........
....
.
هنالك عتمة خانقة تضم المكان بلطف مخيف ، نقاط ليلكية مبعثرة حولي بطريقة فوضوية رائعة ,
من مكاني أستيطع رؤية كل شيء من كواكب زمردية متلألئة و أخرى برتقالية محمرّة يجول حولها ملايين من ذرات الغبار المتكدس , وأخرى بنية متدرجة حتى تُصبح بيضاء تماماً , لكن هنالك واحد فقط ذا ألوان بديعة مدهشة تستحثك على النظر إليه مطوّلاً , احتوى ذلك الكوكب على لونين يطغيان على بقية الألوان المتناثرة ليثبتا مكانهما على عرش المملكة ، هما الأخضر الزمردي و الأزرق اللازوردي المترقرق محاطة بغيمة كثيفة بيضاء متجمّعة مع بعضها البعض لتكوّن حلقة تُغلِّفه بخيلاء , كفرشاة رسام نجحت في نحت مبتغاها على أسطرٍ بيضاء ناصعة , وجّهت نظري نحوي لأرى كيف أبدو , و ما هو شكلي , فهل أنا جميل كذلك الكوكب الأخّاذ ؟ , أُخمِدت نيران حماسي لتنطفئ ببرود حين لم أجد شيئاً , أُصِبتُ بالذعر , الهلع , الخوف و القشعريرة المريرة , فأنا أكرر هذه الحركة منذ فترة لا أدري مقدارها بالضبط ,كلما أرفع جزءاً مني لأراه لا أجد شيئاً , وكل ما أجده سوادٌ دامس و عتمة خانقة , كثيراً ما تسآلت عن ماذا أكون ؟! , كيف أرى بلا أعين , أسمع بلا آذان , أُفكر بلا عقل , هل من المنطقي أن أكون شيئاً بلا أضلاع أو جسم أو حتى حواف ؟! ,
ألا يتكون كل شيء تقريباً من مجسمات و أضلاع ؟ , أثناء رحلتي الطويلة و الخالية قمتُ بتقسيم الأضلاع و المجسمات إلى قسمين , الأول مكاني ملموس و الآخر زماني غير ملموس و لكنه محسوس , لكني لم أكن ضمن هذه التقسيمات , كنت مجرد "لا شيء " يحوب الأكوان بحثاً عن كينونته التائهة .
حاولتُ لمس شيء ما , زحل , أورانوس , المشترى , النجوم , الشهب , السُدُم , كل شيء ! , لكن لم أستطع , و كأن حاجزاً يفصل بيننا ، كالتماس الزيت بالماء لكن دون ان يختلطا .
تذكرت أن الجوامد لا يمكن تَجَسُّدَها أو التحول لشكلها فاتجهت نحو ملك الكواكب " الأرض " , كانت رحلة سريعة بمعنى الكلمة , فقبل أن أُحرك ساكناً وجدت نفسي بقرب المحيط الواسع أُشاهد هتّانه الشفاف يتبعثر في الأرجاء بأريحية , مددت جزءاً مني " جزء من اللاشيء " كي أكتشف ما أنا , فقد أرّقتني ماهيتي و بدأت أُصاب بالجنون إن لم أُصَبْ به حقاً , لامست المياه المترقرقة المنسابة برفق و ارتباك خوفاً مما سيحدث , لكن .. لم يتغير شيء , و كأنني لا شيء فعلاً , و هذا ما أثبتته تجاربي السابقة كلها , لكن ... ألا يمكن للتجربة أن تكون فاشلة ؟ ,
"يجب عليّ اختبار شيء آخر "
قلت محاولاً مواساة نفسي و مواراة إحباطي الذي يلُفّني خلف ستار التبرير العقيم ,
"هذا إن كنت شيئاً يُلَفّ "
قلت ساخراً بمرارة شعرت بطعمها للمرة الألف .
عدتُ أدراجي بخيبة عارمة و حُزن مُغدِق ليثير فضولي خط طويل أبيض متوهج ينتهي بصخرة ضخمة ملتهبة و له ذيل مخروطي , توجّه ذلك الشهاب بسرعة كبيرة ولامس أحد الكويكبات بلطف قبل أن يتغلغل بداخله و يُفجّره بطريقة قاسية و دويّ عالٍ التهمه ثنايا الفضاء المترامي ,
توجهت الشظايا النتاجة عن الإنفجار نحو بعضها و تكوّمت لتكوّن شكل حلزوني ذو أذرع جانبية و لكنه سرعان ما اختفى .
"مرحباً"
قال شيء ما ، بدا ضئيلاً جداً بالنسبة إلي لم أدري كيف عرفت لكنني شعرت به ضئيلاً رغم عدم قدرتي على تحديد حجمي ... لكنه كان شاحباً جداً و كأنما يلفظ آخر أنفاسه ، رددت عليه التحية و سألت
"من أنت ؟"
"أنا أبحث عن وطن جديد فلا مكان لي هنا بعد أن تم نبذي و هجري بطريقة قاسية ظناً من الجميع أنني لا أشعر ...فقط لأنهم يرونني بمنظور الجماد ! , هل تُصدق هذه المهزلة ؟! "
لو كان لي رئتين لأخذت نفساً عميقاً كي أُزيح به بعض الثقل الذي تقرفص فوقي
"على الأقل أنت تعرف ما أنت ... لكنني لاشيء ، أو ربما كل شيء ، لا أدري الأمر معقد جداً بالنسبة إلي ، فكلما أنظر في الأرجاء أجدني في كل مكان ، و عندما أنظر إليْ لا أجد شيئاً !"
"لكنك هنا "
قال بنبرة مترددة و مستفهمة
"بحثت طوال عمري إن كان لي عمر ، و لم أجد مبدئي أو منتهاي ، ولم أعلم أين أو ما أنا أو كيف أكون مخلوقاً حتى وليس لي حواف أو شكل معين ، حتى الهواء يمتلك شكلاً ... لكن ليس لي واحد ، وهذا يُشعرني بالفراغ ... "
"أنا أراك و لا أراك في ذات الوقت ، فأنت في كل شيء و في كل مكان و زمان ، انت مخلوق منذ بداية النهاية و ستبقى حتى نهاية البداية "
"كيف ؟! ، أرجوك توقف عن التحدث بالألغاز "
"حسناً ... أنت عبارة عن كل شيء و تعيش داخل كل شيء ، حتى النور لا يستطيع أن يطغى عليك ، فأنت هو منبع و سبب النور!"
"إذاً هل لي وجود ؟ ولو كان لي وجود لما لا أراني ؟"
"بالطبع ! ، لكنك لا تستطيع رؤية نفسك لأنك أنت !"
"إذن صف لي شكلي ، فأنا متشوق لمعرفة كيف أبدو ! ، هل أنا ضخم كالمشترى أم طويل كشهاب ؟؟ أم متوهج كالشمس ؟ أو ... لحظة هل أنا واسع كسديم ؟! "
قلت بلهفة
" لا ... أنت لست أياً من هؤلاء ... أنت أكثر تميزاً ، أنت هو أنت ، ما يميزك أنك غامق حتى تعمي الأبصار بك أكثر من الشمس ذاتها ، أنت السبب في ظهور كل جميل و كل مميز ، فلو لاك لما استطعنا رؤية النجوم البراقة ، أو تمييز ألوان الكواكب و السُدُم ، حتى أنا لم أكن لأرى نفسي !"
"أنت لم تُجب على سؤالي ... لكن لا بأس .. على أي حال ما أنت؟"
"أنا بلوتو ... كوكب صغير منبوذ يبحث عن وجود و مكان ينتمي إليه ،بعد أن تمّ نفيي من مجرة كاستل , و ها أنا ذا أُنفى من جديد بحجّة كوني كويكب لا كوكب ! "
"لكن هذا ظلم ! "
"أعلم , لذا أحاول إثبات ذاتي حتى و إن تدمرت ! "
كان لكلمته وقع السحر على الأعين , فقد فاجأني أحد الثقوب السوداء و ابتلع الكوكب المسكين ليُسجن بين الزمان و المكان لبقية حياته , لكنه لم يُجب على سؤالي بعد ! , ما أنا ؟! ,
عدت للتجول من جديدٍ و كلي أمل في إيجاد من يساعدني , يُخرجني من دوامتي و ينتشلني من يأسي و ضياعي ,
ليت لي عصا سحرية أتمنى بها أن أصبح ذا شكل متجسد ...
لمحتُ شيئاً يطير في الفضاء بحريّة و انسيابية تامة , لم أرى شيئاً مثله من قبل فأسرعت نحوه ظناً مني أني قد وجدت ضالتي المنشودة ! ,
"من أنت ؟ , و من أين جئت؟ "
سألته مستفهماً
"أنا بشري , جئت في مهمة استكشافية للفضاء و تحديداً للشمس , أنا من محطة فضائية تُدعى " e.b.s.s " أو "اكتشاف ما وراء ستار الفضاء , مهمتنا هي تحليل ألغاز الفضاء و إيجاد حلول للمسائل المعقدة , و هذه المرة نود اكتشاف غروب الشمس و شروقها و ندرسها بالتحليل "
"أنت مخطئ ! "
"مخطئ ؟ كيف ؟ في ماذا أخطأت ؟"
أشرت إلى اتجاه قرص الشمس المتوهج بشدة قائلاً
"هل ترى كومة اللهب تلك ؟ إنها لا تتحرك أبداً من مكانها بل تبقى ثابتة على حالها , فكيف تقول غروب و شروق و أنا أراها هنا طيلة الوقت ؟ , هل هذا منطقي ؟ "
فرك رأسه حائراً بما قلته , ربما هو جديد أو مبتدئ في مجاله , لذا استرسلت قائلاً
"إنها ببساطة لا تتحرك , و لكن كوكبكم هو من يتحرك , و مع دورانه حول نفسه يتغير مسار ضوء الشمس إليكم لتنتج ظاهرة الغروب و الشروق , لكن الشمس في حدّ ذاتها لا تشرق أو تغرب ! "
رفع حاجبيه و اتسعت عيناه متفهماً ليلوّي شفتيه إلى الأسفل بتفاجؤ قائلاً
"لقد أقنعتني ! , لكن ... كيف تعرف كل هذا ؟ و من أنت ؟ "
سؤاله سهل جداً , فلو وجهنا هذا السؤال إلى كائن آخر لقال : لقد توارثتها أجيالنا , أو قرأتها من كتاب , أو سمعتها من مكانِ ما ..لكن ... أنا ليس لي جيل , و لا أستطيع لمس الأشياء , و وحيد طيلة الوقت , كما أنني تجاهلت السؤال الثاني بشكل ملحوظ
"أنا لا أدري .. فقط هكذا أعرف ...لكن ... كيف وصلت إلى هنا بجسدك ؟ , ألا تحتاج أحد تلك المركبات الضخمة لتصل إلى هنا ؟ , لقد رأيت الكثير منها مسبقاً و قد أبهرتني بشدة , يجب عليكَ أن تكون فخوراً أنك من تلك السلالة العريقة , آه ... سؤال آخر .. هل يستطيع البشر التنفس في الفضاء ؟ "
"أنت ترى الجانب الجيد فقط , لكن هنالك جانب سيء مخيف و مرعب بنا , أظن أنه يجب عليكَ مواصلة النظر للجانب المملوء من الكأس , لا .. لا نستطيع "
"الجانب المملوء من الكأس ؟ , ماذا تعني ؟ "
"إنه مجرد مثل يُطلقه شعبي على من يفكر بطريقة إيجابية و مبهجة , كما فعلتَ تماماً "
لو كان لي فم لابتسمت حتى انشق وجهي ! , لكن للأسف ليس لدي , و لكن عدم امتلاكي لواحد لا يعني أنني متجرد من الإحساس بنشوة و سعادة إثر كلامه الذي احتجته و بشدة في وحدتي المفرطة و المُهلكة
"إذن كيف تتنفس الآن ؟ هل أنت سلالة متطورة من البشر؟"
"لا ليس كذلك , ولكن هنالك آلة تجعل جسدك يدخل في حالة سُبات مؤقتة بينما تختفي روحك في المجهول و أنا الآن لست سوى تجسيد لتلك الروح , و إن كنت تتساءل عن كيفية عودتي للأرض مجدداً فهناك أسلاك كهروستاتيكية متصلة بجسدي المادي و ستقوم بإرسال إشارات معينة يستقبلها حاسوبنا في المعمل "
قهقهت بخفوت
"إذن أنت فأر تجارب ! "
جهّم وجهه و بدا عليه بعض الامتعاض , أظنني أزعجته بكلامي
"تقريبا ... لكن .... من أنت ؟ "
لم أعلم بماذا أُجيب , هل أقول له " أنا شيء لكنني لا شيء "؟!
"كيف تستطيع التحدث إلي ؟, هل تراني ؟"
"ألا يجب عليك الإجابة عن سؤالي أولا ؟ , لكن .. لا بأس سأتغاضى عن الأمر , "
لمحت عيناه تُحدقان بي مطولاً متفحصتاً كل جزء مني ليقول بارتباك
"حقيقةً لا أدري , أنا فقط أستطيع سماعك و أراك في كل مكان , لكن ... ليس لك شكل محدد , لذا أنا لا أستطيع إجابتك , لكنني أشعر بوجودك "
أدار رأسه ناحية اليمين و أغلق عينيه لفترة من الزمن , أظنه يحاول اكتشاف ما أكون , لكن لا أظن أنه سينجح , فأنا أبحث عن ذاتي منذ وقت أجهله و لكنني أعلم أنه طويل كفاية ليصيبني بالجنون , حاولت كثيراً البحث عن موطني , فربما هناك من يشبهني في هذا العالم , لكنني لم أجد واحداً , و عندما قررت صنع موطني الخاص الذي احتمي إليه , لم أستطع لمس شيء ... بعد برهة من الصمت هتف و هو يشير بإصبعه أمامي بسعادة
"أنت الظلام ! "
المفضلات