1. الشمس
(ادم)
انا أقف على الغيوم، ليس ذلك تعبيرا مجازيا او وصفا لمشاعري. انا فعلا أقف عليها، فشرفة الشقة التي اسكن فيها حاليا تقع على ارتفاع 12 كيلومتر من سطح الأرض على سقف طبقة التروبوسفير للغلاف الجوي. درجة الحرارة تنخفض الى ما دون الاربعين تحت الصفر. كنت لأتجمد لولى الزي الواقي الذي ارتديه، غلف الزي جسمي كله حتى أصبحت كرائد الفضاء. مشيت نحو حافة الشرفة وقبضت بيدي على الدرابزين وانا اتأمل المنظر امامي. اسفلي تهبط البناية نحو سطح الأرض كالجبل المعدني، تلمع نوافذها الزرقاء الداكنة مع اطارها الفضي. انعدمت الرؤية للأسفل حين مرت غيمة أسفل قدمي. ازحت ببصري نحو الأفق وشاهدت الغيوم تجري كالبحار البيضاء. الشمس تهبط خلفها معلنه قرب مجيء الليل.
القليلون من أبناء كوكبي ينعمون بتلك الرفاهية، شقتي تحوي على كافة أنظمة موازنة الحرارة والضغط لجعلها صالحة للمعيشة على هذا الارتفاع. جدارها الزجاجي المسلح بالألماس يمكنه صد قذيفة دبابة، يمتد الجدار على طول الشقة لكي يسمح لمنظر الغيوم ان يرى في كل مكان داخلها، تخفي جدران الشقة الداخلية كل أنظمة الترفيه والراحة التي يمكن لأي شخص ان يستمتع بها بعد ان يجلس على اثاثها العاجي المبطن بالحرير الأبيض. الخدمة متوفرة في أي وقت ارغب به والاطعمة المتاحة لا يوجد ما يضاهيها لذة على سطح الكوكب.
اشتريت هذه الشقة قبل يومين لكي ألقي نظرة على الغيوم، ظننت ان الفراغ داخلي سوف يملا ان اسرفت بالتمتع والبذخ. لكني الان وانا اشاهد منظر الغروب كما لم يشاهده مليارات البشر، ازداد الفراغ في داخلي أكثر.
املك الكثير من المال، ثروة لن تنفذ لو اسرفت في انفاقها حياتي كلها، يمكنني شراء كل شيء واي شخص. لكن هنا وعلى قمة الكوكب أدرك ان هناك أشياء لا يمكنني شرائها بكل اموالي هذه.
صوتها العذب يؤرق ليالي، ابتسامتها الهادئة تجعل صدري يضيق كالتابوت، ضحكتها تجعلني ارغب بإلقاء نفسي من هذا الارتفاع لكي تنتهي حياتي في مكان ما على الأرصفة الرخامية لمدينة الشمس.
اخر ذكرى لها كانت قبل خمس سنوات، كنا صبي وفتاه لا نعرف معنى الحزن والأسى. أتذكر كيف كنت اتسلل من جدران القصر للقائها، أنظمة الحماية الليزرية لم توقفني ومتحسسات الحركة كانت لعبة أطفال بيدي. أتذكر كيف أني تنكرت بالملابس الرخيصة حتى لا يتعرف على أحد، السترة الجلدية السوداء ذات القلنسوة والبنطال الأزرق المتعب كانا المفضلان لدي، كنت القاها في ملعب كرة القدم الموجود في الحي الشعبي على أطراف مدينة الشمس. كنا نقضي وقتنا في اللعب والضحك بين الأبنية البسيطة ذات الجدران المصبوغة باللون الأبيض النظيف والمغطاة بالنباتات المتدلية من الشرفات الواسعة. لم تكسى الأرض بالرخام الثمين كما في مركز المدينة بل بألواح الكونكريت التي نمت الازهار بين مفاصلها، تمضي الساعات كالدقائق معها وأنسى الإحساس بالوقت. ننهي يومنا بالجلوس على طاولة المطعم الشعبي منتظرين وجبتنا بفارغ الصبر، رائحة الحم المشوي الممزوجة بازكى أنواع التوابل تجعل لعابنا يسيل. نأكل ونتحدث حتى المغيب حيث يفترق كل منا الى عالمه.
أتذكر كل هذا كالحلم البعيد، اتذكره كما لو انه حصل قبل دهر. اما الان وانا على حافة الهاوية، املك خياران لا ثالث لهما. اخذوها مني بالقوة وفشلت كل محاولات ايجادي لها، اعلم ان اختفائها وفشلي امر متعمد حيث لا يمكنني الثقة باي شخص اعرفه في هذه المدينة. حياتي استحالت ظلاما دونها ولم ينير ايامي أي رفاهية يمكن للبشر تخيلها.
لا خيار لدي سوى ان ألقي نفسي على هذا الارتفاع حتى انهي ذلك العذاب، او ان اتخلى عن كل الثراء والقوة والسلطة في معركة البحث عن نصفي الضائع.
مضت الغيمة وبانت شوارع المدينة المضيئة، ظهرت كالنسيج الأبيض الممتد بين الأبنية المعدنية الشاهقة. اتسعت المدينة حتى كادت ان تصل الى الأفق البعيد. مشهد الأرض من هذا الارتفاع كان مغر، لا اعلم كم من الوقت سأقضيه قبل ان يلامس جسدي الأرض ان قفزت الان. سحبت نفسا عميقا وزفرته بهدوء، استخرجت جهازي النقال وضغطت على عدد من الازرار. وضعت قدمي على الدرابزين وقفزت.
المفضلات