لم يكن الملل الذّي شعر به أثناء الاستراحة المدرسية أقل مما كان يشعر به في الحصص..
الجميع هادئون بشكلٍ غريب اثار الرّيبة في نفسه، والأمر الآخر أنّه وحده الآن ولا يجد من يجلس معه قليلاً،
فـ ايراكو لا يبدو وكأنه يريد ذلك حيث فقد كان جالساً على إحدى الكراسي البعيدة يطرق رأسه نحو الأرض وكأنه يفكّر،
بينما هيرو مختفٍ عن المكان، ربما شعر بنظرات ايراكو نحوه... بدا وكأنما يريد أن يحدّثه لكنّه متردد،
فضّل عدم التّسرع و الجلوس في مكانه حتّى يأتي هو بنفسه.. لكن الملل أرسله إلى عالمٍ آخر سرح فيه مجدداً متذكراً تكمله
ما حدث البارحة على مرآ عينيه حين كان يراقب من بعيد ما يحصل..
بعد تلك الجملة التّي اهتزّت لها النّفوس رعباً ولاح الخوف وعدم التّصديق بين الأعين،
وتعابير الوجه لم تكن تدلّ على أنّ سامعها على ما يرام، وهذا تماماً كان حال هيرو وايراكو، ربّما الوحيد الذّي أراد تكذيب
ما قاله الرّجل هو هيرو دفاعاً عن والده الذّي يعلم أنّه من المستحيل أن يفعل شيئاً كهذا.. لا يمكن أبداً..
إن الرّجل مخادع وكاذب لا محالة.. وكلّ هذا جعل الغضب يظهر جلياً على محيّاه..
ـ إيّاك أن تختلق أكاذيباً على والدي أيّها المحتال!
توهّجت تلكما العينيان الزّرقاوتان وتحّولتا إلى لون قرمزي مرعب، كان كفيلاً بأنّ يثير الفزع في النفوس لكن هذا الرّجل..
لقد كان يراقب ذلك باستمتاع..
وجّه نظرة حاقدة نحو الرّجل الشّاخص أمامه الذّي أطلق ضحكة قصيرة قبل ان يجيب: أنا أختلق أكاذيب..؟!
وقبل أن يقول شيئاً آخر اتّجهت نحو رأسه صخرة لا يعلم من أين أتت، كادت تهشّم رأسه لولا أنّه تفاداها في اللحظة الأخيرة،
وقد علم مصدرها حين رأى وهجاً أحمر يحيط بها وذلك لم يدلّ على شيء سوى أنّ هيرو الذّي يحيط بجسده هالة مشابهة
كان يتحكّم بها وقد أرسلها إليه لتهشم جمجمته التّي تملأها التبجّح والغرور!
ـ قوّة مذهلة! إذا كانت هذه نصفها فلابد أن اكاهيكو المجرم كان أكثر قوة منك.
قالها الرّجل منذهلاً لكن بسخرية بعدما أطلق تصفيرة صغيرة،
شعر هيرو بالنيران تتأجج في هشيم قلبه حين سمع اسم والده يُذكر بسوء على مسامعه جعله يستشيط غضباً،
بدا وكأنّما فقد السّيطرة على نفسه حين أخذ يتحكّم بأي شيء أمامه ليلقيه على ذاك المتغطرس،
تمنّى لو يستطيع إسقاط المبنى على رأسه حتى يتأكد أنه سيتهشّم تماماً،
رغب لو يستطيع أن يمسكه بقوة بقبضته كما لو يمسك عصفوراً صغيراً ويعتصره بيديه حتّى يعصر دمائه
ويحطّم كلّ عظمة في جسده بل ويستمتع برؤية دمائه تتطاير وصوت تكسّر عظامه وصراخة،
ويتلذذ برؤيته يموت أمامه..
أي أحد إلا والداه.. فليقولوا أي شيء عن أي شخص لن يكترث.. لكن والده.. الشّخصان اللذان دفعا حياتهما من أجله،
أمامهما الخط الأحمر الذّي يحرّم تجاوزه بالنّسبة إليه.. وثمّ يرى من يذكرهما بسوء أمامه؟!
وبينما هو يفعل ذلك هتف الرّجل صارخاً بابتسامة: بالمناسبة صديقك العزيز.. بالتأكيد صدّق الحقيقة،
إنّه يعلم تماماً أنّ ما قلته هو عين الحقيقة لأنّه أيضاً كان يشكّ في والدك وتصرفاته الغريبة.. ولا أخفي أنه يشكّ بك!
اتّسعت عينا هيرو حين شعر بذراعين أحاط به من الخلف وأوقف حركته وأرخى قوّته،
لتعود عينيه إلى لونهما الطّبيعي حين رأى ايراكو يحتضن جسده بقوّة من خلفه.. ظلّ يحدّق به بعيناه اللتان تهتزّان خوفاً
وهو يتمتم: أنت.. لم تصدّق.. أليس كذلك؟
تجاهل ذلك السّؤال وظلّ صاماً لوهلة وهيرو يحدّق به وهو يضع ذقنه على كتفه بينما عيناه مختفيتان تحت خصلاته الشقراء،
تحدّث بعدها على مسامع هيرو بصوتٍ هادئٍ وأكثر من ذلك..
خالٍ من المشاعر كما أدرك هيرو حين هتف: أتعلم هيرو؟ حينما رأيتك أول مرّة شعرتُ بشيء غريبٍ فيك.. شيئاً غيرر مطمئنٍ،
تلكما العينان اللذان أظهرتهما قبل قليل.. اللون القرمزي المخيف، حين رأيتهما أول مرّة شعرت بأن وحشاً يتحكّم فيك،
رغم ذلك كنت أريدك.. أريدك صديقاً لي، كنت الشّخص الذّي أستطيع البوح له بكلّ شيء.. لكنني حين رأيت والدك..
كانت هناك هالة غريبة ومخيفة تحيط به، كنت دائماً أشعر بالخوف حين أراه ولا أعلم السّبب.. لكنني لم أشكّ به يوماً لأنه والدك،
إلّا أنني بعد تلك الحادثة صرت أكرهه.. شعرتُ بأفعاله الغريبة لا تنوي خيراً،
حين ظهر فجأة وحملها إلى والدي ظننته حقاً أتى للمساعدة لكنّه لحق بالقاتل بدل أن يحاول إنقائها سريعاً.. أتساءل لماذا ؟
وربما نفس الشيء معك فقد كانت مغادرته المكان أمراً مريباً.. ثمّ إنني رأيته حقاً يحتمي بجسد أختي حين أطلقت عليه الرّصاصة..
لقد كانت أسوأ لحظات حياتي وأنا أراها ينتفض ألماً، لقد اعتُصر قلبي.. مات معها.. حين سمعت عن موت والدك..
شعرت بأن همّا ثقيلاً قد انزاح عن صدري..
صمت لوهلة وهيرو يحدّق بالفراغ بوسع عينيه اللتان قد انبلجتا إلى اقصى حد لهما، وبدا بؤبؤ عيناه يكادان يخرجان من شدة الصّدمة
من كلام صديقه الذّي سرعان ما ابتعد عنه ليصرخ بهسترية جنونية: لقد كنتُ سعيداً لأن قاتل أختي مات أخيراً !
صاعقة.. أجل كالصاعقة نزلت عليه ليجعل تيار الكهرباء يسري في جسده جاعلاً إياه ينتفض مرتعشاً، ويتجمّد في مكانه..
ـ مستحيل
لوهلة لم يستطع النّطق غير تلك الكلمة الهامسة، بقي في مكانه متصلّباً يحدّق بالفراغ ضائعاً،
فجأة تدفّقت قوة غريبة في جسده جعلت عيناه حمراوتان مجدداً تتوهّجان ويحيطه هالة مخيفة، وثب على ذلك الرّجل كأسد هائج
ينقض على فريسته ليخرج خنجراً من جيبه ويقربّه إلى عنقه مهدداً قائلاً بحقد: أخبرني.. ما الذّي فعلت به؟
تعرّق الرّجل بشدّة وها قد بدأ يتوسّل بذلّ وهو يرتعد: لـ.. لم أفعل.. شيئاً..
ولم يستطع أن يضيف حرفاً واحداً، صوب هيرو إلى عينيه نظرة ثاقبة أسرت رعشة في أطرافه وهو يغرز رأس الخنجر في جلده،
أخذ الأخير يشعر بألم يوخزه.. أدرك بأنّه النّهاية.. هذا الفتى المشتعل غضباً لن يوقفه شيء..
سوف يفصل رأسه عن جسده ويتلذذ برؤية بركة الدّماء..
أغمض عينيه خائفاً من مصيره لكن فجأة ابتسم له الحظ، حوّل هيرو بصره نحو إحدى الأشجار حين سمع صوت حيفيف
إثر حركة أوراق السجرة يأتي من تلك الجهة، فنظر إلى ما بين الكثافة الأوراق بعينيه الحمراوين..
وما لبث أن رمى الخنجر نحو الرّجل الذّي رآه مختباً على إحدى الأغصان لكنّ الشخص وثب إلى الأرض
ثمّ ابتسم لـ هيرو ولم يتوانى لحظة قبل أن يهرب سريعاً..
كان هيرو يلحلق به لولا أنه قفز مبتعداً متفادياً حصا اتّجهت نحوه، نظر إلى ايراكو الذّي رماها غير مصدّقاً ليتمتم: هل جننت؟
ـ كلاً.. كلّ ما في الأمر أنني سأفعل بـ ابن المجرم الذّي قتل اختي ما لم أستطع فعله به،
لن تختلف عن والدك ما دمتُ رأيتُ بأم عينيك كيف كنت تقتل بدم بارد
ـ اخرس!
صرخ هيرو حين أدرك أنّه حقاً لم يعد ايراكو الذّي يعرفه، شعر بألم كبير يجتاحه من سماع تلك الجملة.. ابن مجرم؟!
يقتل بدم بارد؟! لكنّه قتل أعداءً لحمايته في الماضي.. لقد قتل وحوشاً بشرية ليس إلا.. هل أخطأ حين حماه منهم؟!
هذا آخر ما توقّعه من صديقه المقرّب.. وأول صديق له!
ومن مكان قريب تراجع الرّجل مسافة مناسبة وأخذ يراقب مستمتعاً برؤية نتيجة الخلاف الذّي أحدثه بين هاذين الصّديقين،
بل كأنما ينوي أن يشاهد المسرحية إلى نهايتها وهو يقف بهدوء..
لم يهتم ايراكو بما قاله هيرو وصرخ قائلاً بغضب يخالط حزناً: والدك المحتال.. لقد ورّط أختي بشيء كان بينه وبينن والدي..
أختي التّي لا تعرف حتّى لِمَ أصابها كلّ ذلك.. ماتت وهي تجهل سبب هذا الظلم.. قتلها وكنت السبب..
ليتها لم تجعل نفسها درعاً لك
ـ اخرس اخرس !!
أخذ يصرخ وهو يكاد يختنق.. كأنما الهواء أيضاً خانه فلم يعد قادراً على التّنفس، ما الذّي يقوله هذا المجنون؟ هل فقد عقله؟
أم فقد صوابه بسبب موت اخته؟!
لم يعد قادراً على سماع تلك الشّتائم التّي يلقيها على والده، ولا شعورياً اقترب منه ليوجّه إلى ايراكو لكمة أطاحت به لكنّه
سرعان ما عاد ليأخذ حقّه حين أعاد تلك اللّكمة إلى هيرو الذّي لم يحاول حتّى أن يتفادى !!
لِمَ كلّ هذا يحصل الآن؟ لِمَ صديقه يقف ضدّه فجأة ويحاول إيذاءه وهو الذّي كان سابقاً يفعل أي شيء لأجله!
شعر بالظّلام يكتسح كلّ شيء، لم يعد هنالك نور يبصره، رغب بأن يستسلم.. فليفعل به صديقه ما يريد إن كان سيشفي غليله..
فليقتله إذا كان ذلك يريحه.. فليسحقه.. لن يهتّم أبداً !!
ـ ايراكو.. توقّف
أخيراً تدخّل بينهم ذاك الأخير ووقف أمام هيرو لعلّه بذلك يمنع ايراكو الذّي توقّف وهو يلهث بشدّة: لا تعترض طريقيي شيزون..
ابتعد
ـ هل أنت مجنون؟ ما الذّي تفعله؟!
صرخ بغضبٍ وهو يرى الحقد يتطاير في عيني ايراكو الدّامعتين!
ـ لا شأن لك.. دعني وشأني
ـ بل أنت من يجب أن يدعه وشأنه، ما ذنبه هو إن كان والده سبب موت أختك كـ..
ما إن كاد يكمل حتّى شعر بيد شخصٍ تدفعه بقوة لتجعله يبتعد من أمامه رغماً قائلاً: من طلب منك أن تدافع عنّي؟
التفت فإذا هو هيرو الذّي رمقه بغضب، يبدو أنّه أساء الفهم حين قطع جملته من منتصفه،
ربما قوله عن ان والده سبب موت اخت ايراكو هو ما أساءه، رغم نّه لم يقصد سوءاً، كان على هيرو ان يسمع بقية الجملة
"كما اختلق عليه ذلك الرجل من أكاذيب"
حدّق بهيرو وهو يتّجه نحو ايراكو المتعب فيلكمه بقوّة على وجهه ليسقط أرضاً، ثمّ قال مبتسماً بهدوء: تعال واقتلني لاحقاً
ثمّ نظر إلى شيزون ليقول آمراً وهو يتّجه نحو غرفة التّحكم الذّي حُجزت هايو داخلها: أبعده من هنا رجاءً
ـ حـ.. حاضر
قالها حين فهم أن هيرو لا يريد لـ هايو أن تعلم ما حصل، لذا اسرع إلى ايراكو ليجرّه من يده ويجري بعيداً.
ـ الجميع فقدوا صوابهم
قالها وهو يتنهّد باستياء بعدما تذكّر حادثة الأمس، ما تلك الأشياء التّي حدثت، حقاً الجميع فقدوا صوابهم بعدما أساءوا الفهم،
شعر بظلّ شخصٍ يقترب منه فرفع بصره ليرى ايراكو يقف أمامه، ارتعب لرؤيته فجأة لكنه ابتسم: أهلاً
ـ أين هيرو؟
قالها بوجه خالٍ من التعابير بعدما تجاهل ترحيب شيزون به، تلفّت شيزون حوله قليلاً ليقول: لستُ أعلم.. لم يخرجج معي اليوم
ـ فهمت
ثمّ استدار مغادراً في حين حرّك شيزون كتفيه بإحباط متنهداً: هذا كلّ شيء؟
فجأة فتح عينيه مفكراً: "ما الذّي يريده من هيرو؟.."
لم يستطع ان يستمر بالجلوس أكثر حين رنّ جرس انتهاء الفسحة، عاد إلى الفصل وهو غارق في التفكير غير منتبه لخطواته
حتّى انّه اصطدم بأحد الطّلاب أثناء سيره والذّي نعته بالأخرق، لكنّه لم يكن يعي كلّ ذلك، جملة فقط يردده في قلبه حين يتذكّر هيرو
"ما الذّي فعلته به يا ايراكو؟"
دخل إلى الفصل وجلس في مقعده دون اكتراث للأشخاص الذّين كانوا ينتظرونه هناك، لم ينتبه لهم حتّى ناداه أحدهم: هيه شيزون !
أفاق من تفكيره لينتظر إلى نيتا الذّي ناداه ليقول ببراءة: ماذا ؟
ضربه الأخير على ظهره مازحاً وهو يضحك: أراك لست على سجيتك يا رجل، ما الذّي أصابك؟
ابتسم المعني بهدوء ليقول: لا شيء مهم، كنت فقط أفكّر
ـ إنّك تمزح.. وحتّى ايراكو اصبح يتصرف بغرابة، ثمّ إنني لم أراكما معاً كالعادة.. وأيضاً هيرو ليس معكما
بل يبدو انه هرب
ـ هرب؟!
هذا ما هتف به شيزون مستغرباً قبل أن يلتفت إلى مقعد هيرو ليفسّر كلامه بنفسه دون أن يسبقه الأخير بالتوضيح،
فيجد أن هيرو غير موجود، فكّر أنّه لم يعد بعد لكن هذا الاحتمال غير ممكن حيث أن حقيبته أيضاً غير موجودة!!
ـ يوكا ذلك البغيض!
قالها غاضباً وهو يقف ضارباً الطاولة بيده ليلفت انتباه الجميع منهم هايو التّي كانت تحادث هانامي وايراكو القاعد بصمت،
عاد الجميع إلى ما كانوا يفعلونه بعدما القوا نظرة استغراب على شيزون لتصرفه الغريب غير الثّلاثة الذّين أدركوا معنى
عدم وجود أغراض هيرو، لقد عاد إلى المنزل!
المفضلات