جالسة على الكنبة الفردية متلحفة غطائي الأصفر و الثقيل نوعا ما و عيناي تتنقلان باسترخاء وهدوء شديدين نحو الجالسين في الغرفة.
قررت تجاهل الأصوات البعيدة و التي تشبه إلى حد كبير صوت" الألعاب النارية" لحظة انفجارها،و لكنها حتما ليست مجرد "ألعاب نارية"،ولم يكن من الصعب تجاهلها،خاصة وأننا اعتدنا على سماعها يوميا في الآونة الاخيرة! على الرغم من ان صوتها كان أعلى من العادة بعض الشيء!
كان كل من والدتي وأختي التي تكبرني بعامين"سمية" و زوجة أخي الأكبر "صهيب" وبطريقة ما أخي "عادل" جالسين قبالة التلفاز دون أن يعيروه أدنى اهتمام ،فهم كانوا منهمكين في إعداد "بسكويت العيد"، وأما التلفاز فلم يفتح منذ…..لا اذكر حقا!
أود القيام و مساعدتهم ،ولكن من الصعب حقا ترك الكنبة المريحة وغطائي الدافئ!أقنعت نفسي بحجج واهية للتملص وقد نجحت بذلك بجدارة، فها أنا ذا اتأمل اختي الصغيرة مع ابن أخيها الذي يصغرها بخمسة أشهر يلعبان بالمكعبات التركيبية ، يبدو عليهم الانسجام التام فقد كانت هناك تقطيبة لطيفة ارتسمت على جبين ذلك الفتى ذو ست سنوات وهو يحاول بصعوبة تثبيت البرج من السقوط، بينما انشغلت تلك الصغيرة بإضافة المزيد من القطع إليه!
كان والدي ممسكا بجريدته تلك وملامح القلق الممزوجة مع الاستياء قد علت وجهه،رمى بتلك الجريدة على الكرسي الخشبي بجانبه بعدما تنهد تنهيدة عميقة،تنهيدة حكت لي كل شيء!
ليس و كأنها المرة الاولى،ولكننا فقط لم نعتد على البنيان المهدم فوق خلق حي بعد، و لا أظننا سنفعل.
ابتسمت بسخرية على حالنا في الآونة الاخيرة ، فعلى الرغم من أن غدا هو اول ايام العيد الاضحى إلا أن الجميع لا تبدو عليهم الفرحة الحقيقية، و لولا محاولات أمي المستميتة في جعل الأمور تبدو كأنها بخير كالسابق لما أدركنا ماهية الغد حتى!
"علينا استقباله بإبتسامة و بهجة مهما كانت ظروفنا"
هذا ما كانت تردده دوما على مسامعنا حتى حفظناه عن ظهر غيب!
قطع سيل أفكاري البكاء الصادر من الرضيع الذي كان بجوار زوجة اخي ،أخذته لحضنها و أخذت تهزه بقديمها وهي تدندن له بلحن ما كمحاولة فاشلة لإسكاته،ولكنها وبطريقة ما نجحت بذلك،فها هو ذا يعود لوضع الملاك الصامت بعدما اطربنا ببكائه الحاد والمزعج قبل لحظات! و أخذت أنا اتنعم مجددا بذلك الهدوء المريح للاعصاب،و الباعث للنعاس بطريقة ما!
-هل لك أن تقومي بجلب كأس ماء لوالدتي؟
قالتها سمية و هي ممسكة بفرشاة حمراء تدهن بها الصينية المربعة بالزبدة لتدخلها إلى الفرن بعد ملئها بقطع البسكويت.
نقلت عينيي نحو الساعة الجدارية ذات اللون الرمادي،بالكاد تمكنت من الرؤية نظرا لتأخر الوقت، ولأنقطاع الكهرباء منذ..؟ لا أذكر مرة أخرى! كانت عقارب الساعة تكاد تقترب إلى الخامسة ،انه موعد دوائها!
-لحظات فقط.
هذا ما قلته كمحاولة أخيرة للتشبث بغطائي الدافơهمهمت لي لأقوم أنا بعد ثواني معدودة مقنعة نفسي انني ساعود لمخبئي بعد دقائق قليلة.
سرت بخطوات متثاقلة و بطيئة نظرا لعضلاتي المرتخية وبشدة!
مررت خلال ذلك الممر الضيق و الطويل لأصل بعدها الى المطبخ التحضيري الواسع.
عندها كان ضوء شمس الغروب البرتقالي ساطعا و مهيمنا،مما سهل علي الرؤية و البحث كثيرا!أنطلقت بعدها بعجلة باحثة عن كأس زجاجي ،و لكن ليس قبل ان احشر بجيبي إحدى قطع البسكويت الخارجة توا من الفرن،كانت ماتزال دافئة ولينة،ولكن لا بأس،فهي لذيذة في جميع أحوالها!
………………………..
-ها هو ذا.
قلتها و انا أسير بحذر لئلا اسكب الماء على السجاد تحتي،تبسمت أمي في وجهي وأخذت تدعو لي تعبيرا عن امتنانها لأرد لها ابتسامتها بابتسامة أوسع.
مددت لها الكأس على مهل و مدت هي يدها اليمنى المزينة بسوار من الذهب لأستقباله،و لكن حصل ما لم يكن على الحسبان!
خلال ثوان،أو لحظات ربما..
صراخ من كل جهة وغبار قد ملأ المكان ،والدتي العزيزة التي كانت أمامي قبل لحظات قد اختفت! وحل محلها صخرة حجرية كبيرة..
لا!ليست صخرة حجرية !فها انا أرى الساعة الرمادية ذاتها محطمة لقطع صغيرة قرب كومة الأحجار تلك! ويدا ممدودة قد توسطها سوارا ذهبيا من بين أكوام الحجارة وبجانب تلك الساعة ،غضضت بصري وأنا أشعر بسخونة الدموع التي اتخذت من خداي سبيلا.
لم أحاول استيعاب ما حصل..
كنت خائفة و لم أجرؤ على التخيل حتى،حاولت طمأنة نفسي أن كل شيء بخير،نعم لعلي ما أزال مستلقية على اريكتي تلك!
حاولت رفع يدي لأصفع خدي لأستيقظ سريعا من كابوسي هذا!
ولكن هناك شيئا ما منعني!
ادرت وجهي ببطء وصعوبة فألاحظ كومة الأحجار تلك فوقي!منذ متى وهي هناك؟
تعانقني من كل اتجاه،ضاغطة على معدتي من الخلف بشدة،اطرافي الخلفية على الأرجح قد سحقت بالكامل، مجرد النظر اليها كان مؤلم،ولكنني لم أشعر بشيء لحظتها،سوى بتلك البرودة التي أحاطت بكل جسدي فجأة،رغم كون نبضات الدفئ الخافتة تتسلل من جيبي الى جسدي،أكانت هذه قطعة البسكويت السابقة؟
نغزات الألم القاتلة كانت تأتيني في كل لحظة،تذهب دقيقة و تعود لدقيقتين بدت لي دهرا، فقدت الإحساس بأطرافي و تنفسي كان بطيئا،رغم ذلك حاولت و بصعوبة ألا أفقد وعيي!
كان المكان هادئا، وموحشا للغاية،أنين من مكان ما قد تسلل خلال صمتنا قد زاد المكان وحشة، توقف فجأة مما جعلني أشعر بنغزة في قلبي وأنا أرجو من كل قلبي ان ما أفكر به ليس صحيحا !
ذلك جعلني افكر،على الأغلب بعد عدة ساعات وبعد استئناف قصير "للألعاب النارية" سيأتي أحدهم حاملا كاميرته الرخيصة،يلتقط بضع صور فينشرها على أحد الجرائد،سيحزن احدهم و ربما قد يتجمع دمع أحدا آخر،و من ثم سينطلق الجميع لمشاغلهم متناسين ما حل في مدينتنا الصغيرة،ستبقى أجسادنا حبيسة الأنقاض دوما،و يبقى التناسي هو الحل الأسهل للجميع،ويبقى حالنا دون "تغيير"!
الملامح الفزعة و المنقبضة و التي لطالما لاحظتها على الكبار كلما سمعوا شيئا جديدا عن أحوال البلد،وفي الاونة الاخيرة بدأت بملاحظة الملامح ذاتها على اوجه الصغار،فقط إلى أي خراب وصلنǿ
الحرب أثقلتنا،ولم تعد لنا طاقة لمواجهتها،أين ذاك السلام الذي ينشده الجميع؟
لعل سلامنا في الأغاني و الأناشيد فقط!
وأما الواقع؟يكفي اسمه واقع!
………..
جذب نظري تلك الحمامة البيضاء و التي بدت ذهبية نظرا لكون شمسنا على وشك الغروب،كان تتمشى تارة قرب الأحجار المتكومة،وتطير قربها تارة أخرى،بدت كمن يبحث عن شيئا ما،كان مراقبتها مريحا لأعصابي المتلفة،مطمئنا لنفسي المرتابة نوعا ما، و مسكن مؤقت لجسدي المسحوق!
أخذت حمامتنا الذهبية تصول وتجول،تتلفت يمنة ويسرة ،حتى استقرت قرب أحد الأنقاض المتكومة أقصى يساري،النظر إليها من هذه الزاوية كان متعبا،ولكنني استمريت بذلك لعلي اعرف مبتغاها،أخذت تلك الحمامة بالنبش بين أكوام الحجارة وألواح الخشب وبدأت أنا بفقد وعيي،تنفسي صار أبطأ وازداد ارتخاء عيناي،واخيرا طارت حمامتنا وفي فمها شيء معلق،ضيقت عينيي في محاولة معرفة ما كانت تحمله لتتسع بعدها بصدمة للحظات ،فما كانت تحمله لم يكن سوى بعض أجزاء من إحدى قطع البسكويت،استقرت تلك الحمامة على أحد الأغصان لشجرة التفاح في حديقة منزلنا و أخذت تطعم صغارها من فتات البسكويت،متجاهلة كل ما يحدث من حولها،معطية الأولوية الأولى لصغارها،حينها،بدا كل شيء بخير كالسابق، كما لو أننا الآن في أحد البساتين،ننعم بسلامنا الخاص، للأمهات سحرهن الخاص،نظرة من عينيها قادرة على إسكات بحر هائج،كبحر قلبي المضطرب الآن، ذلك جعل شبح ابتسامتي تظهر،غابت الشمس،وبدء جفناي بعناق بعضيهما،وقبل أن أغرق بنوم أبدي ،داعب صوتا ما أذناي،كان مكتوما،ولكن مصرا بشكل كبير،اجمل صوت قد سمعته في حياتي على الاطلاق،اسفة لكوني قد وصفته بالمزعج مسبقا،لم يكن سوى صوت بكاء ذلك الرضيع،لابد و أن أمه قد احتضنه جيدا،ليبقى سليما تحت الأنقاض! لعل"التغيير"سيحل على يدي صغيرنا!
لكم تمنيت الآن لو أنني سحبت امي لحضني انا الاخرى؟
تمت~
المفضلات