الصفحة رقم 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
مشاهدة النتائج 1 الى 20 من 38
  1. #1

    مكتبة القصة القصيرة ...


    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...



    كيفكم أخواني أخواتي إنشاء الله تكونوا بخير



    اليوم حبيت أنزل موضوع إنشاء الله يعجبكم ..



    فكرة الموضوع واضحة من العنوان : مكتبة للقصص القصيرة



    ومن منا لايحب قراءة القصة القصيرة ،، rolleyes



    وسوف أضع قصصاً قصيرة على فترات متقاربة ، ،،



    وطبعاً يمكنكم المشاركة بإضافة قصص قصيرة إذا



    أحببتم لإثراء هذه المكتبة ...



    عموماً لن أطيل عليكم وسأبدأ بالقصة الأولى ...




    ****************************

    عنوان القصة : الحاوي سرق الطبق ..


    المؤلف : نجيب محفوظ ..
    ***************************



    :: الحاوي سرق الطبق ::



    قالت لي أمي:
    - آن لك أن تكون نافعاً.
    ودست يدها في جيبها وهي تقول:
    - خذ هذا القرش واذهب لتشتري الفول، لا تلعب في الطريق وابتعد عن العربات.
    تناولت الطبق ولبست قبقابي وذهبت وأنا أترنم بأغنية.
    وجدت زحاماً أمام بياع الفول فانتظرت حتى عثرت على منفذ إلى الطاولة الرخامية وهتفت بصوتي الرفيع:
    - بقرش فول يا عم.
    سألني بعجلة:
    - فول خالص، بزيت، بسمن؟
    لم أجد جواباً، فقال لي بخشونة:
    - وسع لغيرك.
    تراجعت مسحوباً بخجلي وعدت إلى البيت خائباً فصاحب بي أمي:
    - راجع بالطبق فارغاً، دلقت الفول أم ضيعت القرش يا شقي؟
    فتساءلت محتجاً:
    - فول خالص، بزيت، بسمن ، لم تخبريني !!
    - يا خيبة، ماذا تأكل كل صباح؟
    - لا أعرف ..
    - خيبة .. خيبة، قل له فول بزيت ..
    مضيت إلى البياع وقلت له:
    - بقرش فول بزيت يا عم.
    سألني مقطباً نافذ الصبر:
    - زيت حار، زيت طيب، زيت زيتون؟
    بهت فلم أحر جواباً أيضاً فصاح بي:
    - وسع لغيرك ..
    رجعت مغيظاً إلى أمي فهتفت داهشة:
    - عدت كما ذهبت، لا فول ولا زيت.
    فقلت بغضب:
    - زيت حار .. زيت طيب .. زيت زيتون .. لِمَ لَمْ تخبريني؟
    - فول بزيت يعني فول بزيت حار ..
    - إيش عرفني ؟
    - أنت خيبة وهو رجل متعب، قل له بزيت حار.
    ذهبت مسرعاً وهتفت بالبياع وأنا على مبعدة أمتار من دكانه:
    - فول بزيت حار يا عم.
    - وقفت ورأسي بحذاء الطاولة الرخامية وأنا ألهث، وكررت بانتصار:
    - فول بزيت حار يا عم.
    دس المغرفة في القدر وقال:
    - ضع القرش على الرخامة.
    وضعت يدي في جيبي فلم أعثر على القرش. فتشت عنه بقلق. قلبت الجيب ظهراً لبطن ولكني لم أجد له أثراً. استرد الرجل المغرفة فارغة وهو يقول بقرف:
    - ضيعت القرش، أنت ولد لا يعتمد عليك.
    نظرت فيما تحت قدمي وحولي وأنا أقول:
    - لم أضيعه .. كان في جيبي طول الوقت.
    - وسع لغيرك وقل يا فتاح يا عليم.
    عدت إلى أمي فارغاً فصرخت في وجهي:
    - يا خبر أسود، أنت يا ولد عبيط؟
    - القرش.
    - ماله؟
    - ليس في جيبي.
    - اشتريت به حلوى؟
    - أبداً والله.
    - كيف ضاع؟
    - لا أعرف.
    - تقسم على المصحف أنك لم تشتر به شيئاً؟
    - أقسم ..
    - جيبك مثقوب؟
    - أبداً.
    - ربما تكون أعطيته للبياع في المرة الأولى أو الثانية؟
    - يمكن.
    - ألست متأكداً من شيء؟
    - أنا جائع !
    ضربت كفاً بكف وقالت:
    - أمري لله، سأعطيك قرشاً آخر ولكني سآخذه من حصالتك، وإن عدت بالطبق فارغاً سأكسر رقبتك.
    وذهبت جرياً وأنا أحلم بفطور لذيذ. وعند المنعطف المفضي إلى حارة البياع رأيت حلقة من الصبيان والأطفال وسمعت تهليل أفراح. ثقلت قدماي وشد قلبي إليهم. على الأقل ألقي نظرة عابرة. اندسست بينهم، فإذا بالحاوي يطالعني. عمرتني فرحة مذهلة. نسيت نفسي تماماً. استمتعت بكل قوة بألعاب البيض والأرانب والحبال والثعابين. ولما اقترب الرجل ليجمع النقود تراجعت هامساً "لا نقود معي". انقض علي متوحشاً. تخلصت منه بصعوبة، جريت ولكمته تشق ظهري، ولكني سعدت للغاية، وذهبت إلى البياع وأنا أقول:
    - بقرش فول بزيت يا عم.
    جعل ينظر إلي ولا يتحرك، فكررت الطلب فسألني بغيظ:
    - هات الطبق ..
    - الطبق؟ . أين الطبق؟ . سقط مني وأنا أجري؟. خطفه الحاوي؟.
    - أنت يا ولد عقلك ليس في رأسك !
    عدت أفتش في الطريق على الطبق المفقود. وجدت موضع الحاوي خالياً ولكن أصوات الأطفال دلتني عليه من حارة قريبة. درت حول الحلقة. لمحني الحاوي فصاح بي مهدداً:
    - ادفع أو فاذهب أحسن لك.
    فهتفت بيأس:
    - الطبق !
    - أي طبق يا بن الشياطين؟
    - رد لي الطبق.
    - اذهب وإلا جعلتك طعاماً للثعابين.
    إنه سارق الطبق. ولكني ابتعدت عن مرمي عينيه إتقاء شره. ومن القهر بكيت. وكلما سألني مار عما يبكيني قلت له: "خطف الحاوي الطبق". وانتبهت من كربي على صوت يقول "تفرج يا سلام". نظرت خلفي فرأيت صندوق الدنيا قائماً، ورأيت عشرات من الأطفال تهرع إليه. وتتابع وقوف المشاهدين أمام عيني الصندوق وراح الرجل يشرح الصور بإغراء "عندك الفارس الهمام، وست الكل زينة البنات". جفت دموعي وتطلعت إلى الصندوق بشغف. نسيت الحلوى تماماً والطبق. لم أستطع مقاومة الإغراء. دفعت القرش ووقفت أمام العين إلى جانب بنت وقفت أمام العين الأخرى. تسلسلت أمام ناظري صور الحكايات الخلابة. ولما عدت إلى دنياي كنت فقدت القرش والطبق ولم يعد للحاوي من أثر. لم أفكر فيما فقدت واستغرقتني صور الفروسية والحب والصراع. نسيت جوعي. حتى المخاوف التي تتهددني في البيت. نسيتها. تراجعت لأستند إلى جدار أثري كان يوماً ما مبنى لبيت المال ومقراً للقاضي، واستسلمت بكليتي للأحلام. حلمت طويلاً بالفروسية وزينة البنات والغول. وتكلمت في حلمي بصوت يسمع ولوحت بيدي بأكثر من دلالة. وقلت وأنا أدفع بالحربة الخيالية:
    - خذ يا غول في قلبك.
    وجاءني صوت رقيق قائلاً:
    - ورفع زينة البنات خلفه فوق الحصان !
    نظرت إلى يميني فرأيت الصبية التي زاملتني في الفرجة. تبدت في فستان متسخ وقبقاب ملون وهي تعبث بضفيرتها الطويلة. وفي يدها الأخرى حبات بيضاء وحمراء من "براغيث الست" تستحلبها على مهل. تبادلنا النظر. مال قلبي إليها فقلت:
    - نجلس لنستريح.
    بدت مستسلمة لاقتراحي فأخذتها من ذراعها ودخلنا من بوابة الجدار الأثري فجلسنا على درجة من سلمه الذي لا يفضي إلى شيء. سلّم يرتفع درجات حتى ينتهي إلى بسطة تلوح وراءها السماء الزرقاء والمآذن. جلسنا صامتين جنباً إلى جنب. قبضت على يدها وجلسنا صامتين لا ندري ماذا نقول. وتناوبتني مشاعر غريبة وجديدة ومبهمة. قربت وجهي من وجهها فشممت رائحة شعرها الطبيعية تخالطها رائحة ترابية وعبير أنفاس ممزوج بشذا الحلوى. قبلت شفتيها. ازدردت ريقها الذي اقتبس مذاقاُ حلواً من ذوب براغيث الست. أحطتها بذراعي دون أن تنبس بكلمة أقبل خدها وشفتها، فتسكن شفتاها عند تلقي القبلة ثم تعودان إلى استحلاب الحلوى. وقررت أخيراً أن تقوم. قبضتُ على ذراعها بجزع وأنا أقول:
    - اجلسي.
    فقالت ببساطة:
    - أنا ذاهبة.
    فسألتها بضيق:
    - إلى أين؟
    - إلى أم علي الداية.
    وأشارت على بيت يقيم أسفله كوّاء بلدي.
    - لماذا؟
    - لأقول لها أن تأتي بسرعة.
    - لماذا؟
    - أمي تصرخ في البيت. قالت لي اذهبي إلى أم علي الداية وقولي لها أن تأتي بسرعة. ..
    - وستعودين بعد ذلك؟
    فهزت رأسها بالإيجاب وذهبت. تذكرت بذكر أمها أمي. انقبض قلبي. غادرت السلم الأثري عائداً إلى البيت. بكيت بصوت مرتفع وهي طريقة مجربة أدافع بها عن نفسي. توقعت أن تجيئني ولكنها لم تأت. تنقلت بين المطبخ وحجرة النوم فلم أعثر لها على أثر. أين ذهبت الأم؟ ومتى ترجع؟ وضقت ذرعاً بالبيت الخالي. وخطر لي خاطر طيب. أخذت من المطبخ طبقاً ومن حصالتي قرشاً وذهبت من فوري إلى بياع الفول. وجدته نائماً على أريكة أمام الدكان مغطياً وجهه بذراعه. اختفت قدر الفول وأعيدت قوارير الزيت إلى الرف وغسلت الرخامة، اقتربت منه هامساً:
    - يا عم ..
    فلم أسمع إلا شخيره. لمست كتفه فرفع ذراعه في انزعاج وطالعني بعينين حمراوين:
    - يا عم ..
    انتبه إلى وجودي وعرفني فسألني بخشونة:
    - ماذا تريد ؟
    - بقرش فول بزيت حار ..
    - هه؟
    - معي القرش ومعي الطبق.
    صرخ في وجهي:
    - أنت مجنون يا ولد، اذهب وإلا كسرت دماغك.
    ولما لم أتحرك دفعني بيده دفعة قوية ألقتني متقهقراً على ظهري. نهضت متألماً وأنا أقاوم البكاء الذي يلوي شفتي. ويداي قابضتان إحداهما على الطبق والأخرى على القرش. رميته بنظرة غاضبة. فكرت في عودة خائبة يائسة، ولكن أحلام الفروسية عدلت من خطتي. صممت واتخذت قراراً سريعاً. وبكل قوة ساعدي رميته بالطبق. طار الطبق فأصاب رأسه. ركضت بسرعة لا ألوي على شيء. وملأني اليقين بأنني قتلته كما قتل الفارس الغول. ولم أتوقف عن الجري إلا على مقربة من الجدار الأثري. نظرت خلفي وأنا ألهث فلم أر أثراً لمطاردة. وقفت حتى تمالكت أنفاسي ثم ساءلت نفسي ما العمل وقد ضاع الطبق الثاني. وشيء حذرني من العودة المباشرة إلى البيت. وما لبثت أن استسلمت إلى موجة من الاستهانة تحملني إلى حيث تشاء. هي علقة لا أكثر ولا أقل وسأنالها لدى العودة، فلتؤجل العودة إلى حينها. وها هو القرش في يدي، يمكن أن أحظى بمتعة لا بأس بها قبل العقاب. قررت أن أتناسى جريمتي ولكن أين الحاوي، وأين صندوق الدنيا. فتشت عنهما هنا وهناك بلا ثمرة. أرهقني البحث العقيم فمضيت إلى السلم الأثري وراء الميعاد. جلست أنتظر وأتخيل اللقاء. تاقت نفسي إلى قبلة أخرى معبقة بشذا الحلوى. واعترفت فيما بيني وبين نفسي بأن الصبية وهبتني مشاعر لم أجرب أطيب منها من قبل. وفيما أنتظر وأحلم، ترامى إلي همس من الجهة الخلفية. رقيت في الدرج بحذر وعند البسطة الأخيرة انبطحت على وجهي لأرى ما وراءها دون أن يلمحني أحد. رأيت خرابة مطوقة بسور عال، وهي آخر ما بقي من بيت المال ومقر قاضي القضاة. وتحت السلم مباشرة جلس رجل وامرأة. هما مصدر الهمس، أما هو فأشبه بالمتشردين، وأما هي فغجرية من يرعين الأغنام. صوت باطني مريب قال لي بأنهما يجتمعان في "ميعاد" كالذي جاء بي. بذلك تنطق الشفاه والنظرات والأعين ولكنهما على خبرة مدهشة ويفعلان أموراً لا يحيط بها الخيال. شد بصري إليهما مشدوهاً في استطلاع ودهشة ولذة لم يخل من إنزعاج.
    وجلسا أخيراً جنباً إلى جنب، لم يعد يهتم أحدهما بالآخر. وبعد فترة ليست بالقصيرة قال الرجل:
    - النقود؟
    فقالت بضيق:
    - أنت لا تشبع.
    بصق على الأرض ثم قال:
    - أنت مجنونة ..
    - أنت لص ..
    بظهر يده لطمها لطمة قوية. قبضت حفنة تراب وقذفتها في وجهه. انقض عليها بوجه مغبر فأنشب أصابعه في زمارة رقبتها. بدأ صراع جهنمي مرير. ركزت قواها عبثاً لتخليص رقبتها من يده، احتبس صوتها، جحظت عيناها، ضربت بقدميها الهواء. حملقتُ فزعاً أخرس حتى رأيت خيطاً من الدم يتسلسل من أنفها. فرت من فمي صرخة. زحفت إلى الوراء قبل أن يرفع الرجل رأسه. هبطت السلم وثباً وعدوتُ كالمجنون إلى حيث تحملني قدماي. لم أتوقف عن العدو حتى انقطعت مني الأنفاس. جعلت ألهث دون أن أرى شيئاً مما حولي. ولما انتبهت إلى نفسي وجدتني تحت قبو مرتفع يتوسط مفترق طرق. لم تطأه قدماي من قبل ولا فكرة لي عن موقعه بالنسبة لحينا. وكان يقتعد جانبيه شحاذون لا يبصرون. ويعبره في شتى نواحيه الناس فلا يلتفتون إلى أحد. أدركت بخوف أنني ضللت الطريق، وأن متاعب لا حصر لها تتربص بي حتى أهتدي إلى سبيلي. هل ألجأ إلى أحد المارة لأسترشد به؟ ولكن ما العمل لو ساقني الحظ إلى رجل كبياع الفول أو متشرد الخرابة؟؛ هل تقع معجزة فأرى أمي مقبلة فأهرع إليها بكل قلبي؟ . هل أجرب السير وحدي فأتخبط حتى أعثر على أثر أستدل به على طريقي؟.
    وقلت أن علي أن أحزم أمري، بسرعة ودون تردد، فقد أخذ النهار يولي، وعما قليل سيهبط الظلام من مجاهله.


    0


  2. ...

  3. #2
    *********************************
    عنوان القصة : هاربةٌ من منبع الشمس
    تأليف : غادة السّمان
    *********************************


    "هاربة من منبع الشمس"




    مازلت في أعماقي..
    تمسح الطين عن جسدي بأهدابك !
    مازلت في أعماقي...
    النجوم تفور من منابت شعرك فوق الجبين الأسمر وتنهمر فوق صدرك وهديرها أبداً يناديني .. يهتف باسمي ذائباً ملهوفً ..
    وأسرع في مشيتي، أشد كتبي إلى معطفي، وتظل أنت تتمطى في أعماقي، والشتاء يتأوه في قطرات المطر التي تلعق وجهي .. وتظل أنت تهتف باسمي، والريح تعول وتدور حول الأذرع الرمادية لأشجار متعبة تسندها ظلالها إلى جانبي الطريق .. والرعد يتدفق في أذني كصرخات دامية التمزق لامرأة ضائعة في صحاري شاسعة.
    مازلت في أعماقي تتمطى!
    وأنا أنزلق فوق ظلمة الشارع، ويخيل إليّ أن برك الماء المتجمدة قد ابتلعت أنوار الجامعة التي خرجت منها قبل قليل ..
    وألتفت ورائي وكأنني أريد أن أتحقق من أنها فعلا هناك .. المكتبة، والمقاعد الخشبية في الحديقة، والنادي المزدحم حيث التقيت زرقة عينيك الضالتين أول مرة، يوم جئت تبحث عن أختك، زميلتي في الصف، وتطوعت أنا لأشاركك التفتيش عنها .. وأحسسنا بسعادة مبهمة ونحن ندور معاً من مدرج إلى مدرج ومن باحة على باحة فلا نجدها .. ونتبادل الحديث بعفوية لذيذة كأي صديقين قديمين ..
    كم كانت أختك رائعة وكريمة ذلك اليوم! .. لقد اختفت .. لم نجدها بالرغم من الساعة التي قضيناها منقّبين، والتي انتقل البحث في دقائقها الأخيرة من القاعات إلى وجهينا ..
    وشدتني إلى عينيك كآبة حنون، مغرية الدفء كلهيب موقد يلوح لضائع بين الثلوج من وراء زجاج نافذة .. تنهدت بارتياح لما لم نجدها، وعرضت عليّ تناول كأس من الليمون في النادي ريثما نستريح ونعاود البحث من جديد .. وجلست أمامك .. أشرب من ملامح وجهك وأخزنها في أعماقي بحرص بينما أنت تحدثني ببساطة وانطلاق عن رتابة ساعاتك .. عن جلستك البلهاء كل أمسية وراء زجاج المقهى وتشابه أيامك .. كيف أن السبت يمكن أن يكون ثلاثاء أو أربعاء بالنسبة إليك .. الأشياء التي فقدت طعمها ولونها والأيام التي أضاعت مدلولها ..
    وظللت أعب من كأسي وفرحة جديدة تعربد فوق المنضدة وتنثر شعرها إشعاعات سعادة في كل ما حولنا .. حتى في نظرات زملائي المرتابة التي بدأت تنتقل من وجهي إلى وجهك بحدة وفضول ..
    قلت لك ضاحكة لأخفي بعض ارتباكي: " إنهم يحدقون إلينا وكأننا .. حبيبان!! " والتقت نظراتنا بصورة غير عادية لما نطقت بكلمتي الأخيرة "حبيبان" .. لا أدري لماذا ارتعش صوتي مع انتفاضة أهدابك، بينما رددّت أنت عبارتي شبه حالم وكأن حجب الغيب قد انتهكت أمام عينيك : " كأننا حبيبان " . !
    وظللت أتأملك مفتونة نشوى، وكأنني اكتشفت في أعماق عينيك مغارة مسحورة ياقوتية الجدران، تومض كنوزها المكدسة قوس قزح وديع الهدوء، يترسب في حواسي، ويغمرها بخدر لذيذ .. لا يعكره سوى همسات الزملاء الذين ركزوا اهتمامهم على التيارات اللامرئية الهادرة بين مقلتي وشفتيك .. لذا لم أتردد في للخروج معك حينما اقترحت عليّ بصوت مبهم النبرات أن نستمر في " البحث عن أختك " خارج الجامعة !
    وارتمين شبه حالمة في زرقة سيارتك لنضيع معا في شوارع المدينة التي لم تبد كئيبة كعادتها .. وأدركت أنك بدأت تتسلل إلى أعماقي ..
    ولما جئت مع مساء اليوم التالي، عرفت أنك لم تأت باحثاً عن أختك .. وأسندت وحشتي إلى سأمك وانطلقنا بهما إلى الغوطة حيث وأدناهما قرب خيمة ناطور أغرتنا نيرانه بالاقتراب منه وإلقاء التحية عليه .. وجلست ترقب رقصة الوميض على جانب وجهي، بينما أنا أعبّ القهوة العربية، والقمر يستند على جانب الخيمة حينا، وتختطفه أرجوحة الرياح الغمامية حينا آخر ...
    مازلت في أعماقي !! .. تضحك زرقة عينيك لكآبتي . المنحنى قد غيّب الجامعة عن أنظاري .. والوحشة ترتّل أنات الفراق في دبي .. وأنا اسير إلى غرفتي الباردة وأهذي ..
    أمواج المساء لم تعد تنحسر عن ضياء عينيك.
    بحاري الكئيبة لم تترقب رنين مرساتك الذهبية في أبعادها السحيقة .. أسير .. وأتعثر وحيدة كطفل جائع في معبد مهجور، مازالت رائحة دم حار تسيح من جدرانه المرعبة .. وأنت .. مازلت في أعماقي ! تمسح الطين عن جسدي بأهدابك .. وصوتك الذائب، صوتك الملون مازال يعربد في عروقي مبتلا بالمطر .. مطر دافئ كان يغسل نوافذ سيارتك " الهائمة في غوطة دمشق " وتتمسك قطراته بالزجاج، وتحدق بفضول على الداخل .. إلى حيث الدفء .. إلى حيث أنا وأنت ذرّتا رمل جمعتهما العاصفة في شاطئ صخري .. وتظل حبات المطر تنزلق ببطء منصتة لهمساتنا ..

    - اقتربي مني يا رندة .. اسكبي الألوان في الأشياء التي أضحت باهتة كالأشباح .. اضرمي النيران في وحشتي ففي نفسي جوع إلى النور .. ضمّي وحدتك وتشردك إلى لهفتي وفراغي ..
    وأقترب منك .. ألتصق بذراعك الأيمن وأرمي بأثقال رأسي إلى كتفك :
    - مذ حضرت من بلدتي الصغيرة وانتسبت إلى الجامعة ومدينتكم وحش يخيفني ..
    - ماذا يخيفك فيها يا حلوتي ؟
    - لكل شيء طابع لا إنساني هنا .. أسمع ضجيجا وعويلاً أرى مصدره .. تنبع من الزوايا المظلمة صرخات بلا شفاه .. تتفجر من شقوق أحجار الشارع دماء بلا جراح .. الزيف يلون كل شيء بكآبة باهتة صفراء ..



    0

  4. #3
    تتمة ...

    وفجأة توقف سيارتك وتلتفت إليّ وكأنما روّعتك حرقتي وأثارت حنانك .. وتتجمع قطرت المطر بفضول حول النوافذ كلها وتظل تنصت بينما أنا أهذي شبه باكية :
    - كنت أخرج من الجامعة مساء، أدور في الشوارع وأبحث عبثاً عن ظلي . واكتشفت أن كل شيء في مدينتكم مزيف، حتى النور الأبيض الفاجر محروم من الظلال من الظلال التي تكسبه مسحة حزن إنساني مستكين ..
    - يا غجريّتي الصغيرة الضائعة ..
    - كنت أصرخ بوحشية كلما كفّنني صمت غرفتي لعلّي آنس بصدى .. ولكن الجدران بخيلة حتى بالصدى !! .. وأضربها بقبضتي .. أحاول أن أغرس أظافري في أحجارها الصلدة .. وأنشج .. وعبثاً أنتظر أي وتد حقيقي في عدمي المريع .. لا ظل .. لا صدى .. لا شيء .. لا شيء حتى وجدتك ..
    وتزداد اقتراباً مني .. ويخيل إلّي أنك تريد أن تلتقط بشفتيك كلماتي المتعثرة فوق عنقي وذقني قبل أن تتناثر في فضاء السيارة الدافئ ..
    - كنت أتشرد كل ليلة في دربي المقفر .. أحس بملايين الأيدي الخفية تضغط على عنقي .. تسمرني في الشوارع عارية تحت أسياخ المطر الباردة .. تحملني من شعري بقسوة وتدلي بي في البرك الموحلة .. وتظل تنقلني بين الآبار المتجمدة و أتخبط في الهواء، لا أقبض إلا على حزم الريح، لا أقبض على شيء !
    لا شيء حتى وجدتك .. ولن أفقدك لأي سبب في العالم ..
    وأشدد قبضتي على ذراعك بينما تتحسس يداك ظهري وتبعثان رعدة دافئة في جسدي المنهك .. وتهتف بي :
    - أنت ترعبينني بهذه الأفكار ! ..
    - بل إنها ترعبني أنا بالذات .. لم أجرؤ قط على الاعتراف بها لنفسي وأنا وحيدة .. أما الآن .. وأنا أمام صدرك ..
    وقاطعتني هامسا بحرارة :
    - بل أنت تغفين في صدري .. تتبعثرين في الدم الذي يتدفق في كل ذرة من كياني ..
    ويسعدني دفء أهدابك التي تمسح الطين عم جسدي وأنا أهذي :
    - كم تعثرت في برك الطين ولطختني الأوحال .. وأنا أحسن أن قطرات المطر مدببة الجوانب وخّازة الحواف .. تنغرس في خدي بينما بردها الكاوي يلهب عذابي ..
    - والآن يا رندة ؟ ..
    - تبزغ شمس في كل قطرة مطر ..
    وأشدك إلى صدري بكل قواي .. أفتّتك ذرّات، وأسحقك ذرّات، وتنسلّ كل ذرة من إحدى مسامي إلى أعماقي .. إلى حيث ينضم بعضها إلى البعض الآخر من جديد .. وأحس أنك حي تعربد في الحنايا والضلوع .. وتهتف بنشوة :
    - أيتها الغجرية الهاربة من منابع الشمس .. ألا ترين أن الصقيع أدماني ؟؟ ..
    وأحدق إلى الشعيرات البيض التي تسلّلت إلى شعرك، ويخيّل إليّ أن ثلجاً لئيماً يتمسك بها .. وأحاول إذابته بشفتي الملتهبتين وأنا ألثمها شعرة إثر شعرة ...
    وتبعدني عنك ضاحكا، وتمسك بوجهي بكلتا يديك، فتتألق حلقة ذهبية في بنصر يدك اليسرى طالما رأتها من قبل ..
    وأسألك بكثير من اللامبالاة :
    - منذ متى تزوجت ؟
    - منذ سبع سنوات ..
    ما يهمني سواء كنت متزوجا أم لا ؟ .. أنا وحيدة .. وحيدة .. يدي المتخبطة في فراغ الذعر لن تسأل اليد التي تعلق بها : كم عمرها ؟ لمن كانت من قبل .. حسبي أنها يد إنسان .. حسبي أنها يدك يا أغلى غال ..
    ويخيّل إليّ أن ذرّات الظلام تتفجر حول شفتي، وأن قطرات المطر تقفز مذعورة عن النافذة وأنا أسألك :
    - هل لك أولاد ؟؟
    - صبي وبنت !!

    حاولت أن أرسم في ظلمة السيارة صورة لصبي وبنت يتعلقان بثيابك كلما دخلت دارك .. وزوجة تكشف لك طبق الطعام على المائدة، ويتصاعد البخار فيغطي وجهها بينما تحوط يداك خصرها كأي زوج .. لم أستطع .. حاولت أن أخجل من نفسي أن أتذكر ما تعلمته في بلدتي المنعزلة .. لم أستطع .. خيّل إليّ أن جميع أطفال العالم قد ذهبوا في حلقات متماسكة الأيدي إلى كوكب سحيق البعد .. وأن الطعام بارد على منضدتك .. وأن زوجتك لا تغري بالتقبيل .. وأن يديك لم تخلقا إلا لتضماني هكذا .. هكذا ..
    وتظل قطرات المطر تتمسح بزجاجنا منصتة .. وأبخرة الدفء تتكاثف في الداخل حتى لا تعود القطرات الفضولية ترى شيئا .. وحتى لا تعود تسمع شيئا بعد أن تخفت همساتنا، وتستحيل إلى قبل مكتومة .. فتهوي إلى التراب وتمتزج به في عناق وديع الاستسلام ..
    وتنفض عن عشنا الأزرق ذرّات المطر ونحن ننطلق من جديد إلى أعماق الغوطة، إلى حيث تلوح خيمة الناطور ذي الوجه الباش والكلب الأبيض الودود .. وتوقف هدير المحرك وأنت تسألني ككل ليلة :
    - ما رأيك بفنجان دافئ من القهوة ؟
    ويتلوى شبابي طربا ً .. وأجيبك بفتح باب السيارة والقفز منها غير عابئة بالمطر .. وتركض يدي في يدك إلى الخيمة ونجلس أمام نيران الناطور طفلين في الغاب هربا من مذبح مرعب نذرا فيه قربانين لإله أحمر العينين .. وتتعانق نظراتنا بين أحضان اللهب الذي يزداد تأججاً .. والناطور يرقبنا ببهجة فطرية طالما افتقدتها في أعين العابرين من أهل المدينة . حتى إذا ما سرى في عروقنا دفء قهوته العربية، عدنا إلى عشنا الأزرق حيث تلتقط بشفتيك حبات المطر العالقة بأهدابي .. ويغيبنا المنحنى الرمادي .. لماذا أستعيد هذا كله الليلة مادمت قد مضيت ؟ ..
    أنا أعرف أننا لن نعود نلمّ الحنين .. لن نشرب القهوة العربية عند خيمة القمر .. لن تلتقط بشفتيك حبات المطر عن أهدابي ..
    مضيت .. دون أن نتشاجر مرة واحدة .. دون أن نختلف في رأي .. كان كل شيء على حاله يوم افتراقنا ..
    الطريق ينزلق بهدوء تحت عجلات عشنا الأزرق .. والاطمئنان يسبل جفنيه النديين على قلبينا، وأنا أدفن قُبلي بين عنقك وياقة معطفك، وأغمغم ببساطة : لم تعد المدينة ترعبني منذ تمددت في زرقة عينيك .. ستكون لي أبداً، أنت والمطر، والقهوة عند خيمة القمر ..
    - نكاد نصل يا رندة، ارتدي معطفك . لا أريد أن يصيبك البرد .
    وأنهض على ركبتي، ووجهي متجه نحو المقعد الخلفي كي ألتقط معطفي الذي رميته هناك كعادتي كل ليلة .. وفجأة .. أراها هناك ! ..
    فردة حذاء طفل تبسم في وجهي بسخرية ممزقة ! .. فردة حذاء طفل منسية سقطت من قدم ابنك بينما زوجتك تحمله وهي تهبط به من سيارتكما .. أجمد ! .. يغمرني خجل مذعور مفاجئ ..
    وكعادتك تظل قابضاً على المقود بيدك اليسرى بينما تحوط خصري باليمني وتجذبني إلى صدرك ضاحكاً مداعباً .. لا أغمر وجهك بقبلي اللاهثة .. أظل زائغة التعبير مجمدة النظرات إلى الوراء، حيث ترمي ببصرك متسائلاً .. وتراها كما أرها .. لا شيء .. مجرد فدرة حذاء طفل تبسم بسخرية ممزقة !! ..
    وأدرك أنك تفهمني تماماً .. لا حاجة بي إلى الكلام مادمت تسمع هذيان صمتي المحموم ..
    توقف سيارتك ويخيل إليّ أن صوتك انبعث متعبا هدته الليالي وأنت تقول :
    - لقد وصلنا .. هل أنتظرك غدا كالعادة ؟
    وأجيبك ونظراتي مشدودة إلى فردة حذاء طفلك الساخرة :
    - لا .. لم يعد ذلك ممكنا .. أليس كذلك ؟ ..

    كان ذلك آخر نقاش دار بيني وبينك .. لكني أحسست ساعتئذ أن الرياح قد حطمت نوافذ عشنا إلى الأبد .. ونظرت على صدرك، إلى حيث تسحقني كل ليلة مودعا، وخيل إليّ أن جميع أطفال العالم عادوا منشدين من كهوفهم السحيقة، وتبعثروا على صدرك، بأطرافهم الشفافة وأجسادهم الهشة ورؤوسهم الدقيقة .. يكفي أن أحاول لمسهم حتى يتناثروا أشلاء بريئة بين أصابعي الدموية ومخالبي المرعبة .. وأردت أن تضمني مودعاً لكنني هربت .. هل كنت تريد أن نسحق صرخاتهم بين جسدينا ؟؟؟ .. أن نلطخ أكتافنا وأذرعنا بطفولتهم الشفافة الدقيقة ؟ أما يكفينا عذابنا ؟؟ ..
    ومددت يدي أصافحك، وكان الصمت يهذي، وكانت أعيننا تنضح دموعها إلى الداخل .. إلى الأعماق .. وكانت ثورة شعري المبعثر تبكيك .. وكان عذابي ينشج بسكون ..
    واختطفت معطفي وأنا أتحاشى النظر إلى فردة حذاء الطفل المنسية التي ظلت تبسم بوداعة دافئة حينما هبطت من العش الكسيح .. إلى الأبد ..
    ولما ضمني برد غرفتي، رأيتك بين أشباح السقف تدخل دارك الدافئة .. أطفالك يتمسحون بثيابك وأنت تنحني إلى الأرض لتدخل في قدم ابنك فردة حذائه الضائعة بحنان دقيق .. وتُقبل زوجتك سمينة متدحرجة .. فتقبّل خديها اللذين تفوح منهما رائحة طعام شهي ..
    ورأيتكم جميعا بوضوح .. وأدركت أنني لم أعد أستطيع انتزاعك من إطارك الحقيقي لأطير بك إلى مغاوري الفضية في جبال القمر .. لم أعد أستطيع .. ولكنك مازلت في أعماقي !
    تتمطى وتحدثني وأنا أخرج من الجامعة كل ليلة .. يبتلعني بحر الظلام الكئيب وتحملني أمواجه إلى غرفتي الباردة . أدرس أحياناً، وأكتب الرسائل المطولة إلى أمي وأبي .. وأنت تنزلق بين الكلمات .. تستلقي على الحروف وتقفز فوق النقاط وتهمس بين السطور .. وأنت تتسلق الصفحات وتظل زرقة عينيك تبسم ..
    مازلت في أعماقي .. تمسح الطين عن جسدي بأهدابك !
    وأنا أسير وقد اختفت الجامعة تماماً .. البرق يلتمع ويضيء البقعة التي كنت تربض عندها بسيارتك منتظراً أن أصل إلى البوار ..

    أسير بحذر وأشد كتبي إلى صدري والمطر يتسلل على جسدي .. وأنت مازلت في أعماقي تهمس " اقتربي يا رندة، في نفسي جوع إلى فجور النور " .. الدموع تتفجر في عيني وتضيع مع المطر المتدفق .. موضع عجلاتك الراحلة يهذي .. ينهش من قدمي وأنا أمر وأمزق الذكريات مع ضربات حذائي .. وتصرخ يدي .. تريد أن تمتد لتفتح الباب كما كانت تفعل .. وتصرخ قدماي .. تريدان الصعود على دفئك الملون .. ويصرخ جسدي حيث طحنتك ذرّات تسللت من مسامي إلى أعماقي وتتلوى نظراتي .. تحن إلى التمسح بالشلال الأزرق الهادر من العينين .. ويظل صوتك يهمس من أغوار سحيقة مرعبة : " غجريتي الهاربة من منبع النور، ألا ترين أن الصقيع أدماني ؟ " وأحسن أني ظمأى .. ظمأى لشفتيك تجمعان المطر عن أهدابي .. ظمأى لخيمة القمر وقدح القهوة الدافئ وضحكاتنا الغجرية في كبد الليالي .. أنا ظمأى إليك وأنت تتمطى في أعماقي ببساطة مرهقة !
    غربان القدر تنهش عيني الناطور قرب خيمته الممزقة .. رياح الشتاء تذرو رماد نيرانه .. والأمطار تغسل الحمرة عن جمراته حيث تترسب ليالي العذاب سوداء فاحمة .. الرمال أفاع تزحف لتغطي كل شيء .. الكلب يعوي في الخواء منتحبا . وأنا هنا .. وقد عادت الأيادي الخفية تضغط على عنقي .. تسمّرني في الشارع عارية تحت أسياخ المطر .. تحملني من شعري بقسوة وتدلي بي في البرك الموحلة والآبار المتجمدة .. وأشد وشاحي إلى رأسي .. أشده .. وأظل أشعر أن الأيدي تجذبني من شعري .. وأمضي إلى غرفتي .. لا أحلم بأكثر من جدران لا تبخل على وحشتى بصدى ..
    0

  5. #4
    ********************************
    مجموعة قصص قصيرة جداً

    تأليف : بسمة فتحي
    ********************************


    عَرضُ الوَشَقْ


    ذلك الطفل الساكِن في جلسته والمتأمِّل باقي حبات العكلة التي يبيعها عند إشارة المرور، تحوَّل بقدرة قادرٍ إلى وَشَقٍ وثَّاب حين ارتدت الإشارة اللون الأحمر..!

    كان يقفز بين سيارة وأخرى بملابسه المُهَلْهَلة، فتتحدث يداه بصخب، حاجِباه يتراقصان كموجتين رشيقتين، لا تتوقف شفتاه عن الارتفاع والانخفاض والتَّدوُّر والتَّكوُّر، وحين وصل إليَّ قدَّم لي عرضه لاهثاً وعلى طبقٍ من "علكة":
    - "(أُجبري عني هالكم حبة)... والله أنا من سكّان "الوحدات" وأجرة البيت ستون ديناراً... والدي متوفٍ وأنا من يصرف على البيت... إن جَبَرتِ عني العلكة سأدعو لك بالخير الكثير والعَوض الوفير... وإن أعطيتني ديناراً ستدعو لك أمي، بالمناسبة هي أقرب لله مني فهي أُم وتُربِّي أيتاماً... وإن أعطيتني خمسة دنانير سندعو لك أنا وهي!".

    *الوَشَقْ: حيوان من فصيلة القطّ ورتبةِ اللّواحِم، من الثدييات، وهو بين القطّ والنمر
    أُجبري: بضم الألف من الفعل جَبَر، والتي تعني جَبْر العظم المكسور، وأتت في الأقصوصة بمعنى جبر الخاطر
    الوحدات: مخيم للاجئين الفلسطينيين في عمَّان



    ****************************



    تكنولوجيا متأخرة


    في الوقت الذي تستفيق أمها بوهن بين إغماءة وأخرى وهي تنظر إلى صورتها التي عُلِّقت على الحائط مؤخراً، وبينما والدها بذقنه الطليقة منذ يومين يحاول الانتصاب بتوازن على قدميه ليستقبل أو يودع الرجال في الصيوان، كان تراب الأرض يغازل جسدها الطري البض ويوشوشه عن رائحته الشَّهية، بينما هو على الضفة الأخرى من البلاد يشتم بنزق "موبايلها المغلق"، ويرسل لها عبر المسنجر وردة حمراء متبوعة بـ: "أين أنتِ؟ لماذا "موبايلك" مغلق، وهل مشكلة خط الانترنت مازالت قائمة عندكِ؟!"


    *********************************


    عفريت


    - لتذهب قطط العالم إلى الجحيم.. لتذهب جميعها بما فيهن قطتي ...
    لا ...، الجحيم لا يكفي...
    لتذهب إلى قلب الجحيم ذاته دون رأفة... اللعنة!

    كانتْ لا تزال تهذي وتشتم ويتطاير الزبد الساكن بين طرفي شفتيها، بينما كركرة ضحكتي تمتزج بالشفقة على وجهها الأصفر كالكُركُم وبدنها المرتعش بصاعقة قَطَطِيَّة ...

    - اللعنة ما أن اقتربتُ من حاوية القمامة حتى قفزتْ في وجهي كعفريت منكوش الشعر ملبوس بجان يصرخ ... !!



    *******************************




    سَهو ... !!


    صمتَ متعجباً من ردة فعلي، كانت عيناه حمراوين تمدد البؤبؤان فيهما وكأنهما يشاركان في البكاء أيضاً، رموشهما مبللة تماما،ً يده اليُمنى الحاملة ورقية صحية بيضاء مجعلكة كانت ترتجف.. قدماه ككفتيِ ميزان غير متساويتين في الثقل، ترتفع قدم عن الأرض لتهبط الأخرى..

    - أضحكُ ملء روحي: لا بأس .. لا بأس.. لا تَخَف!
    - كيف؟ أقول لك بأنني سهوتُ وقلتُ لها: ("يا شمس يا شمس، خذي سن الغزال واعطني سن الحمار" ... لن تفهم الشمس ... أعرف ... سَيَبرزُ لي سن حمار ... !!"



    *******************************



    سجادة

    أنظف دون استياء رقعة السجادة من النتف البيضاء المنثورة بعشوائية تدل على عصبية واضطراب من ألقت بها، ربما لأن صورتها عادت إلي إذ طفح وجهها حمرة، رفعت نظرها لسقف الغرفة، غرقت حنجرتها بالدموع، تجمَّرت عيناها، تشنجت حركة يديها بينما مزقت المحرمة التي كانت بينهما دون وعي منها إلى نتف صغيرة وألقت بها إلى الأرض، وخرج أخيراً صوتها متقطعاً متهدجاً من بين شفتيها: "أحبه، والله أحبه، كفاكِ ملامة لي.. كيف أقدِّر لك حبي له؟! ..نعم، تماماً.. بالضبط أحبه بقدر ما حرمني منه القدر..!"
    0

  6. #5
    ***********************************
    عنوان القصة : مابين الحلم والواقع

    تأليف :
    خولة القزويني
    ***********************************


    ما بين الحلم والواقع ..


    كان يقف متردداً ، حائراً بينهما ، يبحث في خيالاته الصاخبة عن ذلك القرار المريح الذي يسكن إليه ويفضي بمكنونه دون قلق ، هاجس يتفتق كالبرعم الأخضر في متاهات فكرة . زوجته الطيبة تخط ملامح التهذيب في وجه حياته وترسم بعروقها النابضة دوياً معبداً بالصبر والروية ، ثم الأخرى المتكومة في زوايا ظله تتفجر نزقاً وحماسة ، تجنح به إلى علياء الأماني ، وتبدد ببريقها الأخاذ ضباب الغموض الذي يحدق في سنواته الخمسين ...
    نورٌ يتسلل إليه بهوادة ، ونار تستعر في عروقه بصخب كلتاهما حياته بنقائضهما الرائعة ، وباختلاجاتهما المتضاربة ... أشياء تتجمع في كيانه لتمنحه إحساساً جميلاً يدغدغ روحه .
    حدّثته " سلمى " وهي تختال في بهجتها ، ترتسم على وجهها نداوة الصبا وإصرار الشباب .
    _ " إن انتظاري لك طال سنوات ، وأيام عمري أوشكت أن تذبل فاحسم أمرك لنتزوج ! " .
    يتململ كعادته ، ويعض على شفتيه وهو يستجمع صورتها الساطعة في ذهنه
    " خسارة أن تضيع محبوبة عمره " قال ليهدئ من ثورتها :
    _ تريثي ، فزوجتي لا تتقبل الأمر بسهولة ، دعيني أقنعها .. أحتاج لبعض الوقت !
    تعرض عنه غاضبة ...
    _ سنوات وأنا انتظر ، حتى ذوّبني أسرك في لجة القسوة و الحرمان .
    يغرق في الصمت ...
    ويعود إلى شروده هائماً في دنيا أحلامه ، تسترد زوجته وفاء وعيه لهنيهات
    _ مابك يا خليل أراكَ تسرح كثيراً هذه الأيام !!
    يتنهد وهو يفيق من شروده
    _ إنها مشاغل العمل
    فيخجل من نفسه المرتابة تتعلل بمغالطات ، وهي في الحقيقة صادية تبحث في متاهات الجفاف والرتابة عن غيث حب ، ورشفات مطر ترطب هذه الشقوق التي تنخر أرضه الجرداء .
    تقترب وفاء منه ، تصب له الشاي وابتسامتها المشرقة تضيء له ليل الغربة ، وتزفر أنفاساً حانية دفقاً لا ينضب ، يالها من معتوهة تسد أمامه كل الثغرات التي يترقبها عن كثب ، ليتسلل إلى المرمى ويقذف بالحقيقة فيستريح من هذا العناء ، يزدرد ريقه ، وعيناه ساهمتان ، شاردتان في وله الحلم واللهفة الغائبة ، رغم أنهما وعن دون قصد مصوبتان ناحية زوجته ، ففي قلبه المضطرب تختبئ العصفورة الحبيسة ، وتصرخ بوهن مذبوح وشوق متكتم ، تسامره زوجته ، تلك العالقة كالوشم الأبدي ، تصطبغ بلونه ومزاجه ومذاقه الخمسيني ....
    هتف والذهن شارد .... سلمى !!
    حدجته وفاء بنظرة حادة موسومة بالغضب ، روّعته ...
    تلعثم ، يحاول أن يداري غلطته
    أقصد وفاء ؟ .
    أدركت بحدسها الأنثوي أن ثمة خطراً يحدق في حياتها ، ابتلعت الغصة بدهاء ليفتر ثغرها بابتسامة مفتعلة .
    يبدو أن مشاكل الموظفات تلاحقك حتى وأنت في بيتك ! .
    استراح بعض الشيء ، فقد حملت عنه مشقة الاعتذار ، لكنه استطرد يبدد الشك
    _ " أحيانا أنادي بعضهن باسمك ، ... تصوري ذلك !!
    بيد أن الأمر لن ينطوي على وفاء بسذاجة ، وإنما بيّتت النية على خطة محكمة لتخترق ذلك المجهول الكامن وراء سلمى ، لتسبر أغواره ، ممسكة بهذا الخيط الواهن ليدلها على ذلك البئر الذي يغترف منه أحلامه ، فغضباته المتهورة وتوتره المنهوك ، أرقه رغم إعياءه اليومي هو دخان نار تحترق في أعماقه ، بقايا هم دفين يختمر في وجدانه .
    فراقبته بصمت ، وأرهفت كل حواسها لتلتقط همس تلفوناته ، التاعت حتى كبّلت صرخاتها الخرساء بأغلال الحكمة والرّوية الجوفاء ، وعندما استجمعت كل خيوط إدانته وعرفت عن غريمتها كل شيء ، اقتحمت عالمها المجهول ، وقذفت بنفسها كالمنتحرة ، لا تأبه بكل العواقب الخرقاء ...
    عنّفتها
    _ " أنتِ لصة محترفة سرقت زوجاً من زوجته ودمّرت أسرة آمنة ، لو كنتِ حية الضمير ما فعلت كل هذا !
    صعقت سلمى وهي تتأرجح مكانها ، الصدمة هوت فوق رأسها كالمطرق الحادة ..
    واستطردت وفاء تتوعدها
    _ سأفضحك أمام الناس عندي أشرطة تسجيل بصوتكِ وأنت تبثين لواعجكِ لزوجي ..
    قاطعتها سلمى وهي تتراجع إلى الوراء .... مبهورة الأنفاس
    _ " أرجوكِ كفى " ....
    لقد تبخرت كل هذه الأحلام وتبددت كسحب ندية في ليلة صيف ...
    ثم تحزم وفاء حقائبها دون أن تنبس بحرف ...
    يشدها خليل من ذراعها وهو يستوقفها
    _ " إلى أين ؟ "
    _ " إلى جهنم : اذهب إلى حبيبة القلب ، فأنا بانتظار ورقة الطلاق ! "
    تلعثم خليل ، المفاجأة عقدت لسانه
    _ "ما هذه الأوهام التي تدور في رأسك ؟! "
    شدّت على اسم غريمتها صارخة
    _ " سلمى معبودة عمرك أيها الخائن ! "
    أطرق خجلاً ووجهه يتضرج حمرة .. والكلمات ترتعش بين شفتيه
    _ " أرجوك اهدئي ، دعيني أصارحك بالحقيقة !
    غضبت ....... نهرته بشدة
    _ " الحقيقة أنك خائن .... خدعتني لسنوات "
    اندفعت صوب الباب مغتاظة فصفقته بشدة وراءها .
    بينما عاود خليل الاتصال بسلمى ... لكنها أغلقت سماعة الهاتف بوجهه وحاول مراراً حتى أفضت إليه لآخر مرة ودموعها تنساب لوعة وحرقة
    _ " انتهى كل شيء بيننا وأنا الآن مخطوبة لرجل آخر "
    أرق يفكر بمرارة ، تتسلل الأحلام من جنباته الملتاعة كالسراب ، يجد نفه تائها مابين اليقظة والشرود ، يحدث نفسه في لوم ، تلسعه سياط الحقيقة بحرقة
    أيها الأحمق ، حاولت أن تمسك العصا من الوسط ففشلت ، وطمعك الساذج أوهمك أنك تستطيع أن تأكل على شبع ، حتى هوت العصا فوق رأسك وخسرت الاثنين فشربت المرارة ، وذقت طعم الحرمان .
    اخر تعديل كان بواسطة » Spirit Voice في يوم » 30-03-2006 عند الساعة » 17:14
    0

  7. #6
    *****************************************
    عنوان القصة : الورقة المطوية

    تأليف : محمود البدوي

    *****************************************




    " الورقة المطوية "



    وقفت في الصف مع الرجال .. أمام شباك التذاكر .. وكان الزحام شديدا في نهاية الصيف والطابور يتلوى لطوله ويبرز خارج المحطة ..
    وكان آخر قطار " ديزل " يتجه إلى القاهرة .. ومع أن معظم الواقفين في الطابور لم يكن عندهم أدنى أمل في الحصول على مقعد ولكنهم وقفوا .. وصبروا ليجربوا حظهم .
    وكان عامل التذاكر في محطة " سيدي جابر " بليدا ولئيما وحلا له تعذيب الواقفين أمامه في الطابور .. إذ كان يعمل في بطء شديد، ويحادث موظفا في الداخل بين الحين والحين ويدير رأسه إلى الوراء دون سبب ظاهر ثم يعود في تكاسل إلى عمله ..
    وكان كل الذين يرون هذا المشهد المغيظ ، لا يبدو منهم التذمر أو الاعتراض .. فقد ألفوا مثل هذه الأشياء .. واعتادوا عليها .. وكانوا على يقين .. بعد التجربة المرة .. إن الشكوى والتذمر لا جدوى من ورائهما ..ولا يغيران الحال .. فلاذوا بالصمت .
    وصمتت السيدة مثلهم ولكنها كانت تشعر بالغيظ .. وصبرت حتى جاء دورها وأصبحت أمام الموظف على الشباك .. وفتحت حقيبتها لتخرج ثمن التذكرة .. وارتعشت يدها وتمتمت ثم أخضلت عيناها بالدمع ..
    وظهر عليها الاضطراب بوضوح .. وأخذت تتلفت زائغة البصر .. ثم خرجت من الصف وهى لا تستطيع حبس عبراتها .. وأدرك الرجل الذي كان وراءها في الصف حالها وما جرى لها .. وكان قد سمعها وهى تقول :
    ـ تذكرة لمصر ..
    ثم انشل لسانها ..
    فأخرج ورقة بخمسة جنيهات من جيبه وقطع تذكرتين بدلا من تذكرة واحدة .. وتناول الباقي من الموظف ثم خرج من الصف ..
    وظل يبحث عن السيدة حتى وجدها خارج المحطة .. فتقدم إليها وقال بلطف وهو يمد يده بالتذكرة ..
    ـ أدركت ما حدث .. فاسمحي لي بأن أقدم هذه التذكرة .. وعندما تعودين إلى بيتك .. ردي ثمنها في أي وقت ..
    فنظرت إلى الرجل مشدوهة .. لم تكن تقدر .. أو تنتظر مثل هذا من إنسان .. وتصورت أن الرجل يحتال عليها .. أو يفعل شيئا ليتقاضى ثمنه مضاعفا .. وظلت مترددة واجمة ولكن لما توضحته ونظرت إلى عينيه توسمت فيهما الطيبة المطلقة ..
    فتناولت منه التذكرة .. وهمست ..
    ـ متشكرة ..
    وبعد أن دخلت من باب المحطة .. تذكرت أنها لم تسأل الرجل عن عنوانه لترد له نقوده ..
    فمشت إليه في استحياء .
    ـ ولكن .. حضرتك .. لم تعطني عنوانك ..
    ـ في القطار .. إننا جنب بعض ..
    جنب بعض .. وعاودتها الهواجس أنه يستغل الموقف إذن .. واضطربت وعلا وجهها السهوم .. لقد كانت تتصور فيه الطيبة فإذا به كغيره من الرجال استغل موقفها ببراعة .. ترد له التذكرة ؟ ولكن أين تذهب في هذه المدينة الكبيرة وهى وحيدة مفلسة ؟ فبعد أن نشلت ليس في جيبها أي نقود على الإطلاق .. وليس لها قريب أو غريب في الإسكندرية تعتمد عليه ..
    وظلت حائرة مضطربة .. ثم شعرت بالقطار يدخل المحطة فأنقذها من حيرتها وركبت وهي تترك الأمر للمقادير ..
    ***
    وبحثت عن الرجل وراءها وقدامها وهي تدخل في جوف العربة فلم تجده .. وكان الزحام شديدا .. خلق كثير .. يتدافع بالمناكب .. في داخل العربة .. وتحركت ببطء وهي تقدر العثور عليه بعد أن تجلس على المقعد .. فهو بجوارها كما قال لها ..
    ولكنها وجدت رقم كرسيها بجوار سيدة فجلست متعجبة .. ولما تحرك القطار تطلعت فأبصرت بالرجل هناك في أقصى العربة .. يجلس بجوار الباب ..
    وظلت عيناها معلقتين به .. وهي تنتظر منه أن يتحرك من مكانه ويأتي إليها وعلى الأخص وهو يعرف رقم مقعدها .. ولكنه لم ينهض حتى بعد أن جاوز القطار محطة " دمنهور " ..
    وفي محطة " طنطا " حمل إليها لفة طعام ونظرت إليه .. وابتسمت .. وتناولت اللفة صامتة .. فقد خشيت إن رفضتها أن تثير فضول الركاب .. وخصوصا السيدة التي بجوارها فهي فضولية إلى أقصى مدى ..
    ولذلك تناولت منه الطعام وهى تشعر من حولها بأنها قريبة له أو حتى زوجته .. فهو في سن زوجها .. وأخذت تأكل .. ضامة شفتيها ما أمكن .. وعزمت على جارتها أكثر من مرة ..
    وبعد أن فرغت من الطعام وأحست بأنها تقترب من محطة القاهرة .. فكرت في الذي تفعله لتصل إلى بيتها في الدقي في هذا الليل ومعها حقيبة ثقيلة ..
    وخرجت من القطار .. تحمل حقيبتها بيدها .. وفى الصالة الخارجية لمحطة القاهرة كان الرجل بجانبها يعينها .. ودفع إلى يدها ورقة بخمسين قرشا ..
    وقال ..
    ـ هذا للتاكسي ..
    فقالت له بثبات هذه المرة ..
    ـ أبدا .. لابد من اسمك وعنوانك أولا ..
    فابتسم في لطف .. وأخرج من جيبه ورقة وقلما .. وانتحى جانبا ليكتب ثم طوى الورقة .. وقال لها ..
    ـ في هذه الورقة اسمي وعنواني ورقم تليفوني أيضا ..
    وأركبها تاكسي .. واختار لها سائقه ..
    ولما دخلت البيت .. كان زوجها لا يزال في الخارج .. وكانت الشغالة في انتظارها وسرت لقدومها ..
    ولما أخرجت " ثريا " ملابسها من حقيبتها واستراحت قليلا أخرجت من حقيبة يدها الورقة التي أعطاها لها الرجل " وكانت عدة طيات ففردتها ونظرت فيها .. فوجدتها بيضاء .. ليس فيها حرف واحد ".
    وابتسمت وصورة الرجل الغريب تتضخم أمامها وتعظم حتى ملأت جوانب البيت كله ..
    ولما جاء زوجها من الخارج وجدها في الفراش .. فاقترب منها في شوق ليحتضنها ولكنها دفعته عنها نافرة واعتذرت بأنها تعبة ..
    ولأول مرة في حياتها تشعر بكراهية شديدة له واحتقار من غير حدود .. كانت تقارن بين صفاته الخلقية وصفات الرجل الآخر ..
    فقد لمست لأول مرة في حياتها النبل والشجاعة في إنسان ..



    0

  8. #7
    0

  9. #8
    0

  10. #9
    *********************************
    عنوان القصة : الطبيب
    تأليف : محمود البدوي
    *********************************




    " الـطبـيـب "



    حدث منذ سنوات بعيدة ... أن سطا ثلاثة من عتاة اللصوص ـ في ليلة شتوية مظلمة ـ على قصر ثري من أثرياء الصعيد ... وتنبه لهم خفراء القصر رغم شدة الظلام ... أحس بهم الخفراء قبل أن يصلوا إلى الخزانة ... واشتبكوا معهم في معركة نارية ... ولكن اللصوص كانوا أشد مراسا وأقوى سلاحا ... فاضطر صاحب القصر لنفوذه أن يستنجد بعساكر المركز والمديرية وأسرعت قوة كبيرة وحاصرت اللصوص وقبضت عليهم ... ولكنهم كانوا في ساعة الاشتباك قد قتلوا اثنين من العساكر وجرحوا ثلاثة .
    وسيق اللصوص الثلاثة إلى المركز فتلقفهم العساكر بالضرب المبرح والركل انتقاما لما حدث لزملائهم في المعركة وإشفاء لغل صدورهم .
    ***
    وحول اللصوص والدماء تنزف منهم إلى السجن ... وخشي مدير السجن المغبة لشدة الإصابات وأكثرها ظاهرة للعيان ... فحولهم إلى المستشفى الحكومي .
    وكشف عليهم الطبيب المختص ودون كل ما وقع عليه نظره ولمسه كطبيب خبير من إصابات وجروح في اللحم والعظم ... كتب هذا في تقرير دقيق مفصل .
    وشاع كل ما كتب في التقرير في أرجاء المستشفى بعد ما رفعه الطبيب إلى رئيسه مدير المستشفى .
    وكان حكمدار البوليس في مكتب مدير المستشفى بسبب ما وقع ... فاطلع على التقرير وهاله ما دون فيه ونهض مسرعا إلى حجرة الطبيب وفي عينيه شرر الغضب ... وابتـدره بقوله في غلظـة :
    ـ ما هذا ... يا دكتور ...؟!
    ولوح بالتقرير ويده ترتعش غضبا .
    ورد الطبيب بهدوء مالكا أعصابه
    ـ تقرير من طبيب مختص عن إصابات حدثت للناس .
    ـ ولكن هؤلاء الناس لصوص ... وقتلة .
    ـ القتلة ستحاكمهم المحكمة يا سعادة الحكمدار على جريمتهم ولا أحد غير القضاء هو المختص بمحاكمتهم ... فلا أحاكمهم أنا ولا سعادتك .
    ـ ولكن التقرير فظيع ... وواضح الإدانة على العساكر .
    ـ دونت الحقيقة خالصة من كل غرض .
    ـ لم يحدث مثل هذا في تقرير يكتبه أطباء الحكومة .
    ـ لكنه حدث ...
    ـ تقول هذا بكل هدوء وأنت لا تعرف العواقب .
    ـ لو فكرت في العواقب ... ما زاولت هذه المهنة قط .
    ولانت ملامح الحكمدار وغير من لهجته تحت إصرار الطبيب وعناده .
    ـ يا دكتور ... أنت في سن ابني مراد ... وأنا أنصحك الآن كما أنصح ابني ... وأرى لصالحك أن تغير من بعض ما كتبته في هذا التقرير .
    ـ هذا لا يمكن أن يحدث .
    ـ هل فكرت أن هذا سيذهب بهيبة السلطة ... ويشل حركتها ... وإذا ضاعت الهيبة ضاع الأمن في البلد ... وبهذه الهيبة نحميك أنت قبل أن نحمى غيرك .
    ـ ليس الأمر على النهج الذي تصورته سعادتك ... ولو اتبع من بيده القانون لاستراحوا وأراحوا .
    ـ يعنى نترك المجرمين والقتلة وقطاع الطرق يعيثون في الأرض فسادا ... وإذا وقعوا في أيدينا نربت " نطبطب " على ظهورهم .
    ـ لم أقل هذا ولا أقبل أن أدافع عن مجرم ولا سفاح ... ولكني أقرر الحقيقة كطبيب ... في عمل من أخص خصائص مهنتي ... فمن الذي يكشف عن الجريح . الطبيب أو غيره ...؟ إنه عمل الطبيب وحده .
    ـ ولكن ما كتبته سيجر ... إلى أمر لا تدركه أنت في هذه الساعة سيجر إلى ضياع السلطة وشيوع الفساد .
    وأشعل الحكمدار سيجارة ... واستطرد :
    ـ طيب عدل بعض العبارات ... مثل جرح عميق بطول ... وتهتك في قفص الصدر ... وكسر في الترقوة ... ومثل هذا كثير يحتاج إلى التعديل .
    ـ ولا حرف .
    ـ يا بني ... تعبت معك ... سأرى مدير المستشفى وقد يثنيك عن عزمك ... وتقبل منه النصح .
    وجاء مدير المستشفى ولكن الدكتور " إسماعيل " ظل على إصراره ورفض .
    وأخيرا قال له المدير :
    ـ يا بني أنت متزوج حديثا ... وأصبحت أبا لطفل ... وعليك مسئولية الأبوة ... وأرجو أن تقدر المسئولية ... وأنت لا تعرف ما يجري، تنقصك التجارب .
    وسقط مدير المستشفى في نظر الطبيب الشاب ... سقط سقطة أبدية .
    وسأل الطبيب الشاب مديره :
    ـ وما الذي تريده مني ...؟
    ـ تغير من لهجة التقرير الحامية ...!
    ـ أغير الحقيقة ... وأكتب الباطل ... أزور ... هل هذا هو ما تعلمته من الدكتور عبد العزيز إسماعيل ... والدكتور على إبراهيم ... والدكتور محمد صبحي ... والدكتور أحمد شفيق ... هل تعلمت من هؤلاء الأفذاذ التزوير ... حتى أكتبه ... حرام عليكم حرام ... وحرام أن يصل الهوان بنا إلى هذه الدرجة .
    ـ يعني تصر على رأيك ...؟
    ـ إلى يوم القيامة ...
    وتناول المدير التقرير وخرج غاضبا ... وعلم زملاء الدكتور إسماعيل بما حدث ... فانقسموا قسمين قسم رأى التغيير ... وقسم رفض .
    وشاع أمر التقرير في المستشفى بين المرضى والجرحى والممرضات والأطباء ... كان ما فعله الدكتور إسماعيل بقوله الحقيقة هو شيء شاذ وغير مألوف في حياة المستشفيات .
    ***
    وعندما رجع الدكتور إسماعيل إلى بيته ... لاحظت زوجه حاله ... وعلمت بالخبر ... فظهر على وجهها الألم ... وحاولت كتمان آلامها في تحركاتها في الشقة وانشغالها بطفلها وعملها البيتي.
    ثم لما سألها عن رأيها قالت له :
    ـ من رأيي أن تنزل عند رغبتهم .
    ـ هكذا بكل بساطة ...!
    ـ نعم ...
    ـ يا لخيبتي فيك ... كان يسعدني أن أسمع عن سيدة مصرية من هذا الجيل وقفت بجانب زوجها في وجه العاصفة حتى تمر .
    ـ أنت تعيش بخيالك وبعيدا عن عذاب العيش ولقمة العيش وهو الشيء الذي تشعر به المرأة ... وتعمـل له الحساب قبـل الرجـل .
    ـ ولماذا هذا المنظار الأسود ... وتتوقعين الشر ...؟
    ـ لأني أرى في كل ما حولي ... انتصار الشر ... وسيبقى صراع الخير والشر أزليا ... سيبقى الصراع أبديا إلى قيام الساعة، وتلك إرادة الله وحكمته .
    ـ ولهذا علينا أن نقاوم الشر بكل ما أعطانا الله من قوة ... حتى نقضي عليه .
    ـ لو أراد الله الخير الخالص في هذه الدنيا ... لما أبقى الشيطان في الأرض بعد أن عصاه وأخرجه من الجنة ... أبقاه يعيش مع الإنسان في الأرض لأنه جل وعلا هو الذي خلق الإنسان ويعرف طبيعة تكوينه عندما ينزع إلى الخير ... وعندما يكون شرا من الوحش في ضراوته إذا نزع إلى الشر ...
    ـ يعنى أبقي الشيطان على الأرض لأن الحياة الدنيا لا تستمر في مسيرتها بغير شيطان وشياطين ...!
    ـ نعم ... وإلا فكيف تختلف عن الجنة ... في الجنة النعيم المقيم ... وفي الأرض الخير والشر وإذا قاومت الشر وحدك وأنت ضعيف ستخذل حتما ... تلك سنة الحياة .
    ـ ولكن أشعر بكل الناس معي.
    ـ أين هم ... أنى لا أرى حتى زميلا لك من أطباء المستشفى ... جاء ليزورك ...؟
    ـ سترينهم .
    وسمعت قرعا على الباب فمشت إليه وهى تتوقع زيارة صديق ممن يزورنه في بيته ... ولكنها وجدت خالة لها قادمة بزيارة من الريف فانشغلت بها ... ودخل إسماعيل إلى حجرته بعد أن حيا الضيفة ورحب بها .
    وفى اليوم التالي زاره وكيل الحكمدار في بيته ... وكان الدكتور إسماعيل يتصور أنه جاء ليرجوه كغيره تغيير ما كتبه في التقرير ... ولكنه وجده يشجعه على شجاعته ووقوفه في وجه العاصفة التي أثيرت حوله .
    وأخيرا قال له وكيل الحكمدار في حماسة وهو يبتسم :
    ـ يا بني أنت لم تر جدك " عبد المنعم " ولكني رأيته ... فيك كل طباعه وكل صفاته ... أنا كنت ضابطا صغيرا في النقطة ببلدكم ... وطوال مدة خدمتي في النقطة والمركز لم يدخل فلاح واحد من أهل قريتكم نقطة ولا مركز .
    عاش جدك عبد المنعم ومات وهو عمدة ولم يذهب في حياته فلاح واحد من أهل القرية نقطة ولا مركز ... وكان يقول لي :
    ـ أهين أهل بلدي ... وأجرهم إلى سجن المركز ... لا ... قد يخرج الطيب منه شريرا في يوم وليلة ... لا لن يحدث هذا وأنا بصحتي إن وظيفتي كعمدة في حسم الأمور هنا ... وإلا فلا خير فينا للناس المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة ...
    كان يعالج الأمور بطريقته الفذة ... سرقت جاموسة من " شريفة " وجاءت تشكو له ...
    فيقول لها بابتسامته الوضاءة :
    ـ طيب روحي يا شريفة .
    وفى الصباح التالي تعود الجاموسة إلى بيت " شريفة ".
    وهكذا ما يحدث من سرقة وعراك مع الفلاحين ... وما يحدث في سوق القرية ... وفي غيطانها ونجوعها ... وفي زمن الفيضان وفتح الخزانات ... والنزاع على الري ... وجنى القطن ... وضم المحصول ... وحراسة الأجران والجسور ...
    مئات الأشياء التي كان ينهيها بقوة مراسه وهيبته وتجاربه ومعرفته بخلق الفلاحين وطباعهم .
    وكانت قريتكم أول قرية أضيئت شوارعها بالفوانيس وأول قرية لم تحدث فيها حادثة قتل واحدة طوال مدة حكمه التي جاوزت عشرين عاما ... كنا نسميها القرية الآمنة ... فأنا يا بنى لم أدهش لفعلتك ولم أستغرب كما فعل غيري فأنت خليفة والدك وجدك .
    وشكر الدكتور إسماعيل وكيل الحكمدار وسره أن يكون من رجال القوة في المديرية من هو على هذه الصفات الحميدة .
    ***
    وبعد ثلاثة أسابيع نقل الدكتور إسماعيل إلى " أرمنت " .
    ولما علمت زوجته بأمر النقل تركته إلى أهلها ... ووقف هو على رصيف المحطة وحده ينتظر القطار الذي سيقله إلى مقر عمله الجديد .
    ولمح شبحا يتحرك في سكون الليل ... والسنافورات تتحرك والريح تعوي وتصفر في الأسلاك ...
    ولما اقترب عرف الدكتور إسماعيل أنه معاون المحطة ...
    وقال المعاون وفى صوته رنة الأسى :
    ـ جئت أودعك يا بنى وأسلم عليك وأحيي شجاعتك في هذا الزمن النكود ...
    ـ شكرا يا عم " سمعان " فيك الخير ...
    ـ لا تتصور أنهم انتصروا عليك بنقلك ... أبدا أنت المنتصر والناس تتصور دائما لغباوتها ... أن الحق مطموس وضائع ... والشر ينتصر على طول الخط ... وهذا خطأ .
    اذهب الآن إلى المدينة بعد ما عرفوا فعلتك تجد الجميع يفخر بك ويصفق لك ... دخلت في قلوب الملايين ... وسترى هذا الأثر في عملك لو فتحت عيادة خاصة ... الناس لا تنسى الشجاعة أبدا ولا موقف البطل ... ولا تغفر قط للجبان الرعديد ... حتى وإن كانوا هم في أعماقهم جبناء لأنهم يقدرون من عبر عن شعورهم وما عجزوا هم عن فعله ... ومن هنا تكون صفات البطولة للبطل . أنه الفرد الذي تكلم وعبر عن خلجـات الجماهير الضائعة في تيه الحياة .
    ولا تفكر بطريقتهم ولو ضربنا وعذبنا كل مجرم وسفاح ... ما كانت هناك محكمة ولا محاكم في الأرض .
    ـ شكرا يا عم " سمعان " ملأتني ثقة في جوانب نفسي ... ولكن أشد ما يؤلمني الآن ألا أجد زميلا واحدا جاء ليودعني على المحطة .
    ـ اعذرهم ... يا بنى ... قد يكون لهم عذرهم ... وقد يعوضك الله في مقرك الجديد من هو خير منهم .
    ـ شكرا لكلماتك الطيبة ... شكرا ...
    ـ جاء القطار ... وقد حجزت لك أحسن المقاعد ... وخذ منى هذا التذكار البسيط .
    وتناول الدكتور إسماعيل التذكار من المعاون وعيناه مخضلة بالدمع ...
    وكان القطار وهو يدخل المحطة يصفر وأنوار عرباته تتوهج في الظلمة .

    0

  11. #10
    الرفيقة / Spirit Voice

    ما تُدرجيهُ هُنا رائع جداً ،،

    ،،

    إستمري smile
    0

  12. #11
    عنوان القِصة : مسيرة للمعارضة

    تأليف : FRIEND

    ،،

    نظر في المجتمعين حوله وهو يلملم اورقه وقال للشاب الذي يجلس بجانبه ويحمل قلماً يدون محضر الإجتماع :
    أكتب إذا ختام الاجتماع
    قررنا نحن ممثلي أحزاب المعارضة ما يلي:
    تحديد موعد الرابع من هذا الشهر موعداً لإنطلاق المسيرة التي ستكون تحت شعار ( لا للقمع الذي تمارسه الحكومات على الأحزاب)
    وإختم الاجتماع وسجل تاريخ اليوم واعطني المحضر كي اوقع عليه ومن ثم مرره على الاخوة الجالسين ممثلي الاحزاب كي يوقعوا عليه.
    وقع الجميع على محضر الاجتماع ومنذ أن انتهى الاجتماع توجهوا جميعاً إلى مبنى مديرية الشرطة واصطفوا دوراً على البوابة.
    جاءت حارس البوابة وسألهم : ماذا تريدون .
    اجاب احدهم : نريد لقاء مدير الشرطة .
    فقال : ومن اقول له .
    اجابه : قل له ممثلي احزاب المعارضة.
    رفع الحارس سماعة الهاتف وبدأ يتحدث مع احدهم على الطرف الاخر، ومن ثم التفت اليهم قائلاً : مدير الأمن عنده اجتماع.
    فقال أحدهم :هو كذلك دائما منذ يعرف أنا جئنا يتحجج بأن عنده إجتماع ... وماذا عن نائب المدير أو اي احد من المسؤولين ؟؟
    عاد لاستكمال مكالمته ومن ثم قال لهم : ماذا تريدون منه، ما هو موضوع طلب لقائكم به ؟؟
    - قل له جئنا نطلب منه ترخيص لمسيرة في الرابع من هذا الشهر .
    - اذا انتظروا هنا في الساحة حتى يفرغ من العمل الذي بين يديه .
    اغلق الحارس سماعة الهاتف وقال وكأنه يحدث نفسه : كم هم يضحكون، يحضرون ليطلبوا من الحكومة إذناً بالتظاهر ضدها ... ويسمون أنفسهم قوى المعارضة الوطنية.
    0

  13. #12
    0

  14. #13
    0

  15. #14
    *********************************
    عنوان القصة : القطار الأزرق
    تأليف : محمود البدوي
    *********************************


    " القطار الأزرق "


    التقيت " بنادية " لأول مرة بفندق أوكرانيا في مدينة موسكو ، وكانت واقفة في الصف أمام عاملة المقصف ، وتحاول أن تجعلها تفهم بالإشارة وبكـل وسائل التعبير ما تريده من أصناف الطعام ولم تنفع هذه الوسيلة ، فتلفتت نادية إلى ناحيتي وأشارت إلى الأطباق التي أمامي على المائدة لتأتى لها العاملة بمثـلها تماما ..
    ولما تناولت الطعام من فوق الرف واستدارت ، بحثت بعينيها عن مائدة خالية ، فلما لم تجد ظهر عليها الضيق ، فلوحت لها بيدي لتتفضل وتجلس إلى مائدتي ، فجلست تأكل إفطارها صامتة بعد أن عبرت لي عن شكرها بهزة خفيفة من رأسها .
    وتصادف بعد ذلك ركوبنا المصعد معا وهو صاعد ونازل في طوابق الفندق ، وكانت تفتح عينيها السوداوين على سعتهما وتحدق في وجهي كمـا كنت أفعل مثلها في صمت دون أن نتبادل كلمة واحدة .
    وتقابلنا ساعة الظهر في " الجوم " وكانت مع رفيقة لها في مثل أناقتها وشبابها وحيويتها ، ومع أن رفيقتها بدت لي روسية خالصة .. ولكنهما تاهتا مثلي في طرقات المتجر ، فقد كنا نلف جميعا وندور في هذا التيه دون أن نهتدي إلى باب الخروج .. وكلما تقابلنا ابتسمنا ابتسامة تجمع بين المرارة والعجز ..!
    وكنت كلما رأيتها نسيت ما أنا بسبيله .. وأشعر بأني سأظل على اتصال دائم بها كلما تحركت في قلب المدينة الكبيرة ، وأن صورتها لن تبرح خيالي أبدا ، وبدا لي جليا أنها تدعوني ولا تستطيع التعبير عن ذلك بالإشارة ولا بالكلام .
    وفى صباح يوم وقفت على باب المصعد في الدور التاسع كعادتي لأنزل إلى الطابق الأرضي وكان السهم يشير بأنه نازل .. فضغطت على النور ، ولما وصل طابقي وفتح الباب ، وجدته ممتلئا كله بالنساء من المضيفات اليابانيـات وغيرهن .. وليس فيه موضع لي .. فبقيت مكاني .. وأشرت للعاملة في أسف .. بأن تواصل طريقها في النـزول .. ولكنها لم تفعل وظل الباب مفتوحا .. وسمعت صوت نادية من الداخل يردد مع صوت العاملة :
    ـ تعال come .. بالإنجليزية ..
    فدخلت وسط هؤلاء الفتيات وأنا شاعر بالخجل ، وظللن يضحكن ويزقزقن كالعصافير حتى وصلنا إلى الأرض ..
    وخرجت من الفندق بصحبتها في هذه المرة ، وأصبحنا نتجول في المدينة معا ، وسرني أنها تجيد الإنجليزية ، فقد تعبت من الحديث بالإشارة وأنها ذاهبة إلى " ليننجراد " مثلي .
    قالت لي أنها " فنلندية " ومسلمة وتشتغل مدرسة علم نفس وجاءت إلى روسيا في عطلة دراسية لتـزور صديقة لها في طشقند .. بدعوة منها .. وبعد أن توافر لها المال ..
    وحدثتها بأنني التقيت منذ أكثر من ثلاثين سنة ، على التحقيق ، بسيدة "فنلندية " مسلمة وشابة مثلها .. على ظهر باخرة رومانية .. ونزلنا في "استانبول " .. وقضينا ليلة جميلة على ضفاف البسفور ..
    وسافرت هي إلى " فنلندا " .. على أن تكتب لي .. وأعطيتها عنواني في كونستنـزا ، وبودابست ، وفينا ..
    ولكن بعد وصولي بيومين اشتعلت الحرب فجأة في أوربا عام 1939 ، فعدت سريعا إلى مصر ، وانقطع بيننا كل اتصال .. ولا شك أنها قدرت موتي كما قدرت موتها ..
    وقالت " نادية " بعذوبة :
    ـ قد يكون تقديرك مخطئا ..
    ـ وقد يكون صائبا .. وقد تذكرت هذه السيدة الآن بحنان وشوق عندما رأيتك ..
    ـ لأني فنلندية ومسلمة مثلها ..؟
    ـ أجل .. فكنا نتحدث معا بالإنجليزية أيضا كما نتحدث الآن في طلاقة وود ..
    وكنت أبحث عن أفلام " للكاميرا " فاضطررنا أن نذهب إلى شارع "جوركي " .. وكان البرد شديدا والثلوج تتساقط بغزارة ، فأشفقت عليها في هذا الجو ونحن نعبر الشارع إلى المتجر ..
    ثم خرجنا لنتغدى .. واتفقنا في ساعة الغداء على أن نسافر في الغد إلى "ليننجراد " ..
    وقضينا نهار السفر معا نتسوق بعض الأشياء ونودع معالم المدينة الجميلة..
    وكان القطار المسافر إلى " ليننجراد " يتحرك في تمام الساعة الثامنة مساء .. فوصلنا المحطة والثلج يتساقط والبرودة تحت الصفر ب 25 درجة .. وكانت " نادية " متدثرة بمعطف سميك وتغطى رأسها بقبعة زرقاء وفى يديها القفاز الصوفي ، ومع ذلك خفت عليها من هذا الجو الثلجي .
    ووقفنا على الرصيف نرتعش من البرد ، وكانت المحطة خالية من الركاب تقريبا .. لأننا قدمنا قبل موعد السفر بمدة طويلة .
    وأشفقت علينا موظفة مسنة في المحطة ، فأدخلتنا قاعة انتظار الضيوف ، فوجدنا قاعة فسيحة مكيفة ، وشعرنا على التو بالدفء والراحة ..
    وخلعت معطفي وغطاء الرأس والكوفية الصوف ، وخلعت " نادية " معطفها وقبعتها وقفازها ، وبدا شعرها الأسود مرسلا متموجا شديد اللمعان ، وتألقت عيناها بعد أن خلعت القبعة وزاد ما فيهما من صفاء ورقة ، وأسفرت عن فستان كحلي من الصوف جيد النسيج محكم التفصيل ، أضـفى سحرا جديدا على بشرة في لون المرمر ونعومته ، وزاد الوجه نضارة وحسنا ..
    وقدرت سنها بما لا يزيد على الثلاثين سنة ، فقد بدت في الجمال الآسر للمرأة عندما يكتمل عقلها وجسمها معا .. ويزداد بريق عينيها .. وتتفجر أنوثة وحيوية وهى تأخذ من الحياة قبل أن تولي عنها ..
    وقد أخذتنا السيدة الروسية المكلفة بغرفة الضيوف في المحطة على اعتبار أننا صديقان أو زوجان .. رغم ما بيننا من فارق كبير في السن ، فقد كنت أكبر من " نادية " بعشرين عاما على الأقل .. وقدمت لنا الشاي الساخن وما عندها من مجلات روسية باللغة الإنجليزية ..
    ولما أخرجت لها " نادية " علبة من الحلوى فاض وجه العجوز بالبشر وتناولت قطعة صغيرة من الشيكولاته وردت الباقي وهي تردد الشكر بالروسية التي لا نعرفها ..
    ورأيت في هذه السيدة من الحنان والأمومة مثل ما شاهدته تماما في العجوز الأخرى التي كانت تشرح لنا باستفاضة ودقة كل طباع " تشيكوف" وأحواله عندما زرنا بيته في هذا الصباح في قلب موسكو ، حتى تصورت أنها هي التي ربته على صدرها ..وهو جيل عطوف صهرته الحياة وأظهرت فيه أجمل صفاته ..
    كانت العجوز في المحطة لا تفتأ تسألنا بالإشارة إن كنا في حاجة إلى شيء آخر غير الشاي ، فشكرناها بحرارة ، وقلنا لها بالإشارة أيضا أننا أعددنا لليل الطويل في القطار كل ما نحتاجه من طعام ..
    وكانت تنظر إلينا في تمعن وتطيل النظر وتحاول أن تقول شيئا لا تستطيع التعبير عنه بالإشارة ، شيئا كان يدور في رأسها ويحتل مراكز تفكيرها ..
    ***
    وقبل موعد القطار بربع ساعة ، ودعنا السيدة العجوز وخرجنا إلى رصيف المحطة والثلج لا يزال يتساقط وكل منا يحمل حقيبته في يده ..
    ومررنا على صف طويل من العربات ، أنه قطار طويل ، بل أطول قطار رأيته في حياتي .. قطار أزرق فاخر .. وعلى باب كل عربة وقفت الكمسارية بردائها الأزرق الجميل وكأنها قطعة من جماله ، وقفت ساكنة متهيئة للرحلة الطويلة .
    وكانت عربتنا هي الرابعة وراء القاطرة .. وحيتنا الكمسارية على البـاب ودخلنا في طرقة العربة المفروشة بالسجاد إلى مقصورتنا .
    ووضعت حقيبة " نادية " وحقيبتي في الداخل في المكان المخصص للحقائب وخرجت من المقصورة أتطلع من النافذة وأعطى الفرصة " لنادية " لتخلع معطفها وقبعتها وكل ما كانت تتقي به البرد في خارج القطار .
    ***
    وقفت أرقب الرصيف من النافذة وأنوار المصابيح الزاهية قد غشاها الثلج المتساقط فأصبحت شهباء تريح العين ، وبدا شيء أشبه بالستارة الزرقاء قد انسدل فوق كل ما يحيط بنا من أبنية وأشجار ، وكان المسافرون الذين يتحركون على الرصيف قلة من السائحين والروس وبعض الضباط بملابسهم الرسمية ..
    وبدا السكون واضحا ، ولم أسمع صفيرا للقطارات ولا زعيقا ولا ضجة ، ورأيت قطارات أخرى وكلها زرقاء واقفة حذاء الأرصفة تنتظر من يأذن لها بالمسير ..
    وأحسست "بنادية" تقف بجانبي منشرحة الصدر ، وقد غيرت فستانها وبدت كأنها تلبس رداء أعد للسفر الطويل، وأخـذنا نتحدث ونتطلع إلى بعيد ، وكان رأسي يشتعل بالليلة "الحالمة"...
    وظللنا نرقب الرصيف بعيون ثابتة بعد أن أزحنا الستارة كلها ، وكانت الحركة قليلة ومن يظهر من حين إلى حين من الركاب يمضى سريعا ويدخل في جوف العربة الدافئ ومعظمهم أزواج ، رجل وامرأة فمن الذي يقضي اثنتي عشرة ساعة في القطار وحده دون رفيق أو أنيس ..
    وشعرنا بأن القطار بدأ يتحرك ببطء وينسحب على الرصيف ، وظلت عيوننا معلقة بأنوار المدينة المتألقة وبالثلج المتساقط على الأعمدة وأسلاك البرق وفروع الأشجار. وشاهدنا من بعيد شيخا كبيرا يمشي بتؤدة في طريق صاعد وهو يطلع وسط الثلوج، ورغم الجهد والتعب الباديين على ملامحه وجسمه، فإنه رفض أن تعينه امرأة كانت بجانبه ..
    0

  16. #15
    تتمه ..

    وقالت نادية وقد تأثرت من منظره:
    ـ إنه يتحرك بإرادته وحده ..
    فقلت معقبا :
    ـ ولعله حارب وانتصر بإرادته أيضا .. وأحسبه فقد ساقه في الحرب .. ولكنه ظل صلدا ..
    وسلطت الكاميرا عليه ..
    فسألت نادية :
    ـ هل ستظهر الصورة ..؟
    ـ أرجو هذا ..
    وخـيل إليّ ونحن في الممشى أنه لا يوجد ركاب سوانا في هـذه العربة . وكانت الكمسارية واقفة هناك على الجانب الأيمن من المدخل ، ثم تحركت وأخذت تنـزل ستائر النوافذ الخارجية كلها ، ودخلنا المقصورة وردت نادية الباب .. وحمدت الله على أن السريرين متجاوران ، فلا داعي لأن يصعد أحدنا على سلم وينام فوق سرير الآخر ..
    وسحبت " نادية " الطاولة التي بين السريرين وأخذت تخرج من حقيبة اليد بعض الأشياء وتضعها على الطاولة ..
    وقالت وهي تدور بعينيها في جوانب المقصورة :
    ـ جميلة .. ؟ !
    ـ جدا .. أتفضلين هذا الجانب ، أم تحبين مكاني ..؟
    ـ شكرا إنني مستريحة هنا ..
    وأخذت تجري المشط على شعرها الأسود الناعم .. وترسله إلى الوراء وهى ترمقني بعينيها الواسعتين بنفس النظرة الثابتة المفكرة التي كانت في موسكو ..
    وأخرجت المجلات الإنجليزية والكتب لتتسلى بها في القطار إن طابت لها القراءة ..
    ونهضت وفتحت الباب وأنا أقول " لنادية " :
    ـ سأطلب من الكمسارية قدحا من الشاي ، ألا ترغبين ..؟
    ـ أرغب .. ولكن الشاي يقدم عادة في الصباح ..
    ـ ولكني سأحاول ..
    وكانت " الكمسارية " جالسة في مقصورتها بكامل زيها الرسمي ، فطلبت الشاي بالإنجليزية ، وسرني أنها تعرف هذه اللغة .. فنهضت على الفور لتصنعه ..
    وحملت لنا قدحين كبيرين من الشاي ممزوجين بالسكر على عكس الشاي الذي يشرب في قطارات الصين ، وحيت نادية وهشت وبشت في وجهها. ودلتني وهى تنسحب على عربة الطعام .. فشكرناها وكان معنا طعامنا .. تسوقناه من بقالة في موسكو .. خبز وزبد ولحم بقر صنعت منه " نادية " شطائر شهية ، سنأكل منها كلما أحسسنا بالجوع ، دون أن نتقيد بمواعيد الطعام في القطار ..
    وأخذنا نتحدث ، ونتطلع من النافذة في جلستنا المريحة عن الليل في روسيا في القرى والحقول والمصانع والمدن الصغيرة والكبيرة .. وكان القطـار يمضى كالسهم ، ولكن لا نحس بسرعته .
    وعجبت لإحساسي نحو " نادية " .. فبعد ساعة كاملة من الانفراد بها في مقصورة ضيقة مغلقة الباب .. لم ألمس كتفها ولا خدها ولا شعرها .. ولم أشعر بالرغبة في ذلك ولم أبادلها كلمة غزل واحدة .. أنا الذي كنت أتحرق شوقا إلى السائحات في موسكو ، وأشتهى مضيفات الطائرات النازلات في الفنادق وعاملات المصاعد ، وكل شابة ألتقى بها وأجد عندها الرغبة لمبادلتي النظر والحديث ..
    كنت أتحرق شوقا لأن أضم كل أنثى تستجيب لرغبتي .. ولما جاءت الأنثى وأصبحت على قيد ذراع منى والباب مغلق والسكون يخيم ، وكل شيء يهيئ النفس لإشعال العواطف .. لقيت نفسي باردا ميت الإحسـاس .. ميت العواطف .. لا أحس بأي إحساس مما يشعر به الرجل نحو المرأة عندما يخلو بها .. وتدفقت بدلها عواطف جديدة في كياني كله .. أحسست بهـا لأول مرة .. عواطف من الحنان الخالص والعطف الشديد ..
    فلما قالت لي بأنها تشعر بصداع خفيف ، وضعت أمامها كل مـا معي من أقراص ومسكنات للصداع .. وكانت الحرارة في المقصورة قد زادت فخرجت وتركتها لتخفف من ملابسها وتفعل كل ما تحب أن تغيره الأنثى من ملابسها وهى وحدها ولا تضايقها نظرات الرجل ..
    وعجبت أنا الرجل الأعزب الذي لم يتزوج قط ويعاشر المرأة ليصورها .. كمصور للصحف .. ويبيع صورتها دون اعتبار لصاحبة الصورة .. أنا بكل صفاتي أصبحت فجأة أحترم هذه السيدة وأجلها ، ولم أفكر قط في أن آخذ لها صورة ..
    وكانت تقرأ خواطري في موسكو وتقول لي بعذوبة :
    ـ لماذا لاتأخذ لي صورة ..؟
    وكنت أجيبها :
    ـ سأصورك صورة تذكارية عندما نفترق في " ليننجراد " أما هنا فلا ..
    ـ هل أنت بخيل ..؟
    ـ جدا ..!
    ـ إذا سأشتري لك الفيلم ..!
    أنها تخلق في كل كلمة من كلمات الحوار جمالا بلاغيا كان يهز مشـاعري ، وضحكت .. وكانت مسالك تفكيري تطرد .. وكنت أخاف من شيء لا أعرفه ولذلك لم أحاول تصويرها قط . ولم أفكر فيه مع أن صورتها مغرية .. ومثيرة في جريدتي .. شابة فنلندية مسلمة رائعة الحسن بكل الملامح الشرقية في العينين والخدين والأنف والفم والجبين والشفة الرقيقة الحالمة ..أي كسب وأي إغراء بعد هذا .. ولكن كل حلقات تفكيري كمصور كانت تقف عندها وتصدم بشيء أعزه فيها ولا أعرف مكنونه .
    ***
    كانت " نادية " قد زارت ليننجراد .. قبل مجيئها إلى موسكو وطشقند . لأن ليننجراد أقرب المدن الروسية إلى فنلندا ، ولذلك أخذت تحدثني عن ليننجراد وما سنشاهده فيها من جمال وبهجة .
    وقالت برقة :
    ـ وسنقضى يوما بطوله في " الأرميتاج " ..
    ـ يوما بطوله ..؟
    ـ واليوم لا يكفى .. ألست مصورا ؟ سترى بعينيك أنه لا يكفي .. إن فيه أجمل ما صنعه الرسامون في العالم أجمع ..
    وتناولت لفافة الطعام وأخذنا نأكل على مهل ، وكان في الكيس ثلاث تفاحات كبيرة .. فأكل كل منا واحدة ، واقترحت نادية أن تعطى الثالثة لكمسارية العربة ، وخرجت من المقصورة لتعطيها التفاحة .
    وعادت الكمسارية إلينا تشكر ومعها دفتر ، وطلبت أن نكتب لها كلمة تذكارية ، وكتبت نادية كلمة بالإنجليزية أعجبتني جدا ، ووقعت تحتها باسمها ووقعت أنا باسمي " إبراهيم " بالحروف اللاتينية الكبيرة .
    وأرادت الكمسارية أن تعرف منطوق الاسمين فكررته لها نادية .. نادية .. إبراهيم .. والكمسارية تحاول نطق الاسمين وراءها بلكنة وأنا أضحك ..
    ***
    وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة بعد أن فرغنا من العشاء .. واقترحت أن نخرج إلى الطرقة ونتمشى قليلا حتى لا نصاب بالخمول ..
    فخرجنا وواصلنا السير إلى العربات الأخرى .. وكانت معظم أبواب المقصورات مغلقة ، وقليل من الركاب كان يقف مثلنا في الممشى ..
    ولكن الوقفة بجوار النافذة والقطار يمضى ويطوى في الليل كل شيء وراءه .. كان لها فعل السحر في نفس " نادية " فقد تفتحت نفسها وتطلق وجهها وأخذت تدفع شفتها السفلى إلى جانب .. وتفتح عينيها السوداوين إلى ما وراء الحجب ..
    وشعرت أنه القطار الذي يطوى الزمن .. ولم أعد في فترة الأحلام أشعر بشيء .. ثم تنبهت على يد " نادية " على كتفي ولم أتحرك من مكاني حتى لا أجرح شعورها .. إن السعادة حالة نفسية ، وقد أحسست بها في هذه الساعة إلى أقصى مدى .. وأحسست بعد ذلك بأنها وضعت خدها على كتفي الأيسر بجانب الصدر .. قريبا من القلب .. ولم أتحرك .. وشعرت في هذه اللحظة بأن نادية جزء من كياني .. ولا انفصال لنا بعدها .. ولم أسألها إن كانت متزوجة أم لا .. لأنها لم تسألني هذا السؤال ..
    0

  17. #16
    تتمه ..

    واستفقت على صوتها :
    ـ نرجع ..
    وكنا قد تجاوزنا عربتنا بثلاث عربات على الأقل .. فعدنا على مهل ، وبعد أن دخلنا المقصورة بقليل واضطجعنا وأخذت تقرأ .. وأنا أقلب في صفحات المجلات .
    سمعت نقرا خفيفا على الباب فقمت وفتحته ، فوجدت فتاة رشيقة في الطرقة وناولتني بطاقة عليها صورة قارئة كف مشهورة موجودة في القطار !!
    وأخذت " نادية " تحاور الفتاة بالإنجليزية وكانت ضاحكة مرحة وفى لباس قصير جدا جعلها شبه عارية ، وقدرت أنها إنجليزية أو دنمركية ، فقد كانت شقراء الشعر وسيمة ..
    وسألتها عن العرافة :
    ـ أين هي ؟
    ـ في العربة السادسة والمقصورة السابعة ..
    ـ وكم الأجر ؟
    ـ عشرة دولارات ..
    ـ هذا كثير ..
    ـ إن الناس تسافر إليها .. وتصرف آلاف الدولارات لتراها .. ولكنها الآن موجودة وفى القطار ..!
    وسألت نادية :
    ـ هل ترغبين ؟
    ـ لا .. أنا أعرف حظي ..!
    ثم رأينا أن نذهب لمجرد الفرجة .. وفتحت الفتاة باب المقصورة قليلا لنرى من بعيد .. فوجدنا عجوزا نحيلة تجلس مسترخية على السرير .. وشدني وجهها بغضونه وتجاعيده .. وكانت فوق الثمانين .. وعيناها تلمعـان في حدة وقوة أبصار غريبة كعيني العقاب
    وبدت في جلستها قصيرة جدا ونحيفة ، ولكنها كانت تتحدث بالإنجليزية بطلاقة مذهلة ..
    وقلت لنادية :
    ـ أدخلي ..
    فقالت :
    ـ لا .. ولكن لنقف ونتفرج ..
    ووقفنا مع الواقفين على الباب .. وكان أمر العرافة قد عرف في القطار وأصبحت تسلية للمسافرين ، ولم يكن تسمح لغير الراغب في الدخول .. ولم نسمع من كلامها حرفا لأنها تغلق الباب تماما ، وبدافع الفضول دخلت أنا "ونادية " وسألتها إن كنت أستطيع أن أدفع بعملة أخرى ..
    فقالت بالإنجليزية :
    ـ دولارات فقط ..!
    وتلفت نحو نادية لنخرج .. وأنا أقول :
    ـ بالعشرة دولارات نقضى يوما ممتعا في ليننجراد ..
    فهمست نادية :
    ـ إن منظر المرأة يسحرني ..
    وأخرجت ورقة بعشرة دولارات وناولتها للعرافة ..
    وسألتني :
    ـ من الذي سنقرأ كفه أنت أم هي ؟
    ـ أنا ..
    ـ إذن تخرج السيدة ..
    ـ ليس بيننا أسرار ..
    وأصرت على خروجها ..
    وناولتها كفي ..
    فقالت بصوت هادئ :
    ـ يدك معروقة .. وطويلة .. وخطوطها واضحة .. أسفار كثيرة .. ومن سن العشرين وأنت تسافر ، والحظ عاثر ، أرى لقاء في سفينة بين عاشقين ، وأرى بحر مرمرة .. والبسفور ، وهاج البحر ، ودوت القنابل ، وأرى فتاة جميلة ثمرة لهذا اللقاء .. عاشت والتقت بوالدها بعد سنين وسنين ..
    وذهلت عند سماع قولها .. وأخذت أردد .. بحر .. مرمرة .. والبسفور ..وسفينة .. ولقاء .. وبحر مرمرة بالذات ولم تقل بحرا ككل البحور ..
    وسألت وأنا أرتعش :
    والأم ما زالت تعيش ؟
    ـ أجل ..
    ـ أين ..
    ـ في مدينة كبيرة .. وهى غنية وما زالت جميلة ..
    وظللت واقفا والعرق يتفصد على جبيني .. كاد وقع المفاجأة أن يصيبني بدوار .. ثم تمالكت زمام نفسي وخرجت شاحب الوجه .
    سألتني نادية :
    ـ ما الذي قالته لك ..؟
    ـ لا شيء .. مجرد أكاذيب كالمعتاد ..
    وفى المقصورة أخذت أحدق في وجهها ورجعت أتذكر أمها .. نفس العينين وخط الأنف ونفس البسمة على الشفتين ونفس الطباع ..
    وعادت نادية تسأل :
    ـ ما الذي قالته لك المرأة ؟
    ـ ما الذي تقوله عرافة .. أكاذيب بالطبع ..!
    ـ أريد أن أسمعها ..
    ـ قالت أنى متزوج .. وخط السعد واضح .. وتنتظرني ثروة كبيرة .. وسأظل أسافر دوما .. ولو عرفت أنني مصري لقالت أننا سنهزم إسرائيل في هذا الشهر

    ـ وإذا كنت لا تصدقها .. فلماذا تغير حالك بعد قولها ..؟
    ـ هذا يحدث لكل إنسان ..
    وخيم بيننا الصمت ، ولم أكن أنام في القطارات .. وتمددت لتنام هي .. بعد أن خففت الضوء وشمل الظلام المقصورة ..
    ثم سمعت صوتها :
    ـ هل نمت ؟
    ـ أحاول ذلك ..
    ـ متى نصل ليننجراد ؟
    ـ في الساعة الثامنة صباحا ..
    ـ وأين سننـزل ..؟
    ـ في فندق ليننجراد ..!
    ـ حجزت ؟
    ـ أجل ..
    وخطر على بالي سؤال ، فقلت لها :
    ـ نادية .. هل والدك موجود ..؟
    ـ لا .. لقد توفى في أثناء الحرب ..
    ـ وأمك ..؟
    ـ تعيش معي في فنلندا .. وهى لا تزال صبية وجميلة مع أنها تقترب من الخمسين ..

    ـ وما أسمها ..؟
    ـ صفية خير الله ..
    وارتعش قلبي ..
    وسمعت " نادية " تقول بعد فترة صمت :
    ـ إن صورتها معي في الحقيبة ، هل تحب أن تراها الآن ؟
    ـ في الصباح يا نادية .. لا داعي للتعب في الليل ..
    كنت أود أن أعيش في ظل الشك .. ولو حتى إلى الصباح ، فالحقيقة السافرة مع كل ما تحمل من فرحة .. فيها وقع المفاجأة التي لم أكن أتوقع حدوثها قط ، فقد شطر كياني نصفين .. إن القطار الأزرق حملني عبر السنين إلى بعيد وأنا لا أدري .. لا شيء ينسى .. وكل ما يحدث في حياة الإنسان فهو لاصق بوجوده ..
    لقد كانت " نادية " أستاذة علم النفس وتقرأ أفكاري ، وتعرف هواجسي ، ومشاعري ، وما أنا فيه من فرحة واضطراب .. ولكنها لزمت الصمت ..
    وبعد ساعة قمت وغطيت " نادية " بالبطانية .. ولم يكن جو المقصورة يحتاج إلى غطاء ..
    0

  18. #17
    ***********************
    عنوان القصة : فلِسطين تحت المطر .
    تأليف : يسري الغول .
    ***********************


    " فلسطين تحت المطر "





    ألوان زاهية تخطفني.
    تحاصر ظلي المتكسر كعودة قش صنعت بها كوخاً في طفولتي.

    أزرق ... بهاء ينتشي مع إطلالة سحب أرجوانية رائعة.
    أحمر، كليالٍ غابرة تقتلني.
    أخضر، نقاء يفترش بقايا مخيلتي.

    ألوان و ألوان تحاصرني، تمتد لتلفح ما يراودني.
    أراها بهية متداخلة تختلط في قلبي، تتمرد على صمته.

    تطرأ عليّ فكرة جديدة، أن أرسم ما يطفح في عيني، حب، غروب حتى الغرق.
    لكن حزني يملأني، أتذكر والمطر يغور في البعيد الذي يطوحني، يقشعر بدني، لا أفكر في الأخضر أو الأزرق أو أي لون آخر. شيء يجذبني إلى نقش آهات المطر على أسوار وطني، عالمي، أتسائل بيني وبيني، لربما هي لوحة القدس تحت المطر من أغرتني، لا أدري!

    سأحاول أن أرسم، أفكر جدياً بذلك، لكن الخوف يتملكني، هل سأنجح إن فعلت؟ سؤال يؤرقني، أنزع عني روعي، أمسك بالفرشاة "سأرسم "و الكلمة تطن في أذني. أفترش ظلي على اللوحة، أغمض كل ما يبعدني عن مطري، تبدأ يدي بالانصهار في بوتقة اللوحة. أضع خطوطاً باهتة لمجازاتي، أرسم سهولاً دون وجه، بيوتاً دون أسقف، و تملأني الحكايا، تبحر بي في دهاليز عواصفي، أسقط قطرة ماء، أسقطها دون أن تؤذيني، و في اللوحة رذاذ خفيف يطاردني.

    أصنع عالمي، بيوتاً قرميدية تتكسر مع وجنات الماء النابضة كحزني، أتعثر في شجوني. أمطاري تتساقط بغزارة، قطرات تذكرني بالتيه في بلاد الغرباء، التزلق في ثنايا الأرواح، آلام و انهيارات ساقطة، مبتذلة، لكنها لطيفة، رائعة. أسقط الفرشاة على اللوحة "سأخنقها تلك الساقطة"، ووجه عبوس يموت مع كل بذرة ماء تتوالد في سماوات الحب الرابضة.

    أتأمل اللوحة، تبهرني قدرتي، أجدني قد فعلت شيئاً، رسمت، صنعت ما أدعيه فناً. نعم فعلتها بحق، لا أصدق ما تراه عيني، لم أكن أدرك أني سأنجز ذلك فعلاً. وأطرق جدران عقلي "لقد كانت مجرد فكرة"، أضحك، هل هي من حركتني؟ أضحك بضجيج أنفاسي المتلاحقة، أتوقف، "هل أنهي تلك اللوحة؟" و حبي لسرد لحظات خلدتها نشوتي تستوقفني "أنت بارع حقاً". شيء يرجوني للتمهل، أسقط كتلاً من الحقد، الثلج، وفوق سطح منزلي تتكاثف كاختناقي. أتعثر مع أخي، نسقط بعد تكسر الألواح القرميدية المتهتكة، نصعد و تصعد اليد لتكمل مشوار الحرث في ضباب الماء الواهن.

    قطرة أخرى و أشجار السرو تظللني، عجوز تجري كصبية في العشرين من موته.

    أتعثر بصورة مخيمي، و أبكي ... تمتزج أمطاري بلوعتي، غربة في وطن، قطرة أنقى من دموعها. حبي أفرشه معها لها، تلك التي باعدت بيني و ظلي. أشيح بوجهي عن تلك السقطة من الماء، أغربل بقايا شتائي. الوطن يتلبد بسحب الانفجار "فلسطين تحت المطر" شعور بالغبطة للوطن يحتويني".

    نعم، هي تحت المطر كما هي هناك في عالم الأموات، ليست القدس وحدها، هنا أراها تتفجر "فلسطين تحت المطر" كما كل عام، و كل لحظة، كما رأيتها في غربتي الهائمة على وجهها ... و قبل أن أسقط منهمكاً في خوفي و أختفي، يتردد سؤال في قيعان دواخلي، يرهقني، يفجرني كي أنطق به، أكتبه تحت قطار موتي "هل سيراها من هم مثلي كما أراها الآن؟ هل؟ ... " ولا أدري كيف الجواب .

    0

  19. #18
    تسلمي سبيريت فويس على الابداع
    اتمنى لك التوفيق والاستمرار معانا


    مجموعه رائعه من القصص لم اكمل قرائتها بعد ولكن استمتعت بما قرأته


    لااااااااااااااااااااااااامام

    تحياتي لك
    أشوف كلن مع حبيبه تهنا وأنا حبيب الروح صعب عليه
    0

  20. #19
    سلام ..

    تسلمي سبيريت فويس على الابداع
    اتمنى لك التوفيق والاستمرار معانا

    شكراً عزيزتي ،، أسعدني مرورك
    0

  21. #20
    ***********************
    عنوان القصة : إجازة زوجة
    تأليف : خولة القزويني
    ***********************

    إجازة زوجة ..


    كنت في حاجة إلى هذه الإجازة .. قرار خاص كان يعتمل في صدري ، أشهر عدة ويلح عليّ بإصرار حتى حمّلت نفسي مشقة التفكير فيه بهوادة لأدفع عن نفسي ثقل هواجس طحنت بحوافرها خيالاتي الآمنة .
    أرنو بعيني الساهمتين إلى حقيبتي المسجاة أمامي ، فقد دفنت فيها سنين أحلامي وأطياف عمري ، يعبث بقفلها طفلي جاسم برعمة قلبي المخضرة بالآمال ، يرفرف كطير طليق في فضاء روحي مذهولاً ، يبحث في دخائله البكر عن شيء مبهم ترك شروداً وتجهماً على وجهي اخترق الصمت وتوارى خلف قناع الحقيقة ، يبعث الفضول وتحدي المجهول بعضاً من الفهم تلتقطه حواسه البكر .
    ( أمي متى نعود للبيت ؟ لقد سئمت هذا المكان ) والشوق الذي يكمن في عقله يجول في النفس ويضرم فيها حدة المشاعر ، أبتسم في غياب :
    _ " قريباً يا حبيبي " .
    تركت المكان وأنا أهرب إلى النافذة لأخفي عن أبني حيرة نفسي واعتلال وجداني ..
    هامت روحي في ذلك الفضاء الرحيب أستنشق عبير الكون ، ما يذيب عن قلبي المعنى بقايا أوجاع لا زالت أصداؤها تصرخ في أعصابي كلما ومضت في الذاكرة بارقة خاطفة تقطع علّي حبل الود وتبدد أحلى الأيام ، لأدرك حقيقة هذه الحادثة .... ثمة شيء كمن في ذاته دفعة عنوة إلى الخادمة ، لحظة ضعف ! انهيار قيم ! فورة مجنونة ! علاقة بخادمة لا تحتمل الشك كشفت أمرهما صدفة ، اضطربت نفسي منذ ذلك اليوم ، لم تعد قناعاتي به تثبت على نسق واحد ، فأواصر ثقتي به قد تمزقت ، وإيماني به قد تغلف بشك وريبة ، أشياء كثيرة فقدت مصداقيتها في حياتي ... بعد أن أثمر هذا الحب طفلنا جاسم يرتجف زوجي رجفة الشيطان وينساق خلسة إلى حب غامض يتكتمه ويداريه خشية افتضاح أمره .
    الماجنة اللعوب كانت تنسج خيوط خبثها وكراً لأطماعها .. الأيام التي أغيب فيها عن البيت تلزم مكانها متعللة بالمرض ، لتغزل شباكها على مهل وتركن في عش غرامها الموبوء ، ليهفو إليها زوجي طوع إرادتها ، ويطير إلى عشها على جناح الحب والرغبة ، لقد كنت مغفلة ، غبية ، ساذجة ، تركت لها بيتاً غير محصن ، أسواره من قش ، جدران البيت ثرثرت كثيراً ووشت بهما ، ثمة همس لا تدركه الأسماع إلا بشق الأنفس ، وإيماءات مريبة تصطبغ بصبغة حمراء تتوارى خوفاً وتترقب الأبصار خلسة ...
    أنفاسها المتهدجة لوعة ، رجفتها الوجلة حينما تسمع صوته ، وانحلالها كلما لمحت طيفه ، قلقها الذي لا يحتمل أي تبرير ، أدركت الآن وبعد فوات الأوان حجم الكارثة التي دمرت حياتي ...
    لست أدري هل كان مقدراً أن أقع عليهما صدفة لأقطع الطريق على هذا الجنون العاثر وأحتوي علاقة لا يمكن التنبؤ بمداها ... الذاكرة مريرة تنشط في دفع الدقائق والتفاصيل إلى السطح ، كأنها مصباح ساطع النور يجلي الحقائق الثقيلة الوقع على النفس لتزدردها الروح على مضض ، حينما كان أحمد يسرف في تدليلها على نحو يثير دهشتي ، غضبته الشرسة كلما اغتظت منها صارخة ، يعنفني ، يؤنبني ، يستثير فيّ مكامن الرحمة والعطف ، يتململ قلقاً كلم طلبت منها أن تغسل سيارتي ( لا ينبغي أن تخرج للشارع ) ما هذه الرحمة التي حلَت على قلبك ، كل الخادمات يقمن بهذا العمل ! على الفور طلب لنا أحد الخدم للقيام بهذه الخدمة ، منعها من الخروج ، حدد لها المهمات والواجبات حتى لا تبذل المزيد من الجهد والعناء ، وناهيك عن أنه خلال رحلاته إلى خارج البلاد كان يحمل لها الهدايا الثمينة ، وكنت أبرر هذا النوع من الاهتمام على أنه مكافأة وتشجيع لها على جهودها المضاعفة ، يا إلهي لم أكن أصدق أن هناك علاقة تنسج خيوطها في الخفاء ، ربما لأنها لم تكن جميلة ، تكتنف أنوثتها بعض الثغرات التي تجفل الرجل ، وجهها ينغمس في استدارات غائرة تفضح طفولة ساذجة لا تجد فيها صفات جذابة ، شيء تألفه مع آلاف الوجوه ، ناهيك عن قامتها الضامرة التي هي أقرب إلى الصبيان منها إلى الإناث ،عندما نخرج معاً تخبو صورتها أمام وهج جمالي واكتناز قامتي ، تذوب في جلجلة سحري وصخب فتنتي ، هل جننت حتى ألتفت إليها أو أشك لحظة في تأثيرها على زوجي ، لا يمكن أن أقارن نفسي بمن دوني مقاماً ، هذه النكرة التي هي أشبه بمسخ ، صورة باهتة الملامح تذروها رياح الأيام فتذرها هباء ، لكني لا أنكر أبداً أنها شعلة نشاط موّارة بالحركة وفورة العزيمة لا تخبو ، تطهو أطايب الطعام حتى في أيام حميتي كانت تتفنن في صنع الأطباق النباتية ، تنهض باكراً لتعد الشاي المعطر لزوجي ثم تكوي ثيابه وتشيّعه حتى باب الدار ، تفتح النوافذ ليتسلل ضوء الشمس إلى الصالة التي كنا نجتمع فيها دوماً ، وفي الأيام التي أغيب فيها عن البيت لسفر طارئ أو في مهمة رسمية تقتضيها مصلحة عملي في الجمعية النسائية كانت ترعى طفلي وزوجي وتوفر لهما العناية الكافية ، وأثناء انشغالي المتقطع تعد الغذاء والعشاء لزوجي ، وعندما يعود منهكاً في المساء تحضر له الحمام الدافئ مع الأعشاب ، وفور أن ينتهي من حمامه تستقبله بالشاي الساخن وقطع الكيك ، وإن بدا غاضباً منزعجاً سارعت إلى إحضار عصير الليمون الطازج لتهدأ أعصابه ، تترقب أوقات خروجه ودخوله ، وأنا من كنت أسألها متى يحضر السيد ... متى غادر المنزل ... هل ترك رسالة .. لقد تمكنت تماماً من السيطرة على منافذ البيت وعرفت كيف تتسلل ، وأين تكمن الثغرات والنقائض ، احتوتنا جميعاً بثوراتنا اليومية ، أسرارنا ، شجارنا ، مزاجنا ، تمتص وتحتوي حتى تذيب الأجواء المشحونة بهدوئها وسكونها ، حينما أعود مضطرة لطارئ إلى
    0

الصفحة رقم 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

بيانات عن الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

عدد زوار الموضوع الآن 1 . (0 عضو و 1 ضيف)

المفضلات

collapse_40b قوانين المشاركة

  • غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
  • غير مصرّح بالرد على المواضيع
  • غير مصرّح لك بإرفاق ملفات
  • غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك
  •  

مكسات على ايفون  مكسات على اندرويد  Rss  Facebook  Twitter