شاعر يرثي قطة‏!‏
بقلم: رجاء النقاش

كثيرون من الأدباء‏,‏ بل ومن قراء الأدب أيضا‏,‏ يحبون ــ اليوم ــ ان يقرأوا الأدب وهم يبحثون عما وراء الكلمات‏,‏ فهم لا يطمئنون إلي القراءة من الظاهر ولا يرضيهم ذلك الأدب الذي يكشف عن نفسه من أول نظرة‏.‏
فالجمال الواضح الصريح مائة في المائة يبدو جمالا ناقصا‏,‏ وغير قادر علي تحريك النفوس وإرضاء العطش إلي التأمل والبحث عن الأسرار البعيدة‏,‏ أما الجمال الحقيقي فهو ذلك الجمال الذي يحيط به بعض الغموض‏,‏ وتظهر منه اشياء‏,‏ وتختفي أشياء أخري‏,‏ والجمال الذي فيه كمال لا يبوح بكل ما لديه عن طريق الكلام المباشر العلني الصريح‏,‏ بل إنه أحيانا يغمز لنا بعينيه‏,‏ إشارة منه إلي كلام أهم من أي كلام آخر‏,‏ فعيون الجميل عندما تتكلم تكون في حديثها أفصح من ألف لسان‏,‏ وهذه الطريقة في القراءة الأدبية تبحث دائما عن المعني الثاني في الأدب ولا تكتفي بمعناه الأول الظاهر علي وجه الكلمات‏.‏

والمعني الثاني هو المعني الذي يختفي‏,‏ ولا يمكن الوصول إليه إلا بعد جهد في التفكير والشعور وانتظار لحظة الإلهام التي تجعلنا نفهم ما لا يقال من وراء ما يقال في الظاهر المكشوف‏.‏
وقد يبدو للكثيرين أن العصر الحديث وحده هو الذي يقدم إلينا مثل هذا الأدب صاحب الوجهين‏..‏ الوجه الظاهر والوجه الخفي العميق الملئ بالأسرار‏..‏ ولكننا لو عدنا إلي بعض نماذج الأدب العربي القديم‏,‏ وكانت عودتنا فيها رغبة في العدالة الأدبية والانصاف الفني‏,‏ فسوف يفاجئنا أن عددا من أدباء العرب القدماء لم يكتبوا أدبهم‏,‏ وهم يقصدون المعاني المباشرة الواضحة فيه‏,‏ بل إنهم كتبوا ما كتبوه وهم يقصدون التعبير عن المعاني البعيدة‏,‏ والأسرار العميقة‏,‏ والتي لا يمكن الوصول إليها إلا للذين يفكرون بعمق وينظرون إلي أبعد مما تراه العيون‏.‏

من هذا اللون الأدبي الذي يهدف إلي شئ من الرمز والإشارة إلي ما هو أبعد من الظاهر‏,‏ قصيدة قصيرة لشاعر عربي قديم هو ابن العلاف وإسمه الكامل أبو بكر الحسن بن علي العلاف‏,‏ وكان ضعيف البصر حتي يقال إنه كان أعمي أو شبه أعمي‏,‏ وكان هذا الشاعر العذب الرقيق يعيش في العصر العباسي‏,‏ وقد توفي نحو سنة‏930‏ ميلادية‏,‏ أي منمذ أكثر من ألف سنة‏,‏ ولم أعثر علي تاريخ ميلاده‏,‏ ويبدو أنه كان شخصيه طيبة وإنسانية وراقية وعفيفة وحريصة علي كرامتها دائما‏,‏ وقد ارتفع مقام هذا الشاعر في عصره حتي أصبح قريبا من بعض الخلفاء العباسبين الذين أحبوه وحرصوا علي أن يكون نديما لهم‏,‏ يكتب الاشعار عنهم ويرويها لهم‏,‏ ويستمتعون بما لديه من علم غزير وذوق أدبي وفني رفيع‏.‏

وقد اقترب هذا الشاعر الإنسان‏,‏ ابن العلاف‏,‏ كثيرا من عبد الله بن المعتز الخليفة العباسي وأحد أهم الشعراء في العصر العباسي بل وفي الأدب العربي كله‏,‏ وقد عاش بين سنة‏861‏ وسنة‏909‏ ميلادية‏,‏ وهو فيما يقول بعض مؤرخي الأدب ــ صاحب الموشحة الشهيرة التي مطلعها‏:‏
أيها الشاقي إليك المشتكي
قد دعوناك وإن لم تسمع

وقد نشأت بين ابن العلاف وابن المعتز صداقة جميلة قوية‏,‏ هي صداقة الشاعر للشاعر‏,‏ وصداقة الفنان للفنان‏,‏ وقامت هذه الصداقة قبل أن يصبح ابن المعتز خليفة‏,‏ أي انها كانت صداقة نزيهة وخالصة لوجه الأدب والعاطفة الإنسانية‏,‏ ثم أصبح ابن المعتز خليفة‏,‏ وهو في الثامنة والأربعين‏,‏ وقد كانت خلافته مأساوية عجيبة‏,‏ ذلك لأنه تولي الخلافة ليلة واحدة‏,‏ ولكن انصاره الذين فرضوه علي كرسي الخلافة‏,‏ انهزموا في الصباح التالي امام انصار الخليفة الطفل واسمه المقتدر الذي لم يكن يتجاوز الثالثة عشرة من العمر‏,‏ ولكن انصاره كانوا اشداء فهم الحاكمون بأمرهم‏,‏ لأن طفولة خليفتهم تجعل منهم أقوي الأقوياء‏,‏ وبذلك ضاع علي ابن المعتز عرشه بعد ليلة واحدة من جلوسه عليه‏,‏ وتم إعدامه‏,‏ ليس بالسيوف‏,‏ ولكن رميا بالحجارة‏,‏ وهنا يدهشني جدا ألا تكون مأساة ابن المعتز العجيبة والمشحونة بالعواطف والعواصف موضوعا خصبا لأعمال فنية خصبة‏,‏ وخاصة في المسرح‏,‏ فابن المعتز بطل مأساوي من الدرجة الأولي‏,‏ وفي شخصيته
وحياته مايفوق بكثير مانجده في شخصيات مثل هاملت وماكبث وغيرهما من الذين جعل منهم شكسبير أبطالا لمآسيه المسرحية الرائعة‏.‏ ولعل أجمل وأعمق ماقرأته أخيرا عن ابن المعتز هو الفصل الذي كتبه عنه الدكتور محمد المنسي قنديل في كتابه البديع شخصيات حية من الأغاني وهو الكتاب الذي أصدرته مكتبة الأسرة منذ أسابيع قليلة‏.‏

كان شاعرنا ابن العلاف صديقا حميما للخليفة الشاعر سيئ الحظ ابن المعتز وعندما انتهي ابن المعتز مقتولا بعد أن تولي الخلافة لمدة ليلة واحدة كتب صديقه ابن العلاف قصيدة في رثاء قطة‏.‏ ولكن الناس في ذلك العصر البعيد‏,‏ والذين لم يكونوا يعرفون أي شئ عن الرمزية والسريالية والبنوية وغيرها من المذاهب الفنية والأدبية الحديثة‏,‏ لم يقرأوا قصيدة ابن العلاف علي أنها قصيدة في رثاء قطة‏,‏ بل قرأوها علي معناها الثاني المختفي وراء الألفاظ الظاهرة‏,‏ فالقصيدة في حقيقتها هي رثاء للخليفة التعيس ابن المعتز ومن الواضح أن الشاعر هنا قد لجأ إلي هذا الرمز البعيد لأن أعداء صديقه إبن المعتز هم الذين كانوا يحكمون‏,‏ وعلي رأسهم الخليفة الطفل المقتدر وقد كان الحزن العلني علي ابن المعتز معناه قطع الرؤوس‏.‏
وقصيدة ابن العلاف هي في الظاهر قصيدة في رثاء قطة له كان يحبها ويربيها في بيته ويأنس إليها‏,‏ ولكن هذه القطة طمعت فيما ليس لها أن تطمع فيه‏,‏ فكانت تذهب إلي بعض أبراج الحمام المجاورة فتفتك بما فيها من صغار الحمام وتأكلها‏,‏ ولذلك قتلها أصحاب هذه الأبراج‏,‏ حتي يتخلصوا من عدوانها علي مايملكونه من الحمام‏,‏ وفي قصيدة الرثاء هذه يتحسر الشاعر علي قطته‏,‏ ويعبر عن حبه لها وشوقه إليها‏,‏ ولكن الشاعر الذكي لايتوقف عند هذا الحد‏,‏ بل هو يلوم القطة علي طمعها فيما يملكه الآخرون‏,‏ ويري أنها ساهمت في صنع مصيرها المأساوي حينما تطلعت إلي مايملكه الغير وحاولت أن تحصل عليه‏,‏ وهذا هو ماترجمه الذين قرأوا القصيدة في عصرها ترجمة سياسية‏.‏

فالقصيدة تتضمن نقدا وعتابا للخليفة ابن المعتز‏,‏ فقد اندفع إلي طلب الخلافة وهي في يد غيره‏,‏ ونال الخلافة بما يشبه الانقلاب العسكري‏,‏ وفي صباح اليوم التالي لوصوله إلي كرسي الخلافة فشل هذا الانقلاب‏,‏ وتم القبض علي الخليفة المسكين وإعدامه رميا بالحجارة‏.‏ ففي القصيدة حزن ورثاء‏,‏ وفيها لوم وعتاب‏,‏ والأهم أن فيها تحذيرا من أن اللهفة والجري العشوائي وراء القوة والسلطان لابد أن ينتهيا إلي الخسران‏,‏ ومعه الموت والدمار‏.‏
هذا هو تفسير الذين قرأوا رثاء إبن العلاف لقطته‏,‏ وهذا هو فهمهم لها في عصرها‏,‏ ولعل في هذه القصيدة ماقد يلفت أنظار النقاد والباحثين في الشعر العربي القديم إلي أن هذا الشعر لايخلو أبدا من معاني الرمز والايحاء وعدم الإفضاء بالمعني الحقيقي للقصائد إلا عن طريق التلميح والرمز والإشارة البعيدة الخفية‏.‏

أما قصيدة القطة‏,‏ أو الهر كما اختار الشاعر ابن العلاف ان يسميها‏,‏ فهي قصيدة قصيرة وطريفة حقا‏,‏ وعلينا أن نقرأ القصيدة علي أن الهر فيها هو الهر ابن المعتز‏,‏ الخليفة المقتول بعد توليه الخلافة لمدة ليلة واحدة‏,‏ وأن القصيدة هي في جوهرها تحذير شديد من الطمع في القوة والسلطة‏,‏ وفي قصيدة ابن العلاف في رثاء قطته أو هره كلمتان هما الجرد بضم الجيم وفتح الراء‏,‏ ومعناها الفأر‏,‏ وكلمة أخري الجمد بفتح الجيم والميم وهي من التجمد في الشتاء‏,‏ ويقول ابن العلاف في قصيدته‏:‏
ياهر‏,‏ فارقتنا ولم تعد
وكنت منا بمنزل الولد
فكيف تنفك عن هواك وقد

كنت لنا عدة من العدد
تطرد عنا الأذي وتحرسنا
بالغيب من حية ومن جرد

يلقاك في البيت منهم مدد
وأنت تلقاهم بلا مدد
لاترهب الصيف عند هاجرة

ولاتهاب الشتاء في الجمد
أردت أن تأكل الفراخ ولا
يأكلك الدهر أكل مضطهد

هذا بعيد من القياس وما
أعزه في الدنو والبعد
لابارك الله في الطعام إذا
كان هلاك النفوس في المعد


ولا بأس من الإشارة إلي أن الهاجرة هي حر الظهيرة في الصيف‏,‏ وإلي أن الفراخ هي فراخ الحمام التي كان يأكلها الهر حين يسطو علي أبراج الحمام وأن كلمة القياس هي من أساليب المنطق العقلي في الحكم علي الأمور‏,‏ والشاعر يقول إن القياس عزيز‏,‏ لأن الناس لايستخدمون المنطق في القرب أو في البعد‏,‏ أي أن العقل غائب والأحكام علي الأمور غير دقيقة‏.‏