اختفت من مكانها لتظهر في بقعة لا حائل فيها بينها وبين إيزومي، فسارت باتجاهه بضع خطوات سريعة وخطا بدوره خطوة ناحيتها ليجدها تطوّقه بذراعيها النحيلتين فرحّب بذلك بابتسامة مبتهجة وبادلها الحضن.
وعلى الرغم من أن هونوكا كانت تتابع كل ذلك مبتسمة إلا أنها لاحظت نظرة الصدمة في وجه باكي، لم تتمكن من إدراكِ سببها لكنها وجدته يحرّك عينيه إليها وقد كان في نظرته شيء من الجزع، ولتلاقي بصريهِما سمعت صوته يتردد في عقلها: "بربّكِ كيف لم أعلم بوجوده قبل الآن؟!"
صوتُ التخاطر كان مضطربًا، جعل مشاعره تلك تتغلغل إليها، تلاشت ابتسامتها فهي أيضًا فوجئت مما شاركها إياه -بلا قصد منه- وانتقلت عاصفة أفكاره إليها وباتت تتساءل أكثر عما حصل بالضبط في عالمها، وكيف لا يعرف قائد التينشي نفسُه بأمر إيزومي.
تنهّدت وحاولت إخفاء ما يجول في خاطرها عن ملامحها، وتحدّثت بصوت خفيض وهي تثق أنه كان يستمع إليها: أظنّ أن لدينا بضعة مواضيع للتوضيح والحديث عنها لاحقًا.
أخفض عينيه وزالت صدمته لتتحول إلى وجوم، بعد وهلة من التفكير سار بخطى هادئة ناحية إيزومي وآتسوكو اللذين بديا منسجمين وهما يتعرّفان على بعضهما أكثر بأحاديث قصيرة وأسئلة متفرقة، توقّفا عن ذلك حين شعرا باقترابه ووقوفه خلف آتسوكو، انسحبت لتفسح له المجال فوقف أمام إيزومي ناظرًا إليه بعينين سارحتين، رفع الفتى عينيه ناحية باكي، رغم حديثه مع آتسوكو إلا أنه شعر بذلك الاضطراب الذي حصل بعيدًا عنه لكنه لم يقل شيئًا، عوضًا عن ذلك وجد باكي يبادر بحيث ابتسم أولاً ثم مد ذراعيه ليقبض بلطف على كتفَي إيزومي وبعدها حدّثه قائلاً: لم يكن لقاؤنا الأول جيدًا لأني لم أتعرّف عليك حينها، لكنني الآن مسرور بلقائك... إيزومي، أليس كذلك؟
أومأ المعنيّ إيجابًا، ثم ردّ: سمعتُ عنك الكثير باكي... أم يفترض أن أناديك بـ هيليوس؟ أتطلع لأن تخبرني عن والدي بما أنك كنت تلازمه فيما مضى..
بالرغم من حفاظ باكي على ابتسامته في ظاهره إلا أن مقلتيه كانتا تنظران بسرحان لإيزومي.. عينيه الرماديتين، ملامح وجهه، هيئته بأكملها، كل ذلك جعله يستوعب مدى التشابه، ويتخيّل لوهلة أن الزمن عاد به للوراء عشرين عامًا ليضعه أمام "آيزوكو" مجددًا.
لم تكن هونوكا وحدها من أدركت وجود خطبٍ ما، بل إن آتسوكو كذلك شعرت بانشغال ذهنه، أجاب أخيرًا وبعد أن أثار صمتُه ريبة إيزومي بالرغم من أنه لم يستمر أكثر من ثوانٍ: يمكنك مناداتي بـ باكي، أو أوجيسان كما تفعل آتسوكو.
أبعد ذراعيه عن الفتى ثم تابع قائلاً بهزل: ما يهمّ هو ألا تفعل ما كان يفعله والدك وتحرّف نُطق اسمي!!
ابتسم الفتى مقابله وأجابه: تعني باكا ؟ سمعتُ عن عدة مواقف تعطي فكرة عن سبب تسميتك به لكنني أتطلع أيضًا لتجريب ذلك بنفسي.
عقد باكي حاجبيه وردّ بامتعاض: لا هكذا لن نكون متفقَين!
أطلق إيزومي ضحكة وكذلك آتسوكو، أما هونوكا فعلى الرغم من أنها ابتسمت إلا أنها ظلت مشغولة البال بما عرفت، ثم لفت انتباهها عودة الفتى إلى الحديث سائلاً هذه المرة بحماس: أتصوّر أن والديَّ مشغولان حاليًا بأمور الأشباح مما منعهما من المجيء معكما، أليس كذلك؟ متى ستأخذني إليهما باكي سان؟ اشتقتُ إليهما حقًا!
ظهر الجزع على وجه آتسوكو إثر سؤاله مما جعلها تلتفت ناحية باكي منتظرة ما سيجيب به، ولأن إيزومي كان ينظر ناحية التينشي لم ينتبه إلى ردة فعلها على عكس هونوكا التي كانت تزداد قلقًا مع الوقت، أما باكي، فقد كان يتوقع سؤالاً كهذا، ولذلك حرَص على ألا يبدي أي انفعال يثير قلق الفتى، فأجابه بهدوء مبتسمًا: مؤكّد سأصحبك معي هذه المرة لتعرف كلّ ما فاتك وتلتقي بالجميع بما فيهم جدّك هاتشيرو، ولكنني أحتاج للبقاء هنا لبعض الوقت قبل أن أعود إلى عالم الأشباح لذلك أرجو أن تصبر إلى حينها فقط.
ثبّط جوابه حماس إيزومي إلى حدّ ما، وتدخّلت هونوكا هنا قائلة: صحيح، يمكنني أن أرى التعب على وجه باكي ولا شكّ أنه يحتاج للراحة حاليًا، وبما أن المكان جديدٌ على آتسوكو تشان فما رأيُك أن تأخذها معك لترى أرجاء المنزل وتتحدثا سوية لوقت أطول؟
تراجع قلق الصغيرة ورغم أن التوتر لم يختفِ تمامًا عن وجهها، إلا أنها سايرت ما يجري حيث استمع إيزومي لكلام هونوكا وطلب من أخته مرافقته، وسار بها لناحية السلالم أولاً وهو يُخبرها بحماسٍ أنه سيبتدئ بغرفته، راقبهما كلّ من باكي وهونوكا وهما يبتعدان عنهما، وبمجرد أن بلغا منتصف السلالم التفتت هونوكا إلى من بقي معها، وسألته بصوتٍ خافت: إذن، أخبرني، أأنتَ جادّ بشأن عدم معرفتك بوجود إيزومي؟
التفت إليها فتجلّت لها ملامحه المهمومة الممتزجة بالتعب بوضوح، فأضافت بتردد: لم يبدُ أن آتسوكو كانت تعرف شيئًا أيضًا، وهذا لا يريحني إطلاقًا، كيف لم يخبرك والداه عنه؟
أطال النظر دون أن يجيب، بصرُه بدأ يتشوّش وأخذ ألم غريب يتصاعد في جسده، نطق بخفوت: ربما.. لأنني لم أتمكّن من لقائهما طوال هذه المدة، هونوكا.
كلامُه لم يكن يزيدها إلا ارتيابًا، فوجئت به يترنح ثم ينهار إلا أنها أسرعت وتمكّنت من إسناده، بإمساكِها به شعرت بسخونة في جسده، وبصعوبة رفعت إحدى يديها إلى جبينه وتحدّثت بقلق: يا إلهي.. حرارتك مرتفعة!
حاول باكي استعادة قوته ففتح عينيه وعاد للوقوف بتثاقل، ردّ عليها: هاه؟ إنني بخير، لكنني مرهق قليلاً..
عقدت حاجبيها بعدم رضى، واختفت به لتظهر في غرفة موجودة في الطابق الأرضيّ تحتوي على سرير لا يبدو أن أحدًا يستخدمه، ظهر إلى جانبها اثنان من الخدم حين نادتهما، وساعداها بنقله إلى السرير، أبى أن يستلقي، واكتفى بالجلوس وإمالة ظهره إلى الخلف قليلًا ليستند إلى الوسائد.
انصرف الخادمان عقب جلبِ أحدِهما للماء ولمنشفة صغيرة، وضعتها هونوكا على جبين باكي بعد أن بللتها، وحدّثها بصوته المتعب محاولاً إبعاد يدها: لا حاجة لهذا.. سأكونُ بخير بعد قليل...
أجابته وهي تدفعه مجبرة إياه على البقاء مستندًا: التعب واضح في كلّ قسمة من وجهك فكفّ عن المكابرة، طاقتُك ضعيفة وغيرُ مستقرة إطلاقًا بحيث أكاد لا أصدق أن من أمامي هو قائد التينشي الذي يفترض أنه يحمل طاقة هائلة صلبة.
أبعدت يدها عن المنشفة بعد وضعها على جبينه فرفع بدورِه يده ليثبتها في مكانها، تنهّد مستسلمًا ثم ردّ: إنها غير مستقرّة بسبب اقتراب الحرب، يفترض ألا أتعب هكذا بعد علاج التينشي، لكن أعتقد أن آتسوكو كانت محقة ويجب علي أن أرتاح أولاً قبل فعل أي شيء.
أمسكت يده وبسطت راحته، وأخذت تضغط في نقاط ما عند قواعد أصابعه، وحدّثته بتهكُّم: لطالما كانت طاقتُك هذه معضلتك منذ صغرك، وللأسف لطالما كنتَ تلجأ إلى الكلام المبهم حين يتشوّش ذهنك.
حرّك عينيه من يده التي تمسكها إلى وجه هونوكا، وردّ: قلتِها بنفسكِ.. إنني مشوّش! ثم إنكِ تسألين الكثير من الأسئلة... وتمسكين بي رغم وضوحي معك بعدم لمسي منذ البداية...
ضغطت بقوة على يده فتألّم، ووبخته: اخرس واتركني أتعامل مع وضعك هذا! جئتني بعد سنين من الانقطاع وأنت في حالة مزرية، وما زلت ذات الطفل المزعج سليط اللسان... بالمناسبة، لست وحدك المشوّش هنا ما لم تكن تدرك ذلك حتى الآن.
صمت وأبعد عينيه مقطّبًا، ثمّ رد مطلقًا تنهيدة: أنا آسف، معكِ حق، أتفهّم وضعكِ.
كانت مقطّبة حاجبيها أيضًا، أضافت موضّحة أمرًا: لا أعرف كيف يمكنني أن أفيدك بعد أن صرت من التينشي، ولكنني آمُل أن وسيلة العلاج التقليدية بالضغط على نقاط التدفق المذكورة في إحدى كتب هوكّايدو ستساعدك في التخلص من الإعياء على الأقل.
قهقه وهو يغطي وجهه بيده: بدأت أشعر بالتحسن بالفعل، أنتِ وشقيقُكِ ذاك ترعبانني أحيانًا بمدى معرفتكما عنّا، إنكما مهووسان...
استمرت بـ"تدليك" يده أثناء ردّها: ليس تمامًا، دعني أذكّرك أنه إن كانت عائلة هوكّايدو تمثّل الملك، وعائلة شيكوكو تمثّل الأمير النائب، وكيوشو الفرسان البؤساء، فإن هونشو تمثّل الوزير الداعم والمستشار المخلص، ولذلك فإن شؤون هوكّايدو تهمّنا.
أجاب بملل وقت تركت يده أخيرًا: آه أما زلتِ تؤمنين بهذه الأدوار؟ كان هذا ساريًا قبل آلاف السنين قبل أن تتفرع هذه العوائل أكثر لتكوّن عالم الأشباح بشكله الحاليّ.
رمقته من طرف عينيها قائلة: لولا أنك قائد التينشي لما كنتُ قدّمت لك أيّ خدمة سوى التأديب، إنك تحتاجه بشدّة.
تمتم بتذمّر: ما الذي أوصلني إلى هذه العجوز الشمطاء...
أظهرت تقطيبة غاضبة وبحركة خاطفة وجّهت تلويحة إلى وجهه فأغمض عينيه خوفًا إلا أنه وجدها تبعد المنشفة لتعيد غمسها في الماء قبل أن ترجعها إلى جبينه، تحدّثت إليه: ما دمت استعدت شيئًا من طاقتك وما زلت محتفظًا بلسانك هذا، فأجبني على أسئلتي.
كان يرمقها بنظرات منزعجة، لكنه تنهّد، وأخفض عينيه ليسرح مجددًا، أجابها: حسنًا، لكن عليّ أن أسألك أولاً عن هذا، أين أجد قلادة أياكو؟ إنها في هذا العالم، أليس كذلك؟
تعجّبت من سؤاله، لكنّها أجابت: نعم، إيزومي يخفيها في مكانٍ ما بعد أن طلبتُ منه الحفاظ عليها جيدًا، لِمَ؟
ردّ قائلاً: جيّد، في الحقيقة هذه القلادة هي ما جعلني آتي إلى هنا.
أرسلت نظرات مستنكرة واستوضحت منه: ولِماذا فكّرت بهذا الآن وبعد ما يزيد عن 10 سنوات من غياب أياكو عن هذا العالم؟
أجابها مجددًا بنبرة تكاد تخلو من التعابير: كان عليّ الاهتمام بعالم الأشباح بعد غيابها هي وآيزوكو أيضًا.
تحوّلت ملامحها للحيرة، فسألت: ماذا تقصد؟ أولَيْسا في عالم الأشباح؟! أين يكونان إذن؟؟
فوجئت به يرفع عينيه إليها وعلى وجهه نظرة زاجرة، وكأنما يقول لها "لا تسألي". ولكنه رغم ذلك تابع الحديث وهو يتذكّر ما حصل قبل عشرِ سنوات:
(( بداخل القصر تقدّم هاتشيرو من باب غُرفَة مفتوح بشكل جزئي يصدر من خلفه صوتُ بُكاء طفل، أو بالأحرى طفلة.. كانت الخادمات عاجزاتٍ عن فعل شيء حيال بكائها، عند دخوله التفتنَ إليه وانحنينَ ثم تحدّثت إحداهنّ: سيّدي، الأميرَة الصغيرَة لا تكفّ عن البُكاء، ولا نعرفُ ما حلّ بها، قد كانت هادئة قبل قليل..
تقدّم هاتشيرو من مهدِ الصغيرَة لتبتعد الخادمات عنه وتفسحنَ المجال له، رفعَها بهدوءٍ إليه وضمّها إلى صدرِه وأخذ يمسَح بهدوءٍ على ظهرِها، كانت هناك طاقَة بيضاء خافتَة تظهر حول يده، ساعدَت في إخفاء العروق السوداء الظاهرَة على جسدها، فهدأت، ومن بعدِ بكائها نامت بتعب مسندَة رأسها الصغير على كتفه، كان هاتشيرو يحدّث نفسَه: "آخرُ ما قاله لي والداها أنّهما سيحاولان تسويَة الأمر مع الآكوما ثانيةً، كونهما الحارسين السابقين.. لكنّ غيابهما مُقلق.."
قاطعت إحدى الخادمات تفكيرَه حين طلبت أخذ الصغيرَة منه، لكنّه رفضَ قائلاً: لا بأس، فلتبقَ آتسوكو تشان معي قليلاً.
انحنت الخادمَة وأطاعت الأمر، ثمّ التفت من كان بالغرفَة إلى شخصٍ ظهرَ في المكان وحطّ على قدميه بهدوء، جناحاه الأبيَضان وهيئته تعرّفان عن هويّته، تحدّث ذلك التينشي إلى هاتشيرو قائلاً: سيّد هاتشيرو، هيليوس ينتظرك عند الواصِل.
ذهل الأخير لوجود الشخص ذي الحلّة البيضاء ثمّ أجاب بسرعة: هل تعني أن باكي هُنا ؟ هل عاد حقًا ؟!
أومأ الآخر إيجابًا ثمّ انحنى واضعًا قبضته على صدرِه، قبلَ أن يعتدل في وقفته ويختفي.. خرجَ حاكم الأشباح السابق من الغرفة ولا زالت آتسوكو بين يديه، اتّجه نحوَ غرفَة أخرى كانت نفسَها الغرفَة المخصصة لـ باكي في القصر.
فتحَها ليجد المعنيّ وقد ظهرَ للتو فتحدّث على الفور: هاتشيرو.. هل كل من بالقصر بخير؟!
احتارَ من كلامه لكنّه أجابه: إنهم كذلك، لِمَ تسأل؟
اقتربَ باكي منه، وقبل أن يجيب أخفض عينيه إلى آتسوكو النائمَة بين ذراعي جدّها فطرأ على ذهنه أمر آخر، مسحَ برفق على وجنتيها ليتحدّث: هل هذه ابنَة آيزوكو؟
- إنّها كذلك، اسمُها آتسُوكو.
- يبدُو أن بداخلها ما يُزعجها..
- تملك طاقَة الآكوما، رغمَ أنّي لا أدري كيفَ وُلِدت بها.
توقّف باكي للحظَة وقد سرحت عيناه، ثمّ وضع راحة يده على رأسها لتبدأ هالة من النور بالظهور حولها، تحدّث بعد ذلك وهاتشيرو يراقب بصمت: طاقَة الآكوما ليست الأمر الفعليّ الذي يزعجها، بل وجودُ طاقتين بداخلها، آتسوكو تشان نصف تينشي أيضًا.
انتهى قائد التينشي مما كان يفعله ورفع رأسه إلى محدّثه الذي أبدى استغرابه لقول باكي الأخير، وتابع كلامه: لن يُزعجها ذلك ثانيةً، فقد أزلتُ طاقة الآكوما الدخيلة عنها، لا بدّ أن استقرارها من قبل بداخل جسد آيزوكو هو ما تسبب بظهورها عند آتسوكو.
استدعى حاكمُ الأشباح السابق إحدى الخادمات لتحمل الصغيرة عنه، ليتسنّى له مواصلة الحديث مع باكي، حيث سأله ثانيةً: إذن.. أنت لم تجب عن سؤالي.
نظرَ له باكي بعينين بدا أنهما تحملان الكثير، ثمّ أطلق تنهيدَة ليجيب أخيرًا: لا أعلم ما حصل في غيابي، لكني أخشى أن هذا العالَم سيفتقد حاكِميه مجدّدًا... ولمدّة من الزمان.
ارتاب الآخر لِما سمعه فسأل على الفور: ماذا تعني بهذا ؟! ))
نظرت هونوكا إليه معقّبة وهي تشعر أن قلبها ينقبض حزنًا: مستحيل... هل فقدناهما حقًا ؟!
أجابها تلقائيًا: لا أعلم.
صمتت لوهلة وهي تطأطئ رأسها بأسى، كل كلمة منه كانت تزيدها صدمة وتشويشًا، ساد الصمت في المكان لبعض الوقت قبل أن تعود هونوكا لتحكي: حين جاءت أياكو إلى هنا قبل اثني عشر عامًا، كان إيزومي يبلغ الرابعة والنصف من العمر، عرفتُ منها أن عالم الأشباح لم يكن مستقرًا تمامًا لكن الأوضاع في طريقها للتحسن، وذلك ما منع آيزوكو من القدوم معها، لم تكن واثقة كم سيستمر الأمر، ولذلك فقد فضلّت أن نبقى أنا وإيزومي هنا إلى حين عودتك إلى الطبقة الوسطى.
لم يُجِب بشيء، بل لم يبدُ راغبًا في مواصلة الكلام في هذا الشأن، كان يزعجه أنه لم يكن يملك أدنى فكرة عن وجود إيزومي، مما جعله يبدي استنكاره: لستُ أفهم... سيكونُ الأمر منطقيًا أكثر ما لم يقضيا في عالم الأشباح أكثر من بضعة أيّام، لكنهما عاشا هناك لعدّة سنوات بالفعل! صحيح أني لم أتمكّن من الحديث إليهما لكن كان بإمكانهما إخبار أيّ أحد عن إيزومي... هاتشيرو أو حتى ريو! كان على أحدهم أن يخبرني!!
كانت تنظر إليه وهي تتساءل مثله، عقّبت قائلة: يبدو لي من كلامك أن لا أحد يعرف أي شيء عنه إطلاقًا، وأظنني مثلك لا أجد جوابًا واضحًا...
أثناء حوارهما كان يفكّر بالاحتمالات الممكنة، وبمجرد أن ختمت هونوكا جملتها، رفع عينيه إليها ثم ردّ قائلاً: وأنا... لستُ أجدُ جوابًا منطقيًا لهذا كله سوى وجود "كوروسيفر".
أطالت النظر إليه وفي ملامحها شيء من الذهول، أبعدت عينيها متنهّدة بضيق، ثم تحدّثت: كبيرُ الآكوما مجددًا...؟ حين أفكّر بكل تدخلاته في عالم الأشباح يُخيَّل إليّ أنه عاهد نفسه على إبادة كل فردٍ متبقٍّ من هوكّايدو.
أجاب باكي دون تفكير: إنني لا أستبعد ذلك منه...
تنهدت ثانية: على أيّ حال، لا أودّ تصوّر ردّة فعل إيزومي إن علِم أن الأشباح يجهلون وجوده تمامًا، لكنّ الأمر سيحطّمه بلا شكّ، باكي.
أخفض عينيه وأجابها: أحاول تجنُّب حصول ذلك قدر الإمكان، رغم أني أعتقد أنه لا مفرّ من ذلك.
ساد الصمت من جديد بينهما، بدت أنفاس باكي أكثر هدوءًا، أدار رأسه إلى الجهة المعاكسة لهونوكا لينظر إلى ما خلف النافذة، وترك لبصره مجالاً للسرحان مجددًا، ورغم ذلك ظل يستمع إلى هونوكا التي أضافت سؤالاً آخر: لا فكرة عندي إلى الآن عمّا حصل بالضبط في عالم الأشباح في الفترة التي مكثا خلالها فيه، أتساءل أين كان هاتشيرو ني-سان وقتها ؟
لم تنتظر طويلاً، إذ أجابها رغم عدم التفاته إليها: لم يكن في صحة جيدة حسبما قيل لي.
أمالت رأسها تساؤلاً، لكنه لم يقدّم أية توضيحات، ففي ذهنه تبدّلت أفكارُه إلى ما سمعه عن انقلاب الأشباح...
(( ظهر كلّ من آيزوكو وأياكو -والشبح الذي قام بنقلهما- أمام بوابة قصر القطاع "أ"، وفور ذلك تحرّك ذلك الشبح لناحية الدرَج الرخامي الذي يقودُ إلى مدخل القصر، كان كلّ من آيزوكو وأياكو القلقَين ينظران إليه لكنهما تجاهلا أمره حين وجدا ساحة القصر في حالة يرثى لها، هناك أدخنة تتصاعد من عدّة مواقع بها وكذلك من المناطق المحيطة القريبة من القصر، كما كان هناك صوت حشدٍ صاخب قادمٍ من بعيد، تمتم آيزوكو بارتياب شديد: ما الذي حصل هنا بحقّ الله؟!
أما ذلك الشبح الذي جلبهما إلى حيث يقفان توقّف قرب أحد الأعمدة الرخامية قُبالة المدخل وانحنى قائلاً: تمّت المهمّة، كوروسيفر ساما.
أعادت أياكو عينيها إليه وقد صُعِقت حين شعرت بطاقة مختلفة قريبة، ظهر شخصٌ آخر أمام ناظريهما وقد بدا أنه خرج من داخل القصر سائرًا بهدوء لناحية الشبح، انتبه آيزوكو له حينها: ... آكوما من المستوى الأعلى؟!! لا...
صمت لوهلة بينما عقد كاين ذراعيه وأظهر ابتسامة غامضة، تابع آيزوكو جملته: طاقتك أعلى من ذلك، أأنتَ المدعوّ كوروسيفر؟
مرّ كاين إلى جانب ذلك الشبح دون أن تتغير وتيرة خطاه البطيئة، توقّف إلى جانبه ثم تحدّث بصوتٍ مسموع: أشكرك أيها السيد، أتممت عملك معي على أكمل وجه.
أرخى انعقاد ذراعيه ورفع إحدى يديه مبعدًا خصلة هاربة عن وجهه، وبتزامنٍ مع ذلك تفتت جسدُ الشبح الواقف جانبه ليتناثر كالغبار مع الرياح، عصف القلق وشيء من الخوف بأياكو وكذلك آيزوكو الذي صرخ فورًا: أأنتَ وراء هذا كله؟ أجبني!!
ردّ كاين بصوت ثابتٍ واثق: آسف لإحباطِ توقّعك لكن لا يدَ لي في هذا على الإطلاق، يفترض أنك تعرف شعبك أكثر مني وتعلم أنهم قد يكونون أشدّ بأسًا على أنفسهم من الآكوما...
أخفض ذراعيه إلى جانبيه وأظهر ابتسامة استفزّت آيزوكو ثم أكمل: بما أن حاكم الأشباح سقط، وهيليوس ليس هنا، فلربما تكونُ أنتَ الحل الأخير لهذا العالم ما دام شعبك يصطفيكَ لحُكمِهم، إيتسوزوكي آيزوكو ساما ~ ؟
...
المفضلات