لتحميل الرواية كاملة اضغط هنا ,
راح احط بقدر الامكان كل يوم فصل واتمنى تعجبكم
.................................................. ...............................
خرج هيركيول بوارو من مطعم فييل غراندمير إلى سوهر ,ورفع ياقة معطفه إلى عنقه من قبيل الحذر لا من قبيل الحاجة, إذ أن الطقس لم يكن بارداً تلك الليلة . وكأن لسان حاله يقول :"ولكن المرء _في مثل سني_ لا يجازف"
كانت في عينيه سعادة ناعسة متأملة وكانت وجبة المأكولات البحرية في مطعم فييل غراندمير شهية . ذلك المطعم الصغير البسيط كان كسباً بالنسبة لبوارو الذي راح يمرر لسانه على شفتيه متأملا كالكلب الشبعان ثم أخرج منديله من جيبه ومسح به شاربيه .
نعم , لقد تناول عشاء جيداً , فماذا يفعل الآن ؟ تبأطات سيارة أجرة كانت تمر بجانبه كأنها تدعوه للركوب .تردد بوارو قليلاً ولكنه لم يصدر أي أشارة ,فلماذا يستأجر سيارة ؟ إنه سيصل إلى بيته _على أيه حال_ في وقت مبكر عن موعد نومه.
تمتم مخاطباً :" من المؤسف أن لا يستطيع المرء أن يأكل أكثر من ثلاث مرات في اليوم " ذلك أن الوجبة التي يتناولها الإنكليز مع الشاي عصراً كانت وجبة لم يستطيع بوارو التأقلم معها ,وكان ويشرح ذلك قائلاً:" إن تناول أي شئ عند الساعة الخامسة سيفقد المرء شهيته للعشاء , ويجب أن ننسى أن وجبة العشاء هي وجبة اليوم الفاخر" ولم يكن أيضاً معتاداً على شراب قهوة الضحى . لا , بل كان يفضل مشروب الشُكلاتة مع بعض المعجنات في وجبة الفطور , ثم يتناول الغداء في حدود الساعة الثانية عشرة والنصف إن أمكنه ذلك , بشرط أن لا يتجاوز موعد الغذاء الساعة الواحدة .وأخيراً تأتي وجبة التتويج : العشاء.
كانت تلك المواعيد هي لحظات الذروة في يوم هيركيول بوارو . كان رجلاً يأخذ حاجة معدته دائماً على محمل الجد , وها هو ذا يجني ثمار ذلك في شيخوخته . لم يعد الطعام متعة جسدية فحسب بل أصبح عملية بحث عقلية, لأنه كان _ بين الوجبات _ يبحث ويفتش عن مصادر جديدة للطعام الشهي . وكان مطعم فييل غرابدمير نتيجة إحدى عمليات البحث التي قام بها, وقد حظي هذا المطعم لتوه بقبول بوارو ورضاه. والآن بقي عليه _مع الأسف _ أن يقضي فترة المساء .
تنهد هيركيول بوارو ,وفكر قائلاً لنفسه : لو أن هيستنغز كان موجوداً فقط!
استغرق بسرور في ذكرياته مع صديقه القديم "إنه أول صديق لي في هذه البلاد ...ومازال أعز أصدقائي .صحيح أنه كان يغضبني أحياناً ,ولكن هل أتذكر ذلك الآن ؟ لا. إنني لا أذكر إلا تعجبه الساذج وتقديره_بفم مفتوح_لقدرتي ....البساطة التي كنت أضلله بها دون أن أنطق بكلمة واحدة غير صحيحة , وحيرته , ودهشته الهائلة وهو يدرك_في النهاية _ الحقيقة التي كانت واضحة جلية لي منذ البداية
آه ياصديقي العزيز !إن نقطة ضعفي كانت دوماً حبي للمباهاة. تلك الصفة التي لم يفهمها هيستنغز أبداً. ولكن من الضروري جداً _ في الحقيقة أن يعجب رجل له مثل قدراتي بنفسه ... ومن أجل ذلك لابد له من محفز خارجي .إنني لاأستطيع ، لاأستطيع حقاً , الجلوس على كرسي طوال اليوم وأنا أفكر كم أنا مثير للإعجاب , فالمرء يحتاج إلى لمسة إنسانية . يحتاج _كما يقولون في هذه ا لأيام_ إلى التابع الذي تظهر بالنقيض معه عبقرية المرء.
تنهد هيركيول بوارو وانعطف إلى شارع شافتسبري . أيقطع الشارع ويذهب إلى ساحة ليستر ليقضي مساءه في إحدى دور السينما؟ هز رأسه بالنفي وهو متجهم قليلاً,إذ غالباً ماكنت السينما تثير غضبه بسب ضعف حبكة أفلامها وقلة الترابط المنطقي في حواراتها . وحتى التصوير_الذي كان الكثيرون يسهبون في امتداحه _
لم يبدُ في نظر هيركيول بوارو إلا مجرد رسم لمشاهد وأشياء بحيث تبدو مخافة تماماً لحقيقتها في الواقع .
رأى بوارو أن كل شئ غدا صناعياً هذه الأيام. لم يبق َ في أي مكان حب النظام والمنهجية اللذين يقدرهما بوارو عالياً, وكان نادراً ما يجد تقديراً للرقة والذوق الحساس الدقيق. كانت مشاهد العنف والوحشية الفظة هي الموضة السائدة , ولأن بوارو كان ضابط شرطة سابقاً فإنه سئم الوحشية . لقد شاهد الكثير من الوحشية الفظة في شبابه , إذ كانت تلك هي القاعدة وليست الاستثناء . وقد وجدها مرهقة وسخيفة .
وعندما اتجه بوارو إلى بيته فكر قائلاً لنفسه:" الحقيقة هي أنني غير منسجم مع هذه العصر,وأنني (وإن بطريقة متفوقة ) عبد كغيري من الناس .لقد استعبدني عملي كما استعبدت الناس أعمالهم , فعندما تتوفر لديهم ساعة فراغ لايدرون ماذا يفعلون بها ,
فتجد المصرفي المتقاعد يمارس الغولف ,والتاجر الصغير يزرع الورود في حديقة منزله, أما أنا فإنني آكل . ولكن ها أنا ذا أعود إلى نفس المشكلة : إن المرء لايستطيع أن يأكل أكثر من ثلاث مرات في اليوم,وبين هذه الوجبات تكون الثغرات.
مر بوراو بجانب بائع صحف ووقف قليلاً يستعرض العناوين :" نتيجة محاكمة ماغينتي . الحكم النهائي " .
لم يثر ذلك اهتمامه , وتذكر _بشكل مبهم _ فقرة صغيرة قرأها في الصحف . لم تكن حالة قتل مثيرة , فقد قتلت امرأة عجوز بائسة بضربة على رأسها من أجل جنيهات قليلة , وكل ذلك جزء من الوحشية الفظة القاسية لهذه الأيام.
دخل بوارو إلى ساحة المجمع الذي توجد به شقته . كعادته , امتلأ قلبه بالاستحسان للمجمع . وكان فخوراً ببيته , ذلك البناء الرائع المتناسق . وحمله المصعد إلى الطابق الثالث حيث توجد شقته الفاخرة المفروشة كنبات مربعة الشكل وتحفيات مستطيلة بشكل صارم تمام .يمكن القول _ بالفعل_ إن البيت يخلو من أي شكل منحن .
وفيما هو يفتح الباب ويدخل الصالة المربعة البيضاء , تقدم خادمة جورج لاستقباله قائلاً: " مساء الخير يا سيدي .يوجد... سيد ينتظر مقابلتك " .ثم قام بمساعدة بوارو على خلع معطفه برفق.
انتبه بوارو لتلك الوقفة الخفيفة جداً قبل كلمة سيد . لقد كان جورج خبيراً باعتباره ممن يكنون تقديراً مبالغاً به للمكانة الاجتماعية .
سأله بوراو : حقاً؟ما اسمه؟
_رجل يدعى السيد سبنس يا سيدس.
_سبنس.
لم يعن هذا الاسم شيئاً بالنسبة لبوارو لأول وهلة , ومع ذلك أدرك أنه يجب أن يعنى شيئاً.
المفضلات