وضعت إيديلين الصينية التي كانت تحملها على الطاولة، ثم حملت إبريق الشاي المصنوع من الخزف الصيني المزخرف بوردة زرقاء في منتصفه، وبدأت تسكب الشاي في الأكواب الثلاثة التابعة للإبريق.
اللون الأحمر للسائل المنسكب انعكس بجمال على لون الطقم الأبيض بينما تصاعد البخار هاربًا.
رفعت الغطاء عن علبة السكر وسألت وقد اعتلت وجهها ابتسامة زائفة: سيد وولف كم قطعة؟
استعجب وولف وكأنه يرى إيدلين أخرى تختلف عن تلك التي رآها آخر مرة، إنها أشبه بالفتاة التي التقى بها أولًا ! الكياسة ذاتها هبطت عليها فجأة!
عجبًا للمال ما أنتنه، كيف يفسد السرائر والأفئدة؟!
نطق مجيبًا: واحدة.
وضعت القطعة المكعبة التي التقطتها في الكوب ودفعته باتجاهه فأومأ لها شاكرًا.
وفعلت المثل مع إيثان الذي خاطبته مبتسمة وهي تضع السكر في كوبه: وأنت كالعادة قطعتان طبعًا.
حدجها بنظرة ذات مغزى وحدث نفسه: يا للئيمة... تعرف كيف تتملق!
أزاحت طبق الكعك المحلى ليستقر في المنتصف ثم أمسكت بكوبها والصحن المستدير الخاص به،
وجلست منتصبة في مقعدها حول ذات الطاولة، في الجهة المقابلة لوولف.
ارتشفت رشفة سريعة ثم قالت: سيد وولف أظن أن إيثان أخبرك...
تجاهلت النظرة التحذيرية التي أرسلها إيثان في اتجاهها وأكملت: أنني سأجيب عن أسئلتك مقابل عشر فرنكات فضية.
رمق وولف إيثان بنظرة خاطفة تشي بأنه لا يعرف عن الأمر شيئًا ناهيك أن طلبها غير المعقول ينمي عن جشع، وكأنها ستأتي له بالرجل في حين أنها لا تعرفه أصلًا! ومع ذلك رد على الفور: لا أمانع!
انتعشت نفسها سرورًا حيث توقعت أن الرجل سيعارض طلبها غير المنطقي،
وعزمت في قرارة نفسها إن فعل ذلك أن تخفض المبلغ إلى ثماني فرنكات لكنه أدهشها.
بسطت يدها أمامه بعد أن وضعت الكوب أمامها وكأنها تتهيأ للإجابة بكل رحابة صدر: الآن اسأل ما بدا لك.
كان إيثان يرسل بصره بين الاثنين بدون أن يقول شيئًا وكأنه في وضع ترقب.
ثم أشغل نفسه بتناول قطعة من الكعك عندما تنحنح وولف لتصفية صوته الغائر في أعماقه وقال: لو تحدثيني... كيف التقيتِ بالرجل وماذا قال لكِ؟
هزت كتفيها بكل بساطة: كنتُ في المحطة عندما تقدم مني وسألني إذا ما كنتُ سأقدم له خدمة صغيرة مقابل ثلاث فرنكات. كان يبدو عليه أنه من المسافرين الذين وصلوا للتو. بدوري استفسرت عن نوع الخدمة التي يريدها، فأشار إليك وطلب مني أن أعطيك الحقيبة وأتركها معك دون أن أشعرك بذلك. وهنا خطرت ببالي فكرة أن أطلب منك الاهتمام بها.
توقفت عن الحديث وقد أمسكت بكوبها لتحتسي رشفة أخرى.
من المسافرين الذين وصلوا للتو؟ هذا يعني أنه كان معه على نفس القطار!
- هلا وصفتِ لي هيئته؟
حالما انساب السائل الدافئ في حلقها، أجابت وقد نظرت إلى إيثان وكأنها تسترجع طيف الرجل فيه:
يبدو أنه أكبر من إيثان عُمرًا رغم أنه أقصر قامة منه... ذات بشرة حنطية وشعر أسود قصير. كان يرتدي لباسًا بسيطًا أشبه باللباس القروي.
سكتت للحظة ثم أضافت على عجالة: آه صحيح وقد كان أعرجًا.
وكأن وولف رسم التفاصيل في ذهنه، وكونّ صورة مطابقة للمواصفات التي أدلت بها إيديلين.
صمت مطوّلًا حتى بدا وأنه خرج عن نطاق المحيط الذي يتواجد فيه مما جعل إيثان وإيديلين يتبادلان النظرات في ريبة.
وفجأة نهض عن مقعده في وثبة واحدة وأخرج من جيبه كيس نقود، فضّه على عجل وأفرغ محتوياته التي أحدثت رنينًا إثر الاصطدام ببعضها. أحصى عشر فرنكات بسرعة ودفعها في اتجاه إيديلين: ها هي ذي!
وقف إيثان بدوره وعندها أحس وولف بأنه مدين له بتفسير الموقف فقال له قبل أن يمضي مغادرًا: أظنني رأيته!
كاد إيثان أن يلحق به لولا الهاجس الذي مر بباله فأرجعه.
عاد ليسأل إيديلين التي انشغلت بعد المال وقد شقت ابتسامة واسعة وجهها...
-إيدي!
لم ترفع رأسها لتنظر إليه حتى: ماذا ؟
-هل تعرفين ماذا كان يوجد في تلك الحقيبة؟
كانت في حالة من عدم التصديق، لم يسبق أن عرفت أنه قد يكون للكلام هذه القيمة، تخّيل أن تجد من يشتري كلماتك لمجرد أن تنطق بها!
أين يوجد أشخاص مثل هذا الـ وولف؟ إنها تريد أن تلتقي بهم كل يوم.
كانت في ذهول لدرجة أن عقلها لم يكلف نفسه عناء استيعاب السؤال المطروح: ها ؟
زفر إيثان في غيظ وقال وقد صفق بيده على القطع النقدية اللامعة ليحجب عنها الرؤية ويعيد إليها الإدراك: إيدي ركزي معي للحظة... أسألكِ عن الحقيبة التي أعطيتها للسيد وولف ماذا كان يوجد فيها ؟
نفضت يده عن المال ونظرت إليه شزرًا: وما يدريني أنا ؟
هز رأسه في يأس وضرب إحدى يديه بالأخرى: لا جدوى من هذه الفتاة.
كانت المقصودة تتفحص القطع النقدية إذ رفعت قطعة منها عاليًا باتجاه كبد السماء، وقد لمحت بريقها الذي انعكس إثر التقاء سطحها بأشعة الشمس، وقد عاودت الابتسامة الظهور على محيّاها...
المفضلات