[وكانت تلك هي البداية!]
(انقلها كما نشرتها اول مرة يوم ٥ ديسمبر ٢٠١٧ )
_________________


قالت لي إحدى الطالبات ذات مرة:
- أريد أن أصبح معلمة مثلك، أريد أن أصنع تغييرا كبيرا وحقيقيا في هذا العالم..
فأجبتها بابتسامة ذات معنى:
- ولكنني لم أكن أريد أن أصبح معلمة، لم يكن هذا طموحي ولا هدفي ولا حتى اختياري!
نظرت إليّ الطالبة بدهشة:
- مستحيل!!!! لا أصدق هذا أبدا!!! أنت تقومين بدور المعلمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أشعر أنك خلِقتِ لتكوني معلمة!! لا يمكنني أن أتخيلك سوى معلمة! أنتِ مثال حقيقي للمعلمة!!!
فقلت لها وقد أفلتت مني ضحكة رغما عني، وأنا أتخيل موقفها إن عرفت الحقيقة:
- إذن دعيني أخبرك عن البداية.. قبل سنوات وسنوات...
كانت الاجازة الصيفية- بعد عام من التحاقي بالدراسة العليا- على وشك الانقضاء؛ عندما هاتفتني صديقتي حنان (الأولى على قسم الفيزياء)، قائلة:
- تذكرين "جمانة" أليس كذلك؟
أجبتها بثقة:
- أجل بالطبع، وكيف أنساها؟
(جمانة هي الثانية على دفعتنا خلال دراسة البكالوريوس- ماشاء الله هي وحنان تمثلان ثنائيا في العبقرية الفيزيائية المشار لها بالبنان- ولكنها بسبب ظروف معينة، لم تكمل دراستها العليا، وانخرطت في مجال العمل فورا)
تابعت حنان كلامها قائلة:
- حسنا استعدي لاتصالها، فهي بحاجة للبحث عن معلمة بديلة تقوم بمهامها، لأنها ستنتقل لعمل جديد، وقد تحدثَت معي بهذا الخصوص، ووجدنا أنك الانسب لهذه المهمة...
فقاطعتها بسرعة:
- مهلا مهلا.. ومن قال بأنني أريد أن أصبح معلمة؟؟
- ولماذا لا تريدين ذلك؟ هذه فرصة ممتازة لك، وجمانة وجدت أنك الشخص المناسب، إنها تثق بك كثيرا
- أنت تعرفين أنني لستُ مثلك، ولا مثل جمانة، ماشاء الله عليكما وعلى عبقريتكما الفذة..
- ولكنك تحبين الفيزياء أيضا، وستنجحين بلا شك في نقل هذا الشعور للطلبة، فلديك من الأمانة ما يجعلك اهلا للمسؤولية، وشخصيتك محبوبة...
ورغم أن هذه الكلمات أسعدتني، وداعبت مشاعري، إلا أنني حاولت مقاومتها، فلا شك أنها تريد إغرائي بهذه الكلمات المعسولة وحسب (أعرف هذه الاساليب جيدا!! ومع ذلك؛ ليس من السهل مقاومتها!!!)، حاولتُ التمسك بقناعتي قدر الاستطاعة، فقد كنتُ أتخيل نفسي باحثة أو عالمة تقضي وقتها بين الكتب، وفي المختبرات البحثية والاجهزة العلمية، وليس "معلمة" بين مجموعة من الطلبة! فأجبتها بإصرار:
- لكنني لا أحب مجال التعليم، ولا أريد العمل فيه أبدا، هذا ليس مجالي..
وطبعا بما أن حنان، من أكثر الاشخاص عشقا لمجال التعليم، فقد ثارت علي بقولها:
- هذه هي المشكلة التي تعاني منها الأمة، إذا كنتِ أنت وأمثالك لا تريدون العمل في مجال التعليم الذي يحتاجكم، فلمن ستتركونه إذن!!!
بطريقة ما؛ أشعرتني بأنني السبب في تدهور حال الأمة، وتراجعها وتخلفها، وربما سبب احتلال المسجد الأقصى أيضا، ولم يبق سوى القبض عليّ بتهمة الخيانة العظمى!!!!
حاولت تهدئة الموقف:
- أنا أعرف قدراتي جيدا، وستبدأ الدراسة الجامعية بعد عدة أيام (الدوام المدرسي يسبق الجامعي بشهر تقريبا)، وأريد التركيز على الدراسة فقط، فلستُ ممن يمتلكون القوى الخارقة للتوفيق بين الدراسة والعمل!!
(بالطبع محاضرات الدراسات العليا تكون دائما في الفترة المسائية، لتتيح المجال أمام الطلبة لمزاولة أعمالهم في الصباح، باعتبار أن هناك عدد من المعلمين الذين يعملون في المدارس! ومع ذلك كنتُ أرى أن هذه الموازنة تحتاج لقوى خارقة!! في الحقيقة.. لم أكن أرغب بالالتزام بأي عمل، فلدي أنشطتي الخاصة، ولدي هواياتي الكثيرة، وأريد أن أعيش حياتي حرة طليقة أفعل ما يحلو لي، واستمتع بكل لحظة فيها! وكأن لسان حالي يردد تلك الشارة المعروفة:
"ولهذا أعيش.. ابحث عن حريتي...
كطير بلا ريش، إن ضاقت مساحاتي...!")
لكن حنان لم تكن لتلقي بالا لهذه الحجة (تشعرني دائما بأنها الاستاذ هنا، وعلينا جميعا الانصياع لكلامها!! ومع ذلك؛ كانت ولا زالت صديقتي الوفية المقربة ما شاء الله)، فقالت، كمن يهدد بالاستعانة بالقوات العليا:
- على كل حال.. أريد التحدث مع أمك، ناوليها السماعة لو سمحت!!
وهنا أدركتُ أن الموضوع أصبح محسوما، فإذا اقتنعت أمي بالفكرة (وهي بلا شك ستعجبها جدا جدا)، فليس من طبعي مخالفتها أو معاندتها- أحاول أن أكون "بارة" قدر استطاعتي، منذ أن أدركتُ معنى "البِر"!
وهكذا سارت الأمور، واتصلت بي جمانة، وقد استسلمتُ للأمر الواقع، واتفقت معي على أن أحضر معها الحصص في آخر يوم لها في المدرسة، حيث سأستلم مكانها بعد ذلك، فقد رتبت كل شيء مع المديرة، وما عليّ سوى تنفيذ المهام!!!!! بالطبع بعد أن أخبرت جمانة بمخاوفي، حول مجال التعليم، وخشيتي من عدم قدرتي على تعويض مكانها المتميز بلا شك، طمأنتني بقولها:
- لا تقلقي فسيكون كل شيء على ما يرام، ثم إنني قد تدبرت الأمر وأعطيتهم دروس مسبقة للاحتياط، لذا لن يكون عليك ضغط كبير في انهاء المنهج، ستدرّسين الفيزياء للصف الحادي عشر، والعاشر، والتاسع، ومادة العلوم لشعبتين من الصف السابع، والصف الخامس!! ولا تقلقي بخصوص دفتر التحضير، ولا الراتب، لقد طلبت من المديرة أن تعطيك راتبي نفسه بناء على خبرتي، وليس بصفتك معلمة جديدة، أما فيما يتعلق بالطالبات؛ فمن الأفضل أن لا تخبريهم أنها أول تجربة لك في مجال التعليم، ومن الطبيعي أن يكون لك أسلوبك الخاص، لستِ مضطرة لاتباع طريقتي، فلكل معلم أسلوبه!
(أشعرني كلامها بأنني سأحصل على دور في مسرحية، وعليّ تأديته بشكل لائق!)
بالطبع أعددتُ نفسي جيدا لهذا اليوم، وكأنني أستعد ليوم العيد، بل ربما أكثر!!!!!! ثياب جديدة، حذاء جديد، وحتى نظارة جديدة!!!!! وكأنني انخلع من ثياب "الطالبة" المريحة، لأقيّد نفسي بثياب "المعلمة" المهيبة!!
ولأنها كانت التجربة الأولى، فلم أكن أدرك حقيقة "ثياب المعلمة المهيبة"، والطريقة الصحيحة في التعامل معها، فدخلتُ إلى المدرسة بابتسامة عريضة، باعتبار أن الابتسامة هي أقصر طريقة للقلوب!!!!!!!! ولم أكن أدرك وقتها؛ أن قلوب الطلبة له طريق مختلف!
وهكذا دخلتُ مع جمانة إلى الحصص، حصة تلو الحصة، حيث قامت بتوديع طالباتها وهي تشرح الدرس الأخير، وتعرفهن بالمعلمة الجديدة، التي جاءت معها! المعلمة الجديدة التي تحاول توزيع أكبر قدر من الابتسامات، لعلها تخفف من حدة التوتر الكبير الذي تشعر به في هذه البيئة المدرسية، والتي لم تكن تتوقع أن تعود إليها أبداً بعد التخرج! ولكم أن تتخيلوا مشهد هذه المعلمة البريئة، وهي ترى انفعالات الطالبات جراء إعلان المعلمة جمانة لرحيلها!! على الأغلب كان الوضع أشبه بذهابك لمكان غير مرحب بك فيه أبدا!!!! لا سيما وأن عدد من الطالبات بدأن بالاعتراض والاحتجاج، وكأنني غير موجودة:
- لاااااا يا آنسة جمانة، أرجوك لا تتركينا... لا نريد بديلا عنك أبدا.. نريدك أنت فقط...
بالطبع حاولت جمانة تدارك الموقف- أمامي على الأقل- فأخبرت الطالبات بأنني سأكون معلمة بديلة رائعة، وسيحبونني بلا شك(!!!!!!)
هي تقول هذا الكلام، وأنا أقول في نفسي، فقط دعوني أخرج بسلام!!!
ومع ذلك حافظتُ على الابتسامة العريضة!!
لكن حدث أمر يبعث على القلق، فقد كنت أجلس في الصف الأخير، وقربي بعض الطالبات اللاتي بدأن يتحدثن معي خلال الحصة، وكأنني طالبة جديدة!!!!!
همستُ لهن، كالخائف من التوبيخ:
- استمعن إلى المعلمة وهي تشرح، لا تتكلمن خلال الحصة!
بل لقد تجرأت إحداهن وسألتني:
- هل هذه أول تجربة لك في التدريس؟
للأسف يبدو أن مظهري لم يكن يبعث على "الهيبة" أبدا!!! ولم أكن أدرك حجم هذه "الكارثة" الحقيقي، إلا بعد أن (وقع الفأس بالرأس) كما يقولون!!!
انتهى ذلك اليوم، واستلمت الكتب، فعلىّ مباشرة عملي في اليوم التالي!!!
لم يكن لدي الوقت الكافي للاطلاع على جميع المناهج، ولم أكن القي بالا لذلك، فمناهج المدرسة معروفة و(سهلة) بالنسبة للدراسة الجامعية، هذا ما ظننته!!!
وصلت المدرسة صباح اليوم التالي بهمة عالية وحماسة شديدة، سأثبت نفسي أمام الجميع وسأكون الأفضل، فقد أعددتُ في ذهني الكثير من الخطط التي ينقصها التطبيق والاختبار! وكأنني تحدثتُ إلى إحدى المعلمات الكبيرات (تقريبا كنت أصغرهن سنا في ذلك الوقت)، عن فكرتي حول أول حصة لي مع الطالبات، وكيف أنني أنوي التعرف إليهن أولاً؛ لإشاعة جو من الألفة، فما كان منها إلا أن رمقتني بنظرة غريبة:
- أي تعارف هذا!!! عليك أن تكوني حازمة، وتبدئي معهن بالدروس فورا!!
بالطبع لم أكن قد أعددتُ نفسي لتقديم أي درس في ذلك اليوم، وقلت لا بأس بأن تكون الحصص الأولى مع كل فصل للتعارف، ثم إننا غير "مضغوطين" في المناهج كما قالت جمانة، وضياع حصة واحدة في التعارف لن يؤثر على سير المنهج!!! ثم إنني لا أريد أن أكون مثل اولئك المعلمات المملات الصارمات، أريد جواً أكثر متعة وبهجة، فأنا أعرف كيف أجذب اهتمام الآخرين بأسلوبي المتميز، وحديثي الشائق، ولستُ مثلهن من "الدقة القديمة" كما يقولون! لقد آن أوان اختبار مهاراتي الفائقة!!!! وبلا شك سيتحدث الجميع عني وعن طريقتي الفريدة الرائدة في التعامل مع الطلبة، بل سيحاولون محاكاتي، وربما يعيدون نظرتهم إلى التعليم من جديد، ويؤلفون الكتب بناء على ذلك أيضا!!!
وكأي شاب "مغرور" يظن نفسه أقدر على مواجهة التحديات بعبقريته الفذة، دون الاستماع لتجارب الأكبر سنا، تلقيتُ صفعة شديدة لا انساها طوال حياتي... كان درسا مؤلما حقا!!!
(أظنني كنت أشبه "حسان" من "سلام دانك" وهو يضع يديه على خاصرته ويضحك بسعادة، غارقا في أحلام اليقظة؛ قبل أن يأخذ ضربة على أم رأسه، لتعيده إلى واقعه!!)
فقد دخلتُ بدايةً إلى الصف الخامس، والقيت عليهم التحية بابتسامة ودودة، وبعد أن عرفتهن بنفسي، قلت بنبرة يغلب عليها طابع المرح:
- والآن أريدكم أن تعرفوني بأسمائكم وهواياتكم..
وكأن الطالبات تبادلن نظرات ذات معنى، وأخذن يتغامزن فيما بينهن (أو هكذا خيّل إليّ)، ولسان حالهن يدل على التعجب من هذه الحركة، وأخذت إحداهن تردد بسخرية:
- هيا نتعرف... اسمي وهواياتي......
ثم بدأ هتاف البقية يعلو:
- أنا سأتكلم أولا..
- بل أنا....
- ابدئي من هنا يا آنسة...
- لا بل من هنا...
فحاولت حسم الموقف بالاشارة إلى طالبة تجلس في المقعد الأول على الزاوية اليمنى:
- هيا فلتبدئي أولاً...
ووقفت الطالبة وبدأت تتحدث عن نفسها، لتليها الطالبة المجاورة وهكذا، وأنا أحاول الاصغاء باهتمام شديد، لكن خلال ذلك تفاجأت بأصوات الازعاج ترتفع تدريجيا في الصف، كأننا في خلية نحل أو مصنع طائرات نفاثة!! حاولت أن أطلب من الجميع الهدوء، حتى نستمع معاً لمن تتكلم؛ لكن صوتي ضاع! فلم أعد قادرة على التركيز مع الفتاة التي تعرّف بنفسها، ولا أنا قادرة على تهدئة الطالبات الاخريات وضبط الصف، فهناك مجموعة بدأت تلعب بالايادي، وأخرى تتجاذب أطراف الحديث، ومجموعة أخرى بدأت تتحرك من مقاعدها....
لقد خرج الوضع عن السيطرة تماما!!!!! شعرت أنني غارقة وسط محيط هائج، تتقاذفني الأمواج، ومن ثم أفلتت مني الخشبة التي كنت أتشبث بها!! فلم يعد هناك معنى لتعريف أي أحد بنفسه، لقد تحول الازعاج إلى ضجيج يصم الاذان، وأنا انظر بذهول حولي (كالأطرش بالزفة) كما يقولون!! ما الذي يجري هنا!!! كيف انقلبت الأوضاع هكذا فجأة؟؟؟
وبدأت بعض الفتيات يتذمرن:
- آنسة اطلبي منهن الهدوء، رأسي أوجعني!
- آنسة انظري إلى فلانة، شدت شعري!
- آنسة هذه أخذت قلمي...
- آنسة... آنسة....آنسة...
يا إلهي علي أن أتصرف حالا!! متى ستنتهي الحصة؟؟؟؟؟؟ ونظرت إلى الساعة، لا زال أمامي أكثر من نصف ساعة في هذا العذاب!!!!!
ثم بدأت أصرخ:
- هدوووووووء هيا أخرِجوا كتبكم، سنكمل الدرس....
لكن صوتي ضاع مرة أخرى وسط المعمعة، يا إلهي كأننا وسط حرب ضروس لا يسمع بها سوى صوت صليل السيوف، وحوافر الخيول، وصراخ الجرحى!!!! ما هذا الجنون!!!! ويبدو أن اليأس بدا على وجهي بوضوح، فقد نهضت نحوي إحدى الفتيات وهي تحمل مسطرة قائلة:
- يا آنسة عليك أن تضربي الطاولة بالمسطرة حتى يهدأ الجميع، هكذا كانت تفعل الانسة جمانة..
وبدون وعي مني؛ تناولت منها المسطرة، وبدأت أضرب على الطاولة، لكن دون جدوى، فتبرعت فتاة أخرى بخطة جديدة، إذ تناولت ممحاة اللوح وأخذت تضرب بها على اللوح بقوة، وتصرخ:
- هدوء يا بنات.. هدوووووء...
والتفتت إلي لتشرح لي الدرس:
- عليك أن تصرخي هكذا يا آنسة، فصوتك غير مسموع!
وكأن حركتها شجعت الجميع للمشاركة في تحدي "من يُسكت الصف، وينشر الهدوء!!" إذ توافدت المتبرعات في المساهمة في نشر السلام، وبدأت تنشب بينهن شجارات أيضا:
- لا تضربي الطاولة بالمسطرة، هذا مزعج..
- بل هكذا كانت تفعل الانسة جمانة..
- كلا ليس هكذا، بل هكذا...
- لا يا آنسة لا تسمحي لها بضرب اللوح هكذا...
- اسمعيني أنا يا آنسة، جربي الدق على الباب، سيظنون أن أحد قادم...
- كلا لا تستمعي لها يا آنسة...
- هل أذهب وأنادي المديرة؟؟
- بل ما رأيك أن تنادى الآنسة رحاب فالجميع يخافون منها، هل أذهب وأناديها؟
(كان الوضع أشبه بأشخاص يحاولون الاتصال بالنجدة والاسعاف ورجال الاطفاء للسيطرة على حريق اندلع فجأة، وخرج عن السيطرة)
خمس فتيات تقريبا مجتمعات حولي أمام اللوح يُشِرن عليّ باقتراحاتهم لضبط الصف، ناهيك عن تجربتهم لأصواتهم أيضا من أجل إسكات الاخرين، مما استفز فئة أخرى، فاحتجت بقولها:
- لا تصرخي علينا.. من تظنين نفسك، أنت لستِ الانسة..
- بل أنا أساعد الانسة، أليس كذلك يا آنسة؟
وطبعا كدت أفقد صوابي:
- هيا عودوا جميعا إلى أماكنكم، سأتصرف وحدي..
ولكن أي تصرف هذا الذي سأتصرفه!! فلستُ أدري ما العمل، ولا كيف يمكنني الخروج من هذه الورطة!!
وكأن عقارب الساعة أصابها الشلل، إذ لم يبد أنها قادرة على الحركة، فقد طالت الحصة أكثر مما يجب.. (ولو كنت أعرف ما الذي سألقاه في الحصص التالية؛ لما تمنيتُ أن تنتهي هذه الحصة أبدا؛ رغم كل مآسيها!)
لا بد أن أجد طريقة أبدأ فيها الدرس مهما كان الثمن، فتناولت كتاب العلوم من إحدى الطالبات (لم يكن معي الكتاب على ما أذكر، فهذا ليس ضمن خطتي)، وأخذت أتصفح الجزء الذي يجب تقديمه، كنت أريد قليلا من الهدوء فقط لأركز... أين وصلت جمانة؟؟ وبدأت إحدى الطالبات تخبرني بما أخذوه وما لم يأخذوه، وأخرى تكذّبها..
- كلا ليس هنا...
- لا بل هنا....
الفقاريات واللافقاريت، الزواحف، البرمائيات، الثديات،.........
(ما شأني "أنا" بهذه الحيوانات!!!!!! لا ينقصنا إلا غابة فقط، البقاء فيها للأقوى!)
حاولت استرجاع هذه المعلومات البسيطة، بإلقاء نظرة سريعة على الصفحات، غير أنها بدت لي في قمة التعقيد في تلك اللحظة بالذات!!!! كيف يجب عليّ شرح هذا!!! هل أطلب منهم فتح الكتب وقراءة الدرس وكأنها حصة مطالعة؟ هل أقوم بقراءة الدرس عليهم وكأنهم يستمعون إلى قصة؟ هل أكتب على اللوح!!!!!! وماذا سأكتب!!!!! ما الذي عليّ فعله بالضبط؟؟؟ إن هذا بلا شك يحتاج إلى تحضير مسبق!!!!
وخلال ذلك طلبت إحدى الطالبات مني الذهاب إلى الحمام، فأذنتُ لها، ثم طلبت مني طالبة أخرى الذهاب للحمام أيضا؛ فأذنتُ لها... ووسط تلك الفوضى العارمة، لم أعرف عدد الطالبات اللاتي خرجن من الصف، من أجل الذهاب إلى الحمام!! وإن كنتُ قد بدأتُ أشعر بأن عدد الطالبات قد تقلص من الفصل بشكل مثير للانتباه!
وكأن الباب فتح فجأة، ودخلت معلمة أرعبت الجميع، بصراخها، إذ خمدت الأصوات فجأة، وكأن الدم تجمد في عروقهم:
- ما هذا الازعاج يا صف خامس، اين ذهبت معلمتكم؟؟؟
وطبعا كنت أقف على استحياء، وسط الصف الهائج المائج، فيما أشارت الأصابع نحوي كطالب مذنب:
أنا هنا!!!
وابتسمتُ لها والعرق يتصبب مني، فيما صُدمت المعلمة التي لم تتوقع هذا أبدا، فوقفت مشدوهة تتأملني لبرهة....
لكنها- وبكل احترام- نادتني لتكلمني خارج الصف:
- أنت الانسة الجديدة، حسنا عليك أن تكوني أكثر حزما، الصفوف المجاورة تشتكي من شدة الازعاج هنا، كما أن طالباتك قلبن الدنيا رأسا على عقب في الممرات وعلى الأدراج، ما كان عليك أن تسمحي لهن بالخروج أيضا!!
وكما يقود الراعي قطيعه، أعادت تلك المعلمة الصارمة اولئك (العفاريت) الصغيرة الشاردة إلى الفصل، وأغلقت علينا الباب من جديد، لأتصرف معهم وحدي هذه المرة!!
يا للإحراج!!!!!!!
ولم أكن أدري أن هذا "الصف الخامس"، هو "نعمة" بالنسبة للصفوف الأخرى..
إنها مجرد "مقبّلات"، و"الوجبة الدسمة"؛ لم تأتي بعد!!!
هل هذا يوم الحساب؟؟؟
لقد كانت هذه هي البداية فقط....
******
******
(تمت)


ملاحظة بعد نهاية القصة:
كان عنوان القصة في البداية "عشرة أيام فقط" لكنني تفاجأت بأن القصة أصبحت طويلة وربما ستتحول إلى رواية على هذه الشاكلة!!! لذلك غيرتُ العنوان واكتفيتُ بهذا القدر 😊
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
٥ ديسمبر ٢٠١٧
·