♡
.
.
.
بأناملي الرقيقة تحسست وجود قلادتي التي لا تفارق جيدي ولكنها تبقى حبيسة أسفل ثيابي بينما تتولى تزييني قلائد غيرها ، تحسستها من فوق المقدمة الضيقة لثوبي الحريري الأبيض الذي كان ضيق الأكمام حيث تلتصق بزندي ولا تتجاوز هذه الأكمام الضيقة مرفقي إلا قليلا ، كنت أزين ذراعي المكشوفة بأساور ذهبية دقيقة ومتشابكة ، نزعت تلك الأساور عن كلتي ذراعيّ وفي ذلك الوقت حدقت بانعكاس صورتي في المرآة بدا لي وجهي المتورد المحاط بشعري الأسود الحريري جميل للغاية ، سحبت بعض من شعري مبعدة إياه عن جبيني ، فقد كان شعري كثيفا وطويلا تماما كأهدابي المتعرجة ، لم أبعد بصري عن المرآة وأنا اتأمل نفسي تخيلت نفسي عاشقة ومعشوقة يخلد التاريخ قصتي ويثرثر المتطفلين عني وعن رجلي ، يستشهد الشعراء باسمي وينسج الرواة حكايات مزيفة عن مغامرات محبتي ، أطرقت بعيني الصغيرتين ثم ضغطت على شفتي الكرزيتين ، شعرت بمدى سخفي وتفاهتي هل هذه تخيلات تليق بي ؟ أنا الفتاة التي عوّلت عليها حمدة بنت الحسن فخر النساء ؟
لا أريد لذلك أن يحصل ، لا أريد أن يكون كل ما فعلته جدتي بشأني مجرد هراء ، لا أريد أن يقول والدي لجدتي ذاك الكلام الذي يطمح الكثير من آل ابن بلكين لسماعه ، أن يقول لها كل ما فعلته أنك حرمت ابنتنا من الدلال والنعيم ، أي علم مختلف ستلقنينه لها ؟ أي شيء يعجز أساتذة القصور عن زرعه فيها ؟ أنت كعادتك تكابرين ومصير هذه الفتاة هو الشيء الذي سيجبرك على رؤية حقيقة الخطأ الذي تصرين عليه
لم أكن في حاجة لأتذكر كل ذلك حتى أجتهد في دروسي ، ثواب ورقية لا حكاية لهما تشبه حكايتي و كنا نجتهد جميعنا بالقدر ذاته ، ولكنني كنت أفوقهما دون أن أسعى لذلك ، فلا أحد كان يقدر على مضاهاتي في الطب ، كان أساتذة القرويين يقولون لذلك لجدتي ، هذه الفتاة لا تشم النبات ، إنها تشعره ، ونظرتها للمريض احتضان ...أي من دروس الفقه قمت بتضييعها أو أي من حلقات الفقهاء في مساء القرويين قمت بتفويتها ؟ وأي جزء من السماء لم أحفظ أبراجه ؟ و متى تقاعست عن تقبيل جبين جدتي وظهر كفها عند كل هفوة أو خطأ أقوم بارتكابه ؟ لقد كنت حفيدة جيدة تفخر بها جدتي ليس من أجل أحد ، بل لأنني كنت كذلك ، كنت كذلك فحسب !
ولأنني كنت كذلك فحسب ، خفق قلبي له ..اختنقت من الضيق حينما راودني شعور مخجل وهو الشعور بأن حنيني لفاس كان ويكون لأجله هو فحسب ..!
في هذه الأثناء تماما شعرت بالاختناق ، وقد ازددت اختناقا حتى طفقت ألتمس الهواء لمضاعفة استنشاقه ومرة أخرى تحسست
مكان قلادتي المميزة التي وتأكدت من وجودها ثم اتجهت صوب غطاء رأسي الذي يلائم ثوبي الذي أرتديه ، وضعته على رأسي وقد عزمت على الصعود لأعلى سطح القصر ، لا هواء ولا ارتياح أعظم من الوقوف قرب سياج سطح القصر المرتفع هناك حيث أمتع نفسي وبصري ، لم أكن لأعاني من أي قيود في قصر السيد عمر بن يينتان حيث أقيم وفقا للأوامر التي أطلقتها ابنته الأميرة فانو لمصلحتي ، سلكت طريقي عبر الرواق الذي يطل عليه باب غرفتي وأنا أتمسك بقنديل أنيق ينير طريقي ، رغم أن القصر لم يكن معتما قط فقد كانت القناديل وثريا الشموع المتدلية تنير أركانا معينة في القصر مما يسمح بتسرب أنوارها للأرجاء الأخرى ، صعدت السلالم المؤدية لأعلى القصر بخطوات هادئة وثابتة لم يكن الحرس الذين يتواجدون في تلك الأماكن لينغصوا عليّ تجولي أو ليحيلوا طريقي بالأسئلة المتشككة ، فقد كنت نور بنت المستعين بن بلكين طبيبة الأميرة وضيفتها وكنت أحظى باحترام جميع من يقطنون القصر سواء كانوا من السادة أو الخدم أو الحرس
هب النسيم مندفعا نحو وجهي فور دفعي للباب المؤدي لشرفة القصر المرتفعة ، أنعشتني تلك النسمات والتي ما صعدت إلى هنا سوى بحثا عنها ، شعرت بأبواب صدري ونوافذه تفتح على مصراعيها وهي تستقبل ربيعا نضرا ، تقدمت بخطواتي نحو السياج متوسط الطول الذي يحيط المكان من جميع جوانبه ، كان ذلك السياج منمقا وفاخرا ، استرخت راحتي كفي مستندة عليه وأنا أرفع برأسي أستنشق هواء الليل العليل ، على مد بصري بصرت بضعة أضواء خافتة من المدينة الساكنة بترقب ، التي حجب عني ستار ليلها مبانيها الأنيقة المحمرّة وطبيعتها الخاصة ، شعرت بالنسمات تداعب غطاء شعري الناعم وبرودتها تلفح رقبتي وشعري من خلاله
ولكن تلك النسمات الناعمة والخفيفة استحالت صفيرا وامضا تندفع نحوي كخيط لا ينقطع من ماء السماء ، استدرت بهلع بكلية جسدي جاحظة العينين مرتعشة الأوصال ، كانت السهام التي اندفعت عبر تلك النسمات بقسوة خادشة سكينتي قد ارتمت عن جدار السياج الذي كنت أستند عليه لتقع مرتدة قرب قدمي ، تسمرت في مكاني وأنا أقطب بحاجبي وصدري يرتفع ويهبط من الذعر ، مالذي يجري ؟ أيرسل لي أحدهم رسالة تهديد ؟ كنت قد عزمت في نفسي أنني سأخبر الأميرة فانو دون ريب بأن أحدهم أعلن شره المضمر لي في تلك الأثناء كنت أتجه راكضة نحو الباب المؤدي لسلالم القصر إلا أن وقع خطوات سريعة وقوية تتجه نحوي بعنف أثارت خوفي وحسرتي وفي تلك اللحظات تماما كنت عاجزة عن فهم ماهيّة المشاعر التي اختلجت قلبي ، شعرت حينها بتوقف كل شيء من حولي باستثناء تلك الخطوات العالية التي كانت تنبئ بمصرعي ، اتجهت عينيّ الجاحظتين بذهول ميّت نحو رأس الحربة الدقيق الذي كان في طريقه ليغرس في بطني ، يد ماهرة تدخلت بإزاحة تلك الحربة عن هدفها لينطق صوت ما يشوب لهجة كلامه شيء من التردد أو الخجل " و و لكن ألم يكن قتلها صفقتنا ؟؟ "
ليجيبه صوت آخر ، صوت ساحر أجش إيقاعه كهدير مياه ساحر " ومنذ متى نلتزم برغبات غيرنا ؟ " ثم أردف جملته التالية سريعا " شهاب أحكم تكميم فمها "
رغم أنهم لم يربطوا عصابة على عينيّ إلا إنني سمعت صوت الكيس الخشن الذي رُمِيَ ولم أره ، ذلك الكيس الذي دسوني في أحشائه بعد أن أحكموا تقييد يدي وقدمي وأنا أتلوى وأحاول البوح بالعويل بدلا عن ذلك الأنين الذي أصدره قهرا وشيء لا أقدر على وصفه ينهش قلبي الذي كان من فرط انقباضه يتلاشى منفجرا ويتناثر كحبات الرمان
نـــهـــاية الفـــصل
الهوامش
__________________________________________
* الأميرة فانو : فانو بنت عمر بن يينْتان
أميرة ومحاربة مرابطية
يذكر التاريخ قتالها الشرس
يوم سقوط آخر معاقل المرابطين في مراكش
* الأمير ابن عائشة : إبراهيم بن يوسف بن تاشفين ، عٌرف باسم أمه
كان من أعاظم قواد المرابطين وله انتصارات كبيرة بالأندلس
*اللسان الغربي : اللغة البربرية/اللسان الغربي/اللسان البربري
جميع هذه المصطلحات يقصد بها اللغة الأمازيغية
حيث كانت هي الشائعة في هذا العصر قبل تعرّب المغرب
المفضلات