عودة..
بطاقة دعوة العشاء التي وجهتها بيا للجميع –بإستثناء والدي كلير البشريين- كانت مبهرجة ومتعددة الألوان ومكتوبة بخط يد أنيق،كانت الساعة السادسة مساء عندما أغلقت باب الشقة هابطاً الدرج للأسفل،هو قال أنه سيتأخر في المشفى لذا على الأغلب لن يأتي قبل الثامنة،بعد موعد الدعوة بساعة.
الطريق لمنزلهم كان يحتاج لعشرين دقيقة من السير،السماء أرجوانية والشوارع قليلة السيارات والناس،كان الوقت الفاصل بين نور الصباح ونور مصابيح الشوارع،فجوة زمنية لا يبدو أن الكثيرين يمرون عبرها.
واضعاً يداي في جيب معطفي،قلنسوته تغطي شعري الذي تطايرت خصلاته الأمامية بفعل هواء بدايات الليلة البارد،سماعات الهاتف في أذني،أسمع الأغنية اليونانية الوحيدة التي أحببتها منذ أول مرة سمعتها.
المكالمة الواردة التي قطعت الأغنية مستبدلة إياها بنغمة رنين الهاتف أجفلتني،قبل أن أخرج الهاتف من جيبي كانت المكالمة قد أنتهت بالفعل،وذلك كان هو..
تلك كانت المرة الأولى التي يتصل بي منذ اشهر،منذ ادرك أنها ليست الطريقة التي يستطيع بها التواصل معي..
بعد لحظة كان قد أرسل رسالة،يسأل إن كنت قد غادرت المنزل،أجبته بأنني فعلت،وأنتظرت دقيقتين قبل أن أدرك أنه لن يقول شيئاً آخر.
ــــــــــــــ
-مرحباً.
بيا أستقبلتني في ردهة المنزل بعناق قصير وإبتسامة واسعة،تخلل أصابعها في شعري الذي بدأ يصل لأهدابي عندما يكون منسدالاً للأمام.
-لمَ لم يأت إد معك؟
رغم أن الجميع بطريقة ما أدركوا أن شيئاً ما خاطئ بيننا،إلا أنهم تحاشوا التحدث في الأمر أو فتح الموضوع،بيا كانت الوحيدة التي تجاهلت ذلك وتعاملت مع الأمر وكأن كل شئ بخير.
-لديه جراحة اليوم،قال إنه سيتأخر.
-أوه،حسناً..هذا مؤسف.
كنا قد دخلنا الصالة حيث كان معظمهم جالساً،رونا وإليانا تلعبان بمكعبات بازل..ليس وكأن طفلة في عمر رونا تستطيع لعب لعبة كهذه،بعمر لا يتجاوز السنة والنصف،صغيرة شقراء ومنفوخة بطريقة لطيفة،كدمية محشوة.
عندما رفعت رأسها إلي أبتسمت مظهرة السنتين الصغيرتين غير مكتملتي النمو وقذفت قطعة البازل التي كانت تمسكها بينما نهضت واقفة،ساقيها الصغيرتان تهتزان بعدم إتزان بينما تمد ذراعيها نحوي،لم أستطع سوى أن أبتسم وأقطع المسافة بيننا في خطوتين وأحملها،وهي فوراً أسندت رأسها لكتفي وذراعها يربت بحركات عشوائية علي كتفي الأخر.
الصمت الذي أستقبلته من الجميع جعلني أن أنقل عيناي بينهم،وهم كانوا يبتسمون تلك الأبتسامة التي تجعلهم علي وشك البكاء تأثراً.
لم أقل أي شئ يقطع لحظتهم،فقط سرت حتي الأريكة الأكبر حيث روسلان وكلير،جالساً وواضعاً رونا فوق حجري مواجهة للجميع،إلا أنها أستدارت في نفس اللحظة لتقابلي ساندة رأسها علي عظمة القص خاصتي تربت بيدها الصغيرة المكتنزة علي جانب بطني،حركتها تلك جعلت الجميع يضحكون،وجعلت شقيقها الأكبر ينهض منادياً عليها وماداً ذراعيه يطالبها بالمجơلكنها هزت رأسها نفياً مصدرة صوتاً حلقياً معترضاً معيدة رأسها حيث كان،ذلك جعل الكل ينفجر ضحكاً،وجعلت ألكسيس يتخصر غير راضٍ علي خيانة شقيقته الرضيعة،قبل أن يحشر نفسه بيني وبين مسند الأريكة الجانبي،مسبباً إلتصاقي بروسلان الذي كان يحاول إبقاء يديه بعيدة عن رونا التي تحب دائماً إختبار كفائة سنتيها علي أصابعه.
ــــــــــــــــــــ
-هل يجب أن أنتظرك في المطار؟
صوت ألكسيس القادم من سماعة الهاتف كان متحمساً جداً وهو يقترح هذا،كنا نجلس في الطائرة بالفعل،دقائق قبل أن تمر مضيفة ما طالبة إغلاق الهواتف.
-لا،ليس هناك داع لذلك.
همهمته خائبة الأمل جعلتني أقلب عيني،هو لم يستقبل أحداً في المطار من قبل ويظن أن ذلك شئ مثير لفعله لذا يستغل فرصته معي.
-حسناً،ليكن لكنني لا اعلم متي تصل الطائرة،بالتالي لا أعلم كم ساعة سيكون عليك الأنتظار.
-عظيم.
صيحة الفرحة جعلتني أبعد الهاتف عن أذني،قبل أن اعيده طالباً منه الذهاب لأن المضيفات بدأن في طلب إغلاق الهواتف خاصة الركاب.
ضبطت الهاتف علي وضع الطيران وأعدته في جيبي،الرواية اليونانية التي طلبت يونيا أن أقرأها حتي لقائنا التالي كانت لتبقني مشغولاً لبعض الوقت،الظلام في الخارج بينما الطائرة تبدأ رحلتها كان كئيباً لسبب ما، ظلام ذكرني بتلك المرة مع إيفان،ذلك الذعر الحيواني الذي شعرت به،الذعر نفسه الذي شعر به ذلك الرجل يوم أراد الحصول علي بعض الدم الطازج مستغلاً غيابه..
الذعر الذي لن يشعر به أحد بعد الأن لأن مسببه قد..
النفس الحاد الذي سحبته جعلني ادرك أنني لم أكن أتنفس..تباً..
فقط تباً.
أغلقت ستارة النافذة بعنف جعل إحدي المضيفات تلقي نظرة نحوي..
فاتحاً الكتاب علي أول صفحة..
"مجرد رضيع،عيناه الخضراوان إنعكاس لعالم آخر،عالم أكثر جمالاً مما هو عالق فيه الأن"
"علي أن أنتظره حتي يكبر،ثم علي أن أضحي به"
"لقد حاولت..وأنا لا أستطيع"
أغلقت الكتاب بعنف قاطعاً سيل الجمل المكتوبة بخط اليد الصغير والأنيق في مذكراته..
مذكراته التي كان يحتفظ بها في تلك القلعة،عندما أنتهى كل شơعندما لم يعد هناك ،عندما سألت عنه ليخبروني بأنه..لم يعد هنا.
كان علي العودة هناك،للبحث عنه..عن ما تبقى منه ،عن من كانه حقاً..
ماحصلت عليه كان ثلاث مجلدات مكتوبة بخط اليد،مجلدات ملئها عبر الأربعمائة عام،ليست مذكرات فعلياً،مجرد خواطر،أفكار،مشاعر..
كنت قد أسنزفت تماماً عندما أنهيتها،عندما أدركت من كان فعلاً،لكن متأخراً جداً بحيث لا أستطيع النظر في عينيه البلوريتين و..لا أعلم،لكن ذلك لم يعد ممكناً على أي حال..
أعدت فتح ستارة النافذة،أحدق للنقاط المضيئة في الأسفل،والأختناق داخل قلبي كان يتضاعف متذكراً ما ينتظرني يوم الأحد القادم.
ــــــــــــــــــــــــ
وصلت الطائرة لمطار أوتاوا الدولي في الثانية بعد منتصف الليل بتوقيت العاصمة الكندية،عندما أنهينا أوراق خروجنا،أحمل أنا حقيبتي ذات الكتف الواحد التى حوت اللاب وقاموس اليونانية المكتوب بخط يد صاحبه،أسحب حقيبة ملابسي التي وضعت فيها مذكراته،بينما كنا نعبر باب صالة الأستقبال،كان هناك لافتة بيضاء كبيرة كتب عليها أسمينا،تبرز من بين الجمع القليل من المنتظرين في هذه الساعة،سمعت ضحكته المكتومة جواري،حسناً هذا فعلاً مضحك،لأن ألكسيس يتبع خطوات أستقبال الأصدقاء في المطار تماماً كما يراها في الأفلام.
عندما رأنا لوح بيده الحرة،إبتسامة متحمسة تصل لأذنيه،إلى جواره كان روسلان،يضع يديه في جيبي معطفه،مع النظرة المرتخية تلك،يبدو كمن سيسقط نائماً في أي لحظة.
عندما وصلنا إليهما،قفز ألكسيس تجاهي ماداً ذراعيه مطالباً بعناق،ذلك جعلني أرتد خطوة للخلف مصتدماً برفيق رحلتي،الذي تراجع بدوره مجفلاً من الأتصال الجسدي غير المتوقع،بينما أدع ألكسيس يحصل على عناقه،كما لو أننا لم نكن معاً منذ أقل من أسبوع،رأيت عينا روسلان تضيقان على التنافر بيننا،يعطيني تلك النظرة التي يعلم أنني أعلم أنه يعلم أنني لم أفعل ما طلب مني فعله مباشرة قبل أن أتركه أمام باب منزله في سويسرا.
لحظة الترحيب أنتهت بسرعة،عندما خرج أربعتنا نوقف سيارة أجرة،أنا ورسلان وألكسيس حُشرنا معاً في المقعد الخلفي بينما جلس هو جوار السائق،الحقائب في حقيبة السيارة،بينما ألكسيس لم يتوقف عن تعديد الجامعات التي علينا إرسال طلبات إلتحاق لها..في الساعة الثانية والنصف صباحاً!!
ـــــــــــــــــــــــ
صوت نغمة رنين الهاتف كانت تسحبني من اللاوعي تدريجياً،بينما أنا عالق مابين الوعي واللاوعي أدركت أنها برنونيا..تباً،كان علي أن أغلق الهاتف أو أضعه على وضع الصامت..
أشعر بكل ليفة عضلية في جسدي كأنه قد تم مضغها بين فكي كائن متوحش ما،لا أستطيع حتى فتح عيني..
الرنين كان مزعجاً لكن ليس بما يكفي لأجد القوة لأيقافه،بعد نصف دقيقة سمعت صوت باب الغرفة يفتح،الهاتف توقف عن الرنين،بينما صوته أتى خافتاً مرافقاً لصوت إغلاق ستائر الشرفة.
-مرحباً برنونيا..لقد وصلنا المنزل في الثالثة فجراً،إنه متعب..على الأغلب لن يكون قادراً على أخذ حصة اليوم..حسناً شكراً لك.
صوته كان يخفت تدريجياً،حتي أختفى تماماً عقب صوت إغلاق الباب.
بعد ذلك غرقت مجدداً في هوة اللاوعي خاصتي.
ـــــــــــــــــــــــــ
كان ذلك صباح أحد كئيب،تماماً كما الأغنية التي تحمل نفس الأسم،السماء كانت ملبدة،الجو رمادي جداً،والثلوج توقفت عن التساقط فقط قبل عدة ساعات،لذا أي محاولة لأكون تقليدياً وأجلب بعض الأزهار لم تكن ممكنة.
راقبت الشاهد الرخامي الشاحب اللون،حيث حفر أسمها،تاريخ ولادتها ووفاتها..
كانت تلك المرة الثالثة لي هنا،لكن الألم لم يكن أقل بأي شكل..
رفعت رأسي للسماء تاركاً نفساً لم أدرك أنني كنت أحبسه..
نظرت حولي للأرض الممتدة لمسافة كبيرة،مغطاة تماماً بالثلوج بينما تبرز منها الشواهد الكثيرة والمختلفة،عدت أنظر للشاهد أمامي،غير قادر على إحتمال الكتلة أعلى حلقي أكثر،مع ذلك لا أستطيع تفريغ هذا الأختناق بالدموع..لا أستطيع البكاء..
كما لو أن مشاعري أصيبت بالخدر،كما لو أنني كالق داخل حاجز يمنع أي ضرر من الوصل إلي بشكل كامل،أي مشاعر..ذلك الحاجز لم يتلاشى منذ سنتين..
منذ خسرت إثنين وكسبت واحداً..أشعر بعد أهمية أي شئ..بعدم جدوى اي شơجاعلاً إياي أعيش حياة لا أشعرها..لا تعني أي شئ.
ألقيت نظرة أخيرة علي الشاهد قبل أن أتراجع متسديراً،حاجزى يمنعني من الغرق أكثر في ألم قلبي.
..
خارج حدود أرض المقبرة كانت السيارة الجيب السوداء تقف على الجهة الأخرى من الطريق،كان يستند للباب الأمامي،يديه في جيبي معطفه الأسود مفتوح الأزرار..ينظر إلي بهدوء،عيناه لم تشيا بشئ على الأطلاق،هكذا كان في المرتين السابقتين عندما رافقني،لا يترك مشاعره تطفو للسطح أبداً،إن كان قد بغضههما،إن كان قد شعر بالتهديد..فإنه لن يدعني أعرف قط.
بينما أعبر الطريق الأسفلتي الذي نُظف حديثاً من الثلوج،أشعر ببرودته تحت النعل السميك للحذاء الشتوي،عندما وصلت للسيارة كان هو قد إستدار بالفعل وصعد جهة السائق،عندما تبعته مغلقاً الباب،شاعراً بالقشعريرة اللطيفة التي سببها دفئ مكيف السيارة كل ما أردته هو القفز في حجره وعناقه،والبقاء كذلك حتي أنام..
لكن ذلك ليس ممكناً..لأجل كل شئ فعله خلال السنة قبل الماضية..لأجل كل اللوم والغضب وأحياناً البغض الذي وجهه إلي خلال تلك السنة،مدمراً الجزء الحساس المتبقي مني،قبل أن أتحول لما أنا عليه الأن،عديم مشاعر بالمعنى الحرفي للكلمة.
أخرجت سماعة الهاتف مثبتاً إيها في أذنيّ،مشغلاً كتاباً صوتياً يونانياً،جاعلاً باقي الرحلة تنقضي بصمت..ليس وأنها لم تكن لتكون لو أنني لم أفعل،لكن فقط لتقليل حدة الصمت.
ــــــــــــــــــــــــ
المفضلات