة الفخار، و قد أحببت هذا العمل لدرجة الجنون، هل يمكنك أن تتصور ماذا يعني أن تأخذ حفنة من الطين و تعمل منها ما تريد؟ قرر! ثم تدوّر الدولاب و يدور الطين معه بينما تقول بنفسك " سأصنع جرة، أصنع صحنا، سأصنع قنديلا، و الشيطان يعلم ماذا أيضاً " هذا ما تقوله عن كونك رجلاً: الحرية!
    لقد نسي البحر، و لم يعد يقضم الليمونة، و عاد الصفاء إلى عيونه..
    - حسنا، و لكن إصبعك؟
    - لقد كانت تزعجني، و تقف في طريق عملي، و تفسد علي مشاريعي، و في ذات مرة أمسكت بفأس صغيرة..
    - ألم تشعر بالألم؟
    - كيف لم أشعر بألم؟ هل تعتقد أني جذع شجرة؟ إنني إنسان، لقد تألمت و لكن كما قلت لك كانت تقف في طريقي فقطعتها!
    وهدأ البحر قليلا عند غياب الشمس و انقشاع الغيوم، فدبت نجمة المساء لامعة براقة، و ألقيت نظرة على البحر و رحت أفكر.. كيف نحب إلى هذا الحد؟ ثم نأخذ فأسا و نقطع ثم نتألم، لكني أخفيت اضطرابي و أردفت قائلا محاولا الابتسام:
    - إنها لطريقة سيئة يا زوربا! إنها تذكرني بالأسطورة الذهبية التي تقول عن ناسك رأى امرأة قد أزعجته جسديا، فتناول فأساً..
    وصاح زوربا مقاطعاً:
    - كم هو أحمق، يقطع هذا! و لكن هذا المسكين لا يعتبر عقبة!
    - كيف؟ بل هو عقبة كبيرة.
    - أمام ماذا؟
    - أمام ولوجك أبواب السماء!
    وحدجني زوربا بنظرة ساخرة و هو يقول:
    - إنه هو الذي يمكنك اعتباره مفتاح السماء!
    ثم رفع رأسه و حدق بي كأنه يريد معرفة رأيي بالحياة التالية، و بملكوت السماء، و النساء و النساك، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى شيء فهز رأسه الضخم و استطرد:
    - إن الخصيان لا يدخلون السماء.
    ولاذ بالصمت، فذهبت إلى مقصورتي و أخذت كتاباً و أخذت أقرأ..
    وفي صباح اليوم التالي استيقظتُ مبكراً، و كانت الجزيرة قد أصبحت عن يميننا، تلك الجزيرة الكبيرة المزهوة المتوحشة، و الجبال الوردية الشاحبة تبدو كأنها تبتسم من خلال ضباب شمس الخريف، و من حول المركب كان البحر الأزرق ما يزال ثائرا مهتاجاً.
    وكان زوربا الملتحف بغطائه الرمادي ينظر محدقا إلى جزيرة كريت، و عيونه تنتقل من الجبل إلى السهل و تتبع الشاطئ و تتفحصه، كأنه قد شاهد جميع هذه الأراضي و البحار مرات سابقة و هو يتمتع برؤيتها ثانية، و دنوت منه واضعا يدي على كتفيه قائلاً:
    - زوربا، أعتد أنها ليست المرة الأولى التي تأتي فيها إلى كريت، فأنت تحدق بها كأنك صديق قديم.
    وتثاءب زوربا، كأنه ضجر، و شعرت أنه لا يميل إلى الحديث الآن، فابتسمتُ و قلت له:
    - إن الحديث يضجرك، أليس كذلك يا زوربا؟
    - ليس هذا بالضبط، أيها الرئيس، لكن الكلام صعب.
    - صعب؟ و لماذا؟!
    ولم يجبني على الفور، و أجال بنظره إلى الشاطئ مرة أخرى، لقد نام ليلته على ظهر المركب و كان شعره الرمادي المجعد يقطر بالندى، و كانت الشمس المشرقة تضيء التجاعيد في وجهه و رقبته، و حرك شفتيه أخيرا و هو يقول:
    - في الصباح أجد صعوبة في فتح فمي، صعوبة كبيرة، اعذرني.
    ومرة أخرى راح في صمتٍ عميق و عاد ينظر إلى كريت. و رن جرس طعام الإفطار، و ظهرت الوجوه من المقصورات، نساء مترنحات و شعورهن متدلية تفوح منهن روائح القيء الممزوج برائحة الكولونيا، و أعينهن مذعورة بلهاء. و كان زوربا يجلس أمامي و هو يشرب فنجان القهوة و يغمس قطعة الخبز التي مسحها بالزبدة و العسل، ثم يأكلها، و أشرق وجهه بعد ذلك و اطمأن قليلا و بدا فمه كأنه أصبح مرنا، ثم أشعل سيجارة و راح يستنشق أنفاسا و هو على أشد ما يكون من التلذذ، و لاحظت أنه أصبح مستعدا للحديث و من ثم راح يقول:
    - هل هذه هي المرة الأولى التي آتي بها إلى كريت؟
    ثم أغمض عينيه قليلا، ثم راح ينظر إلى جبل ابرا الذي كان ممتدا وراءنا، و استطرد قائلاً:
    - كلا إنها ليست المرة الأولى ففي عام 1896 أصبحت رجلا ناضجا تماما و كان شاربي و شعري لا يزالان بلونيهما الحقيقيين و كنت لا أزال في مقتبل العمر، و كنت حين أسكر ألتهم المقبلات أولا ثم الطعام، نعم، فقد استمتعت إلى أقصى حدود الاستمتاع، لكن الشيطان تدخل أيضا فقد نشبت الثورة في كريت. في تلك الأيام كنت بائعا جوالا، و كنت أبيع الخضراوات متنقلا من قرية إلى قرية في مقدونيا و عوضا عن المال كنت أستبدل ما أبيعه بالجبنة و الصوف و الزبدة و الأرانب و الذرة، ثم أعود و أبيع هذه الأشياء و أكسب ربحا مضاعفاً، ففي كل قرية أحلها ليلا، أعلم أين أنام، ففي كل قرية كنت أجد قلب أرملة رحيمة عطوف، و كنت أقدم لها مشطا أو مكبا من الخيطان أو وشاحاً، أسود اللون بسبب المرحوم! و أنام معها بعد ذلك! و لم يكن ذلك يكلفني كثيراً.. كلا، لم تكن تكلفني كثيرا، أيها الرئيس، و لكن كما قلت سابقا لقد تدخل الشيطان و هبت كريت لتحمل السلاح، و قلت لنفسي لتذهب بمصيرها إلى الجحيم! ألا تقدر هذه الكريت اللعينة أن تتركنا بسلام؟ ثم وضعت جانبا أمشاطي و حملت بندقيتي و توجهت للانضمام للثوار في كريت.
    وصمت زوربا، فقد بدأنا نسير إلى خليج مستدير رملي، و كانت الأمواج تنتشر بهدوء دون أن تتكسر، تاركة خيطا رفيعا من الزبد على طول الشاطئ، و انقشعت الغيوم و تألقت الشمس و لاحت أطراف الجزيرة بوضوح، و التفت زوربا نحوي و حدجني بنظرة ساخرة:
    - و الآن، أعتقد أيها الرئيس أنك تتصور بأني سأخبرك كم رأسا تركيا قطعت و كم أذنا قد وضعت في الكحول، فهذه هي العادة في كريت، حسنا.. و لكني لن أفعل، فأنا لا أحب أن أفعل ذلك لأني أخجل منه، ما هذا الجنون؟ و اليوم بعد أن أصبح عقلي راجحا صرت أسائل نفسي قائلا: ما هذا الجنون الذي تملكنا لكي نلقي بأنفسنا على رجل آخر لم يؤذنا بشيء ثم نعضه و نقطع أنفقه و نمزق أذنيه، و في الوقت نفسه نطلب من الله العظيم أن يساعدنا! فهل هذا يعني أننا نطلب من الله أن يذهب معنا ليقطع آذان البشر و أنوفهم؟ و لكن في ذلك الوقت، كان دمي لا يزال حارا في عروقي، و ما كان باستطاعتي الوقوف و التساؤل و التفحص، إذ يجب على المرء لكي يفكر بدقة و عدل أن يكون هادئا مسناً دون أسنان! فعندما يكون المرء عجوزا لا أسنان له، فباستطاعته القول بسهولة تامة " لعنكم الله أيها الأولاد، فمن العيب أن تعضوا " و لكن حين تكون له أسناني الاثنين و الثلاثين.. يكون الإنسان متوحشا كالحيوان.. نعم، أيها الرئيس، كالحيوان المفترس آكل لحوم البشر.
    و هز رأسه ثم قال:
    - وهو يأكل الخراف أيضاً، والدجاج و الخنازير، و لكنه إذا لم يأكل لحم البشر تبقى معدته خاوية، كلا.. إن معدته لا تكتفي، و الآن ما لديك من أقوال؟!
    ولكنه لم ينتظر الجواب، بل أكمل قوله و هو يحدق بي:
    - ماذا يمكنك أن تقول، فكما أرى، إن سيادتك لم تشعر بالجوع مطلقاً، و لم تقتل أبدا، و لم تسرق و لم تزنِ، ماذا تعرف من هذا العالم؟ إن عقلك بريء، و جلدك لم ير أشعة الشمس.
    قال جملته الأخيرة بكثير من الاحتقار، مما جعلني أشعر بالخجل من يدي الناعمتين و وجهي الشاحب و حياتي الخالية من لطخات الدم و الوحل، ثم قال و هو يمسح بيده الخشنة على الطاولة:
    - حسنا، حسنا، فهناك ما أود أن أسألك إياه فلا بد أنك قرأت مئات الكتب، فربما تعرف الجواب.
    - هيا، قل لي يا زوربا، ما هو؟
    - إن هنا ثمة معجزة تحدث، أيها الرئيس، معجزة مضحكة تحيرني، إن كل هذه الأعمال، هذه الخدع القذرة و السرقات و المذابح التي نقوم بها – نحن الثوار – كل هذه جاءت بالأمير جورج إلى كريت، الحرية!
    ثم نظر إلي بعينين ملؤهما الدهشة:
    - إنها أحجية عظيمة، فإذا أردنا الحصول على الحرية في هذا العالم القذر يجب أن نقوم بهذه الجرائم، و هذه الخدع القذرة، أليس كذلك؟ أقول، إذا أخبرتك عن كل هذه الجرائم المريعة
    لوقف شعر رأسك! و لكن ما هي نتيجة كل ذلك؟ الحرية! فبدلا أن يزيلنا الله تعالى بصاعقة من عنده يمنحنا الحرية! إني لا أفهم حقاً..
    و نظر إلي كأنه يطلب العون مني، و قد لاحظت أن هذه المعضلة قد شغلته و آلمته و لم يتمكن من كشف سرها، ثم سألني بقلق:
    - هل فهمت؟!
    ماذا أفهم! و ماذا أقول له؟ فإما هذا الذي ندعوه إلها غير موجود، أو أن تكون هذه التي ندعوها جرائم و اغتيالات ضرورية للكفاح من أجل حرية العالم، و حاولت أن أجد له طريقة أسهل لأشرح له الأمر.
    - كيف تستطيع الزهرة أن تنمو و تعيش وسط السماد و القذارة؟ افترض يا زوربا لنفسك أن هذه الأقذار هي الإنسان و أن الزهرة هي الحرية.


  10. #9
    - ولكن البذرة؟
    صاح زوربا و هو يضرب الطاولة بقبضة يده و يقول:
    - لكي تنبت الزهرة يجب أن يكون هناك بذرة، من هو الذي وضع بذرة كهذه في جوفنا؟ و لماذا لا تنبت البذرة هذه زهور لطيفة شريفة؟ لماذا تحتاج إلى الدم و الأوساخ؟
    فهززت رأسي قائلا:
    - لا أعلم
    - ومن يعلم؟
    - لا أحد.
    وصاح زوربا في يأس:
    - إذا ماذا تنتظر مني أن أفعل بالقوارب و المحركات و ربطات العنق؟!
    وتململ اثنان من المسافرين الذين كانوا يحتسون القهوة على مائدة مجاورة و رهفوا آذانهم لسماع ما نقوله، و اشمأز صديقي منهم و قال لي بصوتٍ خفيض:
    - لنغير الموضوع، فعندما أفكر في ذلك أشعر برغبة في تحطيم كل ما تقع عليه يدي من كراسي أو قناديل أو حتى ضرب رأسي بالحائط، و لكن ما الفائدة من كل هذا؟ فسأضطر إلى دفع ثمن ما حطمته، ثم أضطر للذهاب إلى الطبيب ليربط لي رأسي، فهذا أسوأ بكثير، فسينظر إلي من أعالي السماء و ينفجر بالضحك.
    وحرك يده فجأة كأنه يريد أن يتخلص من ذبابة مزعجة، ثم قال:
    - لا بأس، فكل ما أردت أن أقوله لك هو: عندما جاءت المركبة الملكية و هي مزدانة بالأعلام و ابتدأ إطلاق المدافع، و حين وضع الأمير رجله على أرض كريت.. هل سبق لك أن رأيت شعبا بأسره يصبح مجنونا لأنه رأى حريته؟ كلا؟ آه، أيها الرئيس، إذن فقد خلقت أعمى، و ستموت أعمى، فإذا قدر لي أن أعيش ألف سنة حتى لو أن كل ما تبقى مني عبارة عن قطعة لحم حية، فلن أنسى ما رأيته ذلك اليوم! و إذا كل واحد منا قدر له أن يختار جنته في السماء حسب ذوقه – و هذا ما يجب أن نكونه، فهذا ما أدعوه جنة – سأقول للإله العظيم " يا إلهي، لتكن جنتي جزيرة كريت المملوءة بالأعلام و الزينات، و دع هذه اللحظة التي وطأت بها أقدام الأمير جورج أرض كريت تستمر قرونا طويلة! فهذا يكفي "
    وعاد زوربا إلى الصمت مرة أخرى، و رفع شاربه، ثم ملأ كأسا من الماء البارد و شربها دفعة واحدة:
    - ماذا جرى في كريت يا زوربا، أخبرني!
    و قال لي منزعجاً:
    - هل سنعود إلى العبارات الطويلة؟ أنظر، أقول و أكرر لك أن هذا العالم غامض جدا و الإنسان ليس إلا وحش كاسر.
    وحشٌ عظيمٌ و إله، حارس أسود ثائر، جاء معي من مقدونيا، اسمه يورغا و كان يدعونه " المجرم " خنزير شرس، و هل تعلم.. لقد بكى، و قلت له و عيوني تترقرق بالدمع " لماذا تبكي أيها الكلب؟ لماذا تبكي أيها الخنزير؟ " و لكنه لم يجب، لم يكب، بل ألقى بيديه حول عنقي و راح يبكي كالأطفال، ثم تناول محفظته و وضعها على حجره بعد أن أفرغ منها القطع الذهبية التي نهبها من الأتراك ثم ملأ قبضته بالقطع و ألقى بها في الهواء، أرأيت.. أيها الرئيس، هذه هي الحرية!
    ونهضت إلى ظهر المركب لأستنشق هواء البحر.. " هذه هي الحرية " فكرت بنفسي، تهوى ثم تجمع قطعا من الذهب، و فجأة تتغلب على تلك العاطفة فتتمسك بكنزك و تلقي به أدراج الرياح لتحرر نفسك من عاطفة معينة و تأخذ بعاطفة أسمى، أليست هذه هي نوعا آخر من العبودية؟ لتضحي بنفسك من أجل فكرة معينة، من أجل عرق ما، لله؟ أم أن كلما ارتفع الرمز طال حبل العبودية؟ عندئذ يمكننا الاستمتاع و اللهو في أرجاء أوسع و نموت دون أن نصل إلى نهاية الحبل، هل هذا ما ندعوه الحرية؟!
    وعند المغيب شارفنا الشاطئ الرملي و رأينا أخيرا الرمال البيضاء الصافية و أشجار الخرنوب و التين، و التل الصغير الأجرد الذي يشبه وجه امرأة تستريح، و تحت ذقنها و حول رقبتها تمر عروق الفحم الرمادية.
    كانت نسمات الريح الخريفية تهب، و الغيوم المتقطعة تمر في السماء لتغلق الأرض بالظلال، و غيوم أخرى كانت تنظر و تهدد الشمس التي احتجبت وراءها، و وجه الأرض يضيء و يظلم كوجه حي منزعج.
    وتوقفت للحظة على الرمل و نظرت، كانت الوحدة مجسمة أمامي، وحدة مميتة و لكنها مدهشة، كالصحراء، و برزت أغنية البوذيين من الأرض و تلمست طريقها إلى أعماق نفسي " متى سأنزوي في الوحدة أخيرا، لوحدي، دون رفاق، و بدون فرح أو بدون حزن، و بالتأكيد مقدس أن كل شيء ليس إلا حلما؟ متى، و في أسمالي البالية – دون رغبات – سأنزوي مكتفيا في الجبال؟ و متى، و أنا متبين أن جسدي ليس إلا مرضا و جريمة، و حياة و موت، حرا دون خوف و بسعادة، سأعتزل إلى الغابات؟ متى؟ متى؟ آآه.. متى؟ "
    وتقدم زوربا نحوي و هو يحمل السانتوري تحت ذراعيه، بخطى قلقة، فقلت له محاولا إخفاء قلقي:
    - هناك مناجم للفحم!
    ودون أن ينظر إلى حيث أشرت أجابني بهزة من رأسه..
    - فيما بعد، فهذا ليس الوقت لذلك أيها الرئيس، يجب أن ننتظر حين تقف الأرض، إنها لا تزال تموج و ليأخذها الشيطان، كظهر المركب، تعال.. لنذهب إلى القرية.
    وبهذه الكلمات تقدم بخطى طويلة محاولا إنقاذ وجهه، و تراكض اثنان من الصبية الأشقياء ليحملا الحقائب، و في الكوخ، حيث نقطة الجمرك، جلس أحد الموظفين يدخن ( الحُقة ) و حدجنا بطرف عينه بنظرات ثاقبة، ثم ألقى نظرة سريعة على الحقائب و تحرك قليلا كأنه يريد الوقوف لكنه وجد أن ذلك سيأخذ منه كثيرا من المشقة، و اكتفى بأن أشار إلينا قائلاً " أهلا بكم "، و تقدم أحد الصبية و قال لي بلهجة ساخرة:
    - إنه ليس كريتيا، إنه شيطان بليد.
    - أليس الكريتيين شياطين بلداء؟
    فقال الكريتي الصغير:
    - إنهم كذلك، نعم، إنهم كذلك.. و لكن بطريقة مختلفة.
    - هل القرية بعيدة؟
    - على بعد طلقة بندقية من هنا، أنظر، وراء البساتين في الوادي، إنها قرية جميلة، يا سيدي تحوي الكثير من كل شيء، شجر خرنوب، لوبياء، زيت، نبيذ، و هناك على الرمال نبت الخيار مبكرا كذلك البطيخ، إن هواء أفريقيا هو الذي ينضجها باكراً، فإذا ما نمت بأحد البساتين فإنك تسمع صوت طقطقتها و هي تنضج و تكبر.
    كان زوربا يتقدمنا و رأسه ما يزال مترنحا، فصحت به قائلاً:
    - ارفع رأسك يا زوربا، لقد اجتزنا المخاطر الآن، و لم يعد هناك من داعٍ للخوف.
    وتقدمنا مسرعين، و كانت الأرض مملوءة بالرمال و الصدف، و هنا و هناك نجد بعض أشجار التين، كان الجو ثقيلا، و الغيوم تتجمع و تقترب و الريح تهدأ، و اقتربنا من شجرة تين ضخمة، فتوقف أحد الولدين و أشار إلى الشجرة و هو يقول:
    - هذه شجرة التين خاصة سيدتنا الصغيرة.
    وفوجئت بكلمته، فقد كانت لكل شجرة أو صخرة في أرض كريت قصة محزنة:
    - ولماذا تدعى كذلك؟
    - في الأيام الماضية، أيام أجدادنا، وقعت إحدى البنات من الأعيان في غرام أحد الرعاة الشباب، لكن والدها لم يكن موافقا، و راحت الابنة تبكي و تصرخ و ترجو والدها الذي لم يلين، و في أحد الأيام اختفى الشابان و ظلوا يبحثون عنها يوما، و يومين، و ثلاثة، و أسبوعا، و لكن دون جدوى، و أخيرا فاحت رائحة العفونة فتتبعوها فوجدوا العاشقين تحت شجرة التين، متعانقين متعفنين، هل تفهم؟ لقد عثروا عليهما بسبب رائحة العفونة.
    وانفجر الصبي بضحكة مجلجلة، و تناهت إلى أسماعنا ضوضاء القرية البعيدة، و سمعنا أصوات نباح الكلاب و صياح النسوة و الديوك، و شممنا رائحة العنب من القدور الذي كان العرق يقطر منها..
    - هذه هي القرية.
    و ما إن اقتربنا من التلة الصغيرة حتى لاحت لنا القرية الصغيرة و بنات لنا كأنها تتسلق سفح الوادي، كانت البيوت الصغيرة متجملة، متلاصقة، نوافذها كأنها بقع سودا، فالبيوت كانت مبنية من الكلس الأبيض الناصح و الحجارة، و لحقت بزوربا وقلت له:
    - لا تنس، يا زوربا، أن تتصرف بلياقة فقد دخلنا إلى القرية الآن، و لنتصرف كرجال الأعمال، فأنا المدير و أنت ناظر العمال، إن الكريتيين لا يأخذون الأمور بسهولة فما أن تقع أعينهم عليك حتى يبحثوا عن شيء ظاهر بك و يطلقوا عليك لقبا معينا، حيث لا يمكنك بعد ذلك التخلص من هذا اللقب، و ستجري كالكلب الذي لحقت بذيله مقلاة.
    وأمسك زوربا بشاربه و غاب في التأملات، و أخيرا قال:
    - اسمع، أيها الرئيس، إذا كانت هناك أرملة في القرية فلا لزوم للخوف، و إذا لم يكن..
    وفي هذه اللحظة و ما إن دخلنا إلى القرية تقدمت منا امرأة فقيرة بأسمال بالية و مدت يدها نحونا، و لاحظت أن لها شاربا أسود، و صاحت بزوربا كأنها تعرفه:
    - مرحى يا أخ، هل لك روح أيها الأخ؟
    وتوقف زوربا و أجابها:
    - نعم لدي.
    - إذاً أعطني خمس درخمات.
    ونفحها بشيء من المال قائلا " خذي "، افترت شفتاها عن ابتسامة حريرية، و أضاف زوربا قائلا:
    - إن الحياة هنا ليست غالية على ما أظن، أن الروح تساوي خمسة درخمات.
    واقتربنا نحو ساحة القرية فرأينا مقهى كتب على مدخله " مقهى الحشمة، و دكان اللحام ".
    - ولماذا تضحك؟!
    سألني زوربا، لكنني لم أجد وقتاً لأجيبه، فقد خرج من باب الدكان هذا خمسة أو ستة عمالقة
    يرتدون سراويل زرق لها أحزمة حمراء و صاحوا بنا:
    - أهلا بالأصدقاء! تفضلوا بالدخول و خذوا كأسا من العرق، إنه لا يزال حارا من القدور.
    ولعق زوربا لسانه و قال:
    - ما رأيك أيها الرئيس؟ هل نشرب كأسا؟
    وشربنا كأسا أحرق أمعاءنا، و قدم إلينا صاحب المقهى / اللحام، و هو رجل عجوز جليل، كرسيين، فسألته عن مكان نأوي إليه و صاح أحدهم:
    - اذهبا إلى مدام هورتنس.
    وتساءلت بدهشة:
    - هل هي فرنسة؟
    لقد جاءت من مكان لا يعلم إلا الشيطان ما هو، لقد طافت في جميع الأرجاء ثم استقرت هنا و أسست فندقا صغيرا.
    و قال أحد الأولاد:
    - وهي تبيع الحلوى أيضاً!
    ثم أضاف أحدهم:
    - وهي تتزين و تصبغ وجهها أيضا، و تضع شريطة حول عنقها، و لديها ببغاء.
    وهتف زوربا:
    - وهل هي أرملة؟
    وقال له صاحب المقهى:
    - كم هو عدد السكارى هنا أيها الصديق؟ إنها أرملة لعدد كبير من الأزواج، هل فهمت ما أقصد؟
    - نعم فهمت.
    أجاب زوربا و هو يلعق شفتيه.
    - ويمكنها أن تجعل منك أرملا
    - انتبه أيها الصديق!
    صاح أحد الرجال و ضحك الآخرون، و تقدم صاحب المقهى حاملا صينية عليها الخبز و الجبن و هتف قائلا:
    - هيا، دعوهما و شأنهما، و سوف أستضيفهما عندي.
    - كلا، أنا سأستضيفهما، فأنا ليس عندي أطفال و بيتي كبير.
    وأجاب صاحب المقهى و هو ينحني فوق الرجل و يقول:
    - أرجو المعذرة، أيها العم انانيوستي، فأنا سبقتك بالكلام.
    - إذن خذ الآخر، و سآخذ أنا العجوز.
    وصاح زوربا غاضباً:
    - أي عجوز؟!!
    وقلت له و أنا أهدئ من روعه
    - لن نفترق، و سنذهب لعند مدام هورتنس.
    كانت امرأة بدينة قصيرة القامة، شعرها باهت اللون، تتلوى في مشيتها، مادة ذراعيها، و على ذقنها خال تتدلى منه شعيرات طويلة، و كانت تربط حول عنقها شريطة حمراء، و خدودها المجعدة مصبوغة بلون بنفسجي، و قالت لنا مرحبة:
    - أهلا، أهلا و سهلا.
    وأجبتها ببشاشة و أنا أقبل يدها:
    - كم أنا سعيد بمعرفتك يا مدام هورتنس، إنا نريد سريرين يا سيدتي.. دون قمل.
    - أوه، بدون قمل؟ لا أعتقد ذلك، ليس هنا من قمل على الإطلاق.
    وتقدمتنا و هي ترفس الحجارة بقدمها القصيرة المكتنزة، و كانت تلبس جواربا زرقاء و ضخمة و تنتعل حذاءين مشقوقين عليها عقدة صغيرة من الحرير و لحق بها زوربا و عينيه تكاد تأكلانها!
    - أنظر، أنظر أيها الرئيس، كيف تتلوى في مشيتها كالنعجة ذات الإلية المشحمة.
    وعض زوربا على شاربه بعصبية و عيناه مسمرتان على أرداف السيدة و قال:
    - همم، إن هذه الحياة ملأى بالعهر..

  11. #10



    [GLOW]السلاااااام عليكم ورحمة الله وبركاته...[/GLOW]


    مابعرف يا فريند شواللي شدني لهاي الرواية

    مع اني ما بقرأ روايات

    ويمكن هاي أول رواية بقرأهاnervous ...كنت أقرأ مقتطفات

    عجبتني حركة اقتباس الحكم من القصة

    كل حكم القصة رائعة...بس أكيد في أشياء بتأثر بكل انسان بشكل خاص لانها بتلمس أشياء جواته


    أكثر الحكم عجبتني وحبيتهم



    الإنسان ب................ إن سيادتك لا تعرف ذلك، و كل شيء على ما يبدو كان سهلا بالنسبة لك، لكن أسألني أنا. ب........أقول لك:
    إذا كنت سيئاً معه احترمك و خافك، و إذا كنت طيباً فقأ عينيك.

    *

    حافظ على المسافات أيها الرئيس، لا تشجع البشر كثيراً، و لا تقل لهم أننا جميعاُ متساوون و أن لنا جميعاً الحقوق نفسها. و إلا فإنهم سيدوسون حقك أنت، و يسرقون خبزك و يدعونك تفطس من الجوع. حافظ على المسافات، أيها الرئيس، من أجل الخير الذي أريده لك.
    *

    دع الناس مطمئنين أيها الرئيس لا تفتح أعينهم و إذا فتحت أعينهم، فما الذي سيرونه؟ بؤسهم!
    دعهم إذن مستمرين في أحلامهم!
    إلا إذا كان لديك عندما يفتحون أعينهم، عالم أفضل من عالم الظلمات الذي يعيشون فيه الآن.ألديك هذا العالم؟


    يااااااااااه


    رهيبة هاي


    عندما نعيش سعادة ما، فنادراً ما نحس بذلك. و إنما عندما تمضي و ننظر إلى الوراء، نحس فجأة و أحياناً بدهشة كم كنا سعداء.


    الحلو بكلامه ..انها أشياء عشناها كتير وحسينا فيها بس ما قدرنا نعبر عنها بشكل واضح


    أنت تفهم ! أنت تفهم و هذا ما سيضيعك !
    لو كنت لا تفهم، لكنت سعيداً


    صح

    بس لو خيروك تكون من الصنف اللي "ما بيفهم" وتكون مرتاح

    ما رح تقبل



    بعد ما جربت الفهم ...حتى لو عانيت فيه مارح تتخلى عنه وتقبل ترجع انسان عادي


    كنت بدي أسأل....من وين جبت الرواية؟لقيتك مجاوبredface




    كانت أول مرة كان الصباح على وشك أن ينبلج ، و السماء تمطر ، و كان رذاذ الموج يصل إلى زجاج المقهى الصغير الذي كانت أبوابه الزجاجية مغلقة ، و كان الطقس باردا في الخارج ، و قد عبق الجو داخل المقهى بأنفاس رواده .


    حلو وصفه هونasian


    و باستطاعتي مشاهدة خيوط الماء المنهمر تربط السماء بالوحل .



    هاي رهيبة...لازم تكون بالحكم مع شوية اضافة عليها...بس شو الاضافة ما بعرفrolleyes

    كيف خطر في بالو يتخيل المنظر بهاد المعنى



    شعرتُ بالانزعاج فجأة فرفعتُ رأسي ، لست أعلم كيف ، لكني شعرت أن عينين اثنتين تحدقان بجمجمة رأسي من الخلف ، و التفتّ مسرعاً باتجاه الباب الزجاجي ، و قد ومضت في رأسي فكرة مجنونة : سأرى صديقي مرة ثانية ! لقد كنتُ مهيأ لاستقبال المعجزة ، لكنها لم تحصل ،




    ضل علي الفصل الثاني^^




  12. #11

    روميــو


    أهلاً بك أيها الصديق ، حضور غير متوقع ، لكنه رائع

    كل حكم القصة رائعة...بس أكيد في أشياء بتأثر بكل انسان بشكل خاص لانها بتلمس أشياء جواته
    هذا شيء أكيد ، كل شخص فينا بيربط اللي بيقرأ بأمور بحياته الشخصية ، ويراها من منظور مختلف عن الآخرين ، طبيعي smile

    حـُضورك دفاع قويّ لـِ إكمالي ، شـُكراً لـِ تواجدك يا صديقي

  13. #12

  14. #13

    2_1148324092

    الفصــل الثالث



    كان فندق مدام هورانتس عبارة عن صف من أكواخ الحمام القديمة جمعت مع بعضها البعض. أما الأولى فكانت دكانا لبيع الحلويات، و السكاير، والفستق عبيد، والشموع، والعلكة، وأربع غرف – أو أكواخ – متلاصقة تألفت منها غرف النوم. وفي الخلف كان المطبخ، وغرف الغسيل، و قن الدجاج والأرانب. وكان عيدان القصب الكثيفة مغروسة حول المكان في الرمل الناعم. وكانت رائحة البحر تعبق بالمكان بالإضافة إلى روائح ( البراز و البول ). لكن الرائحة تتغير حين تمر مدام هورانتس بين وقت وآخر، وكأن احدهم افرغ طشتا للحلاق تحت أنفك.
    وما إن جهزت لنا الغرف والسرائر حتى انطرحنا عليها دون حراك ولم نستيقظ إلا في صباح اليوم التالي.
    كان اليوم الأحد والعمال سيصلون في الغد من القرى المجاورة ليبدأوا العمل في تمام التاسعة لذلك فقد ترك لي بعض الوقت لأقوم بجولة على الشاطئ الذي ساقتني إليه الأقدار. كان الفجر يكاد يلوح حين خرجت. فذهبت في سبيلي مارا، بالبساتين، متتبعا حافة البحر، متعرفا إلى الأرض والهواء.
    وصعدت إلى تله مجاورة، وأجلت نظري إلى منظر الصخور الغرانيتية والكلسية القاسية، وأشجار الخروب القاتمة، وأشجار الزيتون الفضية وأشجار التين والدوالي. د
    كان هذا المنظر، كما بدا لي، شبيها بالنثر الجيد، المصوغ بعناية فائقة، بسيطا، خاليا من الزخارف المصطنعة، قويا، صارما. لقد كان معبرا عن كل ماهو ضروري بطريقة سهلة. انه لم يكن متباهيا ولم يكن متصنعا، فهو ينطق بكل شيء بطريقة قاسية صارمة. لكن الليونة كانت متبدية من خلال أشجار البرتقال والليمون التي كانت تعطر الهواء برائحتها الذكية. ومن بعيد كان البحر الخالد يبدو كالشعر الذي لا ينفذ.
    - كريت. كريت
    قلت متمتما لنفسي وقلبي ينبض بالبهجة !!!
    ونزلت من التل الصغير، ورحت امشي قريبا من ماء البحر. فرأيت صبايا صغار يسرن في طريقهن إلى الدير لسماع القداس عند شاطئ البحر.
    وما إن ظهرت لهن حتى توقفن عن المسير، وأصبن برعب شديد، وتشبثن ببعضهن البعض، وعلمت فيما بعد أن رؤية رجل غريب كانت تخيفهن، فعلى طول الساحل الكريتي كان القراصنة في القرون الغابرة يقمن بغزوات مفاجئة، ويخطفون النساء والأطفال، ويربطونهن بأحزمتهم الزرقاء الغليظة ويلقون بهن في السفينة ويبيعوهن في الجزائر، والإسكندرية، وبيروت.
    ورحت انظر إليهن مبتسما بعد أن تكاتفن مع بعضهن البعض وسرن كالطود المرصوص، واقتربن مني وأضاءت وجوههن بالاطمئنان وتابعن مسيرهن بعد أن ألقيت عليهن تحية الصباح.
    وأشرقت الشمس عن سماء صافية، وجلست بين الصخور أتأمل البحر أمامي. وشعرت بالقوة تدب في جسدي. ورحت أجول بمخيلتي كالموج الهادر أمامي مطاوعا خاضعا دون مقاومة لنغمات البحر.
    وشعرت بالانقباض، وانطلقت من أعماقي أصوات متضرعة. وعلمت الذي يدعوني. فأينما أكون بمفردي كنت اشعر بثمة نداءات تطلبني، والمخاوف تنتابني... وفجأة سمعت صوت رفيقي زوربا يناديني من الخلف، فاستدرت لأجده منتصبا وهو يضحك ويقول:
    - لقد بحثت عنك منذ ساعات، ولكن كيف أستطيع مشاهدتك في هذا المخبأ؟
    ولم اجبه على تساؤله، استطرد قائلا:
    - لقد مضى نصف اليوم، والدجاجة المطبوخة قد نضجت، وستذوب المسكينة بعد قليل.
    - نعم اعرف ذلك، ولكني لا اشعر بالجوع.
    - لا تشعر بالجوع !! ولكنك لم تأكل شيء منذ الصباح، إن في جسدا روحا، ويجب أن تشفق عليها، أعطها شيئا لتأكله، أيها الرئيس، أعطها شيء فإذا لم تطعمها تركتك في نصف الطريق.
    لقد احتقرت ملذات الجسد منذ سنين، ولو كان ذلك ممكنا لأكلت في الخفاء، كأني أقوم بعمل مخجل، وقلت لزوربا كي لا يثرثر.
    - حسنا، سآت.
    وذهبا إلى القرية بعد أن مرت الساعات الطوال بين الصخور وكما تمر الساعات بين العشاق كالبرق الخاطف. وسألني زوربا مترددا:
    - هل كنت تفكر بالمنجم؟
    - وهل تعتقد أني كنت أفكر بسواه؟ ففي الغد سنبدأ العمل، لذلك يجب أن أقوم ببعض الحسابات.
    - وما هي نتيجة الحسابات؟
    - بعد ثلاثة اشهر يجب أن نستخرج عشرة أطنان من الفحم لنغطي مصاريفنا.
    ونظر إلي زوربا بشوق وقال:
    - وما أخذك إلى الشاطئ لتقوم بتلك الحسابات، بحق الشيطان؟ أرجو المعذرة أيها الرئيس لسؤالي هذا، ولكني لا افهم، فعندما اضطر إلى مقارعة الأرقام، اشعر باني بحاجة إلى أن احشر نفس في جوف الأرض كي لا أستطيع مشاهدة احد، فإذا رفعت نظري ورأيت البحر، أو شجرة، أو امرأة، حتى لو كانت عجوز عند ذلك تطير جميع هذه الأرقام وسأضطر إلى مطاردتها.
    - ولكنها غلطتك أنت يا زوربا، فأنت لا تستطيع التذكير.
    - ربما تكون على حق، أيها الرئيس، فهذا يتوقف على نظرتك للأمور. فهناك حالات لا يتمكن حتى سليمان الحكيم.... اسمع، ففي ذات يوم بينما كنت مارا في قرية صغيرة، رأيت رجلا عجوزا يبلغ التسعين من العمر يزرع شجر اللوز فقلت له: " هل تزرع أشجرة لوز يا جدي؟ " والتفت إلي وقال: " يا بني، أنا اعمل كأني لن أموت أبدا، واعمل كأني سأموت في أي لحظة. " والآن من كان منا على صواب، أيها الرئيس؟
    ونظر إلي نظرة المنتصر وقال:
    - والآن، لقد أحرجتك !!
    وبقيت ملتزما الصمت، فهناك ممران متساويان قد يؤديا إلى القمة نفسها، أن تعمل كأن الموت غير موجود، و أن تعمل متوقعا الموت في أية لحظة، هما أمران ربما كانا متشابهين، ولكن عندما سأني زوربا هذا السؤال لم استطع الإجابة عليه على التو. وقال لي زوربا هازئا:
    - حسنا ! لا بأس. لا تغضب أيها الرئيس فلن تستطيع المجادلة ولنتكلم عن أشياء أخرى. فانا الآن أفكر بالدجاجة و الأرز. لنأكل الآن. ومن ثم نر، فلكل شيء وقته المحدد. الآن أمامنا الأرز، فلنفكر به، وغدا سيكون المنجم أمامنا وسنفكر بأمره أيضا.
    وعند المقهى المجاور رأينا شيخا يبدو عليه الأسى يقف بانتظارنا. انه مافراندوني كبير رجال القرية الذي أجرنا المنجم، لقد جاء في الليلة الماضية إلى مدام هورانتس ليأخذنا إلى بيته وقال لنا:
    - انه من العار أن تظلا في الفندق، كأنه لا يوجد رجال في القرية !
    لقد كان متأثرا، وكلماته كانت متزنة متناسقة مع مركزه المحترم في القرية. وعندما رفضنا طلبه شعر بالاستياء لكنه لم يلح. وقال لنا وهو يغادر الفندق:
    - لقد قمت بواجبي وانتم أحرار.
    وبعد قليل أرسل لنا شيئا من الجبن، وسله فواكه، وجرة من العرق، وقد قال لنا الخادم الذي احضرها:
    - مع تمنيات الكابتن مافراندوني. إنها ليست كثيرة، كذلك أوصاني أن أخبركما، لكن القد منها حسن !
    واقتربنا منه والقينا عليه التحية، وأجابنا واضعا يده على صدره:
    - أتمنى لكما حياة طويلة.
    وتمتم زوربا معلقا:
    - انه لا يحب كثرة الكلام، ويبدو بوقفته كالقضيب العجوز.
    - لكنه فخور بنفسه، انه يعجبني.
    وما إن رأتنا مدام هورانتس، حتى صاحت مرتبكة وهرولت إلى المطبخ، وأسرع زوربا إلى وضع الطاولة على الشرفة تحت ظل الدالية، وجاء بالخبز وقطعه قطعا صغيرة، واحضر النبيذ، ثم نظر إلي بعد أن انتهى من إعداد الطاولة لثلاثة أشخاص وقال:
    - هل رأيت أيها الرئيس؟
    - نعم رأيت أيها الفاسق !
    - إن الطيور العجائز التي تصلح للشواء ! وخذها نصيحة مني !!
    وراح يدمدم بأغاني الحب القديمة وهو يهرع متمما تجهيز المائدة.
    - هكذا يجب أن نعيش أيها الرئيس، يجب أن نستمتع بكل دقيقة نعيشها، إني اعمل أشياء كأني سأموت بعد دقيقة. وأنا أسرع بذلك كي لا يدركني الموت قبل أن احصل على العصفور.
    وسمع صوت مدام هورانتس: " إلى المائدة ".
    وقدمت إلينا القدر، ثم وقفت مشدوهة، فقد رأت الصحون ثلاثة، ورمقها زوربا وقد علا وجهها الاحمرار الشديد ولمعت عيناها الصغيرتان.
    وهمس زوربا قائلا:
    - لقد بدأت تشعر بالحرارة تدب فيها.
    ثم نظر إليها وقال لها بكثير من اللياقة والأدب:
    - يا جنية الأمواج الجميلة، لقد غرقت سفينتنا وألقى بنا البحر في مملكتك. أرجو أن تشرفينا، يا عروسة البحر الجميلة، وتشاركينا الطعام.
    وفتحت الغانية العجوز ذراعيها وضمتهما إلى صدرها، كأنها تريد أن تضمنا نحن الاثنين إليها، ثم تمايلت بعظمة ولامست زوربا ولامستني وأسرعت عائدة إلى غرفتها، وظهرت بعد قليل ترتدي أجمل ما لديها من ثياب: فستانا مفتوحا عند الصدر، وضعت عند الصدر وردة متألقة !! وأحضرت معها قفص الببغاء الذي علقته على غصن الدالية أمامنا. وبعد أن أجلسناها بيننا، رحنا نلتهم الطعام التهاما، دون أن ننبس بكلمة واحدة. فقد كان الحيوان داخلنا يأكل ويتغدى ويشرب الخمر، والطعام الذي نزوده يتحول بسرعة إلى دم، والعالم من حولنا يبدو أجمل، والسيدة التي تتوسطنا بدأت تبدو اصغر في كل لحظة والتجاعيد في وجهها بدأت تزول وتمحى.... وكان الببغاء المعلق على الشجرة، ينظر إلينا كأنه رجل غريب قد سحره هذا المنظر...
    وكانت عينا زوربا تدور في محجريهما، ثم فتح ذراعيه كأنه يريد أن يعانق العالم كله ثم صاح بي مدهوشا.
    - ماذا جرى، أيها الرئيس؟ فما إن نشرب كأسا من النبيذ حتى يبدو العالم وقد فقد صوابه. ومع ذلك فالحياة كلها خمر ونبيذ. قل لي، بشرفك، هل هذه عناقيد متدلية فوق رؤوسنا؟ أو هي ملائكة؟ لا اعلم. أم ترى ليست شيئا على الإطلاق، ولا شيء موجود، لا الدجاجة، ولا عروسة البحر، ولا كريت ! قل لي أيها الرئيس، تكلم كي لا أفقد عقلي....
    ولاحظت أن زوربا بدأ يشعر بالفرح. لقد شبع من الدجاجة، و راح ينظر إلى مدام هورانتس. كانت نظراته تغتصبها، وتصعدان إلى جسدها وتدخلان إلى صدرها المنتفخ وتتحسسانه وكأنهما يدان. وكانت عينا السيدة الصغيرة تلمعان من السرور، فقد بدأت تستمتع بعد أن أفرغت عدة كؤوس من النبيذ. وبدا كأن شيطان الخمر قد رجع بها إلى الوراء إلى أيام الصبا الجميلة. ونهضت وقد عاد إليها لطفها وبشاشتها ورغبتها، ثم أغلقت باب الحديقة الخارجي كي تمنع الأعين الفضولية من رؤيتنا وأشعلت سيجارة وراحت تنفث دخانها بهدوء واستمتاع.

  15. #14
    في أوقات كهذه تنفتح أبواب المرأة جميعها. ويستريح حراسها، والكلمة الطيبة تصبح قوية كقوة الذهب أو الحب. وهكذا أشعلت غليوني وقلت تلك الكلمة الطيبة:
    - مدام هورانتس، أنت تذكريني بسارة برنهارت.... عندما كانت صغيرة، لم أكن للحقيقة انتظر رؤية أناقة، كهذه عظمة، كهذه، لياقة كهذه، وجمالا كهذا الجمال. ما هذا ( الشكسبير ).
    - شكسبير؟ أي شكسبير؟
    - الذي أرسلك إلى هنا بين المتوحشين.
    وطارت بتفكيرها إلى أيام الغناء والمسرح، وجالت به في المقاهي والمسارح من باريس إلى بيروت، وعلى طول شواطئ الأناضول، وكأنها تذكرت فجأة: لقد كان ذلك في الإسكندرية، وفي مسرح كبير عامر بالثريات، والمقاعد الفخمة، والرجال والنساء، والظهور عارية، والعطور، والأزهار، وفجأة ارتفعت الستارة، وظهر رجل اسود مخيف.....
    - أي شكسبير؟
    وسألتني مرة أخرى بكبرياء، فقد تذكرت.
    - هل هذا الذي يدعونه أيضا عطيل؟
    - هذا هو. أي شكسبير إذن ألقى بك على هذه الصخور الوحشية، أيتها الزهرة البيضاء؟
    ونظرت حولها، وكانت الأبواب مغلقة، والببغاء نائمة، والأرانب تتبادل الحب، وكنا لوحدنا، وراحت تفتح لنا قلبها، وكأنها تفتح أمامنا صندوقا عتيقا، مملوءا بالطيب، وأوراق الرسائل الصفراء والثياب القديمة.
    وكانت تلفظ بعض الكلمات باليونانية، وراحت تخلط بينهما، ولكننا تمكنا من فهمها بوضوح. وفي بعض الأحيان كنا نجد صعوبة في إخفاء ضحكاتنا، وفي بعض الأحيان كنا ننفجر بالبكاء، علما أننا قد شربنا كثيرا من النبيذ.
    - حسنا إن السيدة التي تنظرون إليها الآن، لم تكن مغنية بسيطة في الحانات، كلا، فقد كانت فنانة شهيرة وكنت ارتدي ثيابا داخلية من الحرير الخالص. ولكن الحب....

    وتنهدت تنهيدة عميقة، وأشعلت سيجارة ثانية من زوربا وقالت:
    - لقد أحببت أميرالا. فقد أصبحت كريت مرة أخرى ولاية ثائرة وأساطيل الدول العظمى بدأت ترسو في مرفأ ( سورا ). وبعد أيام قليلة رسوت أنا الأخرى هناك. آه، يا للحظ ! لو رأيتم هؤلاء الاميرالة الأربعة... الإنكليزي، الفرنسي، الطلياني، الروسي، جميعهم متلفحين بالذهب، والأحذية اللماعة، والقبعات المريشة، كالديوك تماما، ويا لتلك اللحى، المجعدة الحريرية، الداكنة، الشقراء، الرمادية، والحمراء، وما أطيب رائحتهم ! فكل واحد منهم كانت له رائحته المميزة، فهكذا كنت أميز بينهم في الظلام، فإنكلترا كانت تتميز برائحة الكولونيا، وفرنسا برائحة البنفسج، وروسيا برائحة المسك، وايطاليا، آه ! ايطاليا المشغوفة بالعطر. يا الهي، يا لهذه اللحى ! وكنا نلتقي عدة مرات على ظهر سفينة العلم، ونتحدث عن الثورة. وكانت بزاتهم مفتوحة وكان ثوبي الحريري يلتصق بجسدي، فقد كانوا يصبون عليه الشمبانيا، وكان ذلك كله في الصيف، كما تعلم. وكنا نتحدث عن الثورة بجدية، وكنت ارجوهم وأتضرع إليهم ألا يطلقوا مدافعهم على الكريتيين المساكين. وكنا نشاهدهم بالمنظار على الصخور قرب ( كايني ) ضئيلين كالنمل، يرتدون قمصانا زرقاء وأحذية صفراء، وهم يصرخون ويصيحون. وكان معهم علم...
    وفجأة سمعنا صوتا خلف قضبان القصب، وتوقفت المجاهدة العجوز عن الكلام، مذعورة. ورأينا بين القضبان عيون الأطفال الخبيثة تراقبنا....
    وحاولت المغنية القيام عن الكرسي، ولكنها لم تتمكن، فقد أكلت وشربت كثيرا. فعادت إلى الجلوس وهي تتصبب بالعرق، وأخذ زوربا حجرا فتفرق الأولاد وهم يصرخون.
    - استمري، يا جميلتي، استمري يا كنزي !
    كذلك قال زوربا، واقترب بكرسيه منها.
    - وقلت للأميرال الطلياني، فقد كنت قد ألفته أكثر من الأخرين، وأمسكت بلحيته وقلت له ! " كانافارو أرجوك، يا كانافارو العزيز، لا تفعل بوم،بوم ! أرجوك ! " كم من المرات كانت هذه المرأة الجالسة أمامكم تنقذ حيات الكريتيين من موت محتم ! كم من المرات كانت المدافع جاهزة للإطلاق، وكنت اهرع لامسك بلحيته وارجوه ألا يفعل بوم ! بوم ! ولكن من الذي شكرني على ما فعلته من اجلهم؟ وبدلا من الوسام انظروا ما حصلت عليه...
    لقد كانت مدام هورانتس غاضبة اشد الغضب لجمود الرجال، وضربت على الطاولة بقبضتها الطرية. ومد زوربا يده إلى ركبتيها المنفرجتين وامسك بهما، بعطف مصطنع وصاح:
    - يا بوبولينتي، بحق السماء لا تفعلي بوم ! بوم !
    - ارفع يدك.
    كذلك صاحت به السيدة الطيبة، وأضافت بعد قليل:
    - من تظنني؟
    وجحدته بنظرة غاضبة....
    - إن الله موجود في السماء لا تزعجي نفسك، يا بوبولينتي، فنحن هنا يا حبيبة، لا تخافي..
    ورفعت عروسة البحر العجوز،عينيها إلى السماء ورأت ببغائها الأخضر يغط في النوم، وقالت بصوت حنون:
    - كانافارو، كانافارو.
    وما إن سمع الببغاء صوت سيدته حتى فتح عينيه وامسك بقضبان القفص وردد قولها: كانافارو، كانافارو.
    - موجود !
    صاح زوربا وهو يضع يده من جديد على تلك الركبتين التين خدمتا كثيرا، كأنه يريد امتلاكهما. واستدارت المغنية العجوز على كرسيها وفتحت فيها لتقول:
    - وأنا أيضا حاربت ببسالة، لقد حاربت صدرا بصدر، لكن الأيام العصيبة جاءت وتحررت كريت بعد أن تلقت الأساطيل الأوامر بالانسحاب. ( ولكن ماذا سأصير إليه؟ ) كذلك قلت وأنا امسك باللحى الأربعة. ( أين ستتركونني؟ لقد تعودت على العظمة وعلى الشمبانيا، والدجاج ! لقد اعتدت على البحارة الصغار وهم يؤدون لي التحية العسكرية حين أمر أمامهم، سأصبح أرملة أربعة مرات، يا سادتي الأعزاء )
    ولكنهم سخروا مني.... ! هكذا هم الرجال. لقد أشبعوني بالليرات الإنكليزية والإيطالية، والروبلات والفرنكات التي وضعوها في جواربي، وقميصي وحذائي. وفي الليلة الأخيرة بكيت كثيرا حتى إن القواد الأربعة أشفقوا علي، فملأوا المغطس بالشمبانيا، ووضعوني به، ثم شربوا على شرفي وسكروا، وبعد ذلك اطفأوا النور...
    وفي الصباح استيقظت على رائحة العطور الممزوجة تفوح في الغرفة، رائحة البنفسج و الكولونيا وغيرها... لقد كنت ممسكة بالدول الأربعة، إنكلترا، فرنسا، روسيا، وايطاليا، وعلى ركبيتي، هنا على ركبيتي، وذهبت هكذا معهم....
    ثم راحت مدام هورانتس تهز بيديها كأنها تلاعب طفلا صغيرا على ركبتيها، ثم قالت
    - هكذا، هكذا. وعند انبلاج الصباح راحت المدافع تطلق في الهواء. واقسم أن ذلك كان على شرفي، نعم أطلقوا المدافع، وجاء زورق صغير ابيض ليقلني إلى الشاطئ.
    ثم تناولت منديلها وراحت تمسح بدموعها وتبكي.... و هتف زوربا:
    - أغمضي عينيك يا بوبولينتي الصغيرة، أغمضي عينيك يا كنزي. فأنا هو كانافارو !
    وصرخت السيدة الفاضلة:
    - ارفع يدك، لقد قلت لك ذلك، وانظر إلى نفسك، أين شاراتك الذهبية؟ والقبعة واللحية المعطرة ! آه ! آه !
    لقد بدأ الطقس يبرد، وساد صمت حولنا، وكان البحر من وراء القصب يتنهد. لقد سادت الطمأنينة والهدوء أخيرا. فالريح سكنت والشمس غرقت عند الأفق لتنام. ومر من فوقنا غرابان يصفقان بأجنحتهما كأن قصر من الحرير تمزق، ربما كان قميص مغنية !!
    وهمهم زوربا بعطف وهو يضغط بركبته على ركبتها:
    - يا بوبولينا، لا تضطربي، ليس هناك من اله أو شيطان، ارفعي رأسك الصغير، واسندي خدك على يدي وانشدي لنا أغنية، وليذهب الموت إلى الجحيم.
    لقد كان زوربا يشتعل بالحب. وكانت يده اليسرى تفتل شاربه، بينما يده اليمنى تنساب على المغنية المنتشية... وكانت كلماته تنطلق متقطعة وعيناه واهنتان. ولم تكن هذه العجوز المطلية بالمساحيق هي التي تثيره، بل انه كان يرى آفاق متمثلا، الجنس الأنثوي بأجمعه، كما كان يدعو المرأة. لقد اختفى القرد، وانمحى الوجه سواء أكان فتيا أم هرما، جميلا أم بشعا، فهذه كانت اختلافات لا أهمية. إن خلف كل امرأة يقف وجه أفروديت المقدس الغامض.
    هذا هو الوجه الذي كان يراه زوربا، ويحدثه ويشتهيه. أما مدام هورانتس فلم تكن سوى قناعا شفافا سريع الزوال يمزقه زوربا ليقبل الشفاه الخالدة.
    وردد في صوت متضرع هامس:
    - ارفعي عنقك الناصع، يا كنزي، ارفعي العنق الأبيض وأنشدينا بأغنية جميلة؟
    ووضعت المغنية العجوز يدها على خدها، وراحت تنشد أغنية من أغنياتها القديمة، وقفز زوربا واحضر السانتوري، جلس متربعا على الأرض ثم صاح بأعلى صوته:
    - آوه، آوه، خذي سكينا واقطعي به عنقي، يا بوبولينتي....
    وعندما بدأ الليل يقترب، وبدأت النجوم تتألق بالسماء، وبعد أن ملأت النشوة نفوسهما، ابتدأت مدام هورانتس تتقلب وتلتصق بزوربا برفق ودلال، ونظر إلي مشيرا ثم همس بقوله:
    - لقد بدأت تنسجم، كن لطيفا واتركنا لوحدنا....

  16. #15
    [GLOW]فرند[/GLOW]



    تابع من فضلك وضع الاجزاء

    ننتظر الفصل الرابع

    جزاك الله خيرا

  17. #16
    الفصل الرابـِع

    عندما انبلج الصباح استيقظت لأرى زوربا أمامي جالسا عند طرف السرير يدخن وهو غارق في بحر من التأملات، وعيناه مسمرتان على زجاج النافذة...
    وتذكرت أني تركتهما لوحدهما ليلة البارحة وقلت له:
    - إني ذاهب، يا زوربا، تمتع جيدا، وتشجع....
    وقد قال لي:
    - إلى اللقاء ، أراك لاحقاً
    بعد منتصف الليل دخل زوربا إلى غرفتنا عاري القدمين وانطرح على السرير بكثير من الهدوء كي لا يوقظني...
    ولكنه الآن، عند الفجر، يبدو شاردا، وعيناه تضيع بعيدا، وكان لا يزال غارقا في نشوة الليل الفائت مستسلما بهدوء إلى شعاع الشمس المتداخل من زجاج النافذة.
    وبدأت القرية تفيق من نومها، وبدأت الحركة تدب في الأزقة ممتزجة بأصوات الديوك والخنازير، والحمير، والناس. وخطر لي أن اقفز من سريري واصرخ: " هيا يا زوربا فلدينا عملا اليوم " لكني كنت اشعر أنا الآخر بسعادة كبيرة في الاستسلام هكذا دون حراك منتظرا تسرب الفجر الرائع،ففي هذه اللحظات الساحرة تبدو الحياة، خفيفة كالغبار، وتبدو الأرض كأنها تتكون من الريح كالغيوم المتموجة الطرية...
    ونظرت إلى زوربا وهو يدخن، فشعرت برغبة في التدخين أنا الآخر، فتناولت غليوني. وحدقت به منفعلا. انه غليون إنكليزي الصنع، كان صديقي القديم قد أهداني إياه، وتذكرت قوله حين منحني هديته تلك: خذ هذا الغليون، واترك السجائر التي تدخن نصفها وترميها بعد ذلك كأنها امرأة عاهرة، تزوج الغليون، فهو كالمرأة الوفية فعندما تعود إلى بيتك، ستجده دوما هناك بانتظارك فتشعله وتجلس تتأمل دخانه الصاعد في الهواء، ثم تذكرني....
    لا زلت اذكر إن الوقت كان ظهرا، وكنا في احد متاحف برلين، حيث كان صديقي يودع لوحته العزيزة ( المحارب ) للرسام رامبراندت، ونظر صديقي إلى تلك اللوحة متأملا المحارب الحاقد اليائس. وقال: " إذا ما تمكنت من القيام في حياتي بعمل جدير بالرجل، فسأكون مدينا به له!! "
    كنا في صالة المتحف، نقف قرد عامود، وأمامنا تمثال من البرونز لفارسة عارية تمتطي حصانا بريا متوحشا. وغط عصفور على رأس التمثال والتفت صوبنا وهز بذنبه وأطلق لحنا هازئا ثم طار في سبيله. وارتعدت وأنا انظر إلى صديقي وسألته:
    - هل سمعت العصفور؟ لقد خلت انه قال لنا شيئا، ثم طار في سبيله.
    وابتسم صديقي وأجابني بمثل من أمثالنا العامة: ( انه عصفور، دعه يغني، انه عصفور، دعه يتكلم )
    كيف كانت، في هذه اللحظة عند طلوع الفجر، عند شاطئ كريت هذه الذكرى تعود إلى مخيلتي مع هذا المثل الحزين لتملأ عقلي بالمرارة؟
    ووضعت قليلا من التبغ في غليوني وأشعلته. إن كل شيء في هذا العالم له معان خفية. الرجال. الحيوانات. الشجر. النجوم، إنها تبدو كالرموز الهيروغليفية لمن بدأ في حل رموزها ليكتشف خفاياها.... فعندما تراها فإنك لا تفقه لها معنى، فتعتقد أنها رجال اقحاح، وحيوانات، وأشجار، ونجوم، ولكن بعد مرور السنين وبعد فوات الأوان تفهم معناها الحقيقي...
    ورحت أتابع الدخان المتصاعد من الغليون، وكانت روحي تندمج بهذا الدخان، وتتلاشى معه في الحلقات الزرق المكونة. ومر وقت طويل، كنت اشعر، دون العودة إلى المنطق، وبتأكيد لا يوصف، بحقيقة هذا العالم وانبثاقه وزواله.
    وأطلقت زفرة هادئة أيقظتني من أفكاري الشاردة، فنظرت إلى ما حولي إلى هذا الكوخ الخشبي الفقير، وهذه المرآة الصغيرة المتدلية على الحائط والمنعكس عليها شعاع الشمس، فبدت تقدح بالشرر. وكان زوربا لا يزال جالسا على حافة السرير يدخن بهدوء مديرا لي ظهره.
    ومرت أحداث الأمس بمخيلتي، رائحة البنفسج والكولونيا، والمسك والببغاء الذي بدا كالرجل قد تحول إلى ببغاء يضرب قفصه بجناحه مناديا حبيبا قديما، وسفينة قديمة، لا تزال الوحيدة الباقية على قيد الحياة لتقص أقاصيص الحرب والمعارك البحرية القديمة....
    واستدار زوربا عندما سمع صوت زفرتي، وتمتم قائلا:
    - لقد أسأنا التصرف، لقد أسأنا التصرف أيها الرئيس. لقد ضحكت، وكذلك فعلت أنا، وقد رأتنا هي، وهذه الطريقة التي غادرتنا بها دون أن تنبس بكلمة رقيقة واحدة. يا للعار اللعين! إن هذا ليس تهذيبا، أيها الرئيس. وهذه ليست طريقة حسنة للتصرف، اسمح لي أن أقول لك. إنها امرأة على كل حال. أليس كذلك؟ مخلوقة ضعيفة خائفة. وقد عملت جيدا حين بقيت لأعزيها.
    - ولكن ما تعني بقولك يا زوربا؟ وهل تعتقد بكل جدية إن جميع النساء ليس في عقولهن شيء سوى هذا؟
    - نعم أيها الرئيس، فليس في عقولهن شيء آخر. أصغ إلي الآن.... لقد رأيت جميع الأشياء، وعملت في كل شيء... إن المرأة ليس عندها من شيء آخر في نظرها. إنها مخلوق ضعيف مشاكس. وإذا لم تقل لها انك تحبها وتريدها فإنها تبدأ في البكاء. وربما هي الأخرى لا تريدك إطلاقا، بل ربما تحتقرك وربما تقول لك كلا، فهذه مسألة أخرى لكن جميع الرجال الذين يرونها يجب أن يشتهونها، فهذه ما تريده تلك المخلوقة المسكينة، لذلك فالأجدر أن تحاول إرضاءها. فأنا مثلا، كانت لي جدة تبلغ الثمانين من عمرها. إن قصتها حقيقية تماما. وكانت تسكن قريبا من منزلنا فتاة صبية نضرة كالوردة، واسمها كريستالو. وفي كل يوم سبت عند المساء، كنا نحن الشباب نذهب إلى الحانة لنحتسي كأسا من الخمر وننتشي به، ثم نضع ضمة من الحبق وراء أذننا ويأخذ ابن عمي قيثارته ونذهب للتنزه. يا للحب يا للعاطفة.... كنا نخور كالبقر وكنا نريدها وكل يم سبت كنا نتوجه لها مرة واحدة ليقع اختيارها على واحد منا. حسنا... هل تصدق هذا أيها الرئيس؟ يا له من لغز؟ إن في النساء جرحا لا يلتئم بالمرة. كل الجروح تشفى إلا هذا. لا تعتمد كثيرا على كتبك... انه لا يلتئم أبدا. لماذا... لأنها قد أصبحت في الثمانين؟ ومع ذلك فالجرح لا يزال مفتوحا.
    إذن كل سبت كانت العجوز المتصابية تجر أشياءها نحو النافذة. وتتناول مرآتها الصغيرة وتحاول تسريح ما تبقى من شعرها وتنشره على فرقتين فوق جمجمتها. ومن ثم تختلس نظرات سريعة حولها خوفا من ان يشاهدها احد، وان اقترب احد منها، تندفع إلى الوراء لتستكين بهدوء وتدعي النوم. ولكن كيف كانت تستطيع النوم؟ فإنها بانتظار النزهة وهي في الثمانين من عمرها... هل ترى الآن هذا اللغز المجهول في المرأة أيها الرئيس؟ إن هذا يشدني الآن للبكاء. أما في ذلك الوقت فقد كنت تافها. ولم افهم هذا. وهذا ما كان يدفعني للسخرية، في احد الأيام غضبت منها، لقد كانت توبخني لأنني كنت اجري خلف الفتيات. عندها صحت في وجهها دون مواربة وبكل صرامة!! لماذا تدلكين شفتيك بورق الجوز كل سبت. وتسرحين شعرك. أتظنين بأننا نتنزه من أجلك؟ إننا نأتي من أجل كريستالو. أما أنت فلست إلا جيفة نتنة.
    هل تصدق أيها الرئيس؟ في ذلك اليوم عرفت فقط ما هي المرأة. دمعتان دفقتا من عيني جديتي. انكمشت كأنها كلبة، وراحت ذقنها ترتجف. وصحت " كريستالو " واقتربت منها أكثر لكي تتمكن من أن تسمعني بوضوح: " كريستالو "... إن الشباب حيوانات قاسية، إنهم ليسو من المخلوقات الإنسانية. لا يفهمون شيئا.
    عندها رفعت جدتي ذراعيها النحيلتين نحو السمار وصاحت " عليك اللعنة من أعماق قلبي " ومنذ ذلك اليوم بدأت صحتها تتلاشي وتتدهور، وبعد شهرين كان يومها قد بدأ يقترب. وبدت أيامها معدودة. وعندما كانت تحتضر شاهدتني. فشهقت كأنها حشرة وحاولت أن تمسكني بأصابعها وقالت " لقد كنت أنت من أنهى حياتي. فليلعنك الله يا الكسيس ويجعلك تعاني كل ما عانيته أنا "
    وابتسم زوربا وتابع:
    - آه. إن لعنة العجوز قد أصابت هدفها.
    وراح يصلح من حال شاربه وتابع قائلا:
    - إنني في الخامسة والستين الآن، ولو عشت حتى المئة فلن أتقاعد، فسأظل احمل المرآة الصغيرة في جيبي، وسأبقى اجري خلف النساء.
    وابتسم ثانية، ورمى سيجارته من النافذة، ومد ذراعيه قائلا:
    - لي أخطاء غير هذه كثيرة، إلا أنها الوحيدة التي سوف تقضي علي.
    وقفز من سريره وصاح:
    - لقد تحدثنا بما فيه الكفاية اليوم. يجب أن نستغل اليوم.
    وارتدى ثيابه وحذائه بمثل لمح البصر وخرج.
    وبرأس محني، رحت استعيد كلمات زوربا، وفجأة لمعت في رأسي، مدينة مغطاة بالثلوج، كنت في معرض لأعمال " رودان " وتوقفت لأنظر إلى يد برونزية ضخمة " يد الله " كانت اليد نصف مفتوحة. وفي نصف الراحة كان يوجد رجل وامرأة متعانقان يكافحان.
    جاءت فتاة واقتربت مني. وكانت تبدو غير مستكينة ومضطربة، وراحت تنظر إلى ذلك العناق الأبدي بين الرجل و المرأة. كانت نحيلة، أنيقة، وكان لها شعرا أشقر كثيفا. وذقنا قاسية وشفاه ناعمة كان باديا عليها التصميم والرجولة. كان في طبيعتي عدم البدء بالحديث. ولكن لا ادري ما الذي دفعني لأن ألتفت نحوها وأسألها:
    - بماذا تفكرين؟
    فتمتمت بسرعة؟
    - آه... لو نستطيع أن نهرب!!!
    - وأين نذهب، فيد الله في كل مكان. فلا يوجد أي مهرب. هل أنت أسفة؟
    - كلا.... فالحب قد يكون اكبر متعة في الوجود. هذا ممكن. إنما الآن فأرى تلك اليد البرونزية. فأفكر بالهرب
    - أتفضلين الحرية؟
    - أجل.
    - ولكن لنفترض بأننا عندما نطيع تلك اليد نشعر بأننا أحرار. لنفترض بأن كلمة " الله " ليس لها المعنى التي تمنحه له الجماهير.
    نظرت إلي بقلق وبدت عيناها رماديتان، وشفتاها جافتين مرتين.
    - لم أفهم..
    قالت وابتعدت بسرعة.
    اختفت، ومن ذلك الوقت لم أفكر فيها مطلقا.. ولكن لابد وأنها كانت تعيش في داخلي، واليوم على هذا الشاطئ المهجور ظهرت من جديد شاحبة نحيلة، من أعماق كياني.
    نعم لقد كان تعرفي غير لائقا، كان زوربا على حق، فاليد البرونزية كانت حجة، فالاتصال الأول قد تم. وكانت الكلمات اللطيفة قد تبودلت وكان من الممكن تدريجيا، أن نتعانق ونتحد بهدوء ودون إزعاج في يد الله. إلا أنني قفزت فجأة من الأرض نحو السماء. فارتعشت الفتاة وهربت.
    كان الديك العجوز يصيح في باحة حديقة السيدة هورانتس، وأنوار الصباح الجديد قد بدأت تزحف عبر النافذة الصغيرة. وانحدرت من الفراش. كان العمال قد بدأوا يغدون حاملين معاولهم ومجارفهم، وراح يتناهى لمسامعي صوت زوربا يصدر الأوامر. فقد انغمس في العمل بسرعة فائقة. إذ أن الإنسان يشعر بأنه يعرف كيف يأمر، ويحب المسؤولية.
    مددت رأسي من النافذة الصغيرة وشاهدته واقفا هناك، كأنه عملاق بين ثلاثة من العمال النحيفين، القساة، السمر. كانت يده ممدودة بقسوة وكانت كلماته مختصرة وفي صلب الموضوع.
    وبعد قليل امسك بعنق فتى صغير كان يتقدم متمتما بصوت خفيض، فصاح زوربا:
    - هل عندك شيء لتقوله؟ هيا قله بسرعة وبصوت عال، فأنا لا أحب الدمدمة، يجب أن تكون مستعدا للعمل و إلا عد إلى الحانة.
    عندها ظهرت السيدة هورانتس، بشعر مشعث، وخدين غائرين، لأنها لم تضع أي مسحوق على وجهها. وكانت ترتدي ثوبا طويلا قذرا، وتنتعل زوجا من الأحذية الطويلة المهترئة. وسعلت سعالا قاسيا كسعال مغنية سابقة، كأنه نهيق حمار، توقفت ونظرت نحو زوربا بكل فخر وكبرياء، ومضت عيناها، فسعلت من جديد، متى يلحظها، ومرت بقربه، تهز وتحرك ردفيها بإثارة مصطنعة، أكمامها الوسخة كادت تلمسه، إلا انه لم يتحمل مشقة النظر إليها، وأخذ قطعة من خبز الشعير وقبضة من الزيتون وصاح بالعمال:
    - الآن أيها الرجال. باسم الله، ارسموا علامة الصليب.
    وسار بعيدا يتقدم الرجال بخط طويل نحو الجبال. لن أصف هنا العمل في المنجم... فهذا يحتاج لصبر طويل، وأنا ينقصني الكثير منه، قرب البحيرة بنينا كوخا من القصب والخيزران وبقايا صفائح البنزين، كان زوربا يستيقظ عند الفجر، ويتناول معوله، ويذهب إلى المنجم قبل كل العمال، ويفتح نفقا جديدا، ويكتشف عرقا من الفحم ويرقص من الفرح. إلا أنه بعد يومين أو ثلاثة يتوه عن العرق فيصيح ويرمي نفسه على الأرض ويرفع رجليه ويلوح بهما نحو السماء كأنه يسخر أو يهزأ من السماء.

  18. #17
    كان يعمل بكل إخلاص. ومنذ اليوم الأول تحولت كامل المسؤولية عبر يدي ليستلمها هو بكل شجاعة، كان عمله هو أن يتخذ القرار وان يضعه قيد التنفيذ، وكان علي تحمل العواقب. إلا أن هذه التدابير ناسبتني أكثر لأنني شعرت بأن هذه الشهور ستكون أسعد أيام حياتي
    وباعتبار كل هذا شعرت بأنني أشتري سعادتي بثمن زهيد...
    كان جدي، والد أمي، الذي كان يسكن في إحدى قرى جزيرة كريت، اعتاد أن يحمل كل ليلة فانوسه ليدور في شوارع الفرية، عله يصادف أحد الغرباء. فيصطحبه إلى المنزل ليقدم له الطعام والشراب، ومن ثم يجلس فوق أريكته المعتادة ويشعل غليونه التركي، ويلتف نحو ضيفه، الذي حان الوقت لكي يرد له الضيافة، ويقوا بلهجة واثقة قاسية:
    - هيا... تكلم...
    - أتكلم.... عن ماذا أيها الأب موستويورجي؟
    - ماذا تكون؟؟ من تكون؟؟ من أين أنت؟؟ عن المدن والقرى التي زرتها؟؟ كل شيء، حدثني عن كل شيء. هيا تكلم.
    ويبدأ الضيف بالحديث دون هدف، ليخلط بين الحقائق والأساطير، بينما يكون جدي جالسا بهدوء فوق أريكته يدخن غليونه، يصغي لضيفه بكل جوارحة ومتابعا له في جميع أسفاره. وإن أحب الضيف، فسوف يقول له:
    - سوف تبقى يوم غد أيضا، سوف لن ترحل، فقد بقي عندك أشياء كثيرة لتقصها علي.
    لم يترك جدي قريته أبدا، حتى إلي كانديا أو كانيا ( لماذا أذهب لهناك ) كان يقول إن بعض أهالي كانديا وكانيا، يمرون من هنا. وهكذا فكانديا وكانيا يأتون إلي. إذن لماذا أذهب أنا إليهم؟!!!
    وعلى هذا الشاطئ الكريتي اتبع أنا عادة جدي. أنا أيضا قد وجدت ضيفي بعد أن بحثت عنه مع قنديلي. وسوف لن أدعه يرحل. بالطبع هو يكلفني أكثر من مجر عشاء، إلا أنه يستحق كل هذا، كل مساء انتظر عودته من العمل، و أجلسه أمامي ونلتهم طعامنا. وحين يحين الوقت ليرد لي الضيافة أقول له " تكلم " وأدخن غليوني وأصغي. هذا الضيف قد شاهد العالم بأسره وخبر الروح البشرية. وأنا لا آمل أبدا الإصغاء إليه.
    - تكلم يا زوربا..... تكلم
    وعندما يبدأ حديثه تبدو أمام ناظري " ماسيدونيا " حيث تمتد في الفسحة التي بين زوربا وبيني، بجبالها وغاباتها و سيولها وثوارها. ونساءها الذين يعملون بجد ورجالها ذوو الأجسام الضخمة. وأيضا جبل آتوس بأبرشياته الواحد والعشرون ومصانع الأسلحة، وسكانه العاطلين عن العمل. وعندما ينهي زوربا حديثه عن الرهبان يهز رأسه ويغرق بالضحك قائلا:
    - ليحفظك الله أيها الرئيس من مؤخرات البغال ومقدمات الرهبان.
    كل يوم يأخذني زوربا عبر اليونان، بلغاريا والقسطنطينية. فأغمض عيني... وأرى. كان قد جال كل سهول البقان وعاينها بعينيه الصغيرتين اللتين كان يفتحهما بدهشة وتعجب، أشياء اعتدنا عليها، تمر أمامنا بكل بساطة. وفجأة تقفز أمام زوربا كأنهم مردة مخيفين. وعندما يشاهد امرأة تمر أمامنا، يتوقف بذهول ويتساءل:
    - يا لهذا اللغز المحير! ما سر المرأة.... لماذا تدير رؤوسنا.؟ هيا أخبرني.. أنا أسألك ما معنى هذا؟؟؟
    انه يستجوبني بهذه الطريقة، وبمثل هذا الذهول، كلما لمح رجلا، شجرة في أوجها أو قدحا من الماء البارد. إن زوربا يرى يوميا كل هذه الأشياء وكأنه يراها لأول مرة.
    بالأمس كنا جالسين قرب الكوخ، عندما عب كأسا من الخمر، والتفت نحوي بسرعة قائلا:
    - مهما يكن هذا السائل الأحمر، أيها الرئيس اخبرني،. أغصان قديمة تنبت أغصان. وفي بادئ الأمر بعض الحصرم الحامض يتدلى فيها. ويمر الوقت وتنضج تحت أشعة الشمس، ويصبح بحلاوة العسل. عندها ندعوه عنبا. وندوسهم بأرجلنا ونقطر عصيرها ونضعهم في براميل خشبية. فيختمورن من تلقاءهم. ونفتحها في عيد القديس يوحنا السكير ونجدهم قد أصبحوا نبيذا. إنها معجزة. وعندما تشرب هذا السائل الأحمر وينتفخ دماغك، وتشعر بأن روحك تكبر، تكبر على الهيكل العظمي القديم، وتتحدى الله للقتال، اخبرني أيها الرئيس كيف يتم كل هذا.
    لم اجب شعرت وأنا أصغي لزوربا بأن العالم يتكشف من جديد: كل الأيام القاسية قد عادت لها حيويتها كما كانت في بداية التاريخ عندما خرجنا من بين يدي الله. الماء، النسوة، النجوم والخبز، كلها عادت المحير والدوامة الإلهية عادت لتدور في الجو من جديد.
    لهذا، كنت كل مساء، أتمدد على الشاطىء بانتظار زوربا. فأراه يخرج بقوة من بطن الأرض بجسده المليء بالوحل والأقذار وخطواته الواسعة من بعيد، كنت أستطيع أن أشاهد كيف كانت نتيجة العمل اليوم، من طريقة سيره، من انتصاب رأسه عاليا أو انخفاضه ومن حركات يديه المتأرجحتان.
    أول الأمر كنت أرافقه لأراقب العمال، كنت أجهد نفسي في محاولة لتغيير مجرى حياتي، لأشغل نفسي في حياة عمليه، لأعرف وأحب المادية الإنسانية التي وقعت بين يدي، لأختبر واشعر بالمتعة التي انتظرتها طويلا لا مجرد كلمات اقرأها أو أكتبها بل مع رجال على قيد الحياة.
    ورسمت بعض الخطط الرومانتيكية، فيما لو نجح مشروع التنقيب عن الفحم. سوف انظم نوعا من المنظمات الاجتماعية حيث نشترك في كل شيء. وحيث سنأكل جميعنا نفس الطعام، ونرتدي نفس اللباس كأننا أخوة، وخلقت في رأسي أمرا دينيا جديدا، نواة لحياة جديدة.
    ولكني لم أكن قد قررت بعد أن أفاتح زوربا بمشروعي، لقد كان ينزعج من ذهابي ومجيئي بين صفوف العمال. اسأل وأتدخل، ودائما لصالح العمال. عندها يقلب زوربا شفتيه قائلا:
    - أيها الرئيس ألن تذهب في نزهة بعيدا من هنا. ألا ترى الشمس والبحر هناك؟
    في بادىء الأمر كنت أصر على البقاء وأبقى، كنت أسأل وأثرثر، أردت أن اعلم قصة حياة كل رجل. كم من الأولاد لديهم يجب أن يعيلوهم وأخوات ليزوجوهم وأقرباء ليس لهم من معين. بماذا يهمتون، والأمراض وكل ما يقلقهم.
    - لا تغوص هكذا في تاريخ حياتهم. أيها الرئيس، سوف تندفع نحوهم بقلبك الرقيق، وسوف تحبهم أكثر مما يجب لمصلحتك ومصلحتهم، ومهما سوف يفعلون ستخلق لهم الأعذار. عندها فلتساعدنا الآلهة، فسوف يهملون عملهم، ويقومون به بأي طريقة يريدونها، وعندها فليساعدنا الله أيضا. يجب أن تدرك هذا جيدا، عندما يكون الرئيس قاسيا عندها سيحترمونه العمال ويعملون بجد، وعندما يكون ناعما يتركون كل شيء عليه ويمضون وقتا طيبا، هل تفهم هذا؟
    في إحدى الأمسيات، بعد انتهائه من العمل، رمى بمعوله في الظل وصاح قائلا بعد أن نفذ صبره:
    - انظر هنا، توقف عن التدخل، بالسرعة نفسها التي ابني فيها أنت تهدم كل شيء... والآن ما هذا الذي كنت تتحدث عنه اليوم مع الرجال؟ اشتراكية وهراء؟ هل أنت واعظ أو رأسمالي؟ يجب أن تقرر...
    ولكن كيف أستطيع أن اختار؟ لقد كنت أحاول جهدي أن اجمع بين هذين الشيئين. لأجد طريقة تجمع بين هذين التناقضين و لأنجح في الحصول على كل من الحياة في الأرض وملكوت السماوات، كان هذا يتعامل داخلي منذ سنوات حتى منذ الأيام الأولى لطفولتي. عندما كنت لا أزال في المدرسة. حيث كنت قد نظمت مع اقرب أصدقائي جمعية سرية تدعى " المجتمع الودي " هذا كان الاسم الذي أطلقناه عليها. وداخل غرفة نومي المغلقة أقسمنا اليمين لنكرس حياتنا من اجل محاربة الظلم. دموع غزيرة انهمرت فوق وجوهنا عندما اقسمنا اليمين و أيدينا فوق قلوبنا
    مبادىء صبيانية! ولكن يا لتعاسة من يسخر منها عندما يسمعها، ولكن عندما شاهدت ما صار إليه أعضاء هذه المنظمة، من أطباء مدعون، ومحامون غشاشون، وأصحاب محلات، سياسيون دجالون وصحفيون خونة. غاص قلبي، إن مناخ هذه الأرض قد أصبح جلف وقاس، واثمن البذور لا تنمو وتختفي تحت الأرض وبين الشوك والقراص. أستطيع أن أرى بكل وضوح اليوم، بالنسبة لنفسي، لم أصبح معقولا بعد، ولكن ليتمجد اسم الرب، اشعر بأنني لا أزال مستعدا لأقوم ببعض المغامرات الدون كيشوتية.
    كنا أيام الآحاد نحضر أنفسنا بكل عناية وكأننا شابين يحضران نفسيهما للزواج، ونحلق ونرتدي قمصانا بيضاء، ونتوجه بعد الظهر لرؤية السيدة هورانتس، كانت كل يوم أحد تذبح لنا طيرا، وكنا أكثر الأحيان نجلس ثلاثتنا لنأكل ونشرب، وتمتد يد زوربا إلى صدر السيدة المضياف ليمتلكه. وعندما يحل الليل نعود إلى شاطئنا. كانت الحياة تبدو بسيطة ومليئة بالنوايا الحسنة تماما كالسيدة هورانتس.
    وذات أحد وبينما كنا عائدين من وليمتنا الممتعة، قررت أن اخبر زوربا بمشاريعي. أصغى إلي مجبرا نفسه، وضاغطا عليها ليكون صبورا كفاية. إلا انه من وقت لأخر كان يهز رأسه الضخم بغضب ظاهر... كلماتي الأولى جعلته يصحو من سكره... وطردت الخمرة من رأسه. وعندما انتهيت نزع بعصبية شعرة أو شعرتين من شاربه وقال:
    - اعذرني لما سأقوله أيها الرئيس، و لكن لا أعتقد أن عقلك قد اكتمل بعد. كم تبلغ من العمر؟
    - خمسة وثلاثون سنة.
    - إذا فهو لن يكتمل أبدا.
    وانفجر مقهقها، وشعرت بأني لسعت. وصحت به:
    - ألا تؤمن بالإنسان؟
    - والآن لا تندفع غاضبا أيها الرئيس! فأنا لا أؤمن بأي شيء، فلو كنت أؤمن بالإنسان لأمنت بالله و لكنت أمنت بالشيطان أيضا، وهذه هي كل المشكلة حيث تختلط الأشياء وتسبب لي كثيرا من التعقيد.
    وخيم عليه الصمت، وانتزع قبعته وحك رأسه بقوة وشد شاربه كأنه يريد أن ينتزعه من مكانه. كان يريد أن يقول شيئا، إلا أنه منع نفسه ونظر إلي من زاوية عينه، ومن ثم نظر إلي ثانية وقرر أن يتكلم. وصاح ضاربا الأرض بعصاه بقسوة:
    - الإنسان ليس إلا بهيمة. بهيمة كبيرة. إلا أن سعادتك لا تدرك هذا أبدا. إذ يبدو بان كل شيء كان سهلا بالنسبة لك. اسألني أنا فأجيبك بأنه بهيمة فإن كنت قاسيا معه سوف يخافك ويحترمك. وان كنت لطيفا معه فسوف ينتزع عيونك. احفظ المسافة بينك وبينهم، لا تجعل الرجال أقوياء هكذا. لا تمشي بينهم وتقول لهم بأننا كلنا متساوون. وان لنا نفس الحقوق، و إلا سوف يدوسون على حقوقك أنت. سوف يسرقون خبزك ويتركونك تموت من الجوع، احفظ مركزك أيها الرئيس من أجل الخير الذي أتمناه لك.
    - ولكن ألا تؤمن بشيء؟
    - كلا لا أؤمن بشيء بالمرة. كم مرة يجب أن أكرر هذا. فأنا لا أؤمن بأي شيء أو بأي شخص. بل بزوربا وحده، ليس لأن زوربا أحسن من غيره، كلا فهو بهيمة كغيره. ولكن لأن زوربا هو الوحيد الذي يقع تحت سلطتي، والوحيد الذي أعرفه. أما الباقون فكلهم أشباح، فانا أرى بهاتين العينين، واسمع بهاتين الأذنين، واهضم بهذه المعدة. كل الباقون أشباح أقول لك، عندما أموت، فسوف يموت كل شيء معي. كل العالم الزوربي سوف يغوص في الأعماق.
    فقلت ساخرا:
    - يا لها من أنانية!.
    - لا أستطيع معها شيء. آكل فاصولياء فأتحدث عن الفاصولياء، أنا زوربا فأتحدث عن زوربا.
    لم اقل شيئا. كلمات زوربا لسعتني كالسوط. لقد أدهشتني قوته، لاحتقاره الرجال إلى هذا الحد، وبنفس الوقت رغبته في العيش والعمل معهم، أما أنا فيجب إما أن أصبح ناسكا، أو أزخرف رؤوس الرجال بريش مزيف حتى أستطيع أن أتحملهم.
    التفت زوربا نحوي، وتحت ضوء النجوم استطعت أن أرى ضحكة زوربا حتى أذنيه.
    - هل أزعجتك أيها الرئيس؟
    قال فجأة عندما وصلنا إلى الكوخ. نظر إلي زوربا بعطف وقلق، لم اجب، شعرت بأن عقلي يوافق زوربا إلا أن قلبي راح يقاوم، يريد الانطلاق والهروب من البهيمة، وليسير في طريقه الخاص. قلت:
    - لا اشعر بالنعاس هذه الليلة، اذهب أنت لتنام.
    كانت النجوم تلمع في السماء، والبحر كان يجعل الأصداف تتلألأ.
    ولمعت إحدى الأصداف وأضاءت تحت منارتها الصدفية، حيث كان قطر الندى يقطر من شعر الليل الداكن.
    تمددت على وجهي، مأخوذ بالسكون، دون أن أفكر بأي شيء، كنت وحيدا بين الليل والبحر، كان عقلي كأنه صدفة أضاءت منارتها واستقرت على ارض الشاطىء الداكنة وراحت تنتظر.
    كانت النجوم تسافر وتدور، والساعات تمر، وعندما نهضت، كنت قد قررت، دون أن اعلم، الخطة المزدوجة التي يجب أن اتبعها على هذا الشاطىء:
    أن اهرب من بوذا. واخلص نفسي من الكلمات الميتافيزيقية وأحرر نفسي من القلق الغير مجد.
    أن أقوم باتصالات مباشرة مع الرجال وابتدأ من هذه اللحظة.
    وقلت لنفسي " ربما لم يفت الأوان بعد.

  19. #18
    ......


    أقل مايقال عنها أنها.."مجنونة"....rolleyes
    ومالحاجة لأن نُجن ونختبر الجنون بأفعالنا
    بينما يمكننا أن نختبره بعقولنا.....ثم نقرر أين يجب أن نسير..

    يصعب الإقتباس...لكن هذة أكثر ماشدتني من أفكار:


    أصغ إلى يا بني :
    إن الإله الرحيم، كما ترى، لا تستطيع طبقات السماء السبع و طبقات الأرض السبع أن تسعه.
    لكن قلب الإنسان يسعه. إذن احذر يا بني من أن تجرح ذات يوم قلب الإنسان !

    إنني حر!
    فهز زوربا رأسه، و قال :
    كلا، لست حراً.
    إن الحبل الذي ربطت به نفسك أطول قليلاً من حبل الآخرين. هذا كل شيء.
    إن لديك،أيها الرئيس، حبلاً طويلاً، فأنت تذهب و تأتي، و تعتقد أنك حر، لكنك لا تقطع الحبل.
    و عندما يقطع الإنسان الحبل.........
    فقلت بتحد، لأن كلمات زوربا قد لمست في جرحاً فتوحاً, فتوجعت :
    سأقطعه ذات يوم !
    - هذا صعب، أيها الرئيس، صعب جداً.لا بد لذلك من شيء من الجنون. الجنون، أتسمعني ؟
    أن تجازف بكل شيء ! لكن لك، أنت، عقلا متينا، و سوف يتغلب عليك.
    فعلاً....البشر بحاجة للعبودية والذل بقدر حاجتهم للحرية والعزة..

    - كيف تستطيع الزهرة أن تنمو و تعيش وسط السماد و القذارة؟ افترض يا زوربا لنفسك أن هذه الأقذار هي الإنسان و أن الزهرة هي الحرية.
    من بين صراع العقل والقلب
    والروح والجسد.....يولد الإنسان!
    sleeping



    أما هنا....كان التصوير آسرًا بمعنى الكلمة...


    و عندما انتهيت أخيرا ، و في ليلة سفري بينما كنت أقلب أوراقي ، عثرت على مخطوطة لم تنته بعد ، و أخذتها بيدٍ مشدودة ، منذ سنتين كانت الرغبة كامنة في أعماق نفسي ، رغبة قوية جامحة ، رغبة أشعر بها تتآكل في أحشائي كل لحظة ، لقد كانت تنمو و تنضج و ترفسني في صدري تطلب أن تخرج إلى الوجود ، و الآن لم يعد بإمكاني أن أطرحها ، لم أعد أجرؤ على ذلك ، لقد فات الوقت لهذا الإجهاض النفسي .

    وهنا كان رائعا...عميقًا

    كنت أزن في رأسي كلمات زوربا الغنية بالمعنى و الفائحة منها رائحة أرض حارة، و كأنها تصعد من أعمق أحشائه، و هي لا تزال محتفظة بالحرارة الإنسانية.
    أما كلماتي، أنا، فكانت من ورق.
    إنها تنزل من رأسي، لا تكاد تلطخها نقطة دم واحدة.
    لو كانت لها قيمة ما، فإنما هي مدينة بها لنقطة الدم هذه بالذات.

    أكمل
    gooood

    نحن بالإنتظار...
    بالرغم من أن الفصول الأولى لا تبدو بتشويق المقدمة
    لكني أشعر أن الفصول الباقية تحمل الكثير..






    ::
    لون التوت

    attachment

  20. #19
    لون التوت

    حضوركِ دائماً أخّاذ
    إستمري معنا .. لـ كثيراً من الجنون

    أعتذر عن التأخير ، فقدتُ الرواية ووجدتها مجدداً

    سنعود

  21. #20
    7_1148641368

    الفصـل الخامــس

    " العم أناغوسي، الجد، يحييكما و يسأل إن كنتما تهتمان للمجيء إلى منزله لتناول الطعام، إن الرجل المختص سوف يمر بالقرية اليوم ليخصي الخنازير، إنها مناسبة فالأعضاء لذيذة جدا، كيريا ماروليا، زوجة المختار سوف تقوم بطبخهم لكم، كما يصادف اليوم أيضا عيد ميلاد حفيدهما متياس و سوف تتمنون له عيدا سعيدا و سنوات عديدة "

    إنه من المفرح جدا أن تدخل إلى بيت أحد الفلاحين الكريتيين فكل شيء في البيت يوحي بأن الأب هو صاحب اليد الطولى، المدفأة، قنديل الكاز، و الجرار المصفوفة على الأرض، بضع كراس و طاولة، و على الشمال عندما تدخل تشاهد فتحة في الجدار حيث توجد جرة من الماء البارد، و في العوارض الخبية تتدلى خيطان السفرجل و النباتات كالنعنع و الصبار و الحر الأحمر، و في أقصى نهاية الغرفة سلم أو بضع درجات خشبية تقودك نحو الدهليز الطويل حيث يوجد سرير كبير و فوقه الأيقونات المقدسة مع مصابيحها، يبدو المنزل فارغا، إلا أنه يحوي كل ما نحتاجه، بالحقيقة أن الضروريات التي يحتاجها الإنسان قليلة جدا.

    كان يوما رائعا، حيث كان لطيفا تحت أشعة شمس الخريف، جلسنا أمام المنزل في الحديثة تحت شجرة زيتون تتدلى منها الثمار و عبر الأوراق الفضية كان البحر يبدو هادئا تماما، و بعض الغيوم كانت تمر من حين لآخر في مواجهة الشمس لتضفي على الأرض مسحة حزن و من ثم فرح كما لو أنها تتنفس.

    و في آخر الحديقة الصغيرة و داخل زريبة مغلقة كانت الخنازير المخصية تئن من الألم لتصم آذاننا، و كانت رائحة طهي السيدة كيريا ماروليا تصل إلى أنوفنا، كان حديثا يدور حول الأشياء الخالدة، مواسم الذرة، الكروم، المطر، كان علينا أن نرفع أصواتنا لأن المختار السابق كان ثقيل السمع، و كان يقول بأن لديه " أذنا متكبرة "، هذا العجوز الكريتي كان يعيش حياة صادقة و آمنة، كشجرة في وادٍ أمين، كان قد ولد و شب و تزوج و رزق أولادا و أتيح له الوقت لرؤية أحفاده، بعضهم مات إلا أن الآخرون فلا يزالون على قيد الحياة، إذن فاستمرار ذرية العائلة أصبح مؤمّناً.

    هذا العجوز الكريتي استطاع أن يستعيد ذكرى الأيام السابقة، الأحكام التركية، أقوال والده، و المعجزات التي حصلت في تلك الأيام لأن النساء كن يخشين الله و كان لديهن إيمان.

    - الآن أنظروا إليّ، أنا العم أتاغنوسي أكلمكم، ولادتي كانت معجزة، نعم كانت معجزة، و عندما أخبركم كيف حدث هذا سوف تندهشون " ليرحمنا الله " سوف تقولون و تذهبون إلى دير السيدة المريم العذراء و تشعلون شمعة لها.

    و رسم شارة الصليب و بصوت ناعم و بطريقة لطيفة بدأ برواية قصته:

    - في تلك الأيام كان يوجد سيدة تركية تعيش في قريتنا، لعنة الله علينا، و ذات يوم حملت اللعينة و كانت على وشك أن تضع طفلا، مددوها على أريكة و بقيت تصرخ من الألم لمدة ثلاثة أيام كأنها بقرة، إلا أن الولد لم يخرج، عندها اقتربت منها إحدى صديقاتها عليها اللعنة أيضا و نصحتها قائلة:
    - ظافر خانم، يجب أن تسألي الأم مريم لتساعدك، هكذا يسمون المريم العذراء، ليمجد الله اسمها، فأجابتها " لماذا أدعوها أفضل الموت على ذلك " إلا أن آلامها زادت حدتها و استمر الحال لمدة يوم آخر، و لم تستطع أن تضع طفلها، إذا ما العمل؟ و لم تستطع أن تتحمل المزيد من الآلام، و بدأت تصرخ بأعلى صوتها " أيتها الأم ماري، أيتها الأم ماري " و لكن دون جدوى، و لم تتوقف الآلام و لم تضع الطفل، إلا أن صديقتها قالت " ربما لا تفهم اللغة التركية " عندها صاحت الكلبة " يا عذراء الروم، يا عذراء الروم " فعادت الآلام تتضاعف، و عادت صديقتها لتقول " إنك لا تنادينها بالطريقة المناسبة، و لذلك فهي لا تأتي للمساعدة، عندها صاحت تلك الكلبة الكافرة " أيتها العذراء القديسة " عندها و بسرعة انساب الطفل كشعرة من الوحل.

    حدث هذا يوم أحد، و يوم الأحد التالي كانت والدتي تعاني من الآلام لأنها بنفس الحالة، عندها صرخت والدتي المسكينة " أيتها العذراء القديسة، أيتها العذراء القديسة " إلا أنها لم تضع طفلها، و كان والدي جالسا في وسط الباحة، كان والدي لا يستطيع أن يأكل أو يشرب بسبب آلامها، عندها شعر والدي بالغضب من السيدة العذراء، و يقول " أترون، لقد نادتها تلك الكلبة التركية و جعلتها تضع طفلها بسرعة " و في اليوم الرابع لم يستطع والدي أن يصبر أكثر من هذا، فأخذ عصا الحقل و توجه نحو دير السيدة العذراء، كانت في عوننا، و عندما وصل إلى هناك و دون أن يرسم إشارة الصليب بسبب غضبه الشديد صفع الباب خلفه و توجه رأسا إلى المذبح و صاح قائلا " أنظري، أيتها السيدة العذراء، إن زوجتي كرينيو، أنت تعرفينها، أليس كذلك؟ من المفروض أن تعرفيها فهي تأتي لتحضر لك الزيت كل يوم سبت و تضيء مصابيحك، إنها تعاني الآلام لمدة ثلاثة أيام بلياليها و قد نادتك، الم تسمعيها؟ إذا لم تسمعيها فأنت طرشاء.. لو كانت ظافر خانم قد نادتك لكنت لبيتها بسرعة، إلا أن زوجتي كرينيو المسيحية لا تسمعيها، أتعلمين لو لم تكوني السيدة العذراء لكنت لقنتك درسا بعصاي هذه.


    و دون زيادة أي كلمة، و دون أن ينحني لها، أدار ظهره لها و هم بالذهاب، و يا لعظمة الرب، و بنفس اللحظة علا صرير من المذبح و كأن السيدة العذراء تذوب، دعوني أخبركم هنا إن كنتم لا تعرفون هذا أن العذاء ترسل هذا الصوت عندما تكون تصنع المعجزات، عندها فهم والدي بسرعة و استدار بسرعة و ركع راسما إشارة الصليب و صاح " لقد أخطأت بحقك أيتها السيدة العذراء، لقد تفوهت بأشياء كثيرة كان يجب أن لا أقولها "

    و ما كان يصل إلى القرية حتى سمع الخبر العظيم، " نتمنى لك عيشا سعيدا يا كوستاندي، لقد وضعت زوجتك طفلا ذكرا " و هذا الطفل هو أنا، أناغونستي العجوز، إلا أنني ثقيل السمع، لقد أهاون والدي السيدة العذراء و دعاها بالطرشاء، و لابد أن العذراء قالت " إذن أنت تدعوني بالطرشاء أليس كذلك؟ سوف أجعل ابنك أطرش، سوف أعلمك كيف تهينني "

    و رسم أناغونستي إشارة الصليب و تابع قائلا:

    - إلا أن هذا ليس مهما، ليمجد اسم الرب، كان بمقدورها أن تجعلني أعمى أو مجنون أو أحدب أو.. ليحمنا الله، كان بمقدورها أن تجعلني امرأة، ليس هذا بشيء، أنا أنحني لقداستها.

    و ملأ الكؤوس و رفع كأسه قائلا:

    - لتكن في عوننا.
    - نخب صحتك أيها العم أناغونستي، نتمنى أن تعيش مائة عام أخرى لترى أحفاد أحفادك.

    و جرع العجوز كأسه دفعة واحدة و مسح شاربه بظهر يده.

    - كلا يا ولدي، إن هذا كثير لتتمناه، لقد شاهدت أحفادي و هذا يكفيي و يجب أن نسأل أشياء غير معقولة، لقد اقتربت ساعتي، لقد أصبحت عجوزا أيها الأصدقاء، لقد فرغت عظامي و لم أعد أستطيع أن أنجب أطفالا.. فلماذا أعيش إذا؟

    و ملأ الكؤوس ثانية و تناول من وسطه بضع جوزات و بعض أكواز التين المجففة ملفوفة بورق الغار و اقتسمهم معنا جميعا:

    - لقد منحت كل ما أملك لأطفالي، و لقد أصبحنا فقراء جدا، نعم.. فقراء جدا، و لكن لا أشتكي، فعند الله كل ما نحتاجه.

    عندنا صاح زوربا في أذن العم أناغونستي قائلا:

    - الله عنده كل ما نحتاجه ايها العم أناغوستي! ربما الله عنده كل شيء، و لكن ليس نحن، فالعجوز البخيل لا يمنحنا شيئا..

    إلا أن العجوز صاح بقسوة:

    - لا تحتقره هكذا! فهو يعد علينا جميع أخطائنا، ألا تعلم هذا؟!

    و في هذه اللحظة دخلت الجدة أناغوستي بهدوء حاملة الأعضاء المحتفى بها على طبق خشبي، و حاملة أيضا وعاء كبير من النبيذ الأحمر، و وضعتهم أمامنا على الطاولة و وقفت بقربنا بيدين مسدلتين و عينين منخفضتين، شعرت بقرف من تذوق هذه " الأعضاء " و لكنني لم أستطع أن أرفض تجربتها، كان زوربا يراقبني بطرف عينه بسخرية.

    - إنه ألذ طعام تناولته طوال حياتك أيها الرئيس، لا تقرف!

    و ابتسم العم أناغوستي و قال:

    - إنها الحقيقة، جربهم و سترى.. يذوبون في الفم بسرعة، عندما زار الأمير جورج الدير هناك فوق الجبل حضر الرهبان مأدبة ملكية من أجله، و قدموا للجميع اللحم ما عدا الأمير، حيث قدموا له طبقا من الحساء فتناول ملعته و راح يحرك الحساء و قال متعجبا " ما هذا؟ فاصوليا؟ فاصوليا بيضاء! "، فقال صاحب الدير " جربها يا صاحب السعادة و سوف نتكلم عنها فيما بعد " فتناول الأمير ملعقة و تذوق الحساء، مرة.. مرتين، و بلحظات قليلة أفرغ الطبق و لعق شفتيه و قال: يا له من طبق لذيذ! يا لهذه الفاصوليا من لذيذة، إن طعمها كالنخاعات تماما.
    - إنها ليست فاصوليا يا صاحب السعادة، لقد خصينا جميع الديكة التي في الجوار.

    و غرق العجوز مقهقها و شك إحدى الأعضاء بشوكته و قال:

    - افتح فمك، إنه طبق أمراء.

    و فتحت فمي، و وضع " العضو " في فمي، و ملأ الكؤوس من جديد و شربنا نخب حفيده الأكبر، و لمعت عيني العم أناغونستي، فسألته قائلا:

    - ما الذي تريده أن يكون حفيد أيها العم أناغونستي؟ أخبرنا لنستطيع أن نتمنى لك ذلك.
    - ما الذي أتمناه؟ أتمنى أن يسير في الطريق القويم، و أن يصبح رجلا صالحا، رب عائلة، و أن يتزوج أيضا و يرزق أطفالا و أحفادا، و أتمنى أن يكون أحد أولاده مثلي تماما، حتى يقول العجائز " ألا يشبه العم أناغونستي رحمه الله؟ كان رجلا طيبا "

الصفحة رقم 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

بيانات عن الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

عدد زوار الموضوع الآن 1 . (0 عضو و 1 ضيف)

المفضلات

collapse_40b قوانين المشاركة

  • غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
  • غير مصرّح بالرد على المواضيع
  • غير مصرّح لك بإرفاق ملفات
  • غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك
  •  

مكسات على ايفون  مكسات على اندرويد  Rss  Facebook  Twitter