.
.
~
في أحضان الظلمة الخانقة ، حيث اكتست الأرض ثوبها الأبيض البراق و تزينت السماء بشفق وهّاج لامس بيضة اليابسة بخيوطه المنسدلة ..و زرقة المحيط برفق..
أضواء زرقاء و حمراء تلتمع في الأفق .. بدت كعدد كبير من السيارات التي تلاحق شاحنة ما ..
رجل غطت ملامحه القسوة و الخبث و الدهاء الحاد ، استقر خلف المقود الأسود .
ضغط على دواسة الوقود لتنطلق تلك الشاحنة بكامل سرعتها و قوتها و تتجاوز تلك السيارات ، ولكن تلك السيارات لم تفتر أو تضجر فقد تابعت مهمتها بكل إخلاص ، لكن ذاك الهارب الماكر أسرع بالضغط على الدواسة المجاورة لتخفّ سرعة الشاحنة فيصير خلفهم و يلتف بكل رشاقة بالشاحنة و يسير في الإتجاه المعاكس لهم ..
" سيدي ! لقد غير اتجاهه !"
صرخ أحد أولئك القاطنين داخل سيارات الشرطة ، فجاءه رد حازم معنّفاً إياه :
"لا تتركوا له فرصة! اتبعوه ولو لآخر الكرة الأرضية! ".
حاولت بعض سيارات الشرطة الإلتفاف إلا أنها انتهت باصطدام هشم السائقين قبل السيارات ثم تلاه دويّ انفجار عنيف رسم ألعاباً نارية مرعبة في الهواء ، راح ضحية ذاك الإصطدام حوالي خمس سيارات ، أما البقية فتابعوا النضال المستميت للقبض عليه.
تابع ذاك المتمرد ضغطه على دواسة الوقود حتى باغته جرف هاوي .. بدا و كأن الجرف لا قاع له ، فارتسمت على محيّاه ابتسامة خبث و تحدّي فزاد الضغط على تلك الدواسة حتى كادت تتهشم ْ
"سيدي إنه يقفز بالشاحنة ! ماذا نفعل ؟!"
"قلت لكم اتبعوه !! ، حتى و إن دفنتم أحياء فهذا لا يهم ! ، "
صمت قليلاً ليتابع بسخرية مستفزة " سنقدم بعض التعويضات لعائلاتكم .. لذا لا تقلقوا".
وفعلاً بضع سنتمترات فقط من الجرف المميت ، قفزت الشاحنة بخفة وكأنها فراشة تطير لتستقر في الناحية المقابلة و يكمل مسيرته و ابتسامة نشوة النصر تعلو وجهه . أما أصحاب السيارات الأخرى فلم يستطع النجاة منهم إلا سيارتان من أصل ست !.
تمتم مخاطباً نفسه و كأنه ملّ من لعبة المطاردة السخيفة تلك -ألم يتعبوا بعد ، لا بأس .. فالمتعة في الطريق -
قهقه بصوت عالٍ قبل أن يغيّر مساره مجدداً ليتجه صوب آخر المتبقيين غير مبالٍ بما سيحدث له .
"يا إلهي ! إنه قادم نحونا ! سيدي! "
فهتف الآخر مذعوراً:
"ماذا! ، هل جُنْ؟! ، سوف يموت و يقتلنا معه ! . سيدي أجب أرجوك !"
لكن الطرف المعنيّ لم يقل شيئاً بل اكتفى بالصمت المهيب.
بضع خطوات من اصطدام محتوم .. لحظات تفرق بين الحياة أو الموت ..
قفز ذاك الداهية من الشاحنة قبل أن تلامس الشاحنة تلك السيارتين بلحظات معدودة ، حاول القابعان داخل السيارتين تقليد ذاك الخبيث فنجا واحد و الآخر انتهى به الأمر بقدم واحدة ... تناثرت دماؤه القرمزية على الأرضية البيضاء المثلجة لتنتج تنساقاً مهيباً بين الألوان ، ولتثبت أن الأبيض هو سيد الألون .. !
أخذ الرجل الملقى على الأرض يصرخ متألماً و هو يمسك بساقه التي بُترت لتوها .. "فلتذهب هذه الوظيفة إلى الجحيم ! " أطلق زفرة إكتفاء مستهترة " لكن ما فائدة الندم الآن ؟!"
حاول غِياث مساعدة صديقه الجريح إلا أنه منعه و صدّه عنه بحجة أنه يجب عليه متابعة المهمة حتى النهاية.. فقد ضحوا بالكثير.. بل ضحوا بأغلى ما يملكون وهو أرواحهم.
جاء صوت وحشي متجهم من خلف ذلك الدخان الكثيف " لا تخافا ... فلن يطول عذابكما .. أليس كذلك .. غِياث؟ "
أتم كلمته الآخيرة و بسمة مشمئزة تعلو تقاسيمه .
صرخ غِياث به وأوصاله ترتعد ذعراً :
"أيها الأحمق .. ألا تعلم أن كل تضحياتنا هذه لن تذهب هباء؟!.. حتى وإن كان ذلك القائد اللعين أكثر من يستحق الموت بيننا فهنالك آخرون سوف يقدّرون عملنا و تضحياتنا لأجل تحقيق العدالة !"
-"عدالة .. هاه ؟! ، حسناً .. فلتحاول تمثيل بعضاً من هذه العدالة !"
صكّ غِياث نواجذه وهو على علم مسبق باقتراب مصيره المحتوم منه .. بل يقسم بأنه يوشك أن يلامسه .
اقترب ذاك الضخم و بيده فأس كبيرة تلمع بشغف وتعطش للّون بالقرمزي ، صار الآخير يلوّح بفأسه في الهواء وهو يتقدم بتثاقل وابتسامته الساخرة تلك لم تفارق عضلات وجهه بانتظار ممثله ليُسَلّيه ،
"غِياث ، أركض ! أرجوك ! لا تنظر للخلف بل أركض وحسب ! "
قطب حاجبيه بضيق فهو لا يستطيع .. لا يستطيع أن يترك رفيق عمله و صديق طفولته يواجه هذا وحده !،
أخذ نفساً عميقاً امتلأ بعبق الأبخرة و رائحة الدماء المقززة ،شعر بأن أحماض معدته تحاول حرقه من الداخل و جسده بدأ يهوي ببطء .. إلا أنه تمالك نفسه ليقف مجدداً على قدميه و يدسّ يده داخل حقيبته و يخرج مسدساً صغيراً شدّ عليه بقبضته المرتجفة وهو يوجهه صوب الوحش القاطن أمامه .
"إياك أن تقترب ! "
"أيها الحذق.. هل تحاول تقمص دور الشجاع ؟، حسنا إذن .. فلنكمل المسرحية حتى النهاية "
بضع خطوات تفصل بين الآخير و الرفيقين المسكينين ، شدّ قبضته على فأسه و هزها بسرعة خاطفة ليرميها نحو ذاك الجاثي على الأرض لتقسم جسده نصفين و يتناثر دمه في الأرجاء .. غص حلق غِياث و شعر برغبة جامحة في التقيؤ ! ، نظرة الرعب التي علت عينيّ رفيقه .. و تلك الإبتسامة الخالية من المشاعر التي علت وجه عدوه ..
أصبح يلهث و كأنه كان يركض .. بالكاد يستطيع التقاط أنفاسه و مقلتيه تكادان تخرجان من محجريهما و قلبه يخفق بعنف !.
نزلت دمعة خاطفة على وجنته ليس خوفاً أو ذعراً بل ألماً على فقدان زين. فقد قُتِل أمام عينيه ولم يستطع هو فعل شيء .. سوى الوقوف متشنجاً .
" لا تخف ستلتقيه من جديد .. فلن يطول فراقكما .. و سأحرص على ذلك "
أخيراً و بعد عناء طويل لإستعادة سيطرته على جسده بدأ يركض بين الثلوج المتكدسة ..قرر أن يركض حتى آخر نفس في حياته البائسة ... و أخيراً و جد صخرة شامخة تسد شق صغير بين جبلين فأسرع بالتسلل و الإختباء و أنفاسه المتضاربة لم تهدأ بعد ..
سمع لهجة ساخرة تسم الأبدان
"إظهر وبان ... عليك الأمان .. في الحقيقة ليس الأمان .. ولكنه شيء أجمل!"
تقدم الآخير إلى تلك الهضبة المرتفعة و ألقى نظرة متفحصة للمكان فألفه محصناً بالجبال و الصخور التي اكتست الرداء الشتوي وبعض الأشجار الشاهقة ..
صفر بصوت عالٍ ليأتي حيوان راكضاً من بعيد ..
"داي ! عزيزي , هنالك وجبة دسمة بالإنتظار!"
اقترب منه ذئب اكتسى فروه باللون الرمادي القاتم و علا منطقة الوجه لون أبيض يميل لليلكي .
أخذ داي يلهث بجوع و لعابه يسيل بكثرة ففرك صاحبه على رأسه بلطف كأنه تحول إلى شخص آخر .. فمن يراه في تلك اللحظة يظن أنه يعاني من الشيزوفرين
شعر غِياث بقليل من الراحة لعدم مجيء ذاك المجرم .. و تنفس الصعداء و ارتخى جسده قليلاً ليهجم الخصم مباغتاً .. سمع صوت طرق عنيف على الصخرة فقد رفع الفاعل فأسه بعد أن شدّ قبضته عليها بعزم و قوة و هوى بها على تلك الصخرة فإذا بها تُلقي سلامها و استسلامها ،
ما إن تحطمت الصخرة حتى ..........!
*****
"أبي ! ماذا أنت فاعل ؟! .. هل تخبر كمال هذه القصص مجدداً؟! ."
ركض صغير يبدوا في سن السابعة نحو والدته بشعره الكستنائي و عينيه اللوزيتين البراقتين ببراءة لم يتم سلبها بعد ..
"أمي .. أمي .. إن جدي يخبرني بتلك القصة مجدداً "
قال جملته الآخيرة و عيناه تقطران براءة فائضة لتقع والدته المسكينة في غرام تلك النظرة وتحمله على كتفها .
"أرجوك .. توقف عن إخبار الصغير بتلك القصص المرعبة .. يا غِياث !"
.....
بعد مرور سنتين و امتلاكه لحفيدة صغيرة تشع براءة .. لم يمّل من تلك الحكاية .. فها هو ذا ، يجلس تحت ظل شجرة وارفة ملتفة حول
المنزل . يقص على من معه كيف خاض مغامرته المثيرة . حيث تخلص من كل القيود و مشى بحثاً عن خلاصه ، فيدب الرعب في قلوب أحفاده الصغار .
تم~
المفضلات