زائـــــر الظـــــلام
وقع أقدام يتبعه صدى وقع أقدام أخرى، كلما تقدم انغمس في الظلمات أكثر
في ذلك الدهليز الطويل الذي استوطنت فيه عتمة حالكة من شدتها لا تكاد تتبين السواد فيها،
كان تماماً كمن يتعمق في كهف معلق بحيث لن يخطر ببال من يسير في هذا الممر -و لو لوهلة-
أنه يتربع الدور الثاني من منزل كبير تحتضنه الشمس كل صباح كما تحتضن الأم وليدها،
و لن يخيل إليه مطلقا أن الساعة تشير إلى الثانية ظهرا.
رفع الزائر تلك الشعلة المستحية التي تتمايل بغنج من فتيل شمعة يحملها،
و قربها من وجهه لعله يتبين الطريق بينما سار مرشده أمامه بكل ثقة و كأن مصباحه عينيه،
و لا عجب فقد حفظت قدماه هذا المسار عن ظهر قلب.
كل الستائر داكنة اللون مسدلة على النوافذ لتوهمك بأنها ساعة من ليل ليس بها قمر؛
أو لتجعلك ترتاب في وجودها أوربما تحذر الضوء بأن لا يقترب.
توقف الدليل أمام الغرفة المنبوذة في زاوية ذلك الممر و وقف الزائر خلفه سائلا: أهذه هي؟
أومأ له و فتح بابها الواسع بحذر بعد طرقه مرتين.
أحس حبيس الغرفة بأن زائره اليومي ليس وحده فبادر بالسؤال بنبرة لا تكاد تحمل أي تعبير: من معك؟
شد الزائر ذراع مرشده بلطف في إشارة له بأن ينصرف و أجاب عوضا عنه: إنه أنا!
كانت النبرة كفيلة بالتعريف عن هوية هذا الضيف الذي لم يتقدم حيث استأسد الظلام على ضوء شمعته الأليف
و ابتلعه؛ لكنه استطاع أن يدرك بأنه في غرفة واسعة بها كل شيء ربما عدا النوافذ، و على سريرها الأبيض
المناقض لجوها الكئيب يقبع جسد طيف بشري.
- ما الذي جاء بك؟
بطريقة مستظرفة أجاب: من المستحسن أن ترشدني إلى مقعد هنا لأعرف أين أجلس و كيف أتحدث.
اقترب منه الحبيس و أخذ بيده و أجلسه إلى جواره، ليبتسم الأخير متهكما: هذا جنون!
تفادى الحبيس ذلك التعليق الساخر بسؤاله: أجئت لتسمعني هذا؟
-لا
-فإذن؟
- جئتُ لأرى كم أكل منك الظلام و كم أبقى
-أوجز
-أنت جبان
-هذا ليس من شأنك
أردف الزائر: تخشى أن يراك النور لئلا يحرقك، و لا تدرك أن النور ليس بالضرورة أن يكون نارا.
انتفض الحبيس صارخا و كأنه خاف أن يصدق ذلك: إخرس.
-ما أتيت إلى هنا لأخرس، قل لي مم تهرب؟
-لست بهارب
-صحيح! أنت -بتعبير أدق- فأر يختبئ في جحره لأنه مرعوب يائس.
لم ينتبه الزائر وسط الظلام لليد التي انقضت عليه و أحكمت قبضتها على عنقه وسط هيجان الحبيس
الذي علا صوته بتتابع: لا شأن لك بي... دعني... أخرج من هنا... اخرج.
لكن إصرار الزائر العنيد تزايد و تابع في صوت متقطع هو يحاول دفع يدي الحبيس عن عنقه:
أنت ضعيف لدرجة أنك لا تقوى على سماع حديثي، أكلك الخوف و تآكل الإصرار في جسدك فاهترأ
...صدقني ليس كل وهج نارا، و لن تعي هذا حتى تخرج إليه بنفسك.
أبعد الحبيس يده المرتجفة عن رقبة زائره و وضع يديه على أذنيه و هو يهز رأسه مذعورا
: لا أريد أن أسمع شيئا، توقف أرجوك.
-الصراخ لن يجدي لأن جدرانك المسودة هذه تمتصه
سأله في حالة من الإنهاك: ماذا تريد مني؟
-أريد أن أعرف لمَ يرعبك النور؟
-هو لا يرعبني
-إذن لم تهرب منه؟ استجمع شجاعتك و واجهه.
-لا أستطيع
-كم مرة حاولت؟
دفع بجسده إلى الخلف و ضم إليه رجليه و قال بنبرة يائسة: لا أجرؤ... قد حاولت مرة و فشلت
- ستنجح؛ ليس بالضرورة أن تكون نار الأمس هي نور اليوم
هز رأسه نفيا، فوقف الزائر و مد يده في اتجاه ذلك الجسد المتكور و هو يحثه: حاول معي... ماذا ستخسر؟
-قد أفقد بذور الأمل التي أعيش عليها
-وجودك هنا يقتل هذا الأمل، و محاولتك سترويه ليثمر
-لكن... ماذا لو...
قاطعه بحسم و في نبرة ثابتة: ستنجح و لا مجال لـ لماذا أو لو.
ثم أومأ له و حضه على الإستجابة: ثق بي.
رفع الحبيس يده في تردد و التقطها الزائر بحب و شد عليها.
تقدما إلى الباب و الزائر يتحسس الطريق. سارا في الديجور حتى وصلا إلى منفذ الضوء المربع؛
فشد الحبيس قبضته في هلع و أغمض عينيه بشدة ليمارس الهرب في أضعف صوره.
بينما رفع الزائر بإحدى يديه الستار متحديا و هو يمسك بالأخرى ذراع رفيقه؛ ليسارع النور بالدخول
و يطيح بالظلام، و يعانق جسد الحبيس مداعبا بشعاعه وجهه. فتح عينيه ببطء شديد،
و أغلقهما بسرعة في استجابة للوهج المفاجئ، و عاود المحاولة حتى التقى بالنور...
تمت
المفضلات