مشاهدة النتائج 1 الى 9 من 9
  1. #1

    مشاهد قصصية مختلفة، بتصنيفات متنوعة!

    بسم الله الرحمن الرحيم
    والصلاة والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين


    في عام 2019 خطر ببالي إعداد مشاهد قصصية متفرقة، لأجرب الكتابة بأكثر من تصنيف، فجاءت هذه القائمة، والتي تضم مشاهد لقصص غير مكتملة.. (ولا اظنني افكر بإكمالها!)، ومع ذلك وجدت أنه من الخسارة أن لا يتم نشرها!!^^

    سأنشر أولا العناوين، ثم سانشر مشهدا في كل رد على هذا الموضوع إن شاء الله...

    1- عام 2222 م
    2- العمارة المسلسلة
    3- اسطورة العرهرة العيطموس
    4- انشطار
    5- الرعب الحقيقي
    6- الانصاف القاتل

    وأخيرا.. سأترككم مع:
    7- مختارات من رواية "تركته لأجلك"



    وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
    sigpic268332_2
    يسعدني دعمكم ومعرفة آرائكم حول رواية ومانجا "مدرسة الفروسية" ^^
    https://nebrasmangaka.com/


  2. ...

  3. #2

    عام 2222 م!

    عام 2222 م!


    كانت الاستعدادات لذلك اليوم الكوني المميز على قدم وساق في جميع دول العالم، فرغم أن الجميع احتفل قبل شهر تقريبا بدخول عام 2222م والذي رافقه تنافس كبير بين كبرى الشركات العالمية للإعلان عن منتجاتها، بالاضافة إلى العروض التنافسية الهائلة المقدمة من مختلف الوكالات الفضائية، لزيارة القمر والكواكب المجاورة، والتنزه في الفضاء في جولات سياحية ميسرة، على متن مركبات فضائية حديثة تُطرح لأول مرة في العالم، بعد أن ولّى عهد الرحلات التقليدية المرافقة للصواريخ النووية، رغم كل تلك العروض؛ إلا أن المفاجآت الحقيقية تم تأجيلها لذلك اليوم المميز (2/2/2222م)، اليوم الثاني من الشهر الثاني لعام 2222م، الموافق للتاسع عشر من شهر شعبان لعام 1649 هـ !
    ورغم الاستعداد الكبير في جميع دول العالم لذلك الحدث الهام، الذي لم يتكرر إلا مرة واحدة قبل 1111 سنة؛ إلا أن التطلعات الحقيقية كانت متجهة لوكالة المصاعد الفضائية العربية، حيث أعلنت عن مفاجأتها المزدوجة لذلك اليوم، والذي يتزامن مع مرور مائة عام على قيام الدولة العربية المتحدة العظمى، والتي تضم اثنان وعشرون ولاية، تمتد من الخليج العربي شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن الهلال الخصيب شمالاً إلى بحر العرب جنوباً..
    كانت المدن العربية تعتبر الأكثر حظاً في العالم، ولطالما سعى كبار الأثرياء في الدول الأخرى للهجرة إليها، للاستفادة من ميزاتها والتنعم برفاهيتها وأمنها واستقرارها، ناهيك عن المساحات الهائلة التي تحتضنها، إلى جانب التنوع الجغرافي الكبير الذي تنعم به، مما يتيح لزائريها فرصة التجول في أنحائها بمتعة وسهولة في الوقت نفسه!
    وفي إحدى البيوت العربية- قبل يومين من هذا الحدث الهام، تحديداً يوم الخميس، اليوم الأخير من الشهر الاول لعام 2222م، والموافق للسابع عشر من شهر شعبان لعام 1649 هـ - كانت الجدة التي تجاوزت المائة عام من عمرها ببضع سنوات؛ محاطة بأحفادها وهم يحثونها على إكمال حديثها عن الحرب العالمية الرابعة، فتنهدت الجدة:
    - كل ما أعرفه عن فترة الحرب كان من حديث أمي وجدتي رحمهما الله، فعندما ولدت كانت الحرب قد وضعت أوزارها بالفعل، ولكن بسبب وجودنا ضمن المناطق المتضررة من الحرب، اضررنا للانتقال لأماكن بعيدة ريثما تتم الاصلاحات، ولم تكن الدنيا متطورة كما هي الآن، فلم يكن من السهل علينا اصطحاب بيوتنا معنا خلال السفر كما تفعلون الآن، بل كنا نضطر لاصطحاب جهاز المراقبة الضوئية رباعية الأبعاد، للإطمئنان على منازلنا خلال فترة غيابنا، كما كنا نضطر دائما لتفعيل جهاز الانتقال الآني المخصص لنقل الأشياء، لإحضار ما نحتاجه من البيت خلال فترة ابتعادنا عنه، ولا يمكنكم أن تتخيلوا مقدار العناء الذي كنا نعانيه مع ذلك الجهاز القديم، فقد كان يستغرق ربع ساعة حتى تتم برمجته على الشيء الذي نرغب بإحضاره آنيا من منزلنا!
    فشهقت إحدى الفتيات:
    - يا إلهي! ربع ساعة كاملة فقط لطلب شيء واحد عبر جهاز الانتقال الآني!! كان الله بعونكم يا جدتي!
    فيما قالت اختها الكبرى:
    - تذكرت ذلك الجهاز القديم، لقد رأيته في المتحف خلال رحلتنا المدرسية!
    وقال الأخ الأوسط:
    - الحمد لله أننا لم نشهد ذلك الزمن المتخلف، لقد كان متعبا حقا! تخيلوا لو أننا لا زلنا نستعمل ذلك الجهاز الآن، فربما احتجنا يوماً كاملاً لانهاء التسوق حول العالم!!
    فابتسمت الجدة:
    - لم تكن تلك الأجهزة متاحة للتسوق من المحلات التجارية حول العالم، كما تفعلون الآن، كانت مرتبطة بالبيوت فقط، للاستخدام الشخصي!
    فشهق الأولاد:
    - ماذǿ؟ وكيف تتسوقون إذن؟ فلا أظن أن مركباتكم النفاثة القديمة ستسمح لكم بالقيام بأكثر من جولة واحدة حول العالم في اليوم الواحد!
    فقالت الجدة:
    - كلامك صحيح فلم يكن لدينا سوى مركبة نفاثة واحدة، من النوع الذي ترونه في المتاحف الآن، وكنا نستخدمها فقط للنزهات، خاصة عندما نسمع عن افتتاح منتزه جديد في القطب الشمالي! لذلك كنا نكتفي باستعمال الشاشات الخاصة لشراء ما يلزمنا من أي مكان..
    وصمتت الجدة قليلا قبل أن تتابع:
    - على سبيل المثال، كان يستغرق إحضار سمك السلمون الطازج من النرويج ساعتين، بعد طلبه عبر الشاشة!
    ففقالت الابنة الكبرى:
    - لا شك أن الحرب ساهمت في تأخير التطور يا جدتي، أشعر وكأنك تحدثيننا عن العصر البترولي!
    فقالت الجدة بحكمة:
    - رغم وبال الحرب لكنها حملت معها الخير أيضاً، يكفي ما نتج عنها من توحد الدول العربية أخيراً، لمواجهة العدو المشترك! كان هذا بحق أعظم إنجاز يمكن تخيله! ولا تنسوا أن اكتشاف "الداليوم" بعد ذلك في المنطقة العربية أدخلنا عصراً جديداً، حيث أصبحت الأمور المستحيلة ممكنة!
    وفي تلك اللحظة دخلت الأم بلهفة وهي تزف خبراً مفرحاً:
    - هل سمعتم عن الخبر الذي أعلنته وكالة المصاعد الفضائية الآن؟؟ سيتم إجراء خصومات تصل إلى تسعين بالمائة على رحلات المصاعد الشفافة إلى المحطة الفضائية الأولى، وسيرافق العرض توفير أماكن تخييم مجانية على سطح القمر!
    لم يستطع الأولاد تمالك أنفسهم من الفرحة، فأخذوا يتقافزون بحماسة، وهم يتحدثون عن مخططاتهم للرحلة، فيما التفتت الأم نحو الجدة:
    - الحمد لله وأخيراً يمكننا الوفاء بوعدنا للأولاد والتخيم على القمر قبل رمضان! رغم أنهم زاروا القمر عدة مرات، لكنهم ما زالوا مصرين على فكرة التخييم، ولم تكن ظروفنا تسمح بتلك التكاليف الهائلة في ذلك الوقت!
    وهمست للجدة خشية أن يسمعها الأولاد:
    - لقد طرحوا عروضاً مميزة للمريخ أيضاً، ولكنني آمل أن لا يزعجنا الأولاد بها، فتكاليفها لا تزال مرتفعة قليلاً!
    فتنهدت الجدة:
    - على زماننا كانت التكاليف لا يمكن تخيلها حتى لزيارة عادية للقمر، وقلة من كانوا يستطيعون زيارته بشكل دوري، بل لم نكن نفكر بالذهاب إلى هناك أكثر من مرة واحدة، خلال الرحلات المدرسية فقط! سبحان مغير الأحوال!!
    **
    قضيت صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، واستقل المصلون عرباتهم النفاثة المصطفة في المصاف الهوائية الممغنطة والتي ازدحمت بعربات المصلين القادمين من المدن العربية والاسلامية المختلفة، وبدأت الساحات المكتظة تخلو تدريجيا من زوارها، عندما انتبه ناصر مراد- الذي لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره - ليد تربت على كتفه، وصوت يعرفه جيدا يهتف باسمع، فالتفت مراد نحوه بسعادة كبيرة:
    - زهير عامر؟؟ ما هذه المفاجأة يا رجل! لم أرك منذ فترة طويلة؟
    فرمقه زهير بنظرات لائمة:
    - هذا السؤال موجه لك تحديداً، فمنذ التحاقك بوكالة المصاعد الفضائية العربية لم نعد نسمع عنك شيئاً! لقد توقعتك ستؤدي صلاة الجمعة في الحرم المكي ولو لمرة واحدة خلال هذا الشتاء على الأقل، لن يستغرق الأمر منك أكثر من نصف ساعة وتكون هناك!
    ثم استطرد بغبطة:
    - هل تذكر سعيد أحمد؟ لقد سمعت أنه يصلي الجمعة مرة في الحرم المكي، ومرة في المسجد النبوي، ومرة في المسجد الأقصى، ثم يعيد الكرة نفسها على مدار العام!
    فتنهد ناصر:
    - ما شاء الله! إنني أشعر بالتقصير حقا، خاصة وأنني لم أزر المسجد النبوي منذ ثلاثة أشهر! في الحقيقة لم أتوقع أن يأخذ العمل مني كل هذا الوقت والجهد! والحمد لله أن وكالة المصاعد الفضائية أنشئت في القدس على الأقل، وإلا لما ضمنتُ أن اصلي في المسجد الأقصى أيضاً!
    فحملق فيه ناصر بدهشة:
    - وضعك أصعب مما تخيلت! وكأنك في العصر البترولي! ماذا دهاك يا رجل! لا تقل لي أنه لا يمكنك استقطاع نصف ساعة من يوم الجمعة أيضǿ! من الجيد أنني قررتُ الصلاة في المسجد الأقصى هذه الجمعة، لأقابلك قبل أن تفقد صوابك!
    واطلق ضحكة مرحة وهو يتأمل قبة الصخرة، وساحات الأقصى حوله:
    - من الجيد أن هناك شيء يذكرك بالزمن القديم هنا وسط كل هذا التطور الهائل! الحمد لله أنهم أبقوا على أسوار بلدة القدس القديمة كما هي أيضاً..
    فابتسم ناصر:
    - ربما هذا هو السبب الذي يجعلني أحن إلى هذا المكان، فهو يشعرني بنفحات الماضي وكأنني أتنفس عبقها عبر التاريخ..
    فأخذ زهير يصفق قائلا بنبرة جادة مصطنعة:
    - أحسنت أيها الاديب العظيم، لم أكن أعلم أنك شاعر!
    فضحك ناصر:
    - لو سمعك شوقي لانعقد لسانه من هول الصدمة! هل تسمي هذا شعراً يا رجل!!
    فردد زهير بلا مبالاة:
    - شعر.. أو نثر.. أو سمه ما شئت.. منذ متى وأنا مهتم بالأدب والفن! المهم، ماذا بشأن هذا الخصم الذي نشرتم إعلانه ليلة أمس؟
    فأجابه ناصر:
    - تقصد عرض المصاعد الشفافة إلى محطة الفضاء الـ..
    غير أنه بتر عبارته فجأة وقد تذكر شيئا:
    - يا إلهي.. اليوم لدينا اجتماع خاص في الوكالة، فغدا هو يوم العرض المميز كما تعلم..
    قال جملته تلك وأخذ يجري باتجاه باب الأسباط، فيما أخذ زهير يجري خلفه هاتفاً:
    - لم تعطني حسابك البلازمي لأتواصل معك قبل أن تختفي من جديد!
    **

    انتهى الاجتماع الخاص بطاقم الصيانة والمراقبة، في وكالة المصاعد الفضائية، بعد أن تأكدوا من سلامة المعدات والآلات، واطمأنوا على كافة الاستعدادات ليوم غد، حيث من المتوقع أن يزور الوكالة مع ساعات الصباح الأولى ما يربو على عشرة آلاف زائر من مختلف دول العالم، وهمّ ناصر بالعودة إلى منزله بعد انفضاض المجتمعين، لكنه شعر بشيء ما يدفعه لتفقد الممرات السفلية! كان مجرد حلم رآه في الفترة الأخيرة أرّقه بشدة، لكنه لم يحدّث به أحداً أبداً! وها هو يسلك الممرات نفسها التي رآها في الحلم، وأخذ يتجول في التجويفات الدائرية الضخمة، القابعة أسفل المصاعد العملاقة.. لم يكن هناك أي شيء مثير للريبة، كل شيء على ما يرام.. وكل شيء مهيّأ ليوم غد..
    فتنفس ناصر بارتياح، وهمّ بالعودة من حيث أتى قبل يغلق الحرّاس المبنى، غير أن صوتا استوقفه فجأة، فتجمّد في مكانه واختبأ خلف احد الأعمدة ليرخي السمع جيداً، حتى تبيّن صوت اثنين من حرس المبنى وهما يقومان بجولتهما المهعودة، فابتسم ساخراً من نفسه:
    - يا لي من أحمق! فالحرس يلازمون هذا المبنى ليل نهار!! لقد بدأت أتخيل الأمور بلا ريب، وأخشى أن افقد صوابي فعلاً كما قال زهير!
    وما كاد أن يخرج من مخبئه، حتى فوجيء بيدين غليظتين تقيدانه من الخلف بإحكام، باستخدام الأشعة الباردة، وصوت أجش يسأله باتهام واضح:
    - ما الذي تفعله هنǿ
    ارتبك ناصر، وحاول تبرير موقفه، بعد أن أدرك حجم الكارثة التي ألحقها بنفسه، فقال دون أن يلتفت إلى محدثه:
    - كنت أتفقد المكان وحسب..
    فعاجله الصوت الأجش بصرامة، وهو يضغط على ذراعي ناصر بقوة أوجعته:
    - وهل هذا عملك؟ أليس من الأفضل أن تبحث على كذبة اكثر منطقية من هذه! هيا اعترف بسرعة، ما هو هدفك؟
    كان ناصر يجيد استخدام طاقة الدفع السباعي، بالاضافة لمهارته بفن الارتطام الثماني والتقييد المزدوج، لكنه لم يشأ أن يزيد الطين بلة، لا سيما وأنه هو من جلب الشبهة إلى نفسه بنفسه، ولا بد من أن يجد طريقة حكيمة للخروج من هذا المأزق، فاستسلم لقسوة ذلك الرجل رغم الآلام الشديدة التي ألحقها به، وهو يصر على استجوابه:
    - هيا اعترف، لصالح من تعمل؟
    وأدرك ناصر إنه لا فائدة من الجدل مع ذلك الحارس- كما تصوره- فاكتفى بقوله:
    - يمكنك أن تسلمني لرئيس الوكالة أو حتى قائد التحقيق وسأشرح لهم كل شيء، فلا يوجد لدي ما أقوله أكثر مما أخبرتك به، كنت أتفقد المكان وحسب..
    - وما الذي جعلك ترغب بتفقد المكان الآن؟!
    فتنهد ناصر وهو يحاول كتم آهات الألم:
    - لا يوجد سبب منطقي لذلك.. مجرد احساس لا معنى له، فهل ستصدقني الآن؟!
    خيم صمت على المكان قبل ان يتابع الرجل سؤاله:
    - وهل هناك أحد آخر يعرف عن إحساسك هذǿ
    لم يكد ناصر يسمع هذا السؤال، حتى راوده القلق من جديد.. لم يكن قلقه هذه المرة مرتبطاً بمأزقه الشخصي؛ بل بذلك الحلم الذي بدأ يتجلى أمامه من جديد، وأمام صمته حثه الرجل على السؤال من جديد:
    - هيا أجب.. هل هناك أحد آخر يعرف عن إحساسك هذǿ
    عندها.. لم يعد أمام ناصر مجال للتفكير أو حتى أدنى قدر من تردد، فاستجمع طاقته وشد عضلات جسده، ليبلغ أقصى قوة له، وبلمح البصر أفلت من الرجل الذي قيده من الخلف، قافزاً في الهواء بخفة، قبل أن يركل جذعه الضخم بقدمه اليمنى، ويطرحه أرضاً، قبل أن يجد الرجل فرصة لالتقاط أنفاسه المندهشة، لهذا الانقلاب المفاجيء!
    وإذ ذاك اكتمل المشهد أمام ناصر أخيرا..
    كالحلم تماماً..
    فهل سينجح بالتصدي لتلك الكارثة المهولة قبل صباح الغد؟!
    ***

    وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
    اخر تعديل كان بواسطة » امة القادر في يوم » 22-06-2022 عند الساعة » 21:24

  4. #3

    العمارة المسلسلة!

    العمارة المسلسلة


    عشرون عاماً مضت على رحيلنا من هذه المدينة، وها أنا أخيراً أحظى بفرصة زيارتها ولو لفترة وجيزة، هناك كان الحي الذي أقمنا فيه، عبر ذلك الشارع بالضبط كنت أسير وحيدة عندما أعود من المدرسة متأخرة، فلا ينتظرني أحد.. أجل هناك كانت مدرستي أيضاً! لم أعد أحتمل الانتظار، أشعر بلهفة كبيرة لرؤية عمارتنا القديمة، والتي جمعت في طوابقها ثلة متباينة من الأصدقاء، الذين لا يجمع بينهم شيء سوى أنهم يقيمون في العمارة نفسها! هكذا تعرفتُ إليهم أول مرة! كنا مجرد جيران لا أكثر!! وإنني أتساءل.. ما نوع الناس الذين يقطنونها الآن؟ وهل لا يزال أحد من ساكنيها القدماء الذين أعرفهم؛ موجود فيهǿ! ستكون هذه معجزة بلا شك! وهكذا بدأ قلبي يخفق بشدة، وكأنه على موعد مهيب.. ماذا سافعل إن وصلت؟ هل سأطرق الأبواب وأتاكد من هوية الجيران؟ ماذا سأقول لهم؟ لقد كنتُ أقيم هنا قبل عشرين سنة؛ وجئت لأستعيد الذكريات؟! للأسف لم تكن التكنولوجيا الحديثة قد وصلتنا في ذلك الوقت، فلم تكن من وسيلة تضمن تواصلنا لفترة طويلة!! ربما سأبدا بطرق باب الشقة التي كنا نقيم فيها، فهي في الطابق الأول على أي حال.. هذا ما كان يجول في ذهني، غير أن المفاجأة كانت أكبر مما تخيلت!! في البداية شعرت بالحنين يجتاحني إلى تلك الأيام وأنا أعبر الشارع المؤدي إلى عمارتنا، كان يبدو كما هو.. لا شيء تغير أبداً.. العمارات على جانبيه كما هي، خطوات قليلة وسأصل إلى عمارتنا، اكاد أراها الآن من هذا المنعطف، لا أكاد أصدق أن عشرين سنة قد مرت على هذا المكان حقاً! مشيت بقلق كبير، ماذا سأفعل إن وصلت؟ بماذا أجيب أصحاب العمارة الآن؟ ماذا إن رآني أحدهم أحملق في ذلك المكان، فلا شك أن مظهري يبدو غريبا، وكأنني قادمة عبر الزمن، أو هذا ما كان يجول في ذهني في تلك اللحظة، ثلاث خطوات.. خطوتين.. خطوة واحدة.. وها أنا أخيراً مامك يا عمارة الماضي!!
    لم أصدق عيناي في البداية، العمارة كما هي.. لا شيء تغير أبداً، حتى دهان حوائطها الخارجية كما هو! لا يبدو أنه قد خضع للتجديد، وفي الوقت نفسه كأن عامل الزمن لم يؤثر به، ولا حتى عوامل التعرية الطبيعية! كل شيء كما هو تماماً.. حتى البوابة الخارجية الحديدية؛ شكلها ولونها.. بل أكاد أجزم أن بقع الصدا عليها لم تتغير عما كانت عليه قبل عشرين سنة، لم تزد ولا حتى نقصت! شيء وحيد بدا مختلفا.. أو ربما زائداً وحسب.. سلسلة حديدية، بل مجموعة سلاسل بأقفال مختلفة الأحجام قد التفت حول مقبضي البوابة! عندها انتبهت بأن النوافذ مشرعة، والفتحات المخصصة لأجهزة التهوية، تشير إلى أن المكان مهجور بأكمله، فلا يوجد ما يشير إلى وجود حياة فيها.. أو على الأقل، حياة بشرية! ما الذي جرى لهذا المكان بالضبط؟ لماذا هجره الجميع؟! ماذا حل به وبأهله؟! لقد كنا أول الراحلين من هذه العمارة، وكان كل شيء يبدو فيها على ما يرام، فماذا عن البقية؟! أو لحظة.. لا يمكنني القول أن كل شيء كان على ما يرام حقاً.. لا يمكنني أن أنكر أن هناك شيء "غير طبيعي" كان يخيم على المكان!
    رفعت رأسي أتامل الطوابق الأربعة، في كل طابق شقتين، شقتنا في الطابق الأول على اليسار، وللأسف لا يمكنني رؤية نوافذها بسبب السور العالي الذي يفصلني عنها الآن، وربما من حسن الحظ أن البوابة كانت مسلسلة؛ فلا أظنني سأجرؤ على الدخول! أما الشقة التي تعلوها ففيها كانت تقنط إحدى الصديقات أو ربما يمكنني نعتها بإبنة الجيران وحسب، ومقابل شقتهم تقيم صديقتي المقربة، أظنها كانت أكثر من مجرد جارة، وفوق شقتها تقيم صديقة أخرى، بإمكاني نعتها بالصديقة أيضاً بكل صدق، رغم اختلاف أذواقنا الكبير! هذه هي أبرز الشقق التي تحتضن أجزاء كبيرة من ذكرياتي، أما الطابق الرابع فلم يكن أحد منا يفكر بالوصول إليه، ولا حتى تجاوز درجات الطابق الثالث! أما أكثر شقة قضيتُ فيها وقتاً بعد شقتنا بالطبع، فهي تلك الشقة في الطابق الثاني، حيث كانت تقيم أعز صديقاتي..
    أذكر ذات مرة أنني استأذنتُ والدتي لزيارتها بسرعة، من أجل نقاش بعض الأمور، فأذنت لي على شرط أن لا أتأخر، بالطبع لم تكن أمي لتعطيني تحذيراً كهذا لولا السوابق التي ارتكبناها بحق الزمن، إذ كنا نتجاهل رؤية الساعة تماماً، وكأنها غير موجودة؛ فما يكون منها إلا أن تنتقم منا بدورانها السريع، غير آبهة بحاجتنا الماسة لتأنّيها! ورغم ذلك التحذير، وذلك الوعد؛ لم أنتبه لا أنا ولا صديقتي؛ إلا على صوت طرق الباب، لأجد أمي بنفسها قد صعدت وعيناها نصف مغلقتين، فيما كان الشرر يتطاير منهما:
    - أمامي الآن إلى المنزل..
    لم أفهم سبب غضب أمي في البداية، ولا سبب صعودها بنفسها لإخباري بأن عليّ العودة، فقد كان بإمكانها إرسال أختي الصغيرة مثلاً! صدقاً لم استوعب ذلك كله إلا بعد أن باغتتنا الساعة بمفاجأتها الصادمة، وكأنها تخرج لسانها في وجهنا شامتة.. لقد تجازتم نصف الليل بأكثر من ساعة أيتها المغفلتنان!
    اعتذرتُ لأمي بصدق وندم شديد، وأقسمتُ لها بأنني لم أقصد هذا، وأن الوقت باغتنا رغماً عنا، حتى صديقتي شاركتني الاعتذار أيضاً، فلم تكن هي الأخرى قد انتبهت بان أهلها جميعاً قد غطوا بالنوم منذ زمن! وبالطبع كان العقاب معروفاً.. لا زيارات بعد اليوم، فأنتم ترون بعضكم في المدرسة وهذا يكفي! وبالطبع لم أكن لأجرؤ بالقول بأن غداً إجازة! لم يكن لدينا في ذلك الوقت وسائل التواصل التي تتيح للانسان مناقشة أي فكرة تخطر بباله مع من يريد، متى ما أراد! صحيح أن أمي كانت ستفرض قيوداً صارمة على وسائل التواصل إن وجدت في وقتنا أيضاً، ولكن مهما كانت تلك القيود، فستبقى محدودة بلا شك! بالطبع لستُ مع التواصل بلا حد ولا قيد، ولا أدري إن كانت وسائل التواصل الحديثة هذه الأيام ذات نفع أكثر من ضررها، فقد تحدث الكثيرون حول هذا الأمر، ولستُ هنا بصدد نقاشه، وإذ ذاك لم أقاوم فكرة خطرت ببالي فجأة:
    ترى.. ماذا سيكون رأي صديقتي بوسائل التواصل الحديثة هذه؟ لطالما تناقشنا في كل شيء، من الذرة وحتى المجرة كما يقولون..
    ابتسمتُ لنفسي وأنا أتذكر تلك النقاشات التي كانت تنقلنا إلى عوالم عديدة، تفصلنا عن واقعنا بمراحل! أعلم الآن تماما كم كانت أمي حكيمة وصبورة أيضاً!! من يدري ما الذي كان سيحل بنا لو لم تكن كذلك؟!
    ذات مرة حدثتني صديقتي حديثاً عجيباً، ربما كان هذا أعجب حديث أسمعه، حتى أنني لم أجرؤ على التفكير به مرة أخرى..
    لقد قالت لي بأن هناك كائنات أخرى تعيش معنا في هذه العمارة! وقد شعرت بوجود أحدهم في الشقة!
    وقتها سألتها بدهشة:
    - تقصدين هنا في شقتكم؟
    اجابتني بالايجاب، وتابعت:
    - لكن لا تقلقي فهو كائن لطيف وغير مؤذي!
    فسألتها بنبرة لا تخلو من استنكار:
    - وكيف عرفتِ أنه لطيف؟ بل كيف عرفت عن وجوده أصلǿ
    فابتسمت بثقة:
    - عندما أنام بدون غطاء من شدة التعب، أشعر به وهو يغطيني..
    فقلت لها مازحة:
    - لا شك أنها هلوسات قبل النوم، فأنت تسهرين كثيرا على الدراسة لأجل الحصول على المركز الأول دائماً، ولا شك أن هذا أثّر على..
    غير أنها قاطعتني بجدية:
    - إنني واثقة مما أقول، ثم إن هذا ليس الموقف الوحيد الذي حصل بيننا..
    ابتلعتُ ريقي بصعوبة، وأنا أقلب نظري بالغرفة، فرغم أننا نجلس بالصالة المخصصة للضيوف كما يفترض، لكن صديقتي تنام في هذا المكان بحسب ما أعرف، وسريرها هنا أيضا! وبدأ قلبي ينبض.. لا تخبروني أن هذا الكائن اللطيف أو أيا ما كانت صفته، موجود معنا أيضاً!!
    لكنني لم أجرؤ على التفكير بذلك بصوت مرتفع، وآثرتُ تجاهل الأمر وحسب.. وربما كانت تلك هي المرة الوحيدة التي أتذكر فيها العودة للمنزل باكراً!
    العمارة مسكونة.. سمعنا هذه العبارة أكثر من مرة، ولكننا لسنا ممن يؤمن بالخرافات.. صحيح أن الكوابيس الغريبة كانت ترافق معظم أفراد أسرتنا، كما أننا واجهنا عدد من المواقف الغريبة التي لا يمكن تفسيرها، إلا بتبادل الاتهامات! ومع ذلك بقينا صامدين!
    أخبرتني أختي الصغيرة بعد رحيلنا من تلك العمارة، عن تلك المغامرة التي قامت بها مع أخي الذي يكبرها ببضع سنوات، وابناء الجيران، حيث قرروا التسلل إلى المستودع المهجور القابع أسفل الطابق الأول، أي أسفل شقتنا مباشرة! حيث التفوا عبر الساحة الضيقة المحيطة بالعمارة، ليجدوا ثغرة تسمح لهم باكتشاف ما يوجد هناك بالضبط! ولأن أختي كانت اصغر المجموعة سناً، وأبطؤهم سيراً، فلم تستطع اللحاق بهم لتتوغل إلى الداخل أكثر، بعد أن وجدت نفسها وحيدة وسط الظلام الدامس! كان موقفاً مرعباً، وكأنها أمام وكر للشياطين!
    أخبرتها بأنني اذكر ذلك تقريباً، فقد تعرضوا للتوبيخ من أبي بعد أن قامت هي بنفسها بكشف السر! ولم يتحدث أحد عن المستودع بعدها، حتى انني أتساءل، لماذا لم أسأل أخي عما رأوه في الداخل بعدها!! ربما سافكر بسؤاله عندما أعود.. وآمل أن لا أنسى ذلك!
    تأملتُ السلاسل المحيطة بالبوابة من جديد، ترى.. هل تعرض أحد لأذى حقيقي بعد رحيلنǿ! أم أن تلك الكائنات اللطيفة- كما تقول صديقتي- نفد صبرهǿ!
    يا إلهي.. لقد كانت ذكريات مريعة حقاً.. من الجيد أننا رحلنا عن هذا المكان!
    ***

    وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
    اخر تعديل كان بواسطة » امة القادر في يوم » 22-06-2022 عند الساعة » 21:23

  5. #4

    اسطورة العرهرة العيطموس!

    اسطورة العرهرة العيطموس


    في زمن لم تسطع عليه شمس الحضارة، وكانت قوة السيف فيه تحتل الصدارة؛ دارت حروب طاحنة بين البشر والغيلان، قبل أن يحل بينهم السلام، إثرَ وساطة الحوريات، وشهادة جميع المخلوقات، فانحاز الغيلان للعوالم الغابرة، واستقر البشر في العوالم الحاضرة، وفصلت بينهم الكثبان الغائرة..
    وفي إحدى تلك العوالم؛ نشأت مملكة "القهاقبة" كواحدة من أعظم ممالك ذلك الزمان..
    كان "القهقاب الأرمى"- الملك العاشر لتلك المملكة- شديد البأس والقوة، ذو منظر مهيب، يخشاه القريب قبل الغريب، وكان له ابنة وحيدة، ذات جمال ساحر، ومظهر باهر، عرفت بـ "الدعجاء"، ولأن أحداً لم يقاوم الافتتان بذلك الجمال، فقد لقّبت بسالبة عقول الرجال! ومع ذلك.. لم يجرؤ منهم أحد على طلب يدها، خشية رفض والدها، إلا أن هذه الخشية لم تمنع بعض الرجال من التقرب خلسة لها، على أمل استمالة قلبها! فما كان من القهقاب الأرمى إلا أن عيّن حارسة خاصة لحمايتها، اشتهرت بالفطنة والكياسة، إلى جانب شجاعتها وقوتها، التي لا تقل مقداراً عن حسنها، وقد عُرفت بـ "العرهرة العيطموس"!
    وبعد أن أتمت الدعجاء عامها التاسع عشر، سمح لها الملك بالخروج في رحلة مهيبة، لرؤية العوالم الغريبة، في موكب عظيم يتكون من سبعين عربة ذهبية، تجرها الخيول الهملجية، المرصعة باللآليء البحرية، ترافقها الجواري والعبيد، بالاضافة إلى كتائب الفرسان الحربية، أما العرهرة العيطموس؛ فقد كانت تلازم الأميرة في عربتها الشخصية..
    لم يخفَ على أحد ملاحظة أن حماية العرهرة للأميرة، يتجاوز واجب التكليف، فقد كانت تخشى عليها من حر الصيف وبرد الشتاء، حتى ضاقت بها الأميرة ذرعاً، وشعرت بأنها مكبلة بقيود حديدية، تحول بينها وبين الحرية، ومع ذلك.. لم يصدر عن الأميرة أي تذمر صريح، حتى توقف الموكب للإستراحة في الوادي الفسيح، حيث قابلت "فرز الوغى" لأول مرة!

    كان "فرز الوغى" شاباً وسيماً، وفارساً قوياً، وقائداً للفيلق المكلف بحراسة ذلك الوادي، الواقع في شمال مملكة القهاقبة، ورغم أنه سمع عن جمال الدعجاء وفتنتها من قبل؛ إلا أن السمع ليس كالنظر، فعزم على الوصول إليها مهما كان الثمن، وأعدّ العدة لمقابلتها مقابلة رسمية ثانية باسم منصبه، لعله ينجح في أسر قلبها والفوز بحبها، ولم يخف على العرهرة ملاحظة ما يجول بخلده للإيقاع بالأميرة، فاستعدت له بدورها، ولم تغفل لحظة عن مراقبة سيدتها، غير أنها زيادة في الحيطة والحذر، قررت مواجهته بجدية، لعله يتراجع عن نواياه الخفية، فطلبت من "الربحلة" و"السبحلة"- وهما جاريتان قديرتان، تثق بهما العرهرة- ملازمة الأميرة في خيمتها، ريثما تقضي حاجة سريعة وتعود..
    وبالفعل اتجهت نحو مقر فرز الوغى في طرف الوادي القصي، فوجدته ممتطيا صهوة جواده المطَهّم العصي، فأشارت له من بعيد بودية، قبل أن تلقي عليه التحية، ثم طلبت منه محادثة خاصة أخوية..
    لم تكن العرهرة تفضل الاسهاب، فقالت له بإيجاز:
    - إذا كنت صادقاً في خطب ود الأميرة، فوالدها موجود في قصره، فاطلب يدها منه برسمية، بما يليق بمكانتها العلية..
    فتنهد فرز الوغى بحسرة:
    - ولكن الوصول إليه صعب عسير، ولا شك أن شرط قبوله كبير!
    فردت عليه العرهرة بنبرة حاسمة:
    - إذا لم تكن الأميرة تستحق منك هذا العناء، فأنت غير جدير بها، وإنني آسفة حقاً لأنني منحتك بعض الثناء!
    وهمّت العرهرة بالعودة من حيث أتت، غير أن فرز الوفى استوقفها، بنبرة جادة:
    - أرجو المعذرة لجرأتي، ولكنك حقاً جميلة جداً أيتها العرهرة..
    فالتفتت نحوه بابتسامة حادة:
    - أنا أعرف هذا جيداً، فإياك أن تفكر بولوج المسالك الوعرة..
    غير أنه تابع بلهجة المشفق الناصح:
    - مهما حاولتِ التسربل بمظاهر القوة، فلا تنسي أنك امرأة‍!
    فردت عليه بشكل واضح:
    - إنني أدرك هذا أكثر منك، ولستُ ممن يتنصل من شرف كوني امرأة..
    ثم استطردت قائلة:
    - أنا من عليّ تذكيرك بأنك رجل، وسقوطك في براثن الغرائز أمر سهل، فانتبه لنفسك من العواقب الوخيمة، وإلا فعليك الاستعداد للهزيمة..
    وأضافت:
    - حتى لو كنتَ بطل المعارك، وسبع الليل الحالك، فلا معنى لقوةٍ لا تكفي لكبح جماحك..
    ولم تنتظر منه رداً، إذا تابعت طريقها عدواً، فيما عض فرز الوغى على شفتيه غيظاً!

    لم تنم العرهرة تلك الليلة، بل آثرت المبيت على جذع شجرة عظيمة باسقة، تعلو خيمة الأميرة السامقة، فقد راودتها الظنون، وهي تذكر ما دار بين الاميرة وفرز الوغى من لحظات العيون!
    ولم يخب حدس العرهرة، فما أن انتصف الليل وغاب القمر، حتى انتبهت لتسلل الأميرة الحذِر، فما كان منها إلا أن قفزت من مكانها لتواجهها بحزم:
    - سيدتي الاميرة، أعلم أنك قد تكرهينني ولا شك أنك كذلك الآن، ولكنني هنا من أجل مصلحتك، لذا.. باسم الشرف الأعظم لمملكة القهاقبة القوية، وأخلاقهم الأبية، لن أسمح لك بالذهاب أبداً، ولو مضى على وقوفي ألف عامٍ نارية!
    تنهدت الدعجاء بأسى، ثم ابتسمت بيأس:
    - أعرف موقفك جيداً أيتها العرهرة العيطموس، فلا داعي لكل هذه الطقوس، واعلمي أنك محظوظة لأنك لم تجربي الوقع في الحب، ولا تدركين ما الخطب..
    ثم أجهشت باكية، وهي تقول:
    - اقسم عليك بالذي رفع السماء وبسط الأرض، ألا تعرفين ما هو الحب؟ ألا تدركين أن جسدي هزيل وقلبي عليل وليلي طويل؟
    فربتت العرهرة على كتفها مواسية، وقالت بنبرة حانية:
    - إنني أدرك هذا تماماً أيتها الأميرة، فالوصف معروف وهو مألوف، ولكنك وقعتِ بحب رجل ليس أهلاً للثقة، أعمى سواد عينيك بصيرته، حتى تجرّأ على تجاوز حدوده، فلم يُعطِ كل ذي قدرٍ قدره، واختار الطريق القصيرة الوعرة، على أن يسلك المسالك النبيلة وإن كانت خطرة!
    وتابعت مشددة:
    - أنتِ بحاجة لرجل قوي يحميك، وليس تابعا ضعيفاً يغويك!
    فنظرت إليها الدعجاء بدهشة:
    - كيف تجرئين على وصفه بالضعف، وهو قائد قويٌ لا يقف أمامه ألف صف؟!
    فأجابتها العرهرة بثقة:
    - إنه لا شيء أمام غرائزه وشهواته!
    غير أن الدعجاء قالت:
    - قد تظنين أن حبي له سخيف، وأنه مجرد رجل ضعيف، ولكن اعلمي أيتها العرهرة؛ أن حبي لم يكن وليد نظرة عابرة، فلطالما سمعت عن صولاته وجولاته، ولم أقابل أحداً إلا وتحدث عن بطولاته، حتى تمنيتُ رؤيته، والاستماع لمنطقه، فلما أتيحت لي الفرصة أخيراً، أدركتُ أنه فارسي المنتظر، وما عاد لي عن لقائه من صبر!
    فردت عليها العرهرة:
    - ولكن تجاوزاته تفوق جريمة الغدر، ولن يكون له بعدها عذر!
    فأصرت الدعجاء على موقفها:
    - أليس هذا دليل على حبه الكبير؟
    فأجابتها:
    - وهل تظنين يا سيدتي أن الحب يدوم بلا وفاء وتقدير؟!
    ثم تابعت بشفقة:
    - أنتِ الأجمل يا سيدتي في هذه الفيافي والقفار، وفي الجزر وما وراء البحار، ولا أظن أن الشمس قد أشرقت ولا غربت على من هي بجمالك، ولو كانت النجوم اللامعات أميراتٌ لغِرن من ضيائك، ولكن.. هل تضمنين أن لا تأتي من هي أجمل منك، لتترك الحسرة في قلبك، وأنت ترين فارسك مفتوناً بغيرك؟
    آثرت الأميرة الصمت فيما انهمرت الدموع من عينيها، وهمّت العرهرة بالخروج غير أنها استوقفتها:
    - يمكنك الاطمئنان الآن، فقد فقدتُ رغبتي بالحصول على أي قدر من السعادة، وسأرضى بحظي من قيود هذه السيادة..
    وارتمت على فراشها الوثير تبكي بحرقة دامية..
    فرددت العرهرة بلهجة حانية:
    - لا خير في سعادة صغيرة، تعقبها ندامة كبيرة! وسيأتي اليوم الذي تسعدين فيه بصدقٍ أيتها الأميرة..
    وانسحبت إلى خارج الخيمة بهدوء راسخ، حتى إذا ما خطت بضع خطوات؛ فوجئت بفرز الوغى يقف مستندا إلى سيفه بجذعه الشامخ! فالتقت عيناها بعينيه على ضوء سراج الخيمة الخافت، ثم اقتربت منه هامسة:
    - لقد سمعتَ كل شيء بلا ريب، وآمل أنك عرفتت حدك، وفهمت قدرك، فإياك أن تفكر بالاقتراب من الأميرة، وإلا كانت نهايتك مريرة!
    فرد عليها فرز الوغى بملامح عابسة:
    - ثقتك بنفسك كبيرة، غير أن غرورك أعمى لك البصيرة، فما الذي ستفعلينه إن أشهرتُ سيفي، وأظهرتُ لك عنفي، أم تظنين أن مهاراتك ستثير خوفي؟
    فابتسمت العرهرة بثقة:
    - وكأنك ستجرؤ على ذلك، فأنت حامي الوادي وقائد الحرس، ولستَ أحمقاً لتُلحق باسمك الدنس!
    وذكرته بنبرة صادقة:
    - لقد أخبرتك سابقاً.. الطريق إلى الأميرة واضحة، فإياك أن تسلك السبل الفاضحة!
    فانفرجت أسارير فرز الوغى، وابتسم:
    - حسناً سأعترف ولا أظنني سأشعر بالندم.. فلم تعد لي حاجة بالأميرة الدعجاء، بعد أن وقعتُ في حبك أنتِ ايتها الجريئة الحسناء!
    فردت عليه بنبرتها السابقة:
    - فكر بما شئت، وقل ما شئت، فكل شيء متوقع منك، وإن كان هذا لا يعنيني بشيء..
    وحدجته بنظرة ثاقبة:
    - يبدو أنك لا تعلم بأن النساء يجدن صناعة الغواية أكثر من الوقوع فيها، فلا تغتر بنفسك، والزم حدك، فهذا خير لك..

    مع شروق الشمس؛ عاد فرز الوغى إلى مقره مشغول البال، حتى قابله صديقه الرئبال:
    - ماذا دهاك يا رجل؟ كإنه لم يغمض لك جفن منذ زمن!
    فردد بغيظ واضح، كمن يحدث نفسه:
    - تلك العرهرة العيطموس!
    - لا تقل لي أنها أوقعتك في شباكها، فهي أخطر من الحرب الضروس!
    - وما الذي جعلك تفترض شيئا كهذا فجأة؟!
    - لستَ أنت أول من سحرته بشخصيتها الآسرة!
    بُهت زفر الوغى لوهلة، لكنه قال بجرأة:
    - لستُ ممن يخضع لحيلتها السافرة!
    فغمزه الرئبال بابتسامة ماكرة:
    - أنتَ تقول هذا، ولكن الواقع مختلف، فالعرهرة ستفعل أي شيء لحماية الأميرة، حتى وإن جعلت من نفسها الهدف!
    عندها عض فرز الوغى على أسنانه بغضب:
    - يا لها من خبيثة غادرة! تظن أن بإمكانها التلاعب بالرجال ناهية آمرة؟!
    - هذه هي الحقيقة، فحصونها منيعة، وأسلحتها مريعة!
    واستدرك الرئبال قائلاً:
    - رجل واحد فقط؛ قادر على الوصول إليها..
    فأطلق زفر الوغى ضحكة شامتة:
    - توقعتُ أنها واقعة في حب أحدهم، وإلا لما عميت عن غيره! وربما هجرها فأصبحت معذبة، وبدأت بالتفريق بين الأحبة!
    فهز الرئبال رأسه نفياً:
    - ليس الأمر كما تظن.. فأنت حقا لا تعلم من هي العرهرة، أم تظنهم قد لقبوها بالعيطموس عبثاً!
    - لا أدري لم ترفعها أكثر من قدرها، وكأنها عبرت الكثبان الغائر، ورأت العالم الغابر!
    فحدق فيه الرئبال بابتسامة هازئة:
    - ومن قال لك بأنها لم تفعل؟ بل أكثر من ذلك.. لقد تجاوزت الغياهب المدلهمة، ووصلت أعالى الأجمّةّ!
    لم يستطع زفر الوغى السيطرة على نفسه أكثر، فجذب الرئبال من تلابيب ثوبه وزمجر:
    - ويحك.. أتهزؤ بي أيها الرئبال الهالك؟ فلا الوحش الكاسر، ولا الغول الجائر، يمكنه فعل ذلك!
    فأزاح الرئبال يد زفر الوغى عنه، قائلاً بحدة:
    - ليس ذنبي أنك جاهل، فهذه الحقيقة لا يغفل عنها إلا غافل! أم تظن أن القهقاب الأرمى لم يجهد نفسه في اختيار حارسة عتيدة، لقرة عينه الوحيدة؟!
    فهدأ زفر الوغى قليلاً، والتقط أنفاسه الحمئأة:
    - أهي حقاً إنسية أم تراها جنية؟
    - يُقال أنها من سلالة الحوريات البرية!
    فتنهد زفر الوغى، قبل أن يتخذ القرار:
    - لقد أصبح الأمر أكثر إثارة، وسأجد طريقة لأشن عليها غارة!
    فزفر الرئبال بضيق:
    - يبدو أنك لم تدرك من هي بعد أيها الصديق! فإن كان الوصول لها من سابع المستحيلات، فإن وجود الرجل الذي يمكنه تحقيق ذلك هو ثامنها!
    علت الدهشة وجه زفر الوغى لكنه قال باصرار:
    - دعها تكن من تكون، فسأكشف سرها، وأعرف مكامن ضعفها، وعندها لن تكون بيدها حيلة، وستركع أمامي ذليلة!
    فحملق فيه الرئبال بإشفاق قبل أن يقول:
    - يبدو أنك لم تدرك حقا من هي العرهرة العيطموس! لن تجد هنالك سرا لتكشفه، فهي مثل الحقيقة واضحة كالشمس، ترى آثارها في كل مكان، ولكن لا يمكنك التحديق بها ورؤيتها بوضوح وإلا أحرقت عيناك!
    ولم يكن كلام الرئبال إلا ليزيد زفر الوغى اصراراً على قراره:
    - ألم تقل بأن هناك رجل وحيد يمكنه الوصول إليهǿ فما الذي يمنع من وجود رجل ثان؟
    فحذره الرئبال بصوته الرنّان:
    - دعني أذكرك للمرة الأخيرة، فقد جرّب قبلك الكثيرون هذه المواجهة الخطيرة.. وسترى بنفسك، أن الشيء الوحيد الذي ستكتشفه في النهاية هو "ضعفك"..
    وأضاف موضحاً:
    - ثم إنني لم أقل أن ذلك الرجل الوحيد موجود في هذا العالم حالياً، فلا تفهم من كلماتي ما يوافق هواك؛ وإلا كان ندمك جلياً!
    فضحك فرز الوغى متباهياً:
    - إذن دعني أخبرك أيها الحكيم العارف، بأنني سأصنع ذلك الرجل بنفسي، فلستُ ممن يخشى المخاوف!
    **
    فهل سيتمكن فرز الوغى من تحقيق مبتغاه، أم ستصدق فيه نبوءة الرئبال؟
    وما هي حقيقة "العرهرة العيطموس"؟


    ***

    وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
    اخر تعديل كان بواسطة » امة القادر في يوم » 22-06-2022 عند الساعة » 21:23

  6. #5

    انشطار!

    انشطار


    كانت وحيدة تماماً.. أطلقت ضحكة هيستيرية وهي تراجع شباك خطتها المحكمة، لتنفيذ انتقامها الموعود.. فقد حانت ساعة الصفر!
    وبينما هي على وشك مغادرة غرفتها القابعة على سطح عمارة سكنية قديمة، وسط أحد الأحياء الفقيرة؛ فوجئت بثلاث رجال ملثمين يشهرون أسلحتهم في وجهها بتهديد صريح، نطق به أضخمهم جثة، وهو يلوح بسكينه ليعكس نصلها الحاد أشعة الشمس ببريق خاطف:
    - الأمر واضح.. لا مجال للمراوغة هذه المرة، لذا سلمي الصندوق بهدوء..
    ورغم القلق الذي تسلل إلى قلبها، لكنها ابتسمت بتهكم مستهتر:
    - ثلاث رجال مسلحين ضد امرأة وحيدة عزلاء! يا للشجاعة!
    فاكتفى الرجل الضخم بتكرار طلبه بالنبرة نفسها، دون أن يُظهر أدنى تأثّر، فيما وقف الرجلان الآخران على جانبيه، ليكملا نصف حلقة تحيط بها، وهما يصوبان مسدسيهما الكاتمين للصوت، في وضعية الاستعداد للإطلاق في أي لحظة:
    - سلّمي الصندوق بهدوء.. فلا يوجد معنا أكثر من عشر دقائق!
    فما كان منها إلا أن أجابته بتحد صريح:
    - وإذا لم أفعل؟!
    فأجابها بهدوء:
    - لا داعي لاستباق الأحداث، سترين ذلك بنفسك حينها..
    ثم نظر إلى ساعته مردداً:
    - بقي تسع دقائق الآن..
    زمت على شفتيها بضيق، دون أن تفقد السيطرة على مظهرها، قائلة باستهتار واضح:
    - إذن يمكننا الانتظار بهدوء خلال هذه الفترة، هل ترغبون بقدح من القهوة؟
    وهمّت بالتراجع إلى داخل الشقة لعلها تفلح في إقفال الباب على نفسها بسرعة؛ غير أن طلقة من مسدس أحد الرجلين أصابت قفل الباب بدقة؛ جعلتها تتجمد مكانها، فيما قال الرجل الضخم وهو يلوح بسكينه:
    - قلت لك أن الأمر واضح، ولا مجال للمراوغة..صحيح أنه يمكننا الانتظار بهدوء حتى نهاية المهلة، ولكن هذا لا يعني أن تتصرفي على راحتك! عليك الالتزام بالهدوء والسكينة أيضاً.. وأرجو أن تكوني حكيمة أيضاً..
    ثم نظر إلى ساعته متابعاً:
    - بقي سبع دقائق..
    مرت الدقيقة تلو الدقيقة، وهي تحاول إعمال فكرها بكل ما تبقى لها من طاقة، لعلها تجد مخرجاً من تلك الورطة، فيما كان عقلها مشغولاً بخطتها الانتقامية التي استهلكت جل طاقتها.. إن لم تنفذ خطتها في الموعد المحدد بدقة؛ فإن ثلاث سنوات من الألم والدمار والانهيار ستضيع سدى، وهذا أكثر مما يمكنها احتماله.. لم تكن مستعدة أبدا ولا بنسبة صفر بالمائة لمواجهة فشل ذريع كهذا!!
    فقهقهت بجنون:
    - رجال حمقى.. يبدو أنكم لا تدركون بأن انشطار قلب امرأة؛ قد يكون أخطر بكثير من انشطار قنبلة نووية، أو ربما.. عدة قنابل مجتمعة!
    فما كان من الرجل الضخم إلا أن أعلن ببرود:
    - انتهى الوقت..
    فابتسمت باطمئنان تام، وكأنها على موعد مع هدية منتظرة:
    - دعوني أرى ماذا لديكم إذن..
    ***

    وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
    اخر تعديل كان بواسطة » امة القادر في يوم » 22-06-2022 عند الساعة » 21:22

  7. #6

    الرعب الحقيقي!

    الرعب الحقيقي


    في إحدى الليالي السوداء الحالكة، بعيداً عن أجواء المدينة الصاخبة، أطبق وجوم مخيف على إحدى قاعات ذلك البيت المهجور- القائم على تل لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه- إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها "شاليخ" اجتماعاً طارئاً منذراً بالشؤم، منذ أن عينه الشيطان الأكبر ملكاً على تلك المنطقة!
    كانت السنة اللهب تتطاير من عينيه المحمرتين، وهو يقلب رأسه بين الحضور، وقلبه يحترق غيظاً، حتى š وقلبه يحترق غيظاً، حتى إذا ما وقعت عيناه على مكان خال؛ صرؤخ بصوت هلعت له النفوس:
    - أين طرموح؟
    ارتجف بارخ وهو يجيبه:
    - لم يستطع الحضور، فهو طريح الفراش منذ أن كلفتّه بـ..
    فقاطعه الملك صارخاً في وجهه:
    - اخرس.. لا تعد على مسامعي ذلك العار الذي لحق بعالمنا مرة أخرى!
    ولوح بكفه في الهواء مهدداً ، فيما تصاعد البخار بين قرنيه:
    - اسمعوا.. لن أسمح بتكرار ما حدث مهما كلف الأمر، ولتذهبوا جميعاً للجحيم..
    وصمت قليلا قبل أن يتابع بغضب:
    - ما الذي سأقوله للشيطان الأكبر الآن؟!
    وأخيرا.. تقدم روباخ، وكان أشجع الحاضرين، وسجد بين يدي الملك:
    - إن أذنتَ لي يا مولاي.. نحن لم نقصر بواجبنا أبداً، فما حدث لم يكن ذنبنا، ولكن...
    فقاطعه الملك بشدة:
    - ما الذي تقوله أيها الأحمق الملعون؟
    فألصق روباخ وجهه بالأرض بتذلل:
    - أرجو المعذرة.. لم أقصد أغضابك يا مولاي، ولكن هذا لم يحدث منذ مائة عام مضت، وهو أمر خارج قدراتنا..
    فحملق فيه الملك لوهلة قبل أن يزمجر بغضب:
    - أتقصد منذ مقتل الملك السابق شوخان؟
    - أجل سيدي..
    فزمجر الملك زمجرة أقوى من سابقتها، تصدعت على أثرها جدران السقف:
    - أتعني أن نهايتي قد اقتربت أيها الخبيث؟
    فارتجف روباخ مدافعاً عن نفسه:
    - كلا يا مولاي لم أقصد..
    لكن الملك لم يترك له فرصة لإكمال اعتذاره؛ إذ سرعان ما أطلق عليه لهباً حارقاً، وهو يصب عليه جام غضبه صبا، دون أدنى رحمة لمنظر روباخ المتعذب وهو يستجدي العفو، وصرخاته المدوية وهو يذوب ويختفي كما يختفي الدخان..
    لقد انتهى..
    كان مشهداً مفزعاً بحق، فلم تتمالك شيراخ نفسها وهي تصرخ باستنكار، دون احتساب للعواقب:
    - لقد فقد الملك عقله! ما الذي فعله روباخ المسكين ليلقى هذه النهاية المريعة؟
    غير أن الملك سرعان ما ألحقها به، مزمجرا بنفاد صبر:
    - لا أريد مزيداً من إضاعة الوقت.. لقد أصبح الهدف واضحاً الآن..
    والتفت نحو أحد المردة المرتزقة الذين آثروا التزام الصمت، وكأن ما يدور في الاجتماع لا يعنيهم:
    - كوخار.. سأضطر لتسليمك هذه المهة، ولك حرية اختيار مساعديك، فلا تتوانى في فعل أي شيء لإنجازها كما كنتَ تفعل دائما.. والهدف هذه المرة.. "عبد القهار"..
    **
    من هو عبد القهار؟
    وهل سينجح كوخار في مهمته؟
    وكيف ستكون هذه المواجهة الخطرة؟
    كل هذا وأكثر في "الرعب الحقيقي"..

    ***

    وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
    اخر تعديل كان بواسطة » امة القادر في يوم » 22-06-2022 عند الساعة » 21:21

  8. #7

    الانصاف القاتل!

    الانصاف القاتل!


    أخذ جيمس تايلور يذرع الغرفة جيئة وذهاباً بتوتر واضح..
    - كيف وصل الأمر إلى هذا الحد! أيعقل أن مايكل متورط فعلاً بهذه الجريمة؟! لا يمكنني تصديق هذا أبداً!!
    وبينما كان غارق في أفكاره، سمع طرقاً على باب غرفته، فأسرع نحو مكتبه ليجلس على كرسيه متظاهراً بالانشغال الشديد؛ قبل أن يأذن للطارق بالدخول..
    دخل توم وهو يحمل صينية القهوة، قدمها لجيمس قائلاً بأدب شديد:
    - طاب يومك سيدي، أرجو أن تعجبك القهوة..
    فابتسم له جيمس:
    - شكرا لك، يمكنك الانصراف الآن..
    لكن توم بدا مرتبكاً قليلاً، فحثه جيمس على الكلام قائلاً:
    - هل لديك شيء؟
    فأجابه توم بتلعثم:
    - لا أدري ماذا أقول سيدي، ولكن ذلك الرجل الثمل يصر على مقابلتك!
    امتعض وجه جيمس:
    - ألم ستمع له بما فيه الكفاية بعد أن أدلى بشهادته؟
    فرد توم:
    - هذا صحيح سيدي.. لقد أخبره حارس البوابة بذلك، ولكنه مصر على الدخول حتى أنه أثار الكثير من اللغط في الخارج، وهو يقول أن لديه شيء هام ليقوله لك!
    فزفر جيمس بضيق:
    - دعوه يدخل..

    حاول جيمس التحلي بأعلى درجات الصبر، وهو يجبر نفسه على الاستماع لتلك اللهجة الهازئة من ذلك الرجل البغيض:
    - أريد التأكد فقط من أن المجرم لن يفلت من العقوبة ضمن عدالتكم..
    وتابع بخبث:
    - حتى وإن كان رجلاً شريفاً بنظر الجميع كـ مايكل بيرسي..
    قال جملته تلك وأطلق قهقهة مزعجة؛ أشعرت جيمس بالغثيان، فحاول أن يكتم غيظه قدر المستطاع وهو يقول:
    - حسنا فهمنا رسالتك.. يمكنك الانصراف الآن فأنا مشغول جدا كما ترى..
    فضحك الرجل بلؤم واضح:
    - أعلم أعلم.. لن أثقل عليك أكثر بذكر الحقائق المرة، ولكن تذكر أن العدالة فوق الجميع..
    لم يكد ذلك الرجل يغادر المكتب؛ حتى تنفس جيمس الصعداء، غير أن رنين الهاتف لم يتركه وشأنه، فما أن لمح اسم المتصل على الشاشة؛ حتى خفق قلبه بشدة وشعر بدوامة كبيرة، كادت أن تفقده صوابه، وأمام إصرار الهاتف على رنينه؛ استجمع جيمس رباطة جأشه، وهو يحاول الرد باتزان، فيما جاءه صوت محدثته المتهدج:
    - أرجوك جيمس.. أنت تعلم أن مايكل بريء ولا يمكنه ارتكاب جريمة بشعة كهذه! لا يمكنك أن تأخذ بشهادة ذلك الرجل الفاسد الذي لم يمضِ على خروجه من السجن أكثر من شهر!
    - إنني أدرك هذا تماما.. ولكن على العدالة أن تأخذ مجراها الطبيعي..
    لم يدرِ جيمس كيف استطاع انهاء المكالمة، فارتمى على كرسيه بإنهاك شديد، وهم بتناول كوب القهوة الذي برد بلا شك؛ غير أن خاطرة لمعت في ذهنه فجأة، بعد أن طرقت ذهنه عبارة برنارد شو الشهيرة:
    " لو كان محمد موجود الان بيننا لحل مشاكل العالم وهو يحتسى فنجان قهوة "
    وبسرعة امسك هاتفه وأخذ يقلب بين أرقام هاتفه بلهفة، قبل أن يعثر على الاسم المطلوب، فطلب الرقم وانتظر لبضع ثوان قبل أن يأتيه صوت محدثه:
    - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، من معي؟
    - أرجو المعذرة.. ربما لا تذكرني ولكنني حصلتُ على رقمك بعد أن قابلتك في "هايد بارك" الأحد الماضي، لقد كنتَ تتحدث عن شيء يتعلق بالعدالة، وذكرتَ مقطع قلت أنه في القرآن له علاقة بالأمر..
    - نعم هذا صحيح، كان الحديث حول الآية: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى"، وهي بمعنى أن لا تحملكم عداوة قوم على أن لا تعدلوا في حكمكم فيهم..
    - أجل لقد تذكرتُ هذا، ولكن ماذا لو كانت...
    وقبل أن يتم جملته؛ سمع صوت انفجار مروع في الخارج، ارتجت على أثره جنبات المبنى؛ حتى أن قهوته دلقت على المكتب من قوته، فاعتذر لمحدثه:
    - حدث أمر طاريء.. أحدثك لاحقاً..
    وبسرعة هرع جيمس ليطمئن بنفسه على الأوضاع، فيما تناهت إلى سمعه أصوات الصرخات:
    هجوم ارهابي..


    ***

    وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
    اخر تعديل كان بواسطة » امة القادر في يوم » 22-06-2022 عند الساعة » 21:21

  9. #8

    مختارات من رواية "تركته لأجلك"


    مختارات من رواية "تركته لأجلك"


    كانت ساعات الصباح الاولى تبشر بيوم عادي من أيام المدينة، فالطرقات لم تزدحم بالسيارات بعد، وعمال النظافة يجوبون الشوارع بحماسة، لعلهم يحظون بمتعة رؤيتها نظيفة، قبل أن يمارس المارة هواياتهم المعتادة في رمي القمامة، لتتبجح بعدها ألسنة البعض منهم؛ بنظافة الشوارع التي زاروها في البلاد الأجنبية، بينما تشارك أيديهم في تلك الهواية القذرة!!
    وأمام منزل جميل في أحد الأحياء الهادئة، أوقف شاب سيارته الحديثة، في مصف المنزل الخاص، الذي كان في استقباله، وبعد أن سوى هندامه أمام زجاج النافذة، وتأكد من أناقة بدلته الثمينة، التي لا تدع مجالاً للشك بأنه على موعد هام جداً؛ خطا خطوات رزينة نحو جهاز الاستقبال المعلق أمام المدخل الرئيس، وما أن نطق باسمه رداً على سؤال الخادمة؛ حتى أسرعت بفتح الباب، لتقوده نحو غرفة سيدها الخاصة، قائلة بأدب:
    - شكرا لمجيئك، السيد تامر ينتظرك بفارغ الصبر..
    سار خلفها بهدوء، حتى إذا ما أدخلته غرفة المكتب الخاصة بالسيد تامر، قلّب عينيه في أرجائها بتمعن، لتستقرا أخيرا على الرجل المنكب على مكتبه، أثناء تفحصه لبعض الأوراق باهتمام، فتساءل بتعجب، وقد استرخت عضلاته المتأهبة نوعاً ما:
    - ألا يفترض أن يكون السيد (العميل) هنا؟
    ودون أن يرفع الرجل عينيه عن الأوراق، أجابه بهدوء:
    - اجلس الان يا رامز، فالأمر ليس بالسهولة التي تتصورها، وعمل كهذا يجب أن يؤخذ بجدية تامة..
    شعر رامز ببعض الضيق لتلك الكلمات، ولم يستطع مقاومة التعليق عليها بقوله:
    - أنت تعلم تماماً يا سيد تامر بأنني لم أعرض عليك الفكرة، إلا بعد دراسة طويلة وتفكير عميق، وأنت الذي رفضتها بداية، ولستُ أدري أي نوعٍ من الرجال هذا الذي جعلك تفاتحني في الموضوع من جديد، بعد أن يئست من إقناعك بجدواها!!
    عندها رفع الرجل عينيه عن الورق، وثبّت نظراته على ذلك الشاب المتوثب، وهو يستقر على مقعدٍ وثيرٍ أمامه:
    - حسنا.. ربما أكون قد أخطأتُ في تقييم فكرتك، غير أنني الان في موقف لا يدع لي خيار آخر من تجريبها، وأعدك بأنك إن نجحت في هذه المهمة، فسأشرف بنفسي على ترخيص أول مكتب تحقيقات خاصة من أجلك..
    عندها تهلل وجه الشاب بابتسامة مشرقة:
    - يبدو الأمر مغرياً فعلاً، وإنني في شوق شديد لشحذ مواهبي بهذا الخصوص..
    غير أنه استدرك فجأة:
    - أرجو المعذرة.. ولكن ما الذي يجعل صديقك يلجأ إلي، وأنت من أكبر المحققين في سلك المباحث والجنايات العامة!!!
    فأجابه تامر:
    - لقد قلتَها بنفسك، لأنني في سلك المباحث العامة، وصديقي لا يريد أن تصبح قضيته قضية عامة، يريد البحث بهدوء، بعيداً عن أي ضجة، ولم يكن بإمكاني تقديم هذه الخدمة له بحكم منصبي الحالي!!
    أومأ رامز رأسه متفهماً:
    - حسنا، للأسف كنت أود مقابلة هذا الصديق، فربما أتمكن من فهم قضيته أكثر! فلا شك أنك تعرف يا سيد تامر، دور الانطباع عن الشخصية؛ في فهم قضيتها..
    عندها نهض الرجل من مكتبه وهو يحمل الاوراق بين يديه، ليجلس إلى جانب رامز هامساً، كمن يخشى أن تسمع الجدران كلامه:
    - أنت تعرفه بلا شك يا رامز، بل لا يوجد أحد في البلاد لا يعرفه، انه السيد كارم...
    وقبل أن يتم كلامه؛ هتف رامز بتعجب:
    - أتقصد أنه الرجل الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من منصب رئاسة الوزراء!!!
    فأومأ تامر برأسه:
    - إنه هو...
    فهز رامز رأسه بغير تصديق:
    - هذا أمر لا يمكنني استيعابه أبداً! أشعر أن هناك شيء غريب!! فخبر اختطاف ابنة رجل كهذا في ظل ظروف كهذه، سيزيد من شعبيته أكثر إن انتشر الخبر، فالناس يتعاطفون مع هذه الحوادث كثيراً..
    فقاطعه تامر بقوله:
    - للسيد كارم أسبابه الخاصة بلا شك، ثم إنه ليس من النوع الذي يستغل اختطاف ابنته؛ لصالح الانتخابات، لقد باتت هذه الامور مبتذلة جداً، خذ بعين الاعتبار أن طبيعة الناس هنا؛ مختلفة عما اعتدتَ عليه في الخارج..
    لكن رامز الذي لم تعجبه تلك الملاحظة الأخيرة، فقد تجاهلها بقوله:
    - أو ربما لم تُختَطف ابنته فعلاً!! ربما هربت بمحض إرادتها، وهذا سيسبب له فضيحة بلا شك!
    فتنهد تامر:
    - رغم إنني لا أحب التفكير بهذه الأمور، إلا أن جميع الاحتمالات واردة، فالعمل عمل، وهذه قضيتك..
    ثم تناول بطاقة من جيبه، بدا عليها الختم الرسمي لامعاً بوضوح، قدمها لرامز قائلاً:
    - أرجو أن لا تضطر لاستخدامها، فهي للضرورة فقط، بل أقصى درجات الضرورة، فيما إن وجدتَ نفسك في مأزق لا فكاك منه..
    تناول رامز البطاقة من تامر، وتأملها بتمعن:
    " مفوض من قبل رئيس المباحث والجنايات العامة
    السيد/ تامر عماد "
    وبعد أن أخفاها في جيب سترته الداخلي، ابتسم بثقة:
    - لا أظنني سأحتاجها أبداً، ولكن العمل يتطلب كافة الاحتياطات..
    وبسرعة أخرج مفكرة صغيرة من جيبه، فتحها على صفحة محددة، قبل أن يقول بوضوح:
    - اختفت الفتاة المدعوة سوسن كارم قبل يومين، وحسب رواية سائقها الخاص (مرزوق)، فإنها طلبت منه أن ينتظرها عند مدخل السوق ريثما تحضر بعد الحاجيات، لكنها تأخرت مما جعله يظن أنها عادت مع خطيبها كالعادة، خاصة وأن هاتفها كان مغلقاً، أما خاطبها أيهم فهو يدّعي بأنها طلبت منه فسخ خطوبتهما فجأة، بعد أن قابلته في أحد المطاعم المعروفة!! وقد قالت مسؤولة المعهد الفني بأن سوسن قد أنهت ارتباطها بالمعهد، وأبرأت ذمتها منه في اليوم نفسه!!
    وصمت رامز قبل أن يتساءل:
    - هل الترتيب الزمني للأحداث صحيحٌ هكذا؟
    فتنهد تامر:
    - لستُ واثقاً من هذا.. خاصة وأن السيد كارم لم يستطع أن يحصل على موعدٍ دقيق من السائق؛ عن آخر مرة رآها فيه، وعلى ما يبدو فإن الخوف ألجم لسان السائق، بل شل تفكيره تماما! لا سيما وأنه يدرك مدى تحمله لمسؤولية اختفاء الفتاة!! فعلى ما يبدو أنه آخر من رآها!!
    فعلق رامز:
    - وللأسف لا يمكننا أن نعد ذلك دليلا ضده! بل ربما يكون التحقيق مع مثل هذه النوعية من البشر تضليلا لا أكثر، دون أن يدرك أغلبهم أنهم يورطون أنفسهم بذلك!!
    فأضاف تامر:
    - وبالطبع لم يقم السيد كارم بتحقيقٍ دقيقٍ مع خاطب ابنته، أو مع مسؤولة المعهد حتى لا يثير الشكوك، وفضّل أن يعهد بذلك إليّ مباشرة، خاصة وأن جميع الخدم في منزله رأوا سوسن في الصباح، وهي تغادر المنزل مع السائق بشكل طبيعي، ولم يكن هناك أي شيء لافتٌ للنظر..
    أما معرفة حقيقية ما حدث تماما.. فهذه هي مهمتك..
    ثم ناوله ملفاً مغلقاً ومختوماً بإحكام، قائلاً:
    - وستجد في هذا الملف كافة المعلومات الشخصية عن الفتاة، ومن لهم علاقة بها، مع قائمة من المشتبهين بناء على ظن السيد كارم.. ولا داعي لأن أذكّرك بأهميه الحفاظ على سرية المعلومات الواردة فيه..
    واستطرد مُنبّهاً:
    - حاول أن تبدأ تحقيقك بعيداً عن منزل السيد كارم، فرغم أهمية استجواب كافة الخدم والعاملين هناك، بما فيهم السائق مرزوق؛ إلا أن خصوصية الوضع المتزامن مع فرز الانتخابات، يحتّم علينا تأجيل ذلك للخطوة الأخيرة، وأرجو أن تتمكن من إيجاد الفتاة قبل ذلك.. فالسيد كارم لا يريد أن يُشعر أحدهم؛ بأنه محل شبهة لديه.. خاصة السائق! لقد أكد على ذلك بشدة، ولا شك أن له أسبابه الوجيهة..
    فأومأ رامز برأسه متفهماً:
    - لا بأس.. رغم أنني كنت أفضل البدء مع السائق! على كل حال، هل هناك شيء آخر تود إخباري به يا سيد تامر قبل أن أذهب؟
    فقال تامر وقد لمعت عيناه فجأة:
    - ربما لا يُعد ذلك شيئا هاماً على حسب قول السيد كارم، بل يبدو أنه لم يصدق ما سمعه بهذا الشأن.. ولكنني أراها ملاحظة جديرة بالذكر، ومن يدري.. فقد تكون مفتاح اللغز!
    فتأهّب رامز لسماع تلك الملاحظة الغريبة، فيما تابع تامر كلامه:
    - لقد ارتدت الفتاة الحجاب لأول مرة، في ذلك اليوم!

    وحاولت النهوض مجدداً، لتتعرف على المكان أكثر، وهي ترتكز على الجدار البارد خلفها، والذي وجدت نفسها ممددة إلى جانبه، عندما فتحت عيناها أول مرة! أحسّت بأنها في غرفة فارغة لا نوافذ لها، ولا حدود لجدرانها، سوى الجدار الذي ارتكزت إليه، لذا بدأت بالسير مستندة عليه خشية السقوط، حتى تتمكن من تحديد معالم المكان الذي وجدت نفسها فيه.. لكن قدمها تعثرت فجأة بشيء ما، أثار توجسها، فوقفت مكانها تتحسس موطن قدميها، ليقشعر جسدها بأكمله؛ بعد أن سرت فيه رعشة حادة، فارتدت يدها إلى الخلف لا إراديا بعنف؛ مما أخل بتوازنها، وأدى إلى سقوطها على الأرض بشدة، في حين انطلقت منها صرخة فزعة، سمعت بعدها أصوات أقدام تقترب من المكان بسرعة، تبعه صرير باب يُفتح، لتشعر فجأة بألمٍ حاد في عينيها، كاد أن يُعميها، بعد أن سطع المكان بضوءٍ وهّاجٍ على حين غرة، رافقه زمجرة من صوتٍ أجش، جمّد الدم في عروقها:
    - لقد استيقظتِ أخيرا أيتها الحسناء إذن!
    ودوت ضحكته المجلجلة، كقنبلة موقوتة تُنذر بالشر..
    وقبل أن تعتاد عيناها على الضوء؛ شعرت بيدٍ غليظة تحط على كتفها، فما كان منها إلا أن انتفضت صارخة، وهي تحاول الابتعاد، والظهور بمظهر قوي متجلد:
    - ما الذي تريده ياهذا؟
    وقبل أن تسمع رده، سمعت صوتاً آخر يقول بحزم:
    - كيف تجرؤ على مخالفة الأوامر! ألم يطلب منا السيد عدم الاقتراب من الفتاة، مهما حدث!!!
    لم تكد سوسن تستمع لتلك الكلمات، حتى شعرت براحة عجيبة تسري في أوصالها، وكأنها حصلت على ضمان الأمان أخيرا، فيما سمعت رد الرجل الأول وهو يبرر تصرفه:
    - لم أكن أفعل شيئاً، كل ما في الأمر أن فأر المصيدة أخاف هذه المسكينة، فذهبتُ لأطمئن على الوضع!
    كانت عينا سوسن قد بدأتا تعتادا على الضياء أخيراً، فراعها مشهد الرجلين أمامها، بضخامة جسديهما، وقد أخفيا وجهيهما خلف لثام محكم، فانكمشت في مكانها وهي تحاول استطلاع المكان بسرعة، لتحدد موقعها فيه.. ومع ذلك لم يستطع عقلها استيعاب طبيعة ما تراه، فهل هي في مستودع قديم، أو حجرة صماء مهملة!! والأدهى من ذلك؛ أنه لا يوجد لها منفذ سوى الباب الذي دخل منه الرجلان، فأي مكان هذا!! غير أن قشعريرة سرت في جسدها، بعد أن وقعت عينها على الفأر الميت العالق في المصيدة، فيما كان الرجل الثاني يذكر الأول بقوله:
    - كن حذرا.. فأي خطأ لن يكون في صالحنا..

    **
    كان رامز على وشك أن يغط في نوم عميق؛ عندما قاطعه صوت رنين هاتفه، فتناوله بتكاسل وهو يهم بإغلاقه، غير أنه سرعان ما انتبه من نومه تماماً؛ عندما لمح اسم محدثه:
    - أهلاً أهلاً بالأستاذ أيهم، إنني في خدمتك، تفضل..
    - أعتذر عن الازعاج في مثل هذا الوقت أيها المحقق، لكنني تذكرتُ شيئاً هاماً قد يفيدك..
    فلم يبقَ أثرٌ للنوم في أجفان رامز الذي حثه على الحديث قائلاً:
    - لا داعي للاعتذار أبداً يا أستاذ، يمكنك الاتصال في أي وقت، إنني اسمعك..
    وحبس رامز أنفاسه، فيما تابع أيهم كلامه:
    - ذات مرة عثرتُ على ورقة تحمل نبرة تهديد قاسية تصفني بالفاسق الضال، للأسف لا أذكر كلماتها جيداً، ولكنها تتضمن كلاماً شديداً يطلب مني الابتعاد عن خطيبتي سوسن..
    شعر رامز بجميع الهرمونات المحفزة، وهي تعمل في جسده، فقال باهتمام:
    - جيد أنك أخبرتني بذلك، ولكن متى كان هذا؟؟
    - لا أذكر تماماً، قد يكون قبل عدة أشهر، أو ربما شهرين! أو ربما أقل!! فقد
    - وماذا حدث بعد ذلك؟ هل عرفت خطيبتك بالأمر؟ وهل قمتما بالإبلاغ عنه؟
    - لقد تفاجأت سوسن بذلك حسبما أذكر، بل كاد أن يُغمى عليها، لكننا تجاهلنا هذا الخطاب باعتباره مزحة سخيفة تريد التفريق بيننا، وقمت بتمزيقه بكل بساطة!!
    - هل تعتقد أنهم جماعة من الارهابيين مثلاً، أو فرقة متطرفة من ذوي الفكر المتشدد؟
    - لم أُعِر الأمر اهتماماً كبيراً وقتها، ولكن أما وقد ذكرتَ ذلك؛ فمن يدري... ربما!
    انتهت المحادثة، ولم تنتهي تساؤلات رامز وخواطره:
    - عرب ... متدينون... كل شيء متوقع منهم!!
    وتنهد بحرقة وهو يتذكر:
    "والدك رجل عربي..."
    **
    بدأت سوسن تعتاد على استعمال ما يُطلق عليها مجازاً (دورة مياه)، فقد كانت أشبه بكوّة صغيرة ، تقع في إحدى زوايا ذلك القبو المظلم- الذي أناره المُحتجِزون أخيراً، بشعاعٍ واهن مكنها من تحسس مواطن أقدامها على الأقل- ورغم الغثيان الذي أصابها في البداية، من تلك الرائحة العفنة التي تسبب الاختناق، إلا أن الضرورات البشرية الملحة، لم تكن لتترك لها خيار آخر..
    ولم تستطع منع نفسها من التفكير بغرفتها الواسعة المعطرة بالازاهير والورود، التي لم تستطع شم رائحة السعادة فيها آنذاك، رغم كل الترف! فهل هي في "عقاب" من نوع خاص، لأنها لم تستشعر تلك النعمة! حتى الجوع الذي لم تكن تعرف معناه، اضطرها لأكل تلك الكسرات اليابسة من الخبز؛ لتُسكته!
    "أيهم"
    ودمعت عيناها، فما زالت تحبه رغم كل شيء!
    غير أنها حاولت التجلد من جديد، والتفكير بإيجابية أكثر، فحتى الآن لم تتعرض لأي أذى حقيقي وهذا هو الأهم..
    وبعد أن توضأت بذلك الماء الآسن، اتجهت ناحية الجدار لتأدية صلاة العصر حسب تقديرها، إذ رفض المُحتجزون تعريفها بالأوقات، أو إرشادها لاتجاه القبلة، متخذين من ذلك ذريعة للتسلية، إذ رد عليها أحد الرجلين مستهزئاً:
    - هل تريدين أن نساعدك في الدعاء علينا، أم ماذا!
    فيما انفجر الآخر ضاحكاً:
    - أو ربما تظنين أن بإمكان ذلك مساعدتك على الهرب!
    ثم تابع بنبرة أكثر جدية:
    - ومع ذلك؛ لن نسمح باحتمال واحدٍ للخطأ..
    ومنذ ذلك الوقت لم تفكر سوسن بسؤالهم عن شيء آخر، بل آثرت الصمت، لتعتمد على اجتهادها المطلق في تأدية الفرائض، بعد أن يئست في الحصول منهم على أي إجابة كانت، بما في ذلك سبب احتجازها!
    كانت تدعو الله بسجودها أن يغفر لها اسرافها في أمرها، ويكفيها ما أهمها، وأن يُطمئن والديها عليها... وأن يهدي "أيهم" ويرده إليها رداً جميلا..
    بللت الأرض بدموعها، مستغرقة في مناجاتها، تناجي الله بهمومها وآلامها ومخاوفها، حتى شعرت بتحسن كبير، وقبل أن ترفع من السجود، سمعت صوت صرير الباب يُفتح، مُعلنة عن دخول الرجلين كالعادة، إذ لم يكن يأتي إليها رجلٌ بمفرده حتى هذه اللحظة، فسمعت أحدهما يقول آمراً:
    - هيا أنهي صلاتك بسرعة، فقد حان وقت العمل..
    سرَت رعشة في أوصال سوسن، هل هذا هو الفرج أخيراً، وبعد أن سلّمت من الصلاة، اقترب منها الرجل الآخر قائلاً، وهو يناولها ورقة صغيرة بيده اليمنى، فيما أمسك جهازاً صغيراً بيده اليسرى:
    - أرسلي هذه الرسالة بصوتك لوالدك بسرعة..
    قال كلمته تلك وضغط على أحد أزرار الجهاز، غير أن سوسن قرأت الكلمات المطبوعة على الورقة بصمت، ثم أمسكت لسانها خشية أن تصدر عنها آهة فزع، فيما قالت بصوتٍ عال:
    - أمي أبي كيف حالكما؟ أرجو أن.....
    لكن الرجل قطع التسجيل بسرعة صارخاً فيها بغضب:
    - ألا تعرفين القراءة أيتها الحمقاء؟ هل تستخفين بنا أم ماذا تظنين نفسك؟؟؟
    ارتجفت سوسن قليلاً لكنها ردت عليه بقوة:
    - كيف أقول شيئا لا أفهمه؟ أنتم لم تخبروني سبب احتجازي من الأصل، ثم ما هو هذا الشيء الذي فعله والدي، وتريدون منه الاعتراف به؟
    فأجابها الرجل بغلظة:
    - إياك أن تعتقدي بأن عنادك سيفيدك، وتذكري أننا حتى هذه اللحظة لم نمسسك بسوء أيتها الضعيفة..
    وأردف بلهجة آمرة جازمة:
    - هيا أعيدي التسجيل وبسرعة..
    خفق قلب سوسن لهذه الحقيقة المرة، فهي ضعيفة لا حول لها ولاقوة، ومرت بعينيها ثانية على الكلمات المطبوعة في الورقة:
    "أبي أرجوك، اعترف غداً أمام الشاشة بما فعلتَه، كي أتمكن من العودة إليكم سالمة، فحتى هذه اللحظة لم يتعرض أحد الرجال لي بسوء، أرجوك أبي لا تتردد فشرفي في خطر"
    فترقرقت الدموع في عينيها:
    - يارب.. كيف لي أن أقول شيئاً كهذا؟ قد يتم استخدام هذا التسجيل ضد والدي على الملأ، فكيف أتهمه بشيء لا أعرفه! كيف أسيء إلى سمعته وأنا لا أعرف عنه إلا كل خير!! إنهم يريدون مني هز ثقة الناس به، فيارب احفظني واحفظ والداي من كل سوء..
    غير أن صراخ الرجل قطع مناجتها:
    - ما الذي تنتظرينه أيتها الغبية، هيا اقرئي الرسالة بسرعة، فلا وقت لديّ لتضييعه..
    أما سوسن فقد كانت تتمنى أن تفكر بهدوء لتقرر..
    يارب.. ما الذي عليّ فعله الآن!!
    وأخيرا قالت:
    - وما الذي يضمن لي العودة إلى أهلي سالمة، إن ما أرسلت لهم هذه الرسالة؟
    فزمجر الرجل مكشراً عن أنيابه:
    - بل قولي من الذي يضمن لك البقاء سالمة؛ إن لم ترسلي هذه الرسالة!!!!!!!!!!
    ثم رفع قبضته مهدداً:
    - لقد تماديتِ كثيراً، قومي بتسجيل الرسالة حالاً قبل أن أفقد صوابي..

    (يتبع)

  10. #9
    ارتجفت سوسن بشدة، وأغمضت عيناها في محاولة للهروب من هذا الواقع، لعلها تفكر مع نفسها بهدوء:
    - لا شك أن غداً هو موعد خطاب والدي الرسمي،...
    غير أن تلك اليد الضخمة، التي هوت على ظهرها، لتسقطها أرضاً على وجههǺ لم تترك لها المجال للاسترسال بأفكارها أكثر، فصرخت من شدة الألم، فيما قفز الرجل الآخر- الذي كان صامتاً طوال الوقت- إلى جانب الأول- الذي كان يزمجر بغيظ- مهدئاً:
    - على رسلك يا رجل، هل نسيت أوامر السيد؟
    ورغم الألم المبرح الذي حل بسوسن، إلا أنها وجدت في سقطتها تلك؛ متنفساً تراجع فيه حساباتها، وترتب أفكارها.. فعلى ما يبدو أن الأمر أكبر من مجرد طلب فدية، كما ظنت في البداية! وبقي السؤال الملح يتردد في ذهنها:
    - ما هو الشيء الذي يريدون من أبي الاعتراف به؟
    أهي مجرد تهمة يريدون تلفيقها له!!
    أهو منافسٌ لوالدها في الانتخابات ويريد القضاء عليه نهائياً!!
    ألهذه الدرجة وصلت الحال بهؤلاء المنافسين على مقاعد السلطة!!!
    كانت سوسن قد بدأت تسترد قوتها، عندما وكزها أحد الرجلين بقدمه في خاصرتها:
    - هيا انهضي، ولا داعي للتظاهر بالإغماء..
    فانكمشت على نفسها، وهي تشد ثيابها إلى جسدها كمن تحتمي بدرعٍ فولاذي ثقيل، قبل أن تأخذ وضعية الجلوس، رافعة جذعها أولاً، لتواجه الرجلين بنظراتٍ ثاقبة، معبرة عن غضبها الشديد مما حدث..
    فتكلم الرجل الثاني ملاطفاً:
    - لم نكن ننوي الأذية أبداً، ولو أنك نفذتِ ما طُلِب منك، لمرت الأمور بسلام..
    وناولها الورقة بدوره قائلاً:
    - هيا لو سمحتِ، أرسلي الرسالة، وسينتهي كل شيء..
    قال جملته تلك، وضغط على زر التسجيل..
    **

    كان رامز مستغرقاً تماماً في العمل على قِطَع التركيب- المفروشة أمامه على الطاولة المستطيلة الواقعة في صالة شقته الصغيرة- عندما قطع تركيزه رنين جرس الباب المزعج، فزفر بضيق:
    - لا أدري كم مرة عليّ إخبارها أن تُحسن التعامل مع الجرس..
    ثم رفع صوته مجيباً:
    - لحظة من فضلك، ها أنا قادم..
    ولم يكد يفتح الباب، حتى دلفت أمل إلى الداخل- وهي تحمل لوحة مغلفة بيدها- قائلة:
    - هيا يا أفندم تفضل هديتك، ولا تنسَ تسديد الرسوم..
    ثم ارتمت على الكنبة المريحة ملوحة بيدها:
    - الجو خانق هنا بعض الشيء..
    فنظر إليها بذهول، وهو يتأمل سعر اللوحة:
    - ما هذا!!
    فغمزته أمل بدهاء:
    - هذا ثمن المعلومات القيمة التي أحضرتها لك..
    وأردفت، وهي تمط ذراعيها بتكاسل:
    - خذ بعين الاعتبار أنني تنازلتُ عن أتعابي الخاصة من أجلك..
    فلوى رامز شفتيه، قبل أن يقول باهتمام:
    - أرجو أن تكون المعلومات على قدر هذه الأهمية..
    فابتسمت أمل:
    - ذلك الاستاذ غارق في حبها حتى النخاع!
    فعلق رامز بلا مبالاة:
    - معلومة قديمة، لقد أخبرتك بها بنفسي، فقد كانت أموره واضحة منذ زيارتي الأولى له.. ما يهمنا معرفته فعلاً هو تحديد ما إذا كانت مخطوفة أم هاربة بإرادتها..
    فرمقته أمل بنظرات معاتبة:
    - أولاً.. لا تنسَ أنك لم تُخبرني بشيء من تلقاء نفسك، ولولا ضبطي لك متلبساً بالجرم المشهود، لتجاهلتَ دوري تماماً..
    ورمت شعرها- المتدلي على كتفها- بيدها إلى الوراء، قبل أن تتابع بلهجة جادة:
    - وثانياً.. ليس هذا وقت العتاب.. هل رأيتَ هذه؟
    طرحت سؤالها، وهي تشير إلى شاشة هاتفها المحمول، لتريه صورة التقطتها..
    وبعد أن تمعّن رامز في الصورة، سألها بتعجب:
    - ما هذه؟ بطاقة مطبوعة لأذكار الصباح والمساء!! هل لها دلالة خاصة؟
    فقالت أمل جازمة:
    - بل هي طرف الخيط.. كان بودي جلبها معي، لكن ذلك الأستاذ العنيد تمسك بها بجنون، ولم أشأ إثارة شكوكه.. أظنه آخر أثرٍ تركته الفتاة خلفها.. وقد يكون سقط منها دون قصد.. وقد عثر عليها ذلك الأستاذ في أحد الشوارع الشمالية الغربية في طرف المدينة..
    وسألته بنبرة ذات مغزى:
    - هل تدرك ما الذي تعنيه تلك الشوارع؟؟
    لكن رامز تجاهل سؤالها ذاك، قائلاً:
    - وما الذي جعلك واثقة هكذǺ من أن هذه البطاقة تخصهǿ هناك آلاف النسخ المتشابهة منها بلا شك..
    لكن أمل حدجته بنرة ثاقبة:
    - جنون المحبين يكون دليلاً كافياً أحياناً!
    فتنهد رامز باستسلام:
    - حسناً كما تريدين.. ما الذي كنتِ تقولينه عن الشوارع الشمالية الغربية؟
    وبدل أن تجيبه قفزت من مكانها باتجاه الطاولة، لتتأمل قطع التركيب الغريبة:
    - ما هذǿ؟ هل هذا وقت اللعب أيها المحقق الجاد المحترم!!
    فأجابها رامز ببرود:
    - بل هذه أفضل طريقة لفهم شخصية تلك الفتاة... فالسر يكمن في لوحتها الأخيرة..
    فأطلقت أمل صافرة إعجاب طويلة:
    - يا لها من فكرة عبقرية.. لقد حولتَ لوحتها الأخيرة إلى قطع تركيب، لتدرس حالتها النفسية والذهنية بعمق وتركيز، فالقطع الصغيرة المتناثرة؛ لا يبدو أن لها علاقة ببعضها البعض، لكن تجميعها وِفق منهجية محددة، يؤدي إلى اكتمال الصورة.. إذن هذا هو العمل الذي تجاهلتَ من أجله؛ موعد عشاءنا تلك الليلة..
    فعلق رامز:
    - كم مرة علي الاعتذار بشأن تلك الليلة، لقد أخبرتك بأنني لم أتجاهل الموعد أبداً، بل نسيته تماماً رغماً عني!!
    لكن أمل كانت منشغلة باللوحة، فلم تعي ما قاله!
    وسرح رامز بفكره للوراء، وهو يتأملها أثناء تفحصها لتلك القطع..
    لقد مضى على خطبتهما أكثر من عامين، كان بحاجة لها فقد وجدها مفيدة جدا منذ أن التقاها في المكتبة العامة، إذ كان كلاهما يبحثان في قسم القانون والجرائم..
    تلك كانت البداية..
    كان بوده أن تكون علاقته بها مجرد صداقة عادية، لكن طبيعة العائلات العربية- حتى المنفتحين منهم- يرفضون هذه الفكرة، فلم يجد بداً من إعلان الخطوبة، على أن تكون خطبة طويلة المدى كي يتعرفان إلى بعضهما البعض بشكل أفضل، ولحسن الحظ، كانت شخصية أمل وطبيعة عائلتها، مناسبة جداً لهذا الاختيار! ثم إنها ليست من النوع الضعيف، الذي يُشعر الآخرين بعذاب الضمير، فلو أنه فكّر بتركها أو فسخ الخطوبة لأي سبب من الأسباب؛ لن تنهار باكية، بل ربما ستسدد له صفعة أو صفعتين، مع سيلٍ من الشتائم، ثم تمضي في حال سبيلهǺ بحثاً عن فرصةٍ أخرى.. هذا في حال أنها لم تتركه هي أولاً!!
    وابتسم رامز لهذه الفكرة، التي كانت أكبر حافز له، لخوض تجربة الخطوبة هذه، لكنه سرعان ما انتبه من أفكاره تلك؛ إثرَ صفعةٍ خفيفةٍ من يد أمل على خده:
    - ماذا أصابك؟ هل جنِنتَ لتضحك وحدك هكذا!! أمامنا عملٌ كثيرٌ ولا وقت لتضييعه بشرودك السخيف هذا..
    فتحسس رامز خده بيده، قبل أن يعلق باسماً:
    - معك الحق، كنتُ أفكر فقط كم نحن مناسبين لبعضنا البعض..
    لكن رنين هاتفها صرفها عن مجادلته، فأسرعت تجيب الاتصال:
    - أجل.. معك الممرضة المنزلية، أمل وهيب .. أجل أجل.. هذا صحيح تماماً، فخبرتي في التمريض المنزلي ممتازة، يمكنك التواصل مع مستخدمتي السابقة.. امممم.. لكنني بحاجة للمبيت والمأكل.. هل السيد طاعن في السن؟... في هذه الحالة ربما يكون من الصعب قبول ذلك... لا بأس .. شكراً لك..
    أغلقت أمل السماعة، فيما حملق فيها رامز:
    - ما هذǿ؟
    فأطلقت أمل ضحكة خفيفة:
    - هذا هو الاتصال السادس منذ أن نشرتُ الاعلان.. وما زلنا بانتظار الفريسة لتلتقط الطعم..
    فرمقها رامز بذهول، وهو يمطرها بأسئلته:
    - أي إعلان هذا!! وما الذي تخططين له؟؟ ثم هل تدركين إلى أي مدى قد يقودك تهورك؟ وهل والدك على علمٍ بذلك!
    فابتسمت أمل بثقة:
    - ومنذ متى ووالدي يعارض عملي؟ هل نسيتَ أنني أمتلك خبرة في التمريض المنزلي، تزيد عن خمس سنوات؟؟؟ يبدو أن ذاكرتك بحاجة للصيانة..
    وقبل أن يضيف أي منهما كلمة أخرى، على رنين الهاتف من جديد، غير أن الاتصال كان على هاتف رامز هذه المرة، وما أن رأى رقم مُحدثه، حتى أشار إلى أمل بالصمت، قبل أن يجيب الاتصال:
    - أجل سيد كارم.. إنني أسمعك.. كلا لا مانع أبداً، بل يُسعدني التحدث معها..

    لم تستطع سوسن ايقاف نفسها عن البكاء منذ أن أُجبرت على ارسال تلك الرسالة، لم تتخيل أن تصل بهم الدناءة إلى هذا الحد، لم تكن لتستسلم بسهولة، ظلت صامتة رغم كل محاولات ذلك الرجل الذي ارتدى ثياب اللطف فجأة، غير أنها لم تتوقع أن ينقلب المشهد هكذا!
    فبعد إصرارها على الصمت، قال الرجل الذي أسقطها أرضاً، بنفاد صبر:
    - لن أبقى طوال عمري أشاهد هذه المسرحية الهزلية، يمكنك أن تتصرف معها بطريقتك، أما أنا فلا يمكنني الاحتمال أكثر..
    قال كلمته تلك واتجه نحو الباب ليخرج، فالتفت إليها الرجل الآخر بابتسامة مقززة:
    - والآن يا جميلتي، يمكننا التفاهم بهدوء، دعيني أولاً أطمئن على إصابتك، أرجو أن لا يكون ذلك الوغد قد آلمك..
    وقبل أن يضع يده على جسدها- بعد أن أصبحا وحدهما في القبو- قفزت من مكانها صارخة بأعلى صوتها، وهي تحاول الهرب:
    - ابتعد أيها الوقح، إياك أن تقترب أكثر..
    فجذبها من كمها قائلاً:
    - عليك أن تدركي أنه لا خيار أمامك..
    فيما أخذت تحاول تخليص نفسها منه، وهي تصرخ باستماتة:
    - اتركني..
    عندها عاد الرجل الأول أدراجه هازئاً:
    - كأنك تطلبين النجدة، وقد كان بإمكانك تلافي هذا كله..
    ثم قال بلهجة جازمة:
    - يمكنني أخذ هذا الوقح معي لنخرج من هنا، ونتركك وشأنك؛ إن نفذتِ الطلب بهدوء..
    لا تدري سوسن كم ساعة مرّت عليها، وهي تقاسي آلام هذه المهانة، فقد استسلمت في النهاية ونفذت الطلب، ولا تدري كيف سيكون حال والدها الآن!
    ما هو الجرم الذي ارتكبه، لكي تتهمه هكذا!
    بكت بحرقة، وودت لو تخبر والدها بثقتها فيه، وندمها على تفوهها بتلك الكلمات القاسية..
    أرجوك سامحني يا أبي.. فلم يكن بيدي حيلة أبداً..
    يارب.. استرني وارحم ضعفي..
    وشعرَت بوهن شديد في أرجاء جسدها، لم تستطع معه الصمود في وضعية الجلوس أكثر، فهَوى جسدها على الأرض، كقطعة قماشٍ فُصِلَت عن محور الارتكاز..
    **
    ألقى رئيس المباحث- السيد تامر عماد- أوامره على أتباعه بصرامة، مشدداً على تعليماته التي لا تقبل الجدل، لضبط الأمن في المنطقة.. فقد كانت الجماهير مكتظة أمام المنصة، التي سيعتليها المرشح المحبوب أخيراً، ليلقي كلمته قبل استلام مهامه رسمياً، ولظروف أمنية بحتة- كما أُعلن- تأخر وصوله عن موعده المحدد..
    ولم يكن صبر الجماهير، ولا صبر القنوات الأخبارية التي تبث الحدث مباشرة؛ ليستمر طويلاً، إذ بدأت التحليلات السياسية، تأخذ دورها على الساحة..
    وأمام دهشة الجميع، اعتلى نائب الحاكم العام- السيد وائل رفيق- المنصة، ليفض الجدل باقتضاب:
    - يعتذر معالى رئيس الوزراء، السيد كارم بهاء، عن القاء الكلمة لهذا اليوم، لوعكة صحية طارئة المّت به.. شاكِراً لكم دعمكم ومساندتكم.. ويطمئنكم بأنه سيكون بخير، وأهلاً لثقتكم..
    **
    كان الممر المؤدي للقبو ساكناً، إلا من أصوات خطوات الرجلين، عندما سأل أحدهما صاحبه:
    - هل تظن بأن السيد سيسمح لنا باللهو قليلاً إن ما نجحت مهمته؟
    - نلهو أو لا نلهو، بعد تنفيذ المهمة لن يكون بيننا أي التزام.. أنت تعرف الشرط..
    - لا أقصد هذا أيها الأحمق، كنتُ أعني..
    وصمت بخبثٍ فهمه الآخر، فعلّق بابتسامة ماكرة:
    - عينك على الفتاة إذن، كان السيد محقاً بتكليف رجلين منا في مهمة الحراسة والمراقبة، ولا أدري كيف ستكون ردة فعله؛ لو عرف بما هممتَ بفعله البارحة!
    فأجابه الآخر مدافعاً عن نفسه:
    - وهل نسيت نفسك! لقد كدتَ تقضي عليها بتهورك!!
    كانا قد وصلا الباب، فهمس أحدهما للآخر، قبل أن يدلفا للداخل:
    - دعنا نتمنى أن نأخذ منها التسجيل الثاني بسلام هذه المرة، فمزاج السيد متعكر أكثر من المعتاد..
    غير أنهما فوجئا برؤية سوسن ممددة على الأرض بلا حراك على غير العادة، إذ كانت سرعان ما تنكمش على نفسها بوضعية الجلوس، كلما سمعت صوتهما! والأدهى من ذلك، أنها لم تستجِب لهما بأدنى حركة، رغم كل الضوضاء اللتي أحدثاها بصراخهما وحركة أقدامهما..
    فاقتربا منها أخيرا، وتجرأ أحدهما على هزها بيد، لكنه سرعان ما التفت إلى صاحبه، مُخبِراً:
    - كأنها على وشك الاحتضار، أظنها غائبة عن الوعي، فحرارتها عالية جداً، وثيابها متعرقة، ما العمل؟؟
    فارتبك الآخر:
    - علينا إخبار السيد حالاً، فهذا خارجٌ عن الخطة!
    فقال له صاحبه:
    - إذهب بسرعة إذن، فقد تموت الفتاة في أية لحظة...
    عندها هرع الرجل إلى الأعلى، فيما بقي صاحبه إلى جوار سوسن، وهو يفكر بالجائزة التي سيحصل عليها في النهاية..
    أخذ يتأملها بهدوء..
    فرغم كل شيء.. كانت لا تزال جميلة!
    - ربما سأفكر بالتنازل عن جائزتي، لو سمح لي السيد باللهو معها قليلاً..
    ومع تلك الفكرة التي طرأت على ذهنه، اقترب منها أكثر ووضع يده على رأسها هامّاً بنزع الحجاب عنه، لكن يده تجمدت في مكانهǺ إثرَ ذلك الصوت الآمر الذي اخترق صمت المكان فجأة:
    - توقف!
    فنهض الرجل على قدميه بسرعة، ملتفتاً للوراء، وهو يردد بذهول:
    - السيد!!
    ثم تلعثم معتذِراً:
    - كنتُ أحاول مساعدتها على التنفس فقط، فأنفاسها ضعيفة جداً..
    لكن تلك النظرات الصارمة ألجمته تماماً، فالتزم الصمت، فيما اقتربت خطوات السيد أكثر، نحو الفتاة الممددة على الأرض..
    وإذ ذاك فتحت سوسن عينيها بصعوبة، لتقعان على وجه شابٍ بدا مألوفاً لها بطريقةٍ ما، أو هذا ما خُيّل إليها في تلك اللحظة الضبابية، فرددَتْ بوهن:
    - أيهم!
    وغامت الدنيا في عينيها مجدداً، وقد شعرت بذراعين قويتين تحملانها، ليتأرجح جسدها المنهك بعد ذلك في الهواء..
    ***

    لقراءة رواية تركته لأجلك:
    http://www.mexat.com/vb/showthread.php?t=1068790

    ***

    أرجو ان تكون تلك المشاهد القصصية قد حازت على إعجابكم، ولا تنسونا من صالح دعائكم ^^
    وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

بيانات عن الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

عدد زوار الموضوع الآن 1 . (0 عضو و 1 ضيف)

المفضلات

collapse_40b قوانين المشاركة

  • غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
  • غير مصرّح بالرد على المواضيع
  • غير مصرّح لك بإرفاق ملفات
  • غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك
  •  

مكسات على ايفون  مكسات على اندرويد  Rss  Facebook  Twitter